أبو الحسن علي بن أحمد السبتي [ ابن خمير ]
المحقق: الدكتور محمّد رضوان الدّاية
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الفكر ـ دمشق
المطبعة: المطبعة العلمية
الطبعة: ٢
ISBN: 1-57547-633-9
الصفحات: ١٧٦
وَلا تُشْطِطْ) ، والشّطط : الجور ، مع علمهم بأنّ المعصوم يحكم بالحقّ ولا يجور في الحكم ، فتخرج لهم هذه الأقوال إذ هم ملائكة وسفرة معصومون ، مخرج أقوال يوسف ـ عليهالسلام ـ إذ أمر مناديه فنادى : (أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ) (١) [يوسف : ١٢ / ٧٠] ، وما كانوا بسارقين ، وقوله ـ عليهالسلام ـ لإخوته : (أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً) [يوسف : ١٢ / ٧٧] ولم يكونوا كذلك ، وأخذ أخاهم على حكمهم لا على حكم الملك ، وما كان له أن يأخذه في دين الملك ، فإنّ الملك كان يقتل السّارق ، ولا في دين إخوته في شريعتهم ، فإنهم كانوا يستعبدون السّارق ، وأخوه لم يكن سارقا.
وجاء في الأخبار أنّه كان ينقر في الصّواع ويقول : إنّ صواعي هذا يخبرني بكذا وكذا ؛ والصّواع لا يخبر ، حتّى قال له بنيامين أخوه : أيّها الملك! سل صواعك يخبرك أحيّ أخي يوسف أم ميّت؟!.
فنقر في الصّواع فقال : هو حيّ وإنّك لتراه وتلقاه ، إلى غير ذلك. فأقام الله تعالى عذره في كلّ ما أخبر عنه وفعله بقوله (٢) : (كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ) [يوسف : ١٢ / ٧٦] ، ومعناه : بذلك أمرناه وأردنا منه.
وارتفع الاعتراض على أنّه : ما أخبر الملائكة ـ عليهمالسلام ـ لداود ـ عليهالسلام ـ إنّما كان على جهة التّجوّز وضرب المثال بأخوّة الإيمان ، إذ ليس في الملائكة ولادة ، وإذا لم يكن ولادة فلا أخوّة نسب.
__________________
ـ ـ وقيل : هذا من الملكين تعريض وتنبيه كقولهم : ضرب زيد عمرا وما كان ضرب ولا نعاج على التحقيق ، كأنه قال : نحن خصمان هذه حالنا!.
(١) العير : الحمير والإبل والبغال ممّا يرحل عليه ويركب. قال مجاهد كانت عيرهم حميرا. والمعنى :يا أصحاب العير كقوله تعالى : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ).
(٢) قيل في تفسير قوله تعالى (كِدْنا لِيُوسُفَ) معناه : صنعنا ودبّرنا.
وفي تفسير القرطبي : وفيه جواز التوصّل إلى أغراض بالحيل إذا لم تخالف الشريعة ، ولا هدمت أصلا ...
وتسمية النّساء نعاجا لتأنيثهنّ وضعفهن (١) ، و (أَكْفِلْنِيها) كناية عن نكاحها (٢) ، (وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ) بمعنى غلبني (٣) ، وهذا آخر خطاب الخصم ، فقال له داود ـ عليهالسلام ـ : (لَقَدْ ظَلَمَكَ) ثم قيّد الظلم بسؤال النّعجة إذ قال لهم : (إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ) [ص : ٣٨ / ٢٤] ، وهذا آخر خطابه للخصم.
فصل
[تخريج ما اعتمدوا عليه في قصّة داود] [عليهالسلام]
اعلموا ـ أحسن الله إرشادنا وإيّاكم ـ أنّ كل من تكلّم في هذه القصة بما صحّ في حقّ داود ـ عليهالسلام ـ وبما لم يصحّ إنما بنوه على أسّ هذه الخمس كلمات التي هي : (أَكْفِلْنِيها) ، (وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ) ، و (لَقَدْ ظَلَمَكَ) ، و (لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) ، (وَقَلِيلٌ ما هُمْ). وهي بحمد الله تخرّج له على مذهب أهل الحقّ ، بأجمل ما ينبغي له وأكمله ، والله المستعان.
فأوّل ما ينبغي أن نقدّم قبل الخوض في هذه المسائل وما يضاهيها ، ثلاث مقدّمات.
__________________
(١) والعرب تكني عن المرأة بالنعجة والشاة ـ لما هي عليه من السكون والعجز وضعف الجانب ـ وقد يكنّى عنها بالبقرة والحجرة والنّاقة.
(٢) قيل في التفسير وجوه تتقارب.
ـ قيل أي انزل لي عنها حتى أكفلها.
ـ وقال ابن عباس : أعطنيها.
ـ وعنه أيضا أي تحوّل لي عنها (اتركها لي) ، وقاله ابن مسعود.
ـ وقال ابن كيسان : اجعلها كفلي ونصيبي.
(٣) قال ابن العربي : قيل معناه ببيانه ، وقيل غلبني بسلطانه لأنه لما سأله لم يستطع خلافه.
إحداها : ما صحّ من إجماع الأمّة قاطبة على عصمة الأنبياء من الكبائر.
والثّانية : أنّ كلّ محظور كبيرة على قول من قال بذلك من أئمة السّنّة ، وهو الصّحيح ، لاتّحاده في الحظر ، وإنّما يتصوّر كبير وأكبر بالتّحريض على تركها ، وتأكيد الوعيد على فعل بعضها دون بعض.
والثالثة : شرح هذه الأقوال وما يضاهيها من القصص الموعود بها على مذهب من قال بتنزيه الأنبياء ـ عليهمالسلام ـ عن الصّغائر ، وأنّهم لا يواقعون صغيرة من الذّنوب ولا كبيرة ، وأنّ غاية أقوالهم وأفعالهم التي وقع فيها العتاب من الله تعالى لمن عاتبه منهم أن يكون على فعل مباح كان غيره من المباحات أولى منه في حق مناصبهم السّنّية (١).
وسنبيّن ذلك في سياق الكلام إن شاء الله تعالى.
فصل
[تبيين الكلام في مجريات قصّة داود] [عليهالسلام]
فأمّا قوله داود ـ عليهالسلام ـ (أكفلنيها) فهذا بمعنى : انزل لي عنها بطلاق وأتزوّجها بعدك. وهذا من القول المأذون في فعله وتركه ، ومباح أن يقول الرّجل لأخيه أو صديقه : انزل لي عن زوجك بإضمار (إن شئت). وهذا بمثابة من يقول لصاحبه أو أخيه : (بع منّي أمتك إن شئت) ، وهذا قول مباح ليس بمحظور في الشّرع ، ولا مكروه. ومن ادّعى حظره أو كراهته في الشّرع فعليه الدّليل ، ولا دليل له عليه ، كيف وقد جاء في الصّحيح أن النّبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ لمّا واخى بين سعد بن الرّبيع وبين عبد الرّحمن بن عوف قال له الأنصاري : لي كذا وكذا من المال أشاطرك فيه ،
__________________
(١) سبقت الإشارة إلى هذا المقصد في مقدمة التحقيق ، وفي مقدّمة المؤلّف.
ولي زوجان أنزل لك عن إحداهما ، فقال له عبد الرحمن : بارك الله لك في أهلك ومالك ، أرني طريق السّوق (١).
ووجه الاستدلال بهذا الحديث قوله بين يدي النبي صلىاللهعليهوسلم : أنزل لك عن إحداهما ، فأقرّه النبيّ ـ صلىاللهعليهوسلم ـ على هذا القول ولم ينكره عليه وهو لا يقرّ على منكر ، وهو المعلّم الأكبر صلوات الله عليه وتسليمه ، فلم يبق إلاّ الإباحة ، لكنّ تركها بمعنى الأولى والأحرى في كمال منصب النّبوّة كان أولى وأتمّ.
وأما قوله : (وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ) أي غلبني فنزلت له عنها ، فهو غلب الحشمة لا غلب القهر ، لعظم منزلة السّائل في قلب المسئول ، ولا غلب الحسّ بالقهر المنهيّ عنه ، فإنه ظلم منهيّ عنه شرعا تتحاشى عنه الأنبياء عليهمالسلام كما تقدّم.
فإن قيل : كان داود عليهالسلام خليفة وصاحب سيف ، والمطلوب منه رعيّة ، ومن شأن الرّعيّة هيبة الملوك والمبادرة لقضاء حوائجهم لكونهم قاهرين لهم ، فيقضون حوائجهم باللّين خوفا من العنف والإكراه ، وفي سؤال داود عليهالسلام حمل على المسئول من هذا الباب.
قلنا : صحيح ما اعترضت به ، إلاّ أنّ هذا الحمل على المسئول لا يتصوّر إلاّ فيمن عهد منه الظّلم والغضب من الأمراء ، وأمّا من عهد منه العدل والإحسان كخلفاء الصّحابة والتّابعين لهم بإحسان ، فلا يتصوّر ذلك في حقّهم إذا منعوا المباحات ، وإذا لم يتصوّر ذلك في حقّهم مع عدم العصمة فما ظنّك بالمعصومين المنزّهين عن الخطايا تنزيه الوجوب كما تقدّم؟ فبطل اعتراض هذه القولة في حقّ داود عليهالسلام في هذا الباب.
__________________
(١) الخبر مشهور. انظر مثلا طبقات ابن سعد ٣ / ١٢٥ وفيه : (فقال له سعد بن الربيع : هذا مالي فأنا أقاسمكه ، ولي زوجتان فأنا أنزل لك عن إحداهما فقال : بارك الله لك ، ولكن إذا أصبحت فدلوني على سوقكم ..) إلى آخر الخبر.
وأمّا قوله للخصم : (لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ) ففيه اعتراض من وجه آخر نتخلّص منه ونرجع إلى ما نحن بسبيله.
قالوا : كيف يكون داود ـ عليهالسلام ـ من خلف الله في أرضه ويقطع على الظّلم بقول الواحد قبل أن يسمع قول الآخر؟.
فالجواب عن هذا يتصوّر من وجهين : أحدهما : أنه سمع من الآخر حجّة لا تخلّصه ، فقال للأوّل : (لَقَدْ ظَلَمَكَ) أو صدّقه الآخر في قوله ، فقال للأوّل : (لَقَدْ ظَلَمَكَ).
والثاني أن يقول : (لَقَدْ ظَلَمَكَ) بإضمار «إن كان حقّا ما تقول». وهذا سائغ. وأما أن يقول له : (لَقَدْ ظَلَمَكَ) من غير أن يسمع حجّة الآخر ، فهذا لا نسوّغه في حقّ عاقل منصف ، فكيف في حقّ من آتاه الله الحكمة وفصل الخطاب؟!.
ألا ترى موقف يعقوب ـ عليهالسلام ـ لمّا جاءه بنوه عشيّا يبكون وهم جماعة فقالوا ما قالوا ، فقال : (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً) [يوسف : ١٢ / ١٨] ، ولم يقبل أقوالهم ولا دموعهم بغير دليل ، فكيف يقبل داود عليهالسلام قول الخصم من غير حجّة ، حتّى يقول له : (لَقَدْ ظَلَمَكَ)؟ هذا لا يصحّ في حقّه.
وأمّا قوله للخصم : (لَقَدْ ظَلَمَكَ) ، فعنى به : بخسك وغبنك في قول كان غيره من المباحات أولى بك منه. وحدّ الظّلم في اللّسان : وضع الشّيء في غير موضعه. وقد قدّمنا أنّ قول قائل لغيره : أكفلني زوجك ، ليس بظلم منهيّ عنه شرعا ، فلم يبق إلاّ ما ذكرناه في حقّه.
وأمّا قوله : (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) (١) [ص :
__________________
(١) الخلطاء : قيل هم الأصحاب ، وقيل : الشركاء.
٣٨ / ٢٤] ، فيخرج البغي مخرج الظّلم حرفا بحرف ، فإنّه إذا ساغ في اللّسان ـ والمعتاد أن يسمّى مالك الكثير إذا طلب من المقلّ قليله ظالما ـ فلا غرو أن يسمّى باغيا.
ولو أن رجلا كان له عبدان مطيعان له ، مستقيمان غاية ما يمكنهما من وجوه الاستقامة ، فأحسن إلى أحدهما وأعطاه ووسّع عليه ورفّه معيشته ، ولم يحسن للآخر بغير ما ألزمه الله ممّا يتعيّن للعبيد على السّادة لسمّى العقلاء هذا السّيّد ظالما باغيا ، من حيث إنّه أحسن لأحدهما ولم يحسن مع الآخر ، مع تساويهما في الطّاعة والنّصيحة ، والسّيد مع هذا التّخصيص بالإحسان لأحدهما ، لم يأت في الشّرع بمحظور ولا بمكروه.
بل كلّ ما فعل معهما مباح له.
فهذا وجه من وجوه التخلّص من هذه الأقوال ، وأنّها مباحة لقائلها وفاعل ما وقع منها من غير أن يلحقه ذمّ من الشّرع ولا ثلب.
وأمّا قوله : (وَقَلِيلٌ ما هُمْ) فمقصوده الأكابر الأفراد من المحسنين المؤثرين ، فإنّهم يحسنون في المباحات كإحسانهم في المشروعات ، فيتعاونون في العشرة ، ويتناصفون في الخلطة ، كما قال تعالى : (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) [الحشر : ٥٩ / ٩].
ثم قال : (وَقَلِيلٌ ما هُمْ) فإنّهم الكبريت الأحمر ، وهذا آخر خطابه للملائكة.
فصل
[تذييل على قصة داود عليهالسلام]
والذي يكمل به هذا التفسير ويعضده نكتة شريفة ، وذلك أنّ الله تعالى أخبر بما وقع بين داود ـ عليهالسلام ـ وبين الخصم من محاورة ومراجعة ، وأنّ ذكر التكفّل والعزّة في الخطاب كلامهما ، وما أخبر به تعالى عن قول قائل فليس هو في الإلزام كالّذي يخبر به عن نفسه وحكمه. فمن أخبر تعالى أنّه ظلم ، وغلب ، وبغى في المشروعات ،
فهو ظالم ، غالب ، باغ شرعا. ومن أخبر تعالى أنّه قال : ظلمت ، وبغيت ، أو قال : ظلم زيد وغلب وبغى ، فقد يخبر عن حقيقة شرعية وعن مجازيّة عاديّة ، كما تقدّم في مثال السّيد والعبد.
وقد ثبت أنّ هذه الأقوال التي وقعت بين داود ـ عليهالسلام ـ وبين خصمه من المجازيّة العاديّة ، وإذا كان ذلك لم يثبت بها حكم شرعي وإذا لم يثبت حكم لم تثبت طاعة ولا معصية.
قال تعالى : (وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ ، فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ) [ص : ٣٨ / ٢٤ ـ ٢٥].
هذا الظنّ منه يحتمل أن يكون علما ، ويحتمل أن يكون ظنّا على معنى الظّن الذي هو التردّد في الشّكّ مع الميل إلى أحد الطّرفين.
فإن كان بمعنى العلم فهو أنه لمّا علم أن الخصمين ملكان وأنّه المقصود بالمثال وأنّه فتن أي اختبر وامتحن ببعض المباحات ، فعوتب إذ لم يصبر فيها صبر المؤثرين حتّى قال ما قال وفعل ما فعل (وَخَرَّ راكِعاً) يعني ساجدا ، فإنّ الرّكوع والسّجود يسمّى كلّ واحد منهما باسم الثّاني (١) ، (وَأَنابَ) : أي تاب من ذلك ظاهرا وباطنا ، فأخبر تعالى أنّه غفر له ذلك أي درأ عنه الطّلب فيما رأى هو أنّه ذنب في حقّه بترك الأولى كما تقدّم.
وإن كان حكمه على حكم الظّنّ فيكون : أنّه غلب ظنّه على أنّ الذي وقع منه فتنة يتعلّق فيها طلب ، إذ لله تعالى في صريح العقل أن يطلب ما شاء ويترك ما شاء ، فأخبر تعالى أنّه لا طلب عليه في ذلك.
__________________
(١) في تفسير القرطبي ١٥ / ١٨٢ ، قوله تعالى : (وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ) أي خرّ ساجدا. وقد يعبّر عن السّجود بالركوع ، قال الشاعر :
فخرّ على وجهه راكعا |
|
وتاب إلى الله من كلّ ذنب |
وقال ابن العربي : لا خلاف بين العلماء أن المراد بالركوع هاهنا السجود.
شرح قصّة سليمان (١) عليهالسلام
في آية الفتنة : الكرسيّ والجسد (٢).
قال تعالى : (وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ) [ص : ٣٨ / ٣٤] ، ذكر أصحاب المقالات في أشبه أقوالهم (٣) في هذه القصّة ، أنّ سليمان ـ عليهالسلام ـ كانت له امرأة من كرائمه (٤) اسمها جرادة ، وكان أبوها ملكا من ملوك الجزائر البحريّة ، وكان كافرا ، فمنهم من قال : إنه خطبها إليه (٥) وتزوّجها ـ ومنهم من قال :
__________________
(١) قصة سليمان في (تنزيه الأنبياء) ، للشريف المرتضى ٩٢ ، وعرائس المجالس ٣٢٢ ، وابن كثير ٢ / ٢٦٧ ، وتفسير الطبري ٢٣ / ١٠٠ ، وتاريخ الطبري ١ / ٤٩٦ ، وتفسير القرطبي ١٥ / ١٩٩.
(٢) قال القاضي عبد الجبّار الهمذاني في (تنزيه القرآن عن المطاعن) وربّما قيل في قوله تعالى : (وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ) كيف يصحّ أن يعزل عن النبوّة ويصير على كرسيّه بعض الشياطين على ما يروى في ذلك؟
وجوابنا أنّ الذي يروى في ذلك كذب عظيم. والصحيح ما روي من أنه تفكّر في كثرة نسائه ومماليكه فقال ـ وقد آتاه الله من القوّة ـ إني لأطؤهنّ في ليلة واحدة فيحملن ويحصل لي من الأولاد العدد الكثير ففعل ، ولم تحبل إلا واحدة وألقت جسدا غير كامل الخلقة فحمل ذلك الجسد إلى كرسيّه فتنبّه عنده على أن الذي فعله من التمنّي كالذّنب ، وأنه كان من حقّه أن ينقطع إلى الله تعالى فيما يرزق من الأولاد : قلّ أو كثر فأناب عند ذلك ، وتاب مما كان منه.
فأمّا أن يعزل ويؤخذ خاتم ملكه ويصير إلى بعض الشياطين ، وأن يطأ ذلك الشيطان نساءه فذلك ممّا لا يجوز على الأنبياء ، وقد رفع الله قدرهم عن ذلك.
(٣) أي في أكثرها إمكان قبول ، أو في أحسن أقوالهم.
(٤) من أزواجه الكريمات ، وقيل في اسمها : الأمينة ـ وهذا كله من مختلقات الرواة ، ومن دسائس الإسرائيليات.
(٥) في المخطوط : خطبها له.
إنّه سباها عنفا. وكان لها جمال بارع فكان يحبّها ويقدّمها على جميع نسائه ، وكانت عند أبيها تعبد صنما. فلمّا فقدت ذلك عنده اكترثت (١) وحزنت وتغيّر حسنها ، فسألها عن حالها فأخبرته أنّ ذلك من وحشتها لأبيها ، ورغبت إليه أن يصنع لها الجنّ تمثال أبيها حتى تنظر إليه وتتشفّى بعض الشّفاء ممّا تجد من وحشتها لأبيها ، ففعل ذلك لها. فكانت تدخل هي وجواريها في بيت التّمثال وتسجد له وتعبده هي وجواريها خفية من سليمان ـ عليهالسلام ـ ففعلت ذلك أربعين يوما. فسلبه الله ملكه أربعين يوما.
وقيل أيضا : إنه كان لها أخ وكان بينه وبين رجل من بني إسرائيل خصومة ، فسألته أن يحكم لأخيها على خصمه فأنعم لها بذلك (٢).
وهاتان القصّتان على خلل فيهما أسلم من سواهما في حقّ سليمان ـ عليهالسلام ـ فإنّه يتصوّر الحقّ فيهما على وجوه سنذكرها فيما بعد إن شاء الله تعالى.
قالوا : وكان عقبى أمره معها في هذه القصّة أنّه كان إذا دخل الخلاء وضع عندها الخاتم تنزيها له أن يدخل به (٣) الخلاء لما تضمّن من أسماء الله تعالى. فلمّا أراد الله تعالى سلب ملكه تمثّل لها على صورة سليمان ـ عليهالسلام ـ شيطان يسمّى صخرا ، وأراها أنّه خارج من الخلاء فأعطته الخاتم فطار به ورماه في البحر ، فخرج سليمان ـ عليهالسلام ـ فطلب منها الخاتم فأخبرته بما كان في أمره ، فعلم أنه قد فتن من أجلها ، فخرج على وجهه إلى الصّحراء يبكي ويرغب وينيب.
ثم إنّ الشّيطان تصوّر على صورة جسد سليمان ـ عليهالسلام ـ وقعد على كرسيّه
__________________
(١) اكترث له : حزن.
(٢) أي أجابها إلى طلبها ووافقها (من قول : نعم).
(٣) في المخطوط (بها) وهو من سهو الناسخ.
ـ وفي تفسير القرطبي ١٥ / ٢٠٠ ، قال جابر بن عبد الله قال النبي صلىاللهعليهوسلم : «كان نقش خاتم سليمان بن داود : لا إله إلاّ الله محمد رسول الله».
الّذي كان يقعد عليه لفصل القضاء بين النّاس ، وهو معنى قوله (وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً) أي جسدا مثل جسد سليمان ـ عليهالسلام ـ وبقي يخلفه على كرسيّه ويعبث ببني إسرائيل غاية العبث بأحكام فاسدة وأوامر جائرة أربعين يوما ، حتى وجد سليمان ـ عليهالسلام ـ خاتمه في بطن حوت كان قد التقمه حين ألقاه صخر في البحر ، فلمّا فطن الشّيطان بذلك فرّ على وجهه ، فجاء سليمان ـ عليهالسلام ـ فأخبروه بما فعل الشّيطان بعده ، فأمر الجنّ بطلبه فجاءوا به ، فأمر أن يعمل له بيت منقوب في حجر صلد ، وجعله فيه ، وأطبق عليه بحجر آخر ، وألقاه في البحر ، فبقي فيه إلى يوم البعث.
وهذا أسلم ما قالوه في قصّته ـ عليهالسلام ـ وزاد فيها الفجرة أنّ الشّيطان كان يقع على نساء سليمان ـ عليهالسلام ـ. وهنّ حيّض. ولذا تفطّنوا أنّه لم يكن سليمان ، وحاشى وكلاّ من هذه الوصمة الخسيسة أن يفعلها الله تعالى مع أنبيائه ـ عليهمالسلام ـ وكيف ، والأمّة مجمعة على أنّه ما زنت امرأة نبيّ قطّ : كانت مؤمنة أو كافرة. وخيانة امرأة نوح وامرأة لوط ـ عليهماالسلام ـ إنّما كانت في إظهارهما الإيمان وإخفائهما الكفر لا غير. وكلّ ما ذكروه في هذه القصّة تجوّز (١) له على أوجه سنذكرها بعد إن شاء الله تعالى ، سوى هذه القولة الخبيثة.
وأما قصّة التّمثال الّذي صنع لها ، وما قيل إنّه حكم لأخيها (٢) ، فيتصوّر فيها الجواز من وجهين :
أحدهما : أن يكون صنع التّمثال مباحا له كما كان مباحا لعيسى ـ عليهالسلام ـ قال تعالى : (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي) [المائدة : ٥ / ١١٠] فصحّ من هذه الآية أنّ عيسى ـ عليهالسلام ـ كان يصوّر التّماثيل بإذن الله. وكذلك سليمان ـ عليهالسلام ـ إذا صحّ أنّها لم يحرّم عليه فعله في
__________________
(١) أي : وقع له التأويل.
(٢) أصل هذه العبارة في المخطوط : (أو ما قال إنه يحكم لأخيها) ، وقرأتها على الوجه المثبت.
شرعه. والأظهر فيه أنّه لم يحرّم بدليل قوله تعالى : (يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ) [سبأ : ٣٤ / ١٣] ، والتّماثيل قد يكون على صور الأناسيّ (١) ، قال امرؤ القيس (٢) :
ويا ربّ يوم قد لهوت وليلة |
|
بآنسة كأنّها خطّ تمثال! |
وأمّا إن عبدت هي صنما من غير أن يشعر به سليمان ـ عليهالسلام ـ فلا بأس عليه في ذلك ، فإنّ الأنبياء ـ عليهمالسلام ـ عنوا بالظّواهر ، وأمر البواطن إلى الله تعالى ، وقد كان المنافقون يصلّون خلف رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ويعبدون الأصنام في بيوتهم خفية منه جاء في الصّحيح عنه ـ عليهالسلام ـ أنّه قال (٣) : «أمرت أن أقاتل النّاس حتّى يقولوا لا إله إلاّ الله» الحديث ... إلى قوله : «وحسابهم على الله» يعني فيما أبطنوه.
وأمّا قولهم : إنّها طلبت منه أن يحكم لأخيها على خصمه فقال لها : نعم ، فيجوز له أن يقولها وهو يضمر في نفسه : إذا كان الحقّ له لا عليه ، ثم طيّب نفسها ب (نعم) لكون النّساء تطيب أنفسهنّ بمثل هذه المشتبهات (٤) ، لضعف عقولهنّ وجهلهنّ بالحقائق ، ولا يجوز في حقّه سوى هذا ، بدليل أنّه لو أضمر في نفسه أن يحكم له ، والحكم عليه (٥) ، لوقع في كبيرة محرّمة ، وهي أن ينوي أن يحكم بالجور ، وحاشاه من ذلك ، وهو لا يجوز عليه ذلك كما تقدّم.
__________________
(١) الأناسي : جمع الإنسان.
(٢) البيت لامرئ القيس (ديوانه ٢٧) من قصيدة مشهورة أوّلها :
ألا عم صباحا أيها الطلل البالي |
|
وهل يعمن من بات في العصر الخالي |
ـ وفي اللسان : التّمثال : الصورة ، والتّمثال : اسم للشيء المصنوع مشبّها بخلق من خلق الله.
(٣) في صحيح مسلم ١ / ٥١ وطد و ٥٣ ، صحيح البخاري ١ / ١١ ، وروايته ... «حتى يشهدوا أن لا إله إلاّ الله وأن محمّدا رسول الله».
(٤) يعني فهمها هي من (نعم) الموافقة المطلقة (بلا شروط) وقصده : نعم إذا كان الحقّ له ، وهذا يدخل في الملاحن ، والمعاريض ، والكلام الذي يحتمل التّأويلين.
(٥) الواو في (والحكم عليه) هي واو الحال.
وأمّا كون الشّيطان يخلفه على كرسيّه ويحكم بالباطل ، فليس على نبيّ الله ـ عليهالسلام ـ لو صحّ في ذلك دقيق ولا جليل (١) من الإثم ، وهذا بمثاب عيسى ـ عليهالسلام ـ حين عبد من دون الله ، كما جاء في الصّحيح (٢) عنه ـ عليهالسلام ـ قال : فيأتون عيسى ولم يذكر ذنبا ، فيقول : لست هناكم وقد عبدت أنا وأمّي من دون الله ، فامتنع عنها (٣) حياء من الله.
ومع ذلك فالخبر باطل من وجه آخر ، وهو أنّه لو جاز أن يخلف النبيّ شيطان على صورته ويستنبط في شريعته أحكاما فاسدة ، لكان ذلك إخلالا بالنّبوة إذ كان يتخيّل النّاس ذلك في سائر أحكام الأنبياء حتى لا يتميّز حكم النّبي من حكم الشّيطان ، فيشكل الأمر على المكلّفين ولا يتقون أمرا بعد ، وهذا بمثابة تقدير خرق العادة على أيدي الكذّابين في ادّعاء النّبوة ، وهذه الألقية (٤) في هذه القصّة من دسائس البراهمة في إبطال النّبوّات والله أعلم.
وأمّا ما يليق بسليمان ـ عليهالسلام ـ في باب الأولى والمباح في هذه القصّة ، فهو أنّه ما كان يقول لامرأته في طلب الحكومة لأخيها : نعم حتى يتبيّن له الحقّ أو يتبيّن لها ما أضمر ، فيقول لها : نعم ، إذا وجب له الحقّ فيها فإنه لا يحكم بجور ولا يجوز عليه ذلك.
__________________
(١) أي ليس عليه إثم : لا صغير ولا كبير.
(٢) انظر صحيح مسلم ١ / ١٨٥ ، وصحيح البخاريّ ٥ / ١٤٧ و ٢٢٦ ، ومسند الإمام أحمد بن حنبل ٢ / ٤٣٦ ، والعبارة : (وقد عبدت أنا وأمّي من دون الله ..) لم ترد في الكتب الثلاثة.
(٣) أي امتنع عن طلب الشّفاعة.
(٤) الألقية : ما ألقي. والمقصود ما ألقي ـ أي ما دسّ ـ في قصّة سليمان عليهالسلام من أقوال البراهمة ، الذين لا يؤمنون بالنبوّات ، ويبطلونها جملة ، وهذه واحدة من ضلالات الوثنيّة وفي تفسير أبي حيان الغرناطي ، وقد جاء بعد مؤلف هذا الكتاب بزمان ، أنّ فيما نقله بعض المفسرين في قصة الكرسي أقوالا يجب البراءة منها : (وهي ممّا لا يحلّ نقلها ، وهي إمّا من أوضاع اليهود أو الزنادقة). قال : ولم يبيّن الله تعالى الفتنة ما هي ولا الجسد الذي ألقاه على كرسي سليمان ، وذكر كلاما مشابها لما قال المؤلف رحمهالله.
وأمّا صنعه لها التمثال على الوجه الذي تقدّم فما عليه في ذلك ذنب ولا عتب ، ولو كان أيضا صنعه محرّما لما صنعه لها أصلا ، فإنّ صنع التّمثال من الكبائر التي أتى فيها الوعيد الكثير في الحديث المشهور (١) في الثلاثة الأصناف الذين تلتقطهم أعناق النار في المحشر.
ومنهم من قال إنّما وقع العتاب عليه من جهة اشتغاله بعرض الخيل عليه حتى غربت الشّمس وفاتته صلاة العشاء ، وهذا أيضا إذا صحّ فليس له في تركها كسب ولا علقة طلب (٢) ، فإنّه ناس ، والنّاسي لا طلب عليه فيما نسيه ، بالإجماع ، قال تعالى مخبرا عن موسى ـ عليهالسلام ـ أنّه قال : (لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ) [الكهف : ١٨ / ٧٣] ، وجاء عنه ـ عليهالسلام ـ أنه قال (٣) : «إنّما أنا بشر أنسى كما تنسون».
ومنهم من قال : (إنّما كانت وهلته (٤) لما ورد به الخبر (٥) في قوله : لأطيفنّ اللّيلة بمائة امرأة تلد كلّ امرأة غلاما يقاتل في سبيل الله ، فقال له صاحبه : قل إن شاء الله ، فلم يقل ونسي ، فأطاف بهنّ ولم تلد منهن إلا امرأة نصف إنسان)! قال النبيّ ـ عليهالسلام ـ «لو قال إن شاء الله لم يحنث وكان أرجى لحاجته».
__________________
(١) في مسند أحمد ٢ / ٣٣٦ في حديث أبي هريرة رضياللهعنه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «يخرج عنق من النار يوم القيامة ، له عينان يبصر بهما ، وأذنان يسمع بهما ، ولسان ينطق به ، فيقول : إنّي وكّلت بثلاثة : بكلّ جبّار عنيد ، وبكلّ من ادعى مع الله إلها آخر ، والمصوّرون».
(٢) ليس له علقة طلب : أي ليس عليه شيء من المؤاخذة.
(٣) صحيح مسلم ١ / ٤٠٢.
(٤) الوهل : السّهو ، والغلط ، والنّسيان.
(٥) في حديث أبي هريرة رضياللهعنه قال قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «قال سليمان لأطوفنّ الليلة عن تسعين امرأة كلّها تأتي بفارس يقاتل في سبيل الله. فقال له صاحبه قل إن شاء الله ، فلم يقل إن شاء الله فطاف عليهنّ جميعا فلم تحمل منهنّ إلاّ امرأة واحدة جاءت بشقّ رجل! وايم الذي نفس محمّد بيده لو قال إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرسانا أجمعون» صحيح مسلم ١٢٧٦.
قالوا : وهو الجسد الذي ألقي على كرسيّه (١) ، وهذا يعضده الخبر الصّحيح ، ويتصوّر العتاب فيه من ترك الاستثناء ، فإنّه أولى ، فإن كان تركه بعد ما أمر به ، فتركه ناسيا.
وقد ذكر المفسّرون أنّ النبيّ ـ صلىاللهعليهوسلم ـ لمّا طلب منه اليهود أن يخبرهم عن قصّة أصحاب الكهف ، فقال : غدا أخبركم بها ، ونسي الاستثناء ؛ أبطأ الوحي عنه أيّاما حتّى نزلت عليه القصّة. وقيل له مع ذلك (٢) : (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ) [الكهف : ١٨ / ٢٣ ـ ٢٤] ، معناه : إذا نسيت الاستثناء ثم تذكّرت فاستثن بالمشيئة. وفي هذا أنّ الاستثناء بعد مدّة يرفع الحرج ولا يرفع الكفّارة ، ولذا أجازه ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ بعد سنة (٣).
فخرج من عموم ما ذكرناه في جميع القصّة أنّ العتاب من الله تعالى لسليمان ـ عليهالسلام ـ إذا صحّ إنّما كان على تركه الأولى من المباحات.
والأظهر في هذا الحديث أنّه ترك مندوبا إليه ، ومن ترك المندوب فلا إثم عليه ، فهو بمثابة ترك المباح في نفي الذّنب كما تقدّم ، والله الموفّق للصّواب.
__________________
(١) وقيل في (الجسد) المذكور أقوال منها : ـ أن الجسد هو آصف بن برخيا الصدّيق كاتب سليمان.
ـ وقيل هو سليمان عليهالسلام نفسه ، وذلك أنه مرض مرضا شديدا حتى صار جسدا ، وقد يوصف به المريض المضنى فيقال : كالجسد الملقى.
(٢) وفي كتب التفسير وأسباب النّزول ـ والعبارة في القرطبي ١٠ / ٣٨٥ ـ : عاتب الله تعالى نبيه عليهالسلام على قوله للكفار حين سألوه عن الرّوح والفتية وذي القرنين : غدا أخبركم بجواب أسئلتكم ولم يستثن في ذلك. فاحتبس الوحي عنه خمسة عشر يوما حتى شقّ ذلك عليه وأرجف الكفار به فنزلت سورة الكهف مفرّجة.
(٣) حكي عن ابن عباس رضياللهعنه أنه إن نسي الاستثناء ثم ذكر ولو بعد سنة لم يحنث إن كان حالفا.
قال القرطبي : وهو قول مجاهد.
شرح قصّة يوسف (١) عليهالسلام
في إضافة الله تعالى له الهمّ عند مراودة امرأة العزيز له عن نفسه. والذي ينبغي أن نقدّم أوّلا ، الإعلام بأنّ يوسف ـ عليهالسلام ـ كان نبيّا قبل المراودة والهمّ ، والدّليل على ذلك أنّه لو لم تثبت نبوّته قبل ذلك لم تهتمّ الأمّة بذكر همّه ، لأنّ العصمة المجمع عليها لا تشترط للنّبيّ إلا بعد ثبوت نبوّته لا قبلها. ومع ذلك فإنّ النبيّ لا تثبت له معصية مشروع تركها قبل النّبوة ولا بعدها. وسنشبع القول في ذلك في قصّة آدم ـ عليهالسلام ـ إن شاء الله تعالى.
وأمّا إثبات نبوّته قبل همّه من الكتاب فمن قوله تعالى : (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً) [يوسف : ١٢ / ٢٢].
وأجمعوا على أنّ هذا الحكم والعلم في حقّ يوسف ـ عليهالسلام ـ أنهما النّبوة (٢) ، ثمّ
__________________
(١) قصة يوسف عليهالسلام في تنزيه الأنبياء للشريف المرتضى ٤٦ ، وعرائس المجالس ١١٨ ، وابن كثير ١ / ٣١٧ ، وتفسير الطبريّ ١٢ / ١٠٦ ، وتاريخ الطبريّ ١ / ٣٣٧ ، وتفسير القرطبي ٩ / ١٦٢.
(٢) ومن قال إنه أوتي النبوّة صغيرا قال : لمّا بلغ أشدّه زدناه فهما وعلما ، وقال ابن عطية الأندلسي صاحب المحرّر الوجيز : إن كون يوسف عليهالسلام نبيّا في وقت هذه النازلة لم يصحّ ، ولا تظاهرت به رواية ، وإذا كان كذلك فهو مؤمن قد أوتي حكما وعلما ، ويجوز عليه الهمّ الذي هو إرادة الشيء دون مواقعته ، وأن يستصحب الخاطر الرديء على ما في ذلك من الخطيئة ، وإن فرضناه نبيّا في ذلك الوقت فلا يجوز عليه عندي إلاّ الهمّ الذي هو الخاطر ، ولا يصحّ عليه شيء ممّا ذكر من حلّ تكّته ، ونحوه ، لأن العصمة مع النبوة. قال القرطبي : لكن قوله تعالى (وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ) يدلّ على أنّه كان نبيا ... وإذا كان نبيّا فلم يبق إلا أن يكون الهمّ الذي همّ به ما يخطر في النفس ولا يثبت في الصدر ، وهو الذي رفع فيه الله المؤاخذة عن الخلق (المحرر الوجيز ٧ / ٤٧٧ ـ ٤٧٨).
قال تعالى بعد ما ذكر الحكم والعلم : (وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ) [يوسف : ١٢ / ٢٣].
وأمّا همّه فأوّل ما ينبغي أن نقدّم أنّ الهمّ في اللّسان : الإرادة لا غير ، فإن سمّي الفعل همّا فمجاز من باب تسمية الشّيء باسم الشّيء إذا قاربه أو كان منه بسبب ، فلمّا كانت الأفعال مرتبطة بالإرادة التي هي الهمّ سمّيت همّا. فيقال لمن نصب أواني الخمر وما يحتاج إليه شرابها : همّ ، وكذلك يقال لمن خلا بامرأة فلاعبها ، وذلك لأنّ الهمّ الحقيقيّ محلّه القلب ، وهو غير محسوس ، فلمّا لم ندركه بالحواسّ لم نعلمه ، فإذا أدركنا أسبابه الدالّة عليه بالحواسّ قلنا : همّ ، أي فعل أفعالا دلّت على همّه بها في باطنه ، فثبت أنّ الهمّ الحقيقيّ هو الإرادة لا الفعل.
جاء في الصحيح عنه ـ عليهالسلام ـ أنه قال (١) : «من همّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة ، فإن عملها كتبت له عشرا ، ومن همّ بسيّئة فلم يعملها لم تكتب شيئا ، فإن عملها كتبت سيّئة واحدة».
فهذا أدلّ على أنّ الهمّ غير الفعل ، قال الشاعر (٢) :
هممت ولم أفعل وكدت وليتني |
|
تركت على عثمان تبكي حلائله!! |
فأخبر أنّه همّ ولم يفعل (٣) ، وإذا كان هذا هكذا فما بال الجهلة باللّسان المقلّدين
__________________
(١) في صحيح مسلم ١ / ١٤٧ في حديث الإسراء.
(٢) البيت لعمير بن ضابئ بن الحارث البرجمي ، في الكامل في الأدب ٤٩٦ ، ٥٠٣ ، وانظر تخريجاته.
والشاعر من رجال القرن الأول توفي سنة (٧٥ ه) ، وأبوه ضابئ شاعر خبيث اللسان كثير الشر سجنه عثمان رضياللهعنه لقتله صبيا بدابته ، ثم سجنه لإطلاق لسانه بهجاء قوم من بني نهشل ، ومات ضابئ في السجن ، فلما كان يوم الدّار دخل عمير بن ضابئ يوم مقتل عثمان رضياللهعنه ووطئه برجله ، وقد علم الحجّاج بما فعله عمير في زمانه الأوّل فأمر بقتله.
ـ والحلائل جمع الحليلة وهي الزّوجة.
(٣) في اللسان : الهمّ : (ما همّ) به في نفسه. ـ
المجازفين في الحقائق يقولون : قعد منها مقعد الرّجل من المرأة ، وحلّ عقد نطاقها وهو ينظر إلى أبيه تارة وإلى الملك أخرى ثمّ يعود لحلّ العقد!!
ونحن مع ذلك نعلم قطعا أنّ أحدنا ؛ على جهلنا وعدم عصمتنا وسوء أدبنا ، لو كان على تلك الحالة وكشفت عليه أمته لا نقبض وتغيّر عليه حاله ، فكيف بنا إذا كشف علينا آباؤنا وكبراؤنا! فكيف الملائكة؟!
فانظر إلى مقت هذه القولة وما ذا جمعت من الاجتراء والافتراء على أنبياء الله تعالى ، مع صفاقة الوجوه وعدم الحياء ، والتّهاون بذكر المصطفين الأخيار. وقد ذكرها الهمداني وغيره (١) في شرح قصّة يوسف ـ عليهالسلام ـ مع أنّ الهمّ في اللّسان : هو الخاطر الأوّل (٢) ، فإذا تمادى سمّي إرادة وعزما ، فإن لم يعترضه نقيض سمّي نيّة ، ثم إنّ الله تعالى وصفه بالخاطر الأوّل فقال : «هم» وهم يقولون : فعل وصنع! لا لعا (٣) لعثرتهم ولا سلامة!
__________________
ـ ـ وهمّ بالشيء : نواه ، وأراده ، وعزم عليه.
ـ وفي الشعر السّابق تمنّى الشاعر الخبيث لو كان شارك في قتل عثمان رضياللهعنه ، ولم يشف غلّه أن وطئ جسد عثمان برجله القذرة ، لعنه الله (أي تمنّى لو انتقل من الهمّ إلى الفعل).
(١) هي شائعة في كتب التّفسير ، تذكر من المفسّرين بين سرد وتلخيص ، وردّ واعتراض ، وحاكمها كثير منهم ، وأبطلوها بجملة من وجوه الاعتراض.
ـ والهمداني المشار إليه هو أبو محمّد الحسن بن أحمد الهمداني ، من بني همدان ، مؤرّخ عالم بالأنساب عارف بالفلك والفلسفة والأدب ، وهو صاحب كتاب (الإكليل) و (صفة جزيرة العرب) وغيرهما ، عاش بين ٢٨٠ و ٣٦٠ (وينظر ما في الأعلام للزركلي ٢ / ١٧٩ وحواشي الترجمة).
(٢) في تعريفات المناوي (تحقيقنا ط دار الفكر ٧٤٢) قال : الهمّ أوّل الإرادة ، وزاد فقال : هو عقد القلب على فعل شيء قبل أن يفعل من خير أو شرّ.
ـ وفي اللسان : همّ بالشيء : نواه وأراده وعزم عليه.
(٣) العرب تدعو على العاثر فتقول : لا لعا لك ، أي : لا أقامك الله ، وتدعو له فتقول : لعا لك ، أي أقام الله عثرتك.
فصل
[تفصيل في معنى «الهمّ» وتوضيح]
فإن قيل : فما الحقّ الذي يعوّل عليه في هذا الهمّ؟!
فنقول ؛ أوّلا : إنّ بعض الأئمّة ذكروا أنّ الإجماع منعقد على عصمة بواطنهم من كلّ خاطر وقع فيه النّهي ، وللمحقّقين أقوال في هذا الهمّ نذكر المختار منها إن شاء الله تعالى.
فمنهم من قال : إنّ في الكلام تقديما وتأخيرا (١) ، وترتيبه أن يكون : ولقد همّت به ، ولو لا أن رأى برهان ربّه لهمّ بها ، ويكون البرهان هنا النّبوّة والعصمة ، وما كاشف من الآيات وخوارق العادات ، والتّقديم والتّأخير في لسان العرب سائغ.
ومنهم من قال : همّ بحكم البشريّة مع الغفلة عن ارتكاب النّهي. ثم ذكّره الله تعالى الإيمان وتحريم المعصية وشؤمها والوعيد عليها ، وهو البرهان الأعظم فصرف عنه السّوء والفحشاء ، ولذا قال بعضهم : همّ وما تمّ ، لأن العناية من ثمّ! (٢).
ومنهم من قال : كاد أن يهمّ لو لا العصمة السّابقة ، فيكون الهمّ هنا مجازا.
ومنهم من قال : همّ همّ الفحوليّة ، وذلك أنه كان ـ عليهالسلام ـ فحلا شابّا خلت به امرأة ذات جمال وغنج ، وطالبته تلك المطالبة ، فاهتزّ هزّة الفحل بهزّ ضروريّ غير مكتسب (٣) ، فسمّي ذلك الاهتزاز همّا لكونه من أسباب الهمّ كما تقدّم.
__________________
(١) نقل في اللسان قال أبو حاتم : قرأت غريب القرآن على أبي عبيدة فلمّا أتيت على قوله تعالى : (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها) الآية ، قال أبو عبيدة هذا على التقديم والتأخير كأنه أراد : ولقد همّت به ولو لا أن رأى برهان ربّه لهم بها ، اللسان (ه م م).
(٢) أي : همّ ، ولم يتم شيء من ذلك الهمّ ، لأنّ العناية الإلهية كانت هنالك.
(٣) هو ما يدعى الطبيعي والغريزي.
ـ وقوله : لا طلب : أي لا مؤاخذة.
ويكون الهمّ على هذا التّفسير ضروريّا ولا طلب في الضّروريّات ، وأقول إنّه إن كان همّ مكتسبا لهمّه ولم يفعل فلا لوم ولا ذنب ، بدليل الحديث المتقدّم الذي منه قوله ـ عليهالسلام (١) ـ «ومن همّ بسيّئة فلم يعملها لم تكتب شيئا» معناه : لم يكتب له صغيرة ولا كبيرة. وجاء في حديث آخر (٢) : «أنّ تارك الخطيئة من أجل الله تكتب له حسنة» ، بدليل قوله تعالى للملائكة : اكتبوها له حسنة فإنما تركها من جرّاي ، أي من أجلي. وهذا ينظر إلى قول الله تعالى : (فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ) [الفرقان : ٢٥ / ٧٠] وإذا كان هذا في حقّ الرعية ، فالأنبياء ـ عليهمالسلام ـ أولى بهذا التّرك لا محالة ، كيف وقد أثنى الله تعالى عليه ونزّهه بقوله عند ما قالت : (هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) [يوسف : ١٢ / ٢٣] ، فهذا ممّا يدلّ على أنّه تركها من أجل الله ، وأنه مأجور في تركها.
وإذا كان هذا فلا ذنب ولا عتب يلحق يوسف ـ عليهالسلام ـ صغيرا ولا كبيرا ، بل يكون مأجورا في التّرك.
فهذه أقوال تشاكه (٣) الصّواب وتليق بالأكابر.
والأظهر : القول الأخير من هذه الأقوال لكونه معضودا بالخبر والآية ، والله أعلم.
فإن قيل : فإذا لم يتصوّر في حقّ يوسف ـ عليهالسلام ـ ذنب ولا عتب فلأيّ شيء قال بعد ما أنصفته امرأة العزيز وأقرّت بفعلها (وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ ما رَحِمَ رَبِّي) [يوسف : ١٢ / ٥٣].
__________________
(١) سبق تخريجه.
(٢) في صحيح مسلم ١ / ١١٨ من حديث أبي هريرة رضياللهعنه عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «قالت الملائكة : ربّ! ذاك عبدك يريد أن يعمل سيّئة (وهو أبصر به) ؛ فقال : ارقبوه ، فإن عملها فاكتبوها له بمثلها ، وإن تركها فاكتبوها له حسنة ، إنّما تركها من جرّاي».
(٣) أي تشابهه.
قلنا : ومن أين لك أن تقول إنّه قالها والآية تقتضي أنّها من قول امرأة العزيز؟وذلك أنّه لمّا تأدّب معها بآداب الأحرار حيث قال لرسول الملك (ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَ) [يوسف : ١٢ / ٥٠] ، فخلطها معهنّ وذكر فعلهنّ وأضرب عن ذكر فعلها تناصفت (١) هي وأقرّت بأنّها راودته فقالت : (وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي).
على أنّه لو ثبت أنّه قالها لخرجت له أحسن مخرج ، وذلك أنّه لمّا أنصفته بإقرارها وتبرئته قال هو : (وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي) على أصل الحوار لا على نفس الوقوع ، كما قال الخليل ـ عليهالسلام ـ (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ) [إبراهيم : ١٤ / ٣٥] ، وهو قد أمن بالعصمة من عبادتها ، وقال تعالى لنبيّنا ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ (وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) [الإسراء : ١٧ / ٨٦] ، وهو تعالى قد شاء ألاّ يذهبه ، والعصمة والنّزاهة له على كمالها.
فليت شعري إذا كان للتّأويل في هذه القصّة وأمثالها مجرى سحب (٢) ومجال للسّلامة رحب (٣) فما بالهم يضيّقون هذا الواسع لو لا الفضول؟! (٤).
__________________
(١) وقفت موقف الإنصاف.
(٢) سحب الشيء سحبا : جرّه ، وأراد بقوله : (مجرى سحب) أي يطول الجري فيه.
(٣) المجال الرّحب : الواسع.
(٤) وهو فضول منكر لا خير فيه.