دراسات في الحديث والمحدّثين

هاشم معروف الحسني

دراسات في الحديث والمحدّثين

المؤلف:

هاشم معروف الحسني


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٥٨

به واستنصره ولكنه تجاهله وكان الامر لا يعنيه وجاء بعد ذلك يطالب بدمه متخذا من قميص لوثه بدماء حيوان وسيلة لتضليل أهل الشام واستجداء عطفهم ونجدتهم للمطالبة بدمه واغراهم بولايته الشرعية التي تخوله وحده ان يثأر للخليفة المقتول ظلما وعدوانا على حد زعمه وزعم الذين قادوا الثورة للبصرة في حين انهم كانوا يزودون الثائرين على عثمان بكل ما يضمن لهم النجاح والقضاء عليه.

وتم له الاستيلاء على الحكم بالخداع والمكر واراقة الدماء وتبذير الاموال لشراء الخونة من اهل العراق وغيرهم ، وظل نحوا من عشرين عاما يحكم باسم الدين ويداه تقطران من دماء الابرياء والصلحاء ومضى إلى ربه وهو يحث الجماهير ويشتري الضمائر بالاموال لينتقموا له من علي والطيبين من ذرية الرسول (ص) بدلا من الاستغفار والندم والتوبة وان كانت لا تجديه شيئا.

ومن تتبع تاريخه واحصى تصرفاته لا يرتاب في انه كان يعمل بكل ما لديه من قوة للقضاء على الاسلام والرجوع إلى الجاهلية الاولى بكل مظاهرها واشكالها.

وهو مع كل ذلك من عدول المسلمين ومجتهديهم المعذورين فيما صدر منهم ، والمأجورين على جميع جرائمهم حتى في اغراء جعدة بنت الاشعث على قتل الحسن ، ريحانة الرسول (ص) ، وقتله الصحابي الجليل حجر بن عدي واصحابه البررة والحاقه زيادا بابيه وغير ذلك من جرائمه التي لا تحصى.

وقد مضى الامويون طيلة حكمهم في محاربة الاسلام باحياء مظاهر الجاهلية بجميع اشكالها وحاول عبد الملك وولده هشام بن عبد الملك

١٠١

التوهين من مقام النبي محمد (ص) عن طريق دعاتهما المنتشرين في انحاء البلاد ، ويؤكد ذالك ما جاء في تاريخ التمدن الاسلامي لجرجي زيدان.

قال : كان الحجاج بن يوسف عامل عبد الملك يفضل الخلافة على النبوة ، ويقول : ما قامت السموات والارض الا بالخلافة ، وان الخليفة عند الله افضل من الملائكة المقربين والانبياء والمرسلين ، وإذا حاجه احد في ذلك قال : أخليفة أحدكم في إهله أكرم عليه إم رسوله إليهم ، وكان عبد الملك إذا سمع ذلك اعجب به ، واقتدى بالحاج من جاء بعده من العمال الاشداء كخالد القسرى عامل هاشم بن عبد الملك فقد كان يقول بمقالد : وخطب الناس في مكة ، فقال : أيها الناس أيهما أعظم أخليفة الرجل على اهله ام رسوله إليهم؟ يعرض به رسول اله (ص) ، وقد بلغ الحال ببعض المتملقين إليهم ان احدهم وقف مرة ليخطب الناس فأخطأ في آية من القرآن ، فوقف بعض المتملقين ، وقال : لا يهولنك ايها الامير ما رأيت عاقلا قط حفظ القرآن انما يحفظه الحمقى من الرجال (١).

ومهما كان الحال فمعاوية بصفة صخابيا مأجور على جميع اعماله ، قال ابن كثير في كتابه «الباعث الحثيث» : واما ما شجر منهم بعد الرسول (ص) فمنه ما وقع من غير قصد كيوم الجمل ، ومنه ما كان عن اجتهاد كيوم صفين ، والاجتهاد يخطئ ويصيب ، ولكن صاحبه معذور وان اخطأ ومأجور ايضا ، واما المصيب فله اجران اثنان واضاف الى ذلك. ان ما ذهبت إليه المعتزلة من ان الصحابة كلهم عدول الامن قاتل عليه قول مردود ومرذول (٢).

ومنهم سمرة بن جندب الصحابي صاحب النخلة ساومه النبي

__________________

(١) انظر ص ٢ ج ٢ تاريخ التمدن الاسلامي عن العقد الفريد والمسعودي وابن الاثير والاغانى.

(٢) انظر ص ١٨٢ من الباعث الحثيث.

١٠٢

عليها بالجنة ، فأبى ان يقبل شيئا من تلك العروض المغرية ، ، اصر على الدخول على الانصاري وايذائه ، والنبى (ص) يستعطفه حرصا على حقه وصونا لكرامة الانصاري ، ولما رأى النبي تعنته واصراره على ايذاء الانصاري ، قال له : اذهب فاقلعها وارم بها وجهه ، لا ضرر ولا ضرار في الاسلام.

وكان سمرة من انصار المنحرفين عن علي (ع) ، وخاض الفتن معهم ، واشترك في جميع المخازي ، المنكرات التي اظهرها معاوية ، وجاء عن ابي هريرة انه قال لرجل من أهل البصرة : ما فعل سمرة بن جندب ، قال انه حي يرزق قال أبو هريرة : ما احد احب الي طول حياة منه ، لان رسول الله (ص) قان لي وله ولحذيفة اليمان : اخركم موتا في النار.

وكان يتلذذ بقتل الابرياء ، وجاء عنه انه قتل في البصرة ثمانية آلاف ممن لا يحل قتلهم في دين الله ، ولما ضج أهلها من قسوته واستهتاره بالدماء قال لهم : واي بأس على المقتول ، فمن كان من اهل الجنة عجلناه إليها ، ومن كان من اهل النار مضى إلى مقره ، وقتل من بنى سوار العدوي سبعة واربعين رجلا من حفاظ القرآن في يوم واحد ، وحرض التابعين على الخروج لحرب الحسين بن علي (ع) وقتاله ، واعطاه معاوية خمسمئة الف درهم مقابل ان ينسب إلى الرسول (ص) ان الآية «ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله» ، تعني ابن ملجم لانه قتل عليا (ع) ، وان الاية «ومن الناس من يجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه : وإذا تولى سعى في الارض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد» نزلت في علي بن ابي طالب (ع) (١) الى غير ذلك من المنكرات التي ارتكبها ويكفيه ذما قول النبي (ص) : انك رجل مضار ووقوفه الى جانب معاوية وتحريضه على قتل الحسين (ع) ، ومع ذلك

__________________

(١) انظر لشرح النهج ج ١ ص ٣٦١ و ٣٦٣.

١٠٣

فهو من عدول المسلمين ، ومن المجتهدين المأجورين على جميع اعمالم.

ومنهم المئات ممن كانوا يكيدون للاسلام ، ويتعاطون جميع المعاصي والمنكرات على اختلاف انواعها ، ومن اراد ان يتتبع اخبارهم ويحصي عليهم تصرفاتهم لا يكفيه مجلد خاص في هذا الموضوع.

ونحن لا نريد من وراء ذلك انتقاص الصحابة ، وانكار فضلهم ، فان للصحبة شرفها وللعمل الصالح اجره ، وللجهاد فضله ، وانما الذي أردناه ان الصحبة ليست من اسباب العصمة عن الذنوب ، وان الاسلام قد نظر إلى الانسان من خلال اعماله وتصرفاته ، لا من خلال امجاده والقابه واوصافه ولم يجعل لقرابة الدم والعرق ميزة فضلا عن الالقاب والصفات ، نريد ان نقول لمن يشترطون عدالة الراوي ، وتزكيته بشاهدين عدلين ، ان جلال السنة ومكانتها من التشريع ، واثرها في حفظ الثروة الاسلامية ، كل ذلك يفرض علينا ان نتأكد من صحة الحديث ايا كان الراوي له ، ولا يكفينا ان نتثبت من احوال الرواة ، حتى إذا انتهينا إلى الصحابي الراوى للحديث ، نقف امامه خاشعين واجمعين كانه قرآن منزل من غير ان تتأكد صحته ومن غير ان ننظر إلى متن الرواية نظرة فاحصة واعية ونعرضها على العقل والقرآن واصول الاسلام ..

ان هذا الغلو في تقدبس مرويات الصحابة ، قد ادخل على السنة النبوية مجموعة من الخرافات والاحاديث المكذوبة ، لا يزال المسلمون ينظرون إليها نظرة تقديس واحترام لان رواتها من الصحابة ، وهي في واقعها وصمة على السنة ، سلاح بيد اعداء الاسلام للهدم والتخريب ، والتشنيع على المسلمين ومعتقداتهم ومن الغريب المؤسف ان يغالي السنة في الصحبة إلى حدالقول : بان يوما واحدا حضره معاوية بن هند مع رسول الله ، خير من عمر بن عبد العزيز واهل بيته ، مع العلم بان عمر بن عبد العزيز كان من خيرة الحكام في سيرته وسياسته وعدله وزهده.

١٠٤

لقد قال الشيعة بعصمة الائمة الاثني عشر فاقاموا الدنيا واقعدوها وقالوا هم بعصمة الالوف من البشر من حيث لا يشعرون ، وإذا انكر عليهم الشيعة عدالة مروان وابيه الذي كان يحكي النبي في مشيته ساخرا ويدلع له لسانه ويغمز عسيه عينه. وعدالة معاوية وامثاله ، وصفوهم بالرفض والغلو وغيرها من الاوصاف.

وليست العصمة في حساب الشيعة الا ترك المعاصي على اختلاف اصنافها وفعل الواجبات ، ليس ذلك بنظر العقل من المحالات ، وتاريخ الائمة (ع) يؤكد ما يدعيه الشيعة فقد بذل اخصامهم السياسيون والمذهبيون اقصى ما لديم من تجهد في سبيل انتقاصهم فلم يستطيعوا ان يلصقوا بهم عيبا ، أو تساهلا في واجب وانحرافا عن الحق.

لقد انكر السنة عصمة علي (ع) ، وقالوا بعدالة معاوية ومروان بن الحكم وعمرو بن العاص وبسر بن ارطاة وغيرهم من العشرات الذين وصفهم القرآن بالنفاق معلنا بذلك في كثير من آياته وسوره ، ووصفهم الرسول بالارتداد عن الدين والرجوع إلى جاهليتهم الاولى ، وإذا جازت العدالة التي تشد الانسان إلى الله ، وتحول بينه وبين انتهاك حرماته ، إذا جازت على معاوية وابيه ، ومروان وامثاله ، فكيف يستسيغ اصحاب هذه الفرية ان يهاجموا من يذهب إلى عصمة علي (ع) القائل : والله لو اعطيت الاقاليم السبعة بها تحت افلاكها على ان اعصي الله في نملة اسلبها جلب شعيرة ما فعلت ، والقائل إذ امرتكم لا تساوي نعلا بالية إذا لم تكن وسيلة لاحقاق الحق وازهاق الباطل ، والى عصمة ابنائه الائمة الهداة الذين نهجوا نهجه ، واتبعوا سيرة جدهم الاعظم ، وحاربوا لظلم والظالمين ، والطغاة والمتجبرين. واستهانوا في حياتهم في سبيل الله وخير الانسا نية.

وهل العصمة الا الرجوع إلى الله سبحانه في جميع الامور صغيرها

١٠٥

وكبيرها وترك ما نهى الله عنه بنحو تكون هذه المرتبة من الايمان وكأنها طبيعة له تلازمه ملازمة الضوء للشمس والظل لذي الظل.

وجاء عن الامام زين العابدين (ع) انه قال : لا يكون الامام منا الا معصوما ، وليست العصمة في ظاهر الخلقة فتعرف ، قيل له فما معنى المعصوم قال : المعتصم بحبل الله ، وحبل الله هو القرآن لا يفترقان إلى يوم القيامة ، فالامام يهدي إلى القرآن والقرآن يهدي إلى الامام (١).

وإذا كان مرد العصمة التي يدعيها الامامية لعلي والائمة من ذرية الرسول (ص) إلى هذا المعنى ، فهل هي بنظر العقل والعادة من المحالات حتى تتعرض لتلك الهجمات العنيفة من جانب اهل السنة ، مع العلم بانهم اثبتوها مصغرة لآلاف المسلمين بما فيهم الذين ساروا باتجاه معاكس لمبادئ الاسلام والقرآن طيلة حياتهم ، ولولا ان الاسلابم قد تساهل في اطلاق لفد المسلم واعطاءه لكل من نطق بالشهادتين ولو بلسانه ، لكان من الواجب اخراجهم من صفوف المسلمين حتى في التسمية.

واعود لاكرر ان الشيعة لا يستخفون بالصحابة جميعهم كما يدعي المهوشون والمضللون ، ولا يخالفون قول ربهم وسنة نبيهم بالنسبة إليهم فيتبعون الصالحين الصادقين في ايمانهم ، ويستخفون بمن عناهم الله سبحانه بقوله : ومن اهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم ، سنعذبهم مرتين ، ثم يردون إلى عذاب عظيم ، وبمن عناهم الرسول بقوله :

«ارتدوا على ادبارهم القهقرى ، ولا يخلص منهم الا مثل همل النعم» ولا يتخطون رأي ائمتهم في الصحابة وغيرهم من الناس على اختلاف اصنافهم واديانهم الذين نظروا إلى الناس من خلال اعمالم وآثارهم لا من خلال القابهم ووامجادهم.

__________________

(١) انظر مجمع البحرين مادة عصم.

١٠٦

وقد جاء في عاء الامام زين العابدين الذي كان بدعوته للانبياء واتباعهم ، ما يؤكد ان الائمة لم يترددوا في تعظيم الطيبين من الصحابة وتقديسهم.

قال (ع) اللهم وصل على أصحاب محمد خاصة الذين أحسنوا الصحبة ، وابلوا البلاء الحسن في نصره ، واسرعوا إلى وفادته ، وسابقوا إلى دعوته ، واستجابوا له حيث اسمعهم حجة رسالته ، وفارقوا الازواج والاولاد في اظهار كلمته ، وقاتلوا الابناء والآباء في تثبيت دعوته وانتصروا به ، وحتى كانوا منطوين على محبته يرجون تجارة لن تبور في مودته ، والذين هجرتهم العشائر إذ تعلقوا بعروته ، وانتفت منهم القرابات إذ سكنوا في ظل قرابته ، فلا تنسى لهم اللهم ما تركوا لك وفيك ، وأرضهم من رضوانك ، واشكرهم على هجرتهم فيك ديار قومهم وخروجهم من سعة المعاش إلى ضيقه يا ارحم الراحمين.

هؤلاء الذين عناهم الامام بتلك الدعوات المباركات من بين من أسموهم بالصحابة ينظر الشيعة إليهم بكل تقديس وتقدير ولا يرتاب احد في عدالتهم واستقامتهم وولائهم للرسول ودعوته المباركة طيلة حياتهم وجهادهم المخلص لاحيائها وارساء قواعدها إلى ان فارقوا الدنيا بقلوب عامرة بالايمان ونفوس مطمئنة بما وعد الله به العاملين والمجاهدين.

١٠٧
١٠٨

الفصل الرابع

البخاري وصحيحه بنظر المحدثين

١٠٩
١١٠

هو محمد بن اسماعيل بن ابراهيم البخاري صاحب الصحيح المعروف (بصحيح البخاري).

وجاء في ترجمته انه ولد في شوال سنة ١٩٤ ه‍ ، وتوفي في قرية تسمى (خرتنك) من بلاد سمرقند سنة ٢٥٦ ص في اليوم الاول من شوال ، وهو من اصل فارسي يعتنق المجوسية واول من اسلم منهم جد أبيه المغيرة بواسطة اليمان الجعفي والي بخارى ، وكان ولاؤه وولاء اولاده إليه ، ولذلك فقد انتسب إليه فقال في نسبه : محمد بن اسماعيل أبو عبد الله الجعفي ، فتكون نسبته إليه بالولاء لا بالنسب ، وكان أبوه محدثا مات وهو صغير السن ، وترك له مالا جليلا فنشأ محمد بن اسماعيل في حجر امه ، ولما بلغ العاشرة من عمره بدأ في حفظ الحديث فحفظ كتب ابن المبارك ووكيع وهما من مشاهير المحدثين في القرن الثاني ، قبل ان يتجاوز السادسة عشر من العمر ونشط في طلب الحديث وحفظه إلى ان نبغ في هذه الناحية وأصبح بنظر محدثي السنة من أوثق المحدثين واعرفهم فيه ، وقضى شطرا من حياته يطلب الحديث حيث كان من بلد إلى بلد حتى جمع ستمئة الف حديث انتخب منها كتابه المعروف بصحيح البخاري كما جاء في اكثر كتب التراجم التي تعرضت لتاريخه.

١١١

ونقل عنه بعض المحدثين انه قال : ما وضعت في كتابي الصحيح حديثا الا اغتسلت وصليت ركعتين ، وبقي ستة عشرة سنة يتتبع الاحاديث ويستقصيها حتى أتمه ، وبلغ من ثقة المحدثين به ان أبا الحسن المقدسي كان يقول : كل من روى عنه البخاري في صحيحه فقد جاز القنطرة ، اي لا بد ان تكون شروط الراوي بكاملها متوفرة فيه.

وقال الخطيب البغدادي في ترجمة الامين ابي الهيثم ، خالد بن احمد المتوفى سنة ٢٧٠ ه‍ انه تولى امارة بخاري وسكنها وترك فيها آثارا محمودة واخذ الحديث عن ابن راهويه وغيره ، وانفق قي طلب العلم اكثر من الف الف درهم ، ولما استوطن بخارى وفد عليه حفاظ الحديث ، فبسط يده بالاحسان إليهم ، وطلب من محمد بن اسماعيل البخاري ان يلازم مجلسه ، فامتنع عن ذلك واظهر الاستخفاف به ، فاخرجه من بخارى إلى سمرقند فلم يزل بها حتى وافته المنية.

وقال ابن العماد الحنبلي : ان البخاري قد نقل عن الف من العلماء ، ولم ينقل الا عمن كان يقول : الايمان قول وعمل.

وجاء عنه انه قان : الذي دفعني إلى تأليف الصحيح ، هو اني رأيت النبي (ص) وكأني واقف بين يديه وبيدي مروحة اذب عنه ، فسألت بعض الذين يتعاطون تفسير الاحلام عن تأويل ذلك ، فقال : انك تذب عنه الكذب ، فاتجهت إلى اختيار الصحاح من المرويات عنه (ص).

وجاء عن الفريري. انه سمع محمد بن أبي حاتم البخاري الوراق يقول : رأيت محمد بن اسماعيل البخاري في المنام يمشي خلف النبي (ص) فكلما رفع النبي (ص) قدمه وضع البخاري قدمه في ذلك الموضع.

واثنى عليه من ناحية احاطته بعلم الحديث واستخراج الصحيح منه جماعة من المحدثين ثناء بالغا ، فقد روى حمدون الاعمشي. انه رأى محمد

١١٢

ابن اسماعيل البخاري في جنازة ابي عثمان سعيد بن مروان ، ومحمد بن يحيى يسأله عن الاسامي والكنى والعلل ، فيمر عليها محمد بن اسماعيل كالسهم كأنه يقرأ قل هو الله أحد.

وقال فيه احمد بن حنبل ما اخرجت خراسان مثل محمد بن اسماعيل البخاري.

وجاء عن محمد بن يوسف الفريري انه قال : لقد سمع كتاب الصحيح من محمد بن اسماعيل تسعون الف رجل ، وما بقي احد يروي عنه غيري.

وقال محمود بن عمر العقيلي : لما ألف البخاري كتابه الصحيح عرضه على احمد بن حنبل ، ويحيى بن معين ، وعلي بن المدني وغيرهم فاستحسنوه ، وشهدوا له بالصحة الا في اربعة احاديث قال العقيلي والقول فيها قول البخاري.

وجاء في هدى الساري للعسقلاني. ان الاسماعيلي في المدخل قال : بعد ان اثنى على صحيح البخاري وبالبر في الثناء عليه ، ونحا نحوه في التصنيف جماعة منهم الحسن بن علي الحلواني ، ومنهم أبو داود السجستاني وكان معاصرا له ، ومنهم مسلم بن الحجاج ، فرام مرامه واخذ عنه وعن كتبه ، الا انه لم يضايق نفسه مضايقة ابي عبد الله البخاري ، وروى عن جماعة لم يعترض لهم البخاري.

وقال الحاكم أبو احمد النيسابوري : رحم الله محمد بن اسماعيل فانه ألف اصول الاحكام من الاحاديث. وبين للناس ، وكل من جاء بعده فقد اخذ من كتابه كمسلم بن الحجاج وغيره.

وقال الدارقطني : لولا البخاري لما ذهب مسلم وما جاء ، واضاف

١١٣

إلى ذلك ، واي شئ صنع مسلم انما اخذ كتاب البخاري فعمل عليه وزاد فيه بعض الزيادات.

ونص على ذلك القرطبي في كتابه المفهم في شرح صحيح مسلم ، وبعد ان استعرض ابن حجر في مقدمة فتح الباري آراء المحدثين والعلماء في صحيح البخاري ، وسرد الجهات المؤدية إلى تفضيله على صحيح مسلم وتجميع كتب الحديث ، اخذ في بيان الخصائص والكرامات التي امتاز بها صحيح البخاري ، ونقل عن ابي احمد بن ابي حمزة انه قال : قال لى بعض السادات المقر لهم بالفضل : ان صحيح البخاري ما قرئ في شدة الا فرجت ، ولا ركب به في مركب فغرق.

وجاء في المقدمة. ان البخاري قد فقد بصره في حداثة سنه وذهبت عيناه ، فرأت والدته ابراهيم الخليل في المنام فقال لها : يا هذه قد رد الله على ابنك بصره ، فاصبخ وقد رد الله عليه بصره ، وكان بعد ذلك يكتب في الليالي المقمرة واورد من فضائله وكراماته حيا وميتا ما لم يثبت مثله للانبياء والمقربين (١). ومن امثلة ذلك ، أن النبي (ص) قد امر الناس بتدريس كتاب البخاري. وروي عن ابي زيد المروزي ان النبي (ص) جاءه وهو نائم بين الركن والمقام ، فقال له : إلى متى تدرس كتاب الشافعي ولا تدرس كتابي قلت : يا رسول الله وما كتابك؟ قال جامع محمد بن اسماعيل. وجاء في المقدمة ايضا ان الروائح العطرة الطيبة كانت تفوح من قبره بعد ان وضع فيه واستمرت زمنا طويلا بعد دفنه ، مما ادى إلى ازدحام الناس حول قبره لياخذوا من ترابه العطر الفواح ، ولم يمتنعوا عنه الا بعد ان احيط بحاجز يحول بين الناس وبينه ، وعد من كراماته انه كان يحفظ ستمئة الف حديث ، وانه كان يحفظ كل ما يسمع وما يتلى عليه لاول مرة ، ويمر بالكتاب مرة واحدة من اوله لآخره فيحفظه بالغا

__________________

(١) انظر مقدمة فتح الباري الجزء الاول والثاني.

١١٤

ما بلغ ، وانه وفد على البصرة ، وهو غلام ليسمع الحديث ، فذهب مع جماعة إلى مشايخ البصرة ومحدثيها ، وكلهم يكتب ما يتلى عليه ، الا هو فانه كان يستمع ولا يكتب ، وفي خلال خمسة عشر يوما دون اصحابه خمسة عشر الف حديث ، ولما لاموه على عدم الكتابة ، اعاد عليهم كل ما سمعه وسمعوه ، مما اضطرهم ان يعرضوا ما دونوه على محفوظاته (١).

ومن تتبع ما قيل فيه. وما نسب إليه ، يجد ان اتباعه قد غالوا في تقديسه وتعظيمه حتى خرجوا بذلك عن الحد المألوف ووضعوه في مستوى الاساطير ، وكلمة المقدسي وحدها ، «كل من روى عنه البخاري فقد جاز القنطرة» التي تعبر عن رأي الجمهور فيه ، هذه الكلمة وحدها تكفي للتعبير عن غلوهم المتطرف فيه ، ولو نزهوه عن هذه المبالغات والمقالات ، وتركوه لآثاره ومؤلفاته ، التي توفيه حقه كاملا غير منقوص لو فعلوا ذلك لابعدوا عنه وعن صحيحه الطعون المسددة التي وجهها ويوجهها لهما كل باحث منصف ينشد الحقيقة مجردا عن جميع العوامل والمؤثرات ، ولكنهم لما أبوا الا ان يجعلوه ثاني القرآن ، أبى الباحثون المنصفون الا ان ينظروا إلى البخاري. كمحدث اجتهد في جميع الحديث وتدوينه يخطئ ويصيب ، والى كتابه كغيره من مجاميع الحديث التي جمعت الغث والسمين ، والصحيح والفاسد.

__________________

(١) انظر ص ٢٥١ وما بعدها من الجزء الثاني مقدمة فتح الباري وانظر شذرات الذهب ج ٢ ص ١٣٤ و ١٣٥.

١١٥

الصحيح بنظر العلماء والمحدثين

الظاهر ان المحدثين من السنة متفقون على ان محمد بن اسماعيل البخاري اول من تطوع لتمييز الصحيح عن غيره ، بعد ان كانت الطبقة الاولى التي دونت الحديث لا يعنيها من امره الا جمع حديث الرسول وأقوال الصحابة واقضيتهم من غير ترتيب وتبويب ، وجائت الطبقة الثانية فوزغته على الابواب الفقهية ووضعت كل حديث في المحل المناسب له ، فكان البخاري مجددا في الطريقة التي سلكها ، ومهد لمن الف من بعده كمسلم بن الحجاج ، وابن ماجة المتوفى ٢٧٣ ه‍ ، وابي داود المتوفى ٢٧٥ ه‍ ، والترمذي المتوفى ٢٧٩ ه‍ ، والنسائي المتوفى ٣٠٣ ه‍.

وقال ابن كهير في الباعث الحثيث : اول من اعتنى بجمع الحديث الصحيح محمد بن اسماعيل ، وتلاه تلميذه وصاحبه مسلم بن الجاج النيسابوري فهما اصح كتب الحديث ، والبخاري ارجح منه ، لانه اشترط في كتابه هذا ان يكون قد عاصر شيخه وثبت عنده سماعه منه ، واكتفى مسلم بالمعاصرة ولو لم يسمع منه (١).

__________________

(١) انظر الباعث الحثيث ص ٢٥ وجاء في ص ٣٠ من المجلد الاول من هدى الساري عن ابي المعمر المبارك بن احمد ان شرط الصحيح عند البخاري ان يخرج الحديث المتفق على ثقة نقلته إلى الصحابي المشهور من غير اختلاف بين الثقات الاثبات ويكون اسناده متصلا غير مقطوع وان كان للصحابي راويان فصاعدا فحسن ، وان لم يكن الا راو واحد وصح الطريق إليه كفى ، واضاف الى ذلك أبو بكر الحازمي ان يكون راويه مسلما صادقا غير مدلس ولا مختلط متصفا بصفات العدالة ضابطا سليم الذهن والاعتقاد.

١١٦

وجاء عنه انه استخرج كتابه الصحيح من ستمئة الف حديث ، وانه كان يحفظ مائة الف حديث من الصحاح ، ومائتي الف من غيرها.

وقال جماعة : ان اصح الاحاديث ما في الصحيحين ، ثم ما انفرد به البخاري ، ثم ما انفرد به مسلم ، ويأتي بعد ذلك المرويات على شرطهما في صحة الحديث ، وهي التي تكون جامعة للشروط المعتبرة عندهما وياتي في المرتبة الاخرة ما كان من المرويات على شرط احدهما.

ولما ألف الاحافظ أبو الفرج الجوزي المتوفى سنة ٥٩٧ ه‍ كتابه الموضوعات لم ينتقد البخاري الا في حديث واحد ، فجاء العلماء من بعده فاقروا اكثر ما اورده في كتابه الا ما يتعلق بانتقاده البخاري ومسلما (١).

وقال السيد رشيد رضا : ان احاديث الجامع الصحيح للبخاري في جملتها اصح في صناعة الحديث وتحري الصحيح من كل ما جمع في الدفاتر من كتب الحديث ، ويليه في ذلك صحيح مسلم ، واضاف إلى ذلك ويوجد في غيرهما من دواوين السنة احاديث اصح من بعض ما فيها ، وما روي من رفض البخاري لمئات الالوف من الاحاديث التي كانت تروى يؤيد ذلك ، فنفوا ما نفوا ليتقوا الصحاح الثابتة (٢).

وجاء في التعليقة على الباعث الحثيث. الحق الذي لا مرية فيه عند اهل العلم بالحديث من المحققين ومن اهتدى بهديم وتبعهم على بصيرة من الامر ، ان احاديث الصحيحين كلها صحيصه ليس في واحد منها مطعن ، أو ضعف ، وانما اتنقد الدارقطني وغيره من الحفاظ بعض الاحاديث على معنى ان ما انتقدوه لم يبلغ في الصحة الدرجة العليا التي التزمها كل واحد

__________________

(١) انظر ص ١٤٠ من السنة للدكتور السباعي.

(٢) الاضواء على السنة ص ٢٥٢.

١١٧

منهم في كتابه ، واما صحة الحديث في نفسه فلم يخالف فيها احد ، فلا يهولنك ارجاف المرجفين : وزعم الزاعمين ان في الصحيحين احاديث غير صحيحة (١).

ويبدو من تتبع آراء المحدثين والفقهاء في الصحيح للبخاري ان اكثرهم يرجحه على صحيح مسلم؟ وانهما معا اصح المؤلفات في الحديث والذين يفضلونه على جميع الصحاح ، بين من بلغ بهم الغلو إلى تصحيح جميع مروياته ، وبين من ضعف قسما من احاديثه تفرد هو ببعضها ، واشترك معه مسلم في اثنين وثلاثين حديثا ، كما نص على ذلك في مقدمة فتح الباري ص ٨١ وبالاضافة إلى ذلك فقد تناول جماعة من المحدثين رجال البخاري واتهموا عددا كبيرا منهم بما يوحي بضعفهم وعدم جواز الاعتماد على مروياتهم ، ومع ذلك فلم تتزعزع ثقة الجمهور فيه ، وبالغوا في تقديسه والدفاع عنه حتى خرجوا عن المألوف والمعقول ، وقد حدد المقدسي موقفهم منه بقوله : «كل من روى عنه البخاري فقد جاز القنطرة» اي يصبح فوق الشبهات والاحتمالات.

والواقع الذي لا يجوز التنكر له هو ان البخاري في اختياره لتلك المرويات التي دونها في صحيحه ، والتي نظر إليها الجمهور وكانها من وحي السماء يمكن ان نتلمس له المعذرة بالنسبة لمن لم يكن أمره واضحا من حيث دينه وسيرته ، فلا بد له والحال هذه من البحث عن حال الراوي والرجوع إلى المصادر التي تبحث عن أحوال الرجال وتاريخهم حتى إذا تبين له انه مستوف للشروط من حيث العدالة والاستقامة وجب الرجوع إلى متن الحديث من حيث موافقته للكتاب ومخالفته له واشتماله على العلل والقرائن وغير ذلك مما يؤكد صحته ، أو يمنع من الاعتماد عليه ، وقد اختلفت آراء المحدثين في ذلك اشد الاختلاف ، فالمعروف عن مالك

__________________

(١) الباحث الحثيث ص ٣٥.

١١٨

ابن انس انه كان يعتمد على احاديث أهل المدينة اكثر من غيرها ، كما اعتمد ابن جريح على احاديث المكيين ، والكثير من المحدثين لم يعتمدوا على مرويات العراقيين بحجة انها لا تخلو من التعليل في الغالب ، هذا بالاضافة إلى ان الانظار تختلف في تحديد العدالة باعتبارها من الشروط الاساسية في الراوي ، فرب شخص يوثق رجلا ، ولا يراه غيره ثقة ، لانه اطلع منه على ما يخل بالعدالة أو على ما لم يطلع عليه غيره لاسيما وقد وجد البخاري وغيره في عصر تشعبت فيه الآراء والمعتقدات ، وتفرق المسلمون فيه شيعا واحزابا وتراشقوا بالتكفير والتفسيق ، واستحل بعضهم دماء البعض اللآخر وكان من ابرز ما حدث النزاع الذي استحكم بين المحدثين من جهة والمعتزلة من جهة اخرى. ففي مثل ذلك يمكن ان نتلمس للبخاري ولغيره العذر في اعتمادهم على هذا النوع من الرواة أجل قد يعذر البخاري في اعتماده على بعض الرواة ما دام بالامكان ان نجد له ولو ما يشبه العذر.

اما إذا كانت حالة الراوي واضحة ومخالفاته تأبى عن التأويل الذي ومهما كان الحال. فقد نص ابن حجر في هدى الساري ، على مروياتهم مهما حاول المتعصبون لهم اعطائهم صفة البرائة وسلامة القصد ، وسنتعرض في الفصول الآتية لبعض الطعون الموجهة لبعضهم كما جاء في كتب التراجم واحوال الرواة ، بالاضافة إلى من اشرنا إليهم من رواة احاديثه.

ومهما كان الحال. فقد نص ابن جر في هدى الساري ، على ابي اسحاق ابراهيم بن احمد المستعلي قال : انتسخت كتاب البخاري من أصله الذي كان عند صاحبه محمد بن يوسف الفريري ، فرأيت فيه اشياء لم تنم ، واشياء مبيضة ، منها تراجم لم يثبت بعدها شئ ، ومنها احاديث لم يترجم لها ، فاضفنا بعض ذلك إلى بعض ، قال أبو الوليد : ومما يدل على

١١٩

صحة هذا القول ، ان رواية ابي اسحاق المستعلي ، ورواية ابي محمد السرخسي ، ورواية ابي الهيثم الكشمهيني ، ورواية ابي زيد المروزي مختلفة بالتقديم والتأخير ، مع انهم انتسخوا من اصل واحد ، وانما ذلك بحسب ما قدر كل واحد منهم فيما كان في طرة أو رقعة مضافة انه من موضع ما فاضافه إليه.

ويبين ذلك انك تجد ترجمتين واكثر من ذلك متصلة ليس بينهما احاديث (١) وقد انتقد المحدثون والحفاظ البخاري بانه لم يتقيد بالنص الحرفي للرواية ، واحيا نا ينقل الرواية بالمعنى ، وان رواياته تشتمل على المكرر والمعلق والموقوف ، والمقطوع (٢) وغير ذلك من عيوب الرواية.

ومن الجائز القريب ان يكون البخاري رحمه الله قد وضع في حسابه ان لا يضع الصيغة النهائية لكتابه الا بعد جمعه اولا ثم تمحيص اسانيده ، ومحاكمة متونه ، ولكن الاجل قد وافاه بعد الفراغ من الجولة الاولى ، التي تم له فيها ان يجمع تلك الكمية من الاحاديث بعد أن أنفق شطرا كبيرا من عمره متجولا في المدن الاسلامية الكبرى التي تحولت مساجدها ونواديها ، وبيوت علمائها إلى معاهد لتدريس الحديث وتدوينه ولغير ذلك من العلوم والفنون ، وفي هذه المرحلة كان يدون الاحاديث احيانا كما تنقل إليه واحيانا يعتمد على ذاكرته التي كانت اشبه بآلة للتسجيل تلتقط جميع ما يصل إلى فضائها من الاصوات كما يستنتج ذلك من كتب التراجم التي وضعته في مستوى الاساطير ، ولم يمهله الاجل لتمحيص اسانيده

__________________

(١) انظر الأضواء ص ٣٤٨ عن مقدمة فتح الباري.

(٢) المراد من المعلق هو الحديث الذي لم يذكر فيه السند من اوله ، كأن يرويه ابتداء عن أبن عمر عن النبي (ص) والموقوت هو الذي ينتهي سنده إلى الصحابي من غير ان يتعرض للنبي في قول أو فعل والمقطوع هو الذي ينتهي سنده إلى التابعي ولا يتعداه.

١٢٠