وضوء النبي - ج ٢

السيد علي الشهرستاني

وضوء النبي - ج ٢

المؤلف:

السيد علي الشهرستاني


الموضوع : العقائد والكلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٦

البحث السندي

لخبر رجوع ابن عبّاس إلى الغسل

هذه هي مجموعة من الأسانيد الّتي تمسّك بها المستدلّ على رجوع ابن عبّاس إلى الغسل (١) ، وهي غير كافية لإثبات الدعوى ، لعدم إمكان الاعتماد عليها سندا ودلالة.

أما سندا ، فإن هذه الطرق تنتهي إلى طريقين :

الأول منهما : هو ما وقع في طريق الطحاوي إلى ابن عبّاس ، والّذي رواه (عبد الوارث عن علي بن زيد عن يوسف بن مهران) وهؤلاء الثلاثة متكلّم فيهم ، خصوصا علي بن زيد الضعيف ، ولا أحسب أن أحدا احتج برواية فيها علي هذا ، أضف إلى ذلك أنّ ابن كثير أخرج الرواية في تفسيره بنحو آخر وهو : حدّثنا علي بن زيد ، عن يوسف بن مهران ، عن ابن عبّاس (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ) قال : هو المسح. وهذا النص في تفسير ابن كثير يسقط خبر الغسل عن الحجية والاعتبار لمعارضته لها.

وعلى كلّ حال ، فالطريق الأول ضعيف لا يمكن الاحتجاج به كما عرفت.

وأما الطريق الثاني : وهو الّذي رواه خالد عن عكرمة عن ابن عبّاس (٢) ، فإنّ خالدا فيه شي‌ء ـ كما مرّ عليك من غمز شعبة له وتكلّمه فيه ـ بل تخوفه من أن يذكر معه في رواية ما عند أهل البصرة الذين لا يعتبرونه ولا يأخذون بما يرويه. وقد عرفت إن إعراض أهل البصرة عنه ليس لمجرد سوء حفظه بل لأمور أخرى قد عرفت بعضها ، لأنّ سوء الحفظ لوحدة لا يوجب الإعراض عنه ، فأهل البصرة قد حدّثوا عن عدد كثير ممّن تكلّم في حفظهم وضبطهم من الرواة!!

__________________

(١) وحكي مثلها من صحابه آخرين.

(٢) والذي وقع في الطرق الثلاث الأول.

١٦١

وكذلك لا يختص الإعراض عنه بمجرّد كونه يلي بعض أمور السلطان ، فهذا الزهريّ ـ وكثير غيره من كبار المحدثين ـ كانوا ممن يلي للسلطان بعض الاعمال مع أنّ الصحاح مشحونة بمروياتهم! فالمعقول أن يقال هنا : أن خالدا كان غير محمود السيرة مع النّاس ، بمعنى أنّه كان يظلم من تولّى عليهم ، في أنفسهم وأموالهم أو يقهرهم على ما لا يريدونه ، وهذا هو الجرح المتصوّر لمن يلي للسلطان بعض أعماله. وعليه فالاحتجاج بخالد لا يخلو من مجازفات شديدة.

والحاصل : فإنّ من يدّعي رجوع ابن عبّاس إلى الغسل ليس لديه سوى هذين الطريقين ، وكلاهما غير معتمد عليه سندا حسب ما عرفت.

١٦٢

البحث الدلالي

لخبر رجوع ابن عبّاس إلى الغسل

بعد أن عرفت عدم إمكان الاحتجاج بهذه المرويات سندا ، لا بدّ من القول بأنّ الاحتجاج بمتونها أشد إشكالا ، لعدة أمور :

الاولى : إنّ النّصوص الحاكية لرجوع بعض الصحابة والتّابعين ـ كعبد اللّٰه ابن عبّاس وابن مسعود وعروة بن الزبير (١) ـ إلى الغسل ، أو إرجاعهم الأمر ـ في قوله تعالى (وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) ـ إلى الغسل ، ـ لكون المعنى فيه ـ حسب تأويلهم ـ على التقديم والتأخير (٢) ـ ، أنها أقوال واستنتاجات للرواة ولم يصرح أحد من أولئك بذلك ، بل حكى عكسه (أي المسح) عن عروة بن الزبير (٣)!! ولو ثبت رجوع ابن عبّاس مثلا إلى الغسل وصح لتهادت إليه آذان المحدّثين وتناقلته عنه ، ولحدّث عنه ذلك تلامذته ، ولجاء ـ هذا التصريح ـ في ألسن المتشرّعة كما جاء تصريحه صلى‌الله‌عليه‌وآله بالمسح.

والثابت أنّ هذا الاستنتاج لا يمكنه أن يعارض الثابت المحفوظ عن ابن عبّاس في المسح سيرة وقولا ، لكون الرجوع دعوى محضة لا دليل عليها.

الثانية : عرفنا سابقا أنّ النصوص الحاكية لرجوع ابن عبّاس هي دعاوي للرواة ، فنتساءل الان من هو المدعي؟

أهو عكرمة؟

وهذا غير معقول ، لأنّه كان من الدعاة إلى المسح والذابين عنه إلى آخر حياته؟

__________________

(١) انظر صحيح ابن خزيمة ١ : ٨٥ رقم (١٢٨).

(٢) انظر صحيح ابن خزيمة ١ : ٨٥ رقم (١٢٨).

(٣) انظر شرح معاني الآثار ١ : ٣٥ / ١٦٢.

١٦٣

ولو صحّ صدور الغسل عن ابن عبّاس ، فلم لا يرجع عكرمة إليه رغم قربه من ابن عبّاس؟!! أم هو يوسف بن مهران؟ الّذي أخرج له ابن كثير عن ابن عبّاس عكس خبر الرجوع ، حيث قال في قوله تعالى (أَرْجُلَكُمْ) : هو المسح.

أم هو عمرو بن دينار؟ الّذي روى خبر المسح عن ابن عبّاس كذلك ـ كما مر في الصفحات السابقة ، أم غيرهم؟! فثبوت النصوص المسحيّة عن هؤلاء ، والسيرة العملية عن ابن عبّاس فيه ، تشكّكنا في قبول القول بالرجوع ، وذهابه إلى الغسل.

الثالثة : المعروف عن ابن عبّاس كونه من بني هاشم ، ومن أهل البيت ، ومن المقرّبين للرسول ، حتّى كان من أمره أنّه يبيت مع النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في بيته في غرفة واحدة ـ لكون زوجة الرسول ميمون بنت الحرث الهلالية هي خالته ـ وقد صلى مع رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله نافلة الليل (١) وصلواته الأخرى ، فلا يعقل أن لا يعرف مثل هذا الوضوء حتّى يجتهد فيه في أخريات حياته فيرجع إلى الغسل ـ بسبب قراءة ، المفروض أنه كان قد سمعها من النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من ذي قبل ، وعرف دلالتها ـ فالوضوء إذن مسألة من المسائل الّتي فهمها ابن عبّاس وأدركها حقّ الإدراك باعتبار أمرا عمليّا فعله النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بمرأى ومسمع منه ، ولم يكن بالشي‌ء الخافي والمبهم الّذي يمكن إكثار وجوه التفسير والتأويل فيه.

نعم ، قد إدراكه ابن عبّاس بحسّه ، ورآه بعينه ، ووعاه بقلبه ، لأنّه ليس حديثا أو كلاما يحتمل فيه سوء الفهم أو الاختلاف في الدلالة.

ومعنى كلامنا : أنّ ما قاله ابن عبّاس لا يمكن تصوّر الاجتهاد فيه ، لأنّه كاشف عن يقينه بما قاله وأنّه مستند إلى العلم لا الظن والتخمين ، لوقوفه على أن حكم

__________________

(١) صحيح البخاري : ١ : ٥٧ ، صحيح ابن خزيمة ١ : ٦٦ ، سنن ابن ماجة ١ : ١٤٧ وفيه (فقام النّبيّ فتوضأ من شنه وضوءا يقلّله)

١٦٤

الأرجل في القرآن والسنّة النبويّة هو المسح ، لكنّ الناس أبوا غير ذلك ، لقوله (أبي الناس إلّا الغسل ..) وإنّ هذا الإباء أخذ شكله المتكامل في آخر عهد معاوية وما بعده حسب ما وضّحناه في مدخل الدراسة.

والّذي نميل إليه هنا من القول هو : أنّ خالد بن مهران الحذاء هو الّذي قال ذلك لاتحاد غالب أسانيد رجوع ابن عبّاس عنده.

الرابعة : المدقق في هذه المرويات يرى أنّه نسبة الرجوع إلى الغسل هي اجتهادية محضة من الرواة لا أنّها نقل لكلام ابن عبّاس ، فإنّهم استوحوا الرجوع ، من قراءة ابن عبّاس (وأرجلكم) بالنصب ، لكون الأمر فيه يرجع إلى الغسل ، فتصير معطوفة على الوجوه والأيدي لا على الرءوس.

والمعلوم أنّ كلمة (يعني) و (عاد) ـ من الرواة ـ تستعمل للاستنتاجات الحدسية الّتي يمكن أن تصيب كما يمكنها أن تخطئ.

فإذا كان الأمر كذلك ، فمن السخافة أن يستدل أحد على رجوع ابن عبّاس إلى الغسل بواسطة اجتهاد راو يخطئ ويصيب ، قد فهم الغسل من قراءة النصب ، والّتي هي محلّ للبحث والمناقشة عند الأعلام.

الخامسة : لا ملازمة بين قراءة النصب والغسل ، ولا بين قراءة الجر والمسح ، فأما أوّلا : فلأنّ أغلب أساطين المحقّقين من المفسرين قد ذكروا أنّ الآية دالة بنفسها على المسح سواء قرئت بالنصب أو الجر وهذا يخالف ما ادعوه في فهم القراءة ، وسيأتي توضيح ذلك في بحث دعاوي وردود من هذا القسم من الدراسة ، وفي البحث القرآني «الوضوء في الكتاب واللغة».

وأمّا ثانيا : فلأنّ كثيرا من القائلين بالغسل قد اعترفوا بأنّ المسح حكم قد افترضه اللّٰه في كتابه ، لكنهم في الوقت نفسه يقولون : إلّا أنّه نسخ ، وفي نقل آخر عنهم : (إلّا أنّ السنّة جاءت بالغسل) ، وهذا الفهم منهم يرشدنا إلى أنّهم لا يشكّكون بتواتر القراءتين ـ النصب والجر ـ ومعنى كلامهم هو صحة القراءتين ، وهذا صريح في نفي الملازمة بين الغسل أو المسح ، وبين القراءتين المذكورتين.

١٦٥

فجمهور أهل السنة يقرءون بهما جميعا ، مع أنّهم يغسلون الأقدام ، ومثله موقف الشيعة الإمامية ، فإنّهم يقرءون بهما مع أنّهم يمسحون الأقدم.

ولا يخفى عليكم أنّ الّذي أوردناه هنا من قولهم بالنسخ ، أو أنّ السنة جاءت بالغسل!! إنّما هو نقض عليهم لا التزام منا به ، لأنّنا سنثبت عدم إمكانية نسخ الكتاب بخبر الواحد في آخر هذا القسم : فتلخص من كلّ ما ذكرنا أنّ الروايات المدّعية لرجوع ابن عبّاس إلى الغسل غير ناهضة بالمدّعى سندا أو متنا ، ـ في إثبات ذلك عن ابن عبّاس ـ ، هذا إذا لاحظناها بنفسها ، ولو وضعناها بجانب الثابت والمحفوظ عن ابن عبّاس كانت النتيجة هو بعد هذا الادّعاء عن الصواب بعد الأرض عن السماء.

مضافا إلى ما تقدمت الإشارة إليه من أن ادعاء رجوعه فرع ثبوت المسح عنه ، فيبقى المسح ثابتا قطعيّا ، والرجوع دعوى بلا دليل.

١٦٦

نسبة الخبر إليه

قبل تطبيق أولى مفردات (نسبة الخبر اليه) نرى لزاما علينا التفصيل في أحد أطراف المباني المفروض طرحها في مثل هذه الدراسات العلميّة ، وهو ما أكدناه أكثر من مرّة للباحثين من أنّ نهج الاجتهاد والرأي وأنصاره ، وتصحيحا لقول الخليفة وفعله ، كانوا ينسبون ما يريدونه إلى أعيان الصحابة من خلال القول بأنّ عليّ بن أبي طالب وابن مسعود وابن عبّاس وجابر بن عبد اللّٰه وغيرهم قد ذهبوا إلى ما ذهب إليه الخليفة من رأي.

وهذه الرؤية توضّح ظاهرة من ظواهر اختلاف النقل عن الصحابي الواحد ، خاصة إن كان من الجناح المقابل لفقه الشيخين ، بل الأحرى المقابل لفقه الاجتهاد والرأي ، وذلك لكي يختلط الحابل بالنابل والصحيح بالسقيم ، ولكي يضيع موقف هؤلاء الصحابة من الحكم الشرعي ثمّ يتسنّى في آخر الأمر تحكيم رأي الخليفة وأتباع الرأي فيه.

إنّ اختلاف النقل عن الصحابي الواحد ينمّ ـ مضافا إلى ما قيل من وجوه في سبب الاختلاف ـ عن وجود نهج آخر في الشريعة يتعبّد بالنصوص الصادرة عن اللّٰه ورسوله ولا يرتضي ما ذهب إليه الخليفة من رأي ، وهذا لا يعني أنّ جميع آراء الخليفة بعيدة عن التشريع والواقع ، بل في كلامه ما يوافقه وفيه ما يخالفه ، فان كان اجتهاده وفق القرآن أخذ به ، وإلّا فيضرب به عرض الحائط ، لأنّه لا قرآن ولا سنّة.

وهذه الظاهرة هي الّتي دعتنا للتأكيد أكثر من مرّة على لزوم دراسة ملابسات الأخبار عند المسلمين كي نعرف من هم وراء هكذا أحكام متعارضة ، ومن هو المستفيد منها ، ونحن لا نحدد ذلك بالخلفاء فقط ، بل يمكن أن يكون الأمر راجعا إلى من أعطي دورا في التشريع كعائشة أمّ المؤمنين وأبي هريرة كذلك.

فنحن لو وقفنا على خلفيّات هذه المسائل وعرفنا المفتي بها أو الناقل للحديث عن رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله أولا ، لأمكننا الوقوف على الخيوط الخفيّة في تعدّد الأحكام

١٦٧

الشرعيّة ، وملابسات اختلاف المسلمين في الفتاوي والآراء.

فلو اتّخذنا قضية المتعة مثلا لرأينا امتداد النهجين واضحا بيّنا فيها ، فابن عبّاس (١) وابن عمر (٢) وسعد بن أبي وقاص (٣) ، وعليّ بن أبي طالب (٤) وأبو موسى الأشعري (٥) وغيرهم (٦) ، يؤكّدون على مشروعية هذا الفعل ويعتبرونه فعلا شرعيّا نص عليه اللّٰه ورسوله ولم ينسخ قطّ.

وأمّا عمر بن الخطاب (٧) وعثمان بن عفان (٨) ومعاوية بن أبي سفيان (٩) وأئمة الفقه الحاكم فلا يرتضون ذلك الفعل ، لأنّ الخليفة عمر بن الخطّاب نهى عنه بقوله : متعتان كانتا على عهد رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله حلالا أنا أحرّمهما وأعاقب عليهما (١٠).

بلى إنّها خطوة اتّخذت لكي لا يجرؤ أحد على مخالفة فتوى الخليفة بل ليسلّم الجميع بما يراه ويذهب إليه.

فقد جاء عن أبي موسى الأشعري أنّه كان يفتي بالمتعة ، فقال له رجل : رويدك ببعض فتياك ، فإنّك لا تدري ما أحدث أمير المؤمنين [يعني به عمر] في النسك حتّى لقيه بعد فسأله.

فقال عمر : قد علمت أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قد فعله وأصحابه ، ولكنّي كرهت أن يظلّوا

__________________

(١) زاد المعاد ١ : ٢١٢ ـ ٢١٣ ، مسند أحمد ١ : ٣٢٧ ، إرشاد النقاد للصنعاني : ٢٤ ـ ٢٥ ، سنن الترمذي ٢ : ٢٩٥.

(٢) سنن الترمذي ٢ : ١٥٩ / ٨٢٣ ، إرشاد النقاد ، للصنعاني : ٢٥.

(٣) السنن الكبرى للبيهقي ٥ : ١٧ ، زاد المعاد ١ : ١٧٩ ، سنن الدارمي ٢ : ٣٥.

(٤) مسند أحمد ١ : ٥٧ ، سنن النسائي (المجتبى) ٥ : ١٥٢ ، المستدرك على الصحيحين ١ : ٤٧٢ الموطأ ١ : ٣٣٦ / ٤٠ ، سنن الترمذي ٢ : ٢٩٥.

(٥) صحيح مسلم ٢ : ٨٩٦ / ١٥٧ ، مسند أحمد ١ : ٥٠ ، سنن النسائي (المجتبى) ٥ : ١٥٣ ، السنن الكبرى ، للبيهقي ٥ : ٢٠ ، تيسير الوصول ١ : ٣٤٠ / ٣٠ ، سنن ابن ماجة ٣ : ٩٩٢ / ٢٩٧٩.

(٦) كعمران بن الحصين ، انظر صحيح مسلم ٢ : ٨٩٦ / ١٦٨ ، شرح صحيح مسلم للنووي ٧ ـ ٨ : ٤٥٦.

(٧) أحكام القرآن للجصاص ٢ : ١٥٢ ، والمصادر السابقة.

(٨) سنن النسائي (المجتبى) ٥ : ١٥٢ ، المستدرك على الصحيحين ١ : ٤٧٢ ، مستند أحمد ١ : ٥٧ ، الموطأ ١ : ٣٣٦.

(٩) السنن الكبرى ، للبيهقي ٥ : ٢٠ ، سنن أبي داود ٢ : ١٥٧ / ١٧٩٤ ، زاد المعاد ١ : ١٨٩.

(١٠) احكام القرآن للجصاص ٢ : ١٥٢.

١٦٨

معرّسين بهنّ في الأراك ثمّ يروحون في الحجّ تقطر رءوسهم (١).

إن هذا النص وأمثاله مما يؤكد فكرة خضوع الأحكام الشرعية لرأي الخليفة ، إذ ترى أبا موسى الأشعري ـ وهو من كبار الصحابة ـ لا يمكنه أن يفتي بحكم المتعة ، لأنّه لا يدري ما أحدث أمير المؤمنين في النسك!! بل يجب عليه التروّي حتى يأتي أمر الخليفة وقراره الأخير فيه!! فإذا كان هذا فعلهم مع الصحابة الإحياء ، فكيف بالصحابة الأموات وبعد قرون من الزمن؟! إننا لا نستبعد ـ من أجل تقوية الجناح الحاكم ـ أن يسبوا إلى أعيان الصحابة قولا في النهي أو التشريع يوافق مذهب الخليفة ، وهذا ما فعلوه بالفعل في كثير من المسائل :

فقد نسب القول بتحريم المتعة إلى بعض أعيان الصحابة ، منهم : عليّ بن أبي طالب وابن عبّاس وابن مسعود وجابر (٢) وغيرهم ، مع أنّ الثابت القطعي ـ في نصوص كثيرة ـ عن هؤلاء تؤكّد قولهم بالتحليل (٣).

وإنّا قد ناقشنا كلام ابن القيم في متعة النساء ـ حين جعل حديث علي في النهي دليلا للتحريم ـ بقولنا : لا ندري متى ثبتت حرمة التمتع بالنساء عن عليّ حتى يصح جعله دليلا للمطلوب ، في حين كان الإمام وابن عمه عبد اللّٰه بن عبّاس في طليعة المجيزين له والقائلين (لو لا نهي عمر لما زنى إلا شقي أو إلّا شفى) (٤) ، وقد كذّب ابن عبّاس عبد اللّٰه بن الزبير في ادعاء تحريم ذلك حين أحاله على امّه ليسألها عن ذلك. (٥) وقوله للذين لا يعملون بقول الرسول وفعله : ما أراكم منتهين حتّى يعذبكم اللّٰه ـ وفي آخر : حتّى يصيبكم حجر من السماء ـ نحدّثكم عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله

__________________

(١) صحيح مسلم ٢ : ٨٩٦ / ١٥٧ ، مسند أحمد ١ : ٥٠ ، سنن النسائي (المجتبى) ٥ : ١٥٣ ، السنن الكبرى للبيهقي ٥ : ٢٠ ، تيسير الوصول ١ : ٣٤٠ / ٣٠ ، سنن ابن ماجة ٣ : ٩٩٢ / ٢٩٧٩.

(٢) انظر : فتح الباري ٩ : ١٤٢ ، أحكام القرآن ، للجصاص ٢ : ١٤٧ ـ ١٤٨ ، الجامع لأحكام القرآن ٥ : ١٣٢ ، المغني لابن قدامة ٧ : ٥٧٢ ، المبسوط للسرخسي ٥ : ١٥٢ ، المهذب في فقه الشافعي ٢ : ٤٦ ، تحفة الاحوذي ٤ : ٢٦٧.

(٣) انظر المحلى ، لابن حزم ٩ : ٥١٩.

(٤) النهاية ٢ : ٢٤٩ و ٤٨٨.

(٥) المحاضرات للراغب الأصفهاني ٢ : ٩٤ وانظر الطبراني (١٠٧٢١) وعنه في جامع المسانيد ٣١ : ١٥٢

١٦٩

وتحدّثوننا عن أبي بكر وعمر (١).

وقد صرّح الإمام علي بأنّ الخلفاء من قبله قد عملوا أعمالا خالفوا فيها رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله مغيّرين لسنته ، وعدّ منها المتعتين (٢) ، فكيف ينسب بعد ذلك إلى علي القول بالتحريم!! ويزيد الأمر وضوحا أن الخلفاء في العهد العباسيّ كانوا قد عقدوا جلسات المناظرة مع الأئمّة من ولده ، وكان السؤال عن المتعة في رأس قائمة الأسئلة المطروحة في تكلم المناظرات التي حفظها لنا التاريخ؟! فلو كان المنع قد ثبت عن عليّ ، فما الإصرار من قبل آله في الدفاع عن حلّية التمتّع؟

ولما ذا غدا أشياع علي ـ إذن ـ موضع سهام الانتقاد والمحاربة ، من أجل القول بمشروعيتها؟ ولم تحارب الشيعة من أجله حتى اليوم؟! نعم ، إنّ الحلّية قد ثبت صدورها عن عليّ بطرق متعدّدة عند الفريقين وأجمع عليها أئمة التعبّد المحض ، وهو المحفوظ عنه في الصحاح والأخبار ، وأمّا حديث المنع المدّعى فيها وفي غيرها ـ عنه وعن غيره ـ فقد انفرد بنقله أنصار مدرسة الاجتهاد والرأي لمصالح ارتضوها!! (٣).

وممّا يزيد الأمر تلبيسا هو اختلاف نقلهم عن عليّ ، فتارة نقلوا عنه أنه قال : نهى عنها رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم خيبر ، وفي آخر : في يوم حنين ، وفي ثالث في غزوة تبوك (٤) ، وكذلك الحال بالنسبة إلى من نسبوا لهم بواطل الأقوال ، كل ذلك لتأكيد النسبة إليهم بهذه القيود الإضافية! ومثل قضية المتعة مسألة صلاة التراويح ، فقد ثبت عن عمر قوله «نعمت البدعة هذه» (٥).

__________________

(١) زاد المعاد ١ : ٢١٩.

(٢) انظر كتاب الروضة من الكافي ٨ : ٦١.

(٣) انظر منع تدوين الحديث ، لنا : ٢٧٩ بتصرف.

(٤) فتح الباري ٩ : ١٣٧ ، أحكام القرآن للقرطبي ٥ : ١٣١.

(٥) صحيح البخاري ٣ : ٥٨ ، تاريخ المدينة ٣ : ٧١٣ ، الرياض النضرة ١ : ٣٠٩ ، تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٤٠.

١٧٠

قال اليعقوبي في تاريخه : وفي هذه السنة ـ يعني سنة أربع عشر بعد الهجرة ـ سنّ عمر قيام شهر رمضان وكتب بذلك إلى البلدان ، وأمر أبيّ بن كعب وتميما الداري أن يصلّيا بالناس ، قيل له في ذلك : إن رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يفعله ، وإن أبا بكر لم يفعله ، فقال : إن تكن بدعة فما أحسنها من بدعة (١).

وذلك لأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان قد خرج في رمضان ليلا للصلاة في المسجد فأتم به الناس ، وفي اليوم الثاني كثر العدد ، وفي اليوم الثالث كانوا أكثر ، حتّى خرج بهم إلى خارج المسجد ، فترك الرسول الخروج إلى المسجد خوف أن تفرض عليهم (٢) ، فقد جعلوا هذا الخبر وأمثاله دليلا على مشروعية صلاة التراويح وترى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله في النص السابق قد تركها ولم يرتض الإتيان بها جماعة في المسجد!! فالناس ـ أصحاب الرأي والاجتهاد ـ كانوا يريدون تشريع هذا الأمر ويصرّون على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يأتي إلى المسجد للصّلاة بهم ، بحيث كان بعضهم يتنحنح ليخرج إليهم (٣) ، ويقول الآخر : الصلاة ، الصلاة ، ورسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول لهم : (خشيت أن يكتب عليكم ولو كتب عليكم ما قمتم به (٤)) أو قوله في خبر زيد بن ثابت (أيّها الناس ما زال بكم صنيعكم حتى ظننت أن سيكتب عليكم ، فعليكم بالصلاة في بيوتكم ، فإنّ خير صلاة المرء في بيته إلّا الصلاة المكتوبة) (٥).

فهذا الخبر دليل على عدم مشروعية هذه الصلاة ، لعدم ارتضاء رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله الصلاة بهم حتى آخر حياته ، وكذا في عهد الخليفة الأول أبي بكر ، حيث لم يكن لها وجود آن ذاك ، وشطرا من خلافة عمر.

لكنّ الخليفة عمر بن الخطّاب فيما بعد ارتضى هذا الأمر وسعى لتشريعه بكتابته

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٤٠.

(٢) كنز العمال ٧ : ٨١٧ ح ٢١٥٤٢ ، وأخرجه النسائي في كتاب قيام الليل ، باب قيام شهر رمضان عن عائشة.

(٣) الفتح الرباني ٥ : ١٣.

(٤) الفتح الرباني ٥ : ١٣ ، كنز العمال ٧ : ٨١٦ ح ٢١٥٤١ وأخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين باب استحباب صلاة النافلة في بيته.

(٥) الفتح الرباني ٥ : ١٣ ، كنز العمال ٧ : ٨١٦ ح ٢١٥٤١ وأخرجه أبو داود في كتاب الصلاة ، باب فضل التطوع في البيت.

١٧١

للأمصار في إتيان ذلك (١)!! قال ابن قدامة في كتاب المغني : «ونسبت التراويح إلى عمر بن الخطّاب رضي اللّٰه عنه ، لأنّه جمع الناس على أبيّ بن كعب ، فكان يصلّيها بهم ، فروى عبد الرحمن بن عبد القاري قال : خرجت مع عمر ليله في رمضان فإذا الناس أوزاع متفرقون يصلي الرجل لنفسه ، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط ، فقال عمر : اني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل ، ثمّ عزم فجمعهم على أبي بن كعب ، قال : ثمّ خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلّون بصلاة قارئهم ، فقال : نعمت البدعة هذه» (٢).

وهذا خطأ ، لأن صلاة التراويح إنما نسبت إلى عمر لأنه أول من شرعها جماعة وفي المسجد مخالفا بذلك صريح قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله المتقدم من أن الصلاة في المسجد جماعة إنما هي للمكتوبة لا لغيرها ، فإن خبر زيد بن ثابت وغيره يكذب دعوى ابن قدامة هذه ، ويكذبها أيضا قول عمر نفسه : (نعمت البدعة هذه) ، وكذا كتابته إلى البلدان والأمصار آمرا بنشرها.

نعم ، إن عمر بن الخطاب شرّع أمرا لم يكن شرعيا على عهد رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأراد تطبيقه بتعميم كتاب إلى الأمصار!! وبعد هذا فلا يستبعد أن ينسب إلى أعيان الصحابة أقوالا توافق رأي الخليفة وتقوي ما ذهب اليه ، حتى نراهم في بعض تلك النصوص يشيرون إلى خصوصيّات خاصّة منسوبة إلى بعض الصحابة كي يؤكدوا النسبة إليه ، فمن ذلك ما رواه عرفجة الثقفي بقوله : كان عليّ بن أبي طالب يأمر الناس بقيام شهر رمضان ويجعل للرجال إماما وللنساء اماما ، فكنت أنا إمام النساء (٣)!! وعن أبي عبد الرحمن السلميّ وغيره : إن عليا قام بهم في رمضان (٤)!! فإنهم جاءوا بهذه الأخبار ليضعّفوا الأخبار الأخرى الثابتة عنه في عدم

__________________

(١) انظر الكامل في التاريخ ٢ : ٤٨٩.

(٢) المغني ، لابن قدامه ١ : ٨٣٤.

(٣) المجموع ، للنووي ٤ : ٣٤.

(٤) المبسوط ، للسرخسي ٢ : ١٤٥.

١٧٢

مشروعية صلاة التراويح وأنها بدعة ، لقوله في خبر طويل مروي عن أهل بيته وولده (.. واللّٰه لقد أمرت الناس ألّا يجتمعوا في شهر رمضان إلّا في فريضة وأعلمتهم أن اجتماعهم في النوافل بدعة) (١) ويؤيّد هذا النقل عن أهل البيت وكون اجتماعهم في النوافل بدعة خبر عمر بن الخطّاب نفسه : نعمت البدعة هي (٢)!! وجاء في التهذيب بسنده إلى الصادق : أنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام لما قدم الكوفة أمر الحسن بن علي أن ينادي في الناس (لا صلاة في شهر رمضان في المساجد جماعة).

فنادى في الناس الحسن بن علي بما أمره به أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فلمّا سمع الناس مقالة الحسن بن علي صاحوا : وا عمراه! وا عمراه! فلما رجع الحسن إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام قال له : ما هذا الصوت؟

فقال : يا أمير المؤمنين! الناس يصيحون : وا عمراه! وا عمراه! فقال أمير المؤمنين لهم : صلّوا (٣).

ونحن لو نظرنا إلى الصلاة بين الطلوعين وقبل الغروب لرأيناها كسابقيها ، حيث نهى عنها الخليفة عمر بن الخطّاب.

جاء في مجمع الزوائد للهيثمي : إن تميما ركع ركعتين بعد نهي عمر بن الخطّاب عن الصلاة بعد العصر ، فأتاه عمر فضربه بالدرة ، فأشار إليه تميم أن اجلس ـ وهو في صلاته ـ فجلس عمر ، ثمّ فرغ تميم من صلاته فقال تميم لعمر : لم ضربتني؟

قال : لأنك ركعت هاتين وقد نهيت عنها قال : إنّي صلّيتهما مع من هو خير منك ، رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله.

فقال عمر : إنّه ليس بي أنتم الرهط ، ولكن أخاف أن يأتي بعدكم قوم يصلون ما بين العصر والمغرب حتى يمرّوا بالساعة التي نهى رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يصلّوا فيها حتى

__________________

(١) الروضة من الكافي ٨ : ٥٨ ح ٢١.

(٢) صحيح البخاري ٣ : ٥٨ ، تاريخ المدينة ٣ : ٧١٣ وغيره.

(٣) تهذيب الاحكام ٣ : ٧٠ / ح ٢٧ وفي شرح النهج لابن أبي الحديد ط قديم ٣ : ١٧٨ ناقلا ذلك عن السيد المرتضى ، وفي مستطرفات السرائر مثله.

١٧٣

وصلوا ما بين الظهر والعصر (١).

وجاء عن أبي أيوب الأنصاري أنّه كان يصلّى قبل خلافة عمر ركعتين بعد العصر ، فلما استخلف عمر تركها ، فلما توفي ركعهما ، فقيل له : ما هذا؟

فقال : إنّ عمر كان يضرب الناس عليهما (٢).

فمن غير البعيد أن ينسب إلى ابن عبّاس وغيره نهيهم عن الصلاة بعد العصر ، في حين إن أولئك كانوا قد فعلوا ذلك ، ولو تأملت في النصوص المجوزة للصلاة بعد الوقتين عن ابن عبّاس لاتضح لك مدعانا وسقم نسبة النهي بعد العصر إليه.

فقد رووا عن ابن عبّاس قوله : شهد عندي رجال مرضيون وأرضاهم عندي عمر أنّ نبي اللّٰه كان يقول : لا صلاة بعد العصر حتّى تغرب الشمس ، ولا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس (٣).

وعن علي قوله : كان رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله يصلي دبر كلّ صلاة مكتوبة ركعتين إلّا العصر والصبح (٤) لكن ابن حزم روى في المحلى بإسناده عن شعبه عن أبي جمرة نصر بن عمران الضبعي ، عن ابن عبّاس قوله : لقد رأيت عمر بن الخطّاب يضرب الناس على الصلاة بعد العصر ، ثمّ قال ابن عباس : صلّ إن شئت ما بينك وبين أن تغيب.

قال علي [وهو ابن حزم] : هم يقولون في الصاحب يروي الحديث ثمّ يخالفه : لو لا انّه كان عنده علم بنسخة ما خالفه ، فيلزمهم أن يقولوا هاهنا : لو لا أنه كان عند ابن عبّاس علم أثبت من فعل عمر ما خالف ما كان عليه مع عمر ، وبمثله عن شعبة عن ابن شعيب عن طاوس : سئل ابن عمر عن الركعتين بعد العصر؟ فرخّص فيهما (٥).

وجاء عن عليّ بن أبي طالب عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قوله : لا تصلّوا بعد العصر إلّا أن

__________________

(١) مجمع الزوائد ٢ : ٣٢٢ ـ ٣٢٣.

(٢) المصنف ٢ : ٤٣٣ وفي هامشه عن كنز العمّال.

(٣) الفتح الرباني ٢ : ٢٩٢ ح ١٨٧ السنن الكبرى للبيهقي ٢ : ٤٥١ ـ ٤٥٧.

(٤) المحلى ٢ : ٢٦٧ والسنن الكبرى للبيهقي ٢ : ٤٥٩ وأبي داود في سننه ١ : ٤٩٢.

(٥) المحلى ٢ : ٢٧٥ ، الفتح الرباني ٢ : ٢٩٦ عن سنن الدار قطني وتاريخ أصبهان لأبي نعيم والطبراني وتلخيص الخطيب.

١٧٤

تصلّوا والشمس مرتفعة (١).

وهذان النصان يخالفان ما ثبت عن ابن عبّاس وعلي ، والمطالع في كتب الفقه والحديث والتاريخ يعلم بأنّ الاتجاه الفقهي لمدرسة الاجتهاد والرأي كان يسعى لتطبيق ما سنّ على عهد عمر بن الخطّاب.

ولنأخذ موقف معاوية في حكم الصلاة بعد العصر مثلا ، كي تتأكد لنا الحقيقة أكثر ، أخرج أحمد في مسنده عن أبي النتاج ، قال : سمعت حمران بن أبان يحدّث عن معاوية أنّه رأى ناسا يصلّون بعد العصر ، فقال : إنّكم تصلّون صلاة قد صحبنا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ما رأيناه يصليها ولقد نهى عنها ، يعنى الركعتين بعد العصر (٢).

وأخرج ابن حزم بسنده إلى عبد اللّٰه بن الحارث بن نوفل قال : صلى بنا معاوية العصر فرأى ناسا يصلّون ، فقال : ما هذه الصلاة؟ فقالوا : هذه فتيا عبد اللّٰه بن الزبير ، فجاء عبد اللّٰه بن الزبير مع الناس ، فقال معاوية : ما هذه الفتيا التي تفتي : أن يصلّوا بعد العصر؟ فقال ابن الزبير : حدثتني زوج رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه صلّى بعد العصر.

فأرسل معاوية إلى عائشة ، فقالت : هذا حديث ميمونة بنت الحارث ، فأرسل إلى ميمونة رسولين ، فقالت : إنما حدثت أنّ رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يجهّز جيشا فحبسوه حتى أرهق العصر ، فصلّى العصر ثمّ رجع فصلّى ما كان يصلّي قبلها ، قالت : وكان رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا صلى صلاة أو فعل شيئا يحب أن يدوم عليه ، فقال ابن الزبير : أليس قد صلى؟ واللّٰه لنصلّيه! قال علي : ظهرت حجة ابن الزبير فلم يجز عليه الاعتراض (٣).

نعم ، إنّ عائشة كانت قد قالت : ما ترك رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله السجدتين بعد العصر عندي قط (٤).

__________________

(١) السنن الكبرى للنسائي ١ : ٤٨٥ ح ١٥٥٢.

(٢) مسند أحمد ٤ : ١٠٠.

(٣) المحلى ٢ : ٢٧٣.

(٤) السنن الكبرى للنسائي ١ : ٤٨٥ ح ١٥٥٣ ، وأحمد قد اخرج عن عائشة قولها ان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله نهى عن الصلاة حين تطلع الشمس حتى ترتفع ومن حين تصوب حتى تغيب ، وفي إسناده ابن لهيعة وهو ضعيف ، انظر الفتح الرباني ٢ : ٢٩٩.

١٧٥

وفي آخر : كان رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا كان عندي بعد العصر صلاهما (١).

وقد مر عليك إنها قد صححت نظر عمر في الصلاة بعد العصر بقولها : وهم عمر إنّما نهى رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يتحرّى طلوع الشمس وغروبها (٢).

وأمّا بيع أمّهات الأولاد فهو الآخر ، من موارد ما نحن فيه ، فقد كان أبو بكر وعمر يسمحان بذلك في خلافتهما ، ولكن ما لبث الخليفة عمر بن الخطّاب حتى انتبه إلى أنّه محرّم فحرّم بيعها ، ولأجل هذا نرى نسبه جواز بيعهنّ ورجوعه عنه إلى علي وابن عبّاس وجابر (٣).

فقد أخرج القاضي نعمان في دعائم الإسلام ، عن الباقر أنّه ذكر له عن عبيدة السلماني أنه روى عن علي بيع أمّهات الأولاد ، فقال الباقر : كذبوا على عبيدة ـ أو كذب عبيدة على علي ـ إنما أراد القوم أن ينسبوا إليه الحكم بالقياس ، ولا يثبت لهم هذا أبدا ، إنّما نحن أفراخ عليّ ، فما حدثناكم به عن علي فهو قوله ، وما أنكرناه فهو افتراء عليه ، ونحن نعلم أن القياس ليس من دين علي وإنّما يقيس من لا يعلم الكتاب ولا السنة ، فلا تضلنكم روايتهم ، فإنّهم لا يدعون أن يضلوا ولا ..) (٤).

وقال الشيخ مرتضى الأنصاري ، وهو من كبار علماء الإمامية في كتابه (المكاسب) : وفي بعض الأخبار دلالة على كونه من المنكرات [أى بيعهنّ] في صدر الإسلام ، مثل ما روي عن قول أمير المؤمنين عليه‌السلام لمن سأله عن بيع أمة أرضعت ولده ، قال له : خذ بيدها وقل من يشتري أمّ ولدي (٥)!.

وأمّا مسألة المسح على الخفين فهي الأخرى تشابه ما سبقها ، إذ ثبت عن عمر بن الخطاب أنه كان يمسح على خفّيه ويفتي بذلك (٦) ، ويأمر به (٧) ، وقد كتب إلى

__________________

(١) السنن الكبرى للنسائي ١ : ٤٨٥ ح ١٥٥٥.

(٢) صحيح البخاري ١ : ١٥٢ ، صحيح مسلم ١ : ٥٦٦ ـ ٥٦٧ و ١ : ٥٧١ / ٢٩٥ ، مسند أحمد ٦ : ١٢٤ ، النسائي (المجتبى) ١ : ٢٧٨ ـ ٢٧٩.

(٣) السنن الكبرى للنسائي ١٠ : ٣٤٢ المحلى ٩ : ٢١٧ الروض النضير ٣ : ٦٠١ ، المبسوط ٧ : ١٤٩.

(٤) دعائم الإسلام ٢ : ٥٣٦ ج ١٩٠٢ ، مستدرك وسائل الشيعة ١٧ : ٢٥٤.

(٥) المكاسب ، للشيخ الأنصاري : ١٧٥.

(٦) موسوعة فقه عمر بن الخطّاب : ٨٧٠.

(٧) المصنف ، لعبد الرزاق ١ : ١٩٧ ح ٧٦٦.

١٧٦

زيد بن وهب الجهني وهو بأذربيجان كتابا في ذلك ، وهو يشترط الثلاث للمسافر وليلة للمقيم (١).

وجاء عنه في نصّ آخر : لا يختلجن في نفس رجل مسلم أن يتوضّأ على خفّيه وإن كان جاء من الغائط (٢) ، وقد بال عمر مرة فمسح على خفيه (٣).

ولذلك ، نسب إلى بعض الصحابة أقوالا تشابه ما قاله الخليفة ، فممن روي عنهم قولان عليّ بن أبي طالب وابن عبّاس وعائشة وابن عمرو (٤).

فقد نسب إلى عليّ بن أبي طالب أنّه مسح على خفيه (٥) وقوله : للمسافر ثلاث ليال ويوم وليلة للمقيم (٦) ومثله ما نسب إلى ابن عباس (٧) وابن مسعود (٨) ، وكان عطاء هو الناسب إلى ابن عبّاس وابن عمر قولهما بجواز المسح (٩).

وقد سئلت عائشة عن المسح على الخفّين ، فقالت : سل عليّ بن أبي طالب فإنّه كان يسافر مع رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فسألنا عليا فقال : للمسافر ثلاث وللمقيم ليلة (١٠).

والباحث في الفقه الإسلامي يعلم بان مذهب عليّ بن أبي طالب وعبد اللّٰه ابن عبّاس وعائشة هو عدم جواز المسح على الخفين ، لأنه هو الراجح من مذهبهم. إذ

__________________

(١) المصنف ، لعبد الرزاق ١ : ٢٠٦ ح ٧٩٧ وقد كتب عمر بن عبد العزيز إلى أهل المصيصة ان اخلعوا الخفاف في كل ثلاث ، المصنف لابن أبي شيبة ١ : ١٩٣ ح ١٨٧٩.

(٢) المصنف ، لعبد الرزاق ١ : ١٩٥ ح ٧٦٠ ، و ١٩٦ ح ٧٦٣.

(٣) المصنف ، لابن أبي شيبة ١ : ١٦٦ ح ١٩٠٥.

(٤) انظر المحلى ٢ : ٦٠ ، المجموع ١ : ٤٧٧ ـ ٤٧٨ ، فتح الباري ١ : ٢٤٥ ، أحكام القرآن ، للجصاص ٢ : ٢٥٠.

(٥) المصنف لابن أبي شيبة ١ : ١٦٥ ح ١٨٩٤.

(٦) المصنف لابن أبي شيبة ١ : ١٦٥ ح ١٨٩٢.

(٧) المصنف ، لعبد الرزاق ١ : ٢٠٨ ح ٨٠٢ ، المصنف لابن أبي شيبة ١ : ١٦٥ ح ١٨٩٣ و ١٩١١.

(٨) المصنف ، لعبد الرزاق ١ : ٢٠٧ ح ٧٩٩ ، المصنف لابن أبي شيبة ١ : ١٦٤ ح ١٨٨٣ و ١٨٨٨ و ١٨٩٠.

(٩) المصنف ، لعبد الرزاق ١ : ١٩٨ ح ٧٧٢.

(١٠) المصنف ، لعبد الرزاق ١ : ٢٠٣ ح ٧٨٨ و ٧٨٩ ، المصنف لابن أبي شيبة ١ : ١٦٢ ح ١٨٦٥ و ١٨٦٦ والحميدي في مسنده من طريق عتبة عن يزيد بن أبي زياد وكنز العمال ٥ الرقم ٣٠٣٥.

١٧٧

ثبت عن علي وابن عبّاس قولهما : سبق الكتاب الخفين (١) ، وجاء عن خصيف : أن مقسم أخبره ان ابن عبّاس قال : إنا عند عمر حين سأله سعد وابن عمر عن المسح على الخفين؟

فقضى عمر لسعد ، فقال ابن عباس : فقلت : يا سعد ، قد علمنا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مسح على خفيه ، ولكن أقبل المائدة أم بعدها؟ قال : فقال روح [وهو من رواة السند] : أو بعدها؟

قال : لا يخبرك أحد أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مسح عليهما بعد ما أنزلت المائدة ، فسكت عمر (٢).

وعن عائشة قولها : لئن أحزّهما أو أحز أصابعي بالسكين أحبّ اليّ من أن أمسح عليهما (٣) ، أو : لأن تقطع قدماي أحبّ اليّ من أن أمسح على الخفّين ، أو : لأن أمسح على جلد حمار أحبّ إليّ من أن أمسح على الخفين (٤).

وقد انزعج الخليفة عمر بن الخطّاب من قول عائشة هذا فقال : لا تأخذوا بقول امرأة (٥).

فهذه النصوص صريحة بأن مذهب عائشة وعلي وابن عبّاس هو عدم جواز المسح على الخفين ، وأمّا ما جاء عنهم في جواز المسح فهو مما وضع لتأيد مذهب الخليفة عمر بن الخطاب ، وعليه فلا يمكن الركون إلى هذه الأخبار بسهولة ، لمخالفة هؤلاء الصحابة للخليفة في فهمه ونقله!! وواضح أنّ أتباع الاتجاه المقابل قد أتوا بهذه الأخبار تصحيحا لمسارهم ، ولكي

__________________

(١) مصنف بن أبي شيبة ١ : ١٦٩ ح ١٩٤٦ (قول علي) وفي ١٩٤٧ ، ١٩٤٩ قول ابن عبّاس وانظر عن ابن عبّاس في زوائد الهيثمي ١ : ٢٥٦ قال : رواه الطبراني في الأوسط ، انظر الطبراني (١١٤٠) وجامع المسانيد ٣٢ : ٢٦٦ وج ٣٠ : ٢٤٥ عن الطبراني (١٢٢٣٧).

(٢) رواه الإمام أحمد في مسند. (٣٤٦٢) وإسناده صحيح ، وقال المزين : رواه أبو داود في الطهارة ، وليس موجودا ، ونقل الهيثمي في مجمع الزوائد (١ : ٢٥٦) نحو هذا عن ابن عباس ، ونسبه للطبراني في الأوسط ، كما في هامش جامع المسانيد والسنن لابن كثير ٣٢ : ٦ ـ ٤.

(٣) مصنف بن أبي شيبة ١ : ١٧٠ ح ١٩٥٣.

(٤) التفسير الكبير ، للرازي ١١ : ١٦٣.

(٥) مسند زيد بشرح الروض.

١٧٨

يشككوا الناس في المنقول عن المتعبدين ، ثمّ تصحيح ما ذهب اليه عمر بن الخطّاب ، وهذه حقيقة لا تخفى على البصير بملابسات التشريع الإسلامي ، وجذور الاختلاف بين المسلمين.

ولو تدبرت في موقف آخر من هذه المواقف ، وهو نسبة المسح على الخفين إلى أئمّة الطالبين كمحمد الباقر وزيد بن علي بن الحسين و .. لعرفت صحّة مدعانا ، لأنّ الثابت عن فقه هؤلاء هو عكس المطروح عنهم في مرويات اتباع الاجتهاد.

فقد جاء في مسند الامام زيد بن علي عن أبيه ، عن جده الحسين بن علي رضي اللّٰه عنهما قوله : إنّا ولد فاطمة (رضي اللّٰه عنها) لا نمسح على الخفين ولا العمامة ولا كمّة ولا خمار ولا جهاز (١).

وقد مر عليك ما جاء في تفسير العياشي اعتراض الإمام علي على الخليفة عمر بن الخطّاب لتجويزه المسح على الخفّين وقوله له : لم تفتي وأنت لا تدري؟! سبق الكتاب الخفين (٢).

مر مثله ما جاء في قول ابن عبّاس لعمر : لا يخبرك أحد أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مسح عليهما بعد ما أنزلت المائدة ، فسكت عمر.

وقد أخرج أبو الفرج الأصبهاني في مقاتل الطالبيين أخبار بعض المندسين في صفوف يحيى بن عبد اللّٰه بن الحسن ، فقال : ..

صحبه جماعة من أهل الكوفة ، فيهم ابن الحسن بن صالح بن حي .. كان يذهب مذهب الزيدية البترية في تفضيل أبي بكر وعمر وعثمان في ستّ سنين من إمارته ، وإلى القول بكفره في باقي عمره ، يشرب النبيذ ، ويمسح على الخفين ، وكان يخالف يحيى في أمره ، ويفسد أصحابه.

قال يحيى بن عبد اللّٰه : فأذّن المؤذّن يوما ، وتشاغلت بطهوري وأقيمت الصلاة ، فلم ينتظرني وصلّى بأصحابي ، فخرجت ، فلمّا رأيته يصلي ، قمت أصلي ناحية ، ولم أصلّ معه ، لعلمي أنّه يمسح على

__________________

(١) مسند الامام زيد : ٧٤.

(٢) تفسير العياشي ١ : ٢٩٧ / ٤٦ وقد مر في مدخل الدراسة كذلك.

١٧٩

الخفين ، فلمّا صلّى ، قال لأصحابه : علام نقتل أنفسنا مع رجل لا يرى الصلاة معنا ونحن عنده في حال من لا يرضى مذهبه (١).

وروى ابن مصقلة عن الإمام الباقر عليه‌السلام ، أنّه قال : فقلت : ما تقول في المسح على الخفين؟

فقال : كان عمر يراه ثلاثا للمسافر ، ويوما وليلة للمقيم ، وكان أبي لا يراه في سفر ولا حضر.

فلما خرجت من عنده ، وقفت على عتبة الباب ، فقال لي : أقبل ، فأقبلت عليه ، فقال : إنّ القوم كانوا يقولون برأيهم فيخطؤون ويصيبون وكان أبي لا يقول برأيه (٢).

وعن حبابة الوالبية ، عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، قالت : سمعته يقول : إنّا أهل بيت لا نمسح على الخفين ، فمن كان من شيعتنا فليقتد بنا وليستنّ بسنّتنا ، فإنها سنة رسول اللّٰه صلى‌الله‌عليه‌وآله (٣).

وقال قيس بن الربيع ، سألت أبا إسحاق عن المسح على الخفين ، فقال : أدركت الناس يمسحون حتى لقيت رجلا من بني هاشم ، لم أر مثله قط ، محمد بن علي ابن الحسين ، فسألته عنها ، فنهاني عنه ، وقال : لم يكن علي أمير المؤمنين يسمح على الخفّين ، وكان يقول : سبق الكتاب المسح على الخفين ، قال : فما مسحت منذ نهاني عنه (٤).

وفي الأنساب للسمعاني : إنّ أبا جعفر الموسائي ـ نسبة إلى موسى بن جعفر ـ يقول : إنّا أهل بيت لا تقية عندنا في ثلاثة أشياء : كثرة الصلاة ، وزيارة قبور الموتى ، وترك المسح على الخفين (٥).

وقبله جاء عن جعفر بن محمد الصادق ـ كما في التهذيب والإستبصار ـ قوله :

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٤٦٨.

(٢) التهذيب ١ : ٣٦١ / ١٠٨٩ ، الوسائل ١ : ٤٥٩ أبواب الوضوء ب ٣٨ ح ١٠.

(٣) الفقيه ٤ : ٢٩٨ / ٨٩٨ ، الوسائل ١ : ٤٦٠ أبواب الوضوء ب ٣٨ ح ١٢.

(٤) إرشاد المفيد ٢ : ١٦١ ، الوسائل ١ : ٤٦٢ أبواب الوضوء ب ٣٨ ح ٢٠.

(٥) الأنساب للسمعاني ٥ : ٤٠٥.

١٨٠