المباهلة

عبد الله السبيتي

المباهلة

المؤلف:

عبد الله السبيتي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مطبوعات النجاح
الطبعة: ٢
الصفحات: ١٥٢

تصدير

في حياة علي (ع) وفي حياة الزهراء عليها السلام وفي حياة ولديهما عليهما السلام نواح كثيرة للحديث عنهم ، وكفايات للاشادة بفضلهم ، وفي كل ناحية من نواحي الفضلية والكمال ملتقى مع هؤلاء الاربعة ..

وقد التقت في حياتهم وشائج الفضائل والمثل العليا مذ تفتحت اكمام حياتهم وعرفوا هذا الوجود ، وإذا نظرنا إليهم من البداية الى النهاية لرأيناهم يتقلبون بين احضان الفضيلة وقد اسدلت عليهم ابرادها تلفهم من الفرع الى القدم فلا يساويهم في سموهم احد ، ولا يدانيهم مخلوق. ولا جرم ان كانوا كذلك وقد تربوا في البيت الذي خرجت مننه الدعوة الى الاسلام ، وكفلهم صاحب الدعوة الاسلامية.

وليس عجبا بعد هذا ان كان في كل ناحية من نواحي حياتهم ملتقى للفضائل ، فان لهذه التربية اثر فعال في صبغهم بالصبغة المثالية وتوجيههم الى الفضيلة والكمال ..

ولقد كانن كل واحد منهم بحكم التربية وبحكم الوراثة معجزة خالدة انفصلت من جسم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لتكون معجزة في صميم الحياة

١

وان حياة كل واحد منهم تتصل بحياة رسول الله صلى الله عليه وآله ، ووجوده الكامل يتصل بوجوده (ص) المثالي وفضائله تتصل بفضائله ، من الساعة الاولى التي انفصلوا فيها من وجود واستقرار في وجود آخر.

هذه حقيقة ثابتة يستطيع القارئ ان يراها من خلال حياتهم ، وان عرضا موجزا لحياتهم كفيل بان يرينا انه بعد النبوة لانجد فواصل اخرى بين كمال وجوده (ص) وكمال وجودهم ، وان الله تعالى اعدهم للانسانية في اعلى مثاليه كما اعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من قبل.

وفي الحق انهم المعجزة الخالدة التي كشف الزمن ذيله عنهم ، فجاءوا في وسط المعترك الهائج وليسوا منه ، وجاءوا بين طرفي الزمن وليسوا من الزمن وانما هم اشعاعة من نور الله افاضه على هذا الوجود وعلى هذه الانسانية المعذبة يشق الطريق ليهديها في كل اجيالها الى الخير والسعادة ، والى المثل العليا من الكمالات النفسية.

موضوع هذا الكتاب ناحية واحدة من نواح كثيرة ، وآية واحدة من كتاب الله المجيد من بين آيات كثيرة هي آية المباهلة :

«فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم ، فقل تعالوا ندع ابناءنا وابناءكم ونساءنا ونساءكم وانفسنا وانفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين».

هذا موضوع هذا الكتاب. وان موضوعا كهذا الموضوع ينكمش

٢

فيه القلم على نفسه متهيبا فلا يستطيع ان يجري مترسلا لتشعب نواحيه ، ورامي اطرافه ، ومن ناحية ثانية لما احيط بهذا الموضوع من اسلاك شائكة متشابكة الاطراف ، لا يكاد ينتزع طرف منها حتى يلتقي باطراف اخرى متحصنة بمتارك الزمن القاسي ومخلفات الاقلام المهوسة التي خلقت وراءها الزمن مظلما بالستائر الكثيفة والسحب الداكنة ، تتصل بعهدها القديم المظلم.

ولكن .. سيف الظلم مفلول الحد ، ودولته دائما الى زوال ، وان الحق مكفول لسائر الاجناس .. وفي الحق نور لاتخبو شعلته مهما احاطوه بحصون كثيفة الجدر ، وسوروه بزبر الحديد ، ومهما تراكمت عليه الاصداء ، وعبرت عليه الازمان ، ولا بد ان يخترق النور هذه الحجب ويكشف الظلمات ..

وان السنين الطوال التي مرت تحمل سيف النقمة مسلولا لم يتسن لها ان تمس ذلك النور ولم تستطع ان تمد يدها الى القلوب المستنيرة بنور الحق .. وان الايدي العابثة بالحقائق التي اعقبت رسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن مرجوا لها ان تمتد الى المبادئ السامية لتفسدها وما كانت الا أيد عابثة في جدها ، هزيلة في احكامها غير مرجوة في نهايتها ، كما لم تكن رشيدة في بدايتها. وان تلك القلوب التي اغمضها ذل الاستبداد ، وامتهنتها حكومات الاستبعاد لم تمت ولم تدفن ولم تهن ولم تتكل وانما انفردت في زاوية من الزمن تعمل نشيطة في سبيل هدفها في ظلمات الاستبداد وتحت قوارع النكبات لا متوانية ولا كسله ...

٣

وكان الزمن حريصا الحوص كله على ان يسد النوافذ وان يحول بين سوانح الفرص ، ولكن بالرغم عنه يبد القبس ينير الطريق. ويوضح السبل! ويفلت الاسد من اقفاصه الموصدة ، ويزأر زأرته القاصفة ، ويرجع بالحلقة المفقودة ليوصلها باخواتها ، وليسلم السلسلة متلاصقة الحلقات ، الا وان يومنا هذا موصول بايام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وموصول بيوم المباهلة وان جار عليه الزمن ، واراد ان يلفه بطيات ماضيه ، لولا ان كتاب الله المجيد يعالن الناس بذلك اليوم وبفضل اربعة فقط من مئات الالوف من المسلمين ، وان سورة آل عمران تصارحهم بفضل آل محمد صلى الله عليه وعليهم وسلم المرموق رغم كل حاسد وكل مناوء.

ان الله بعث محمدا رسولا هاديا وداعيا مبشرا ونذيرا ، يدعو الى الله الواحد الاحد ، ونشر للناس كتابا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ، يهدي للتي هي أقوم ، نعى ركود العقل واهاب بالانسان الى التفكير بملكوت السموات والارض قبل الايمان. «قل انظروا ما ذا في السموات والارض» «وان في خلق السموات والارض واختلاف الليل والنهار لايات لاولي الالباب» ودعى الانسان الى النظر في نفسه «ومن آياته ان ان خلقكم من تراب ثم إذا انتم بشر تنتشرون» «والله اخرجكم من بطون امهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والابصار والافئدة لعلكم تشكرون»

٤

ودعى الانسان الى النظر في آيات الله الذي خلق كل شئ فاحسن صنعه واحكم تدبيره وما اودع في هذا الكون من بديع الصنع واحكام التنسيق «ان الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ذلكم الله فانى تؤفكون» «فالق الاصباح وجعل الله سكنا والشمس والقمر حسبانا ذلك تقدير العزيز العليم» «ألم نجعل الارض مهادا والجبال اوتادا. وخلقناكم ازواجا. وجعلنا نومكم سباتا. وجعلنا الليل لباسا. والنهار معاشا وبنينا فوقكم سبعا شدادا. وجعلنا سراجا وهاجا. وانزلنا من المعصرات ماء ثجاجا لنخرج منه حبا ونباتا وجنات الفافا» «وفي الارض قطع متجاورات من اعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الاكل ان في ذلك لايات لقوم يعقلون» الى امثال ذلك من الايات.

اجل : امر بالنظر ثم بعد النظر والتفكير في صنع القادر الحكيم الايمان بالله الواحد الاحد ليخلص الانسان من رق تقليد الاباء وقد نعى على الانسان الركود والرجوع الى الاباء والاجداد في كثير من الايات.

وكتاب الله سبحانه الذي شق طريقه الى قلوب الظمأى الى عدالة الحق لم يتبدل ولم يصبه تحريف. وانما انحرفت نفوس قامت على انفاذ شريعته ونصوصه متأثرة بعوامل هدامة في المبدأ والمنتهى وما زالت تعيش بين المسلمين وبمد حبائلها وشباكها الى القلوب والضمائر فتجرفها عاصبة عيونها بعصابة من التعصب المقيت.

٥

بيد ان هذا عهد غبر وتولت ايامه وانتهت دولته الى اسوأ مصير وبدت الحقيقة تنكشف شعة لماعة وليس على طالب الحق الا ان يضع كتاب الله بين يديه يقلب صفحاته صفحة صفحة. فليس ثمة احد ارحم يطالب بحق من الله ولا احد اعلم بالخلق ظاهرهم وباطنهم منه تعالى. ثم يضع سنة رسول الله يقلبها حديثا فحديثا. وكتاب الله وسنة نبيه صريحان بان آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم افضل من اقلته الارض واظلته السماء. والقارئ يقرأ في كتاب الله المجيد المراسيم الالهية بالتزام جانب آل رسول الله (ص) ومودة قرباه وهم علي وفاطمة وحسن وحسين عليهم السلام ومن استوعب القرآن استيعاب تأمل واستقصاء وقرأه قراءة تفهم واستنتاج استخلص منه اعظم المدح والثناء على آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ولا اريدك ان تقرأ فيه الايات مئة التي انزلت في علي عليه السلام (١) ولكن اقرأ قوله تعالى في سورة الاحزاب «انما يريد الله ليذهب عنكم الرجس اهل البيت ويطهركم تطهيرا» وقد رووا عن رسول الله صلى الله عليه وآله انه قال نزلت في خمسة «في وفي علي والحسن

__________________

(١) في ينابيع المودة : اخرج الطبراني عن ابن عباس (رض) قال نزلت في علي اكثر من ثلثماية آية في مدحه

٦

والحسين وفاطمة» (١)

وجاء في القرآن في سورة حم الشورى (قل لا اسألكم عليه اجرا الا المودة في القربى (٢) ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا ان الله غفور رحيم. ام يقولون افترى على الله كذبا) وقد رووا انه لما نزلت هذه الاية قالوا يا رسول الله من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودتهم؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم :

(علي وفاطمة وابناهما) (٣)

__________________

(١) في الكلمة الغراء ص ٧ وقد اورد الامام جلال الدين السيوطي في تفسير هذه الاية من كتابه الدر المنثور عشرين رواية من طرق مختلفة في ان المراد من اهل البيت هنا انما هم الخمسة لاغير. وذكر بن جرير الطبري ـ كما في الشرف المؤبد للنبهاني ـ خمس عشرة رواية باسانيد مختلفة في قصر الاية عليهم بالخصوص.

(٢) القربى كالزلفي وهي بمعنى القرابة والاستثناء والمعنى لا اسألكم على اداء الرسالة من الاجر الا ان تودوا قرابتي ويصح الاستثناء منقطعا اي لا اسألكم عليه اجرا ولكن اسألكم ان تودوا قرابتي.

(٣) اخرجه احمد والطبراني والحاكم وابن ابي حاتم عن ابن عباس كما في الصواعق المحرقة لابن حجر واخرجه ايضا عنه ابن المنذر وابن مردويه والمقريزي والبغوي والثعلبي في تفسيرها والسيوطي في درره المنشورة صرح بذلك النبهاني في اربعينه في الشرف المؤيد.

٧

واقرأ ان شئت سورة الدهر ـ هل اتى ـ وامعن النظر في آية الابرار منها ، واستوعب استيعاب متأمل نصوصها وروح معانيها لتعلم ان اهل هذه السورة قد بلغوا الشأو ، ووصلوا الى القمة العليا وانتهت بهم المثالية الى اقصى الحدود التي لا تصل إليها الافكار ولا تبلغها العقول.

ثم اقرأ آية المباهلة من سورة آل عمران (فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم ، فقل تعالوا ندع ابناءنا وابناءكم ونساءنا ونساءكم وانفسنا وانفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين) لتعلم انه سلام الله عليهم كما قال فيه الجاحظ «صفوة الامم ، وخيرة العرب والعجم. ولياب البشر ومصاص بني آدم وزينة الدنيا. وحلية الدهر ، والطينة البيضاء والمغرس المبارك والنصاب الوثيق ومعدن المكارم وينبوع الفضائل واعلام العلم وايمان الايمان» وخيرة الله للتأمين على دعاء رسول الله (ص) وبرهانه على صحة الاسلام والدعامه لتركيز الايمان.

ولقد فهم المسلمونن يوم كانوا خلوا من المؤثرات السياسة مزيد عناية الله

__________________

ونحن لا نريد ان نأتي على كل ما جاء في هذه الايات الكريمة من رواية وتفسير وبحسب القارى ان يطلب الكلمة الغراء في تفضيل الزهراء لسماحة الامام السيد عبد الحسين شرف الدين فانها وضعت خصيصا للبحث في هذه الايات الكريمة والاحاديث الواردة في تفسيرها وقد اوضح هناك دلالة هذه الايات باجلى بيان واوضح برهان فجزاه الله عن الحق واهله خير جزاء المحسنين.

٨

بآل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وكان سبيلهم الى فهم القرآن الكريم ورسول الله (ص) وهذه حقيقة لا سبيل الى نكرانها ، غير انا نبخس الحقيقة والواقع حقهما إذا انكرنا انه كان في الافق الاسلامي بعض السحب الداكنة كانت تلوح حينا وتضمحل حينا آخر ، ورسول الله والقرآن المجيد لم يكونا كفيلين باقتلاع بذرة الحقد على علي بن ابي طالب عليه السلام التي كانت مغروسة في النفوس والتي نمت بعد رسول الله صلى الله عليه وآله أو في اليوم الاول من وفاته وامتدت اغصانها في العصور المتوالية والى يومنا هذا والى ان يشاء الله وليس من موضوعنا ان نتبسط هنا ولا نريد ان نتغمس في هذا الحديث.

ومهما يكن من امر فان الاية الكريمة والايات التي تقدمتها براهين واضحة جلية على سمو فضلهم ، وعلو قدرهم ، ورفعة مقامهم ، وانهم صفوة الصفوة ولباب اللباب ، والخيرة الخيرة من عامة المسلمين ، لا يدانيهم احد من الخلق ولا يضاهيهم ، ولا نريد ان نستوعب الكلام في هذه الايات ونحيل القارئ الكريم على «الكلمة الغراء في تفضل الزهراء» الملحقة بكتاب «الفصول المهمة» الطبعة الثانية لسماحة البحاثة المتتبع الثبت حجة الاسلام السيد عبد الحسين شرف الدين المجاهد في سبيل الله والحقيقة وهناك تجد ما يزيل كل ريب أو شك باجلى بيان واضح برهان.

فتح رسول الله صلى الله عليه وآله مكة فجفل العرب الوثنيون وهالهم امر

٩

رسول الله واضطرب النصارى في نجران ، وانخلعت قلوب القسس الذين يديرون شؤون كعبة نجران ، وهالهم انتشار الاسلام ، وبيناهم في حيرتهم سادرون إذ ورد عليهم كتاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدعوهم للاسلام أو اعطاء الجزية أو ينابذهم الحرب ، والحرب كانت علاجا مرا يتجرعه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على كره دفعا للاذى وكفا للفتنة ، وليس في موضوعنا ان ندخل في هذا البحث.

عظم على رؤساء نجران هذا التحدي من النبي (ص) وعقدوا مؤتمرا عاما اجتمع فيه رؤساء النصرانية ورجال حربها واحلافهم ، يشتورون فيما يجب عليهم ان يصنعوه ، لان عوامل الخطر اصبحت تحيط بنجران بصورة خاصة وبالنصرانية بصورة عامة ، واصبح الاسلام قوى الدعائم بشمول عدله ، وقوة برهانه ، وقد تلقى الدعوة الاسلامية من تلقاها وهو مستريح إليها ، لانها دعوة طبيعة ليس فيها ما ينفيه العقل أو ينافيه وليس فيها ما يحجزه عن النظر في ملكوت السموات والارض بل الاسلام دعوة الى ذلك بصراحة رفعت كل الحواجز وسهلت جميع السبل.

ويلوح ان المؤتمر كان صريحا اتسع فيه المجال لرجاله المتعاقدين للنظر في الحوادث الجسيمة التي تقع على مقربة منهم وتحت سمعهم وبصرهم.

وقد اهمل التاريخ ـ على عادته ـ ما دار في ذلك المؤتمر من جدل عنيف بين الاقطاب المشتورين في صحة رسالته وصدق دعواه.

والذي يلوح انه ليس بمستطاع للتاريخ ان يقول كلمته في ذلك وليس

١٠

في استطاعة المؤرخين ان يبحثوا عن اصول الحوادث أو يقولوا كل شئ ، فان شيئا مخوفا كان يكم الافواه ، ويلجم الاقلام ، ولو ان المؤرخين عنوا بانتهاج الحقائق حق العناية لكان التاريخ صورة صحيحة صادقة ليس فيها التواء ولا اسفاف ولكن للسلطة كلمة خاصة لابد ان توحي بها الى الاقلام ، فلا تستطيع هذه ان تحيد عنها أو تخرج من محبسها الضيق ، والمؤرخين انما يكتبون ما تلوح به لهم السياسة وما تفرضه عليهم فرضا ليكونوا بمنجاة من خبثها ولؤمها أو لعلهم كما يظن بعضهم «ان المؤرخين لم يوفقوا الى اقامة التاريخ على سنن منطقية ، وقواعد نقدية تحتفل ببيان الدوافع والعوامل التي تهئ ظروف التاريخ المختلفة وتحدد له الاتجاهات» (١) ونحن نرى انه كان للسياسة اثر كبير في توجيه التاريخ ، وكان للعقيدة ايضا اثر في تسييره ، اقول هذا وانا ارى وجوها من الادلة تفيض في نفسي ولا معدى عنها عند تحليل الحوادث التاريخية.

ولا شك ان هذا الارهاق السياسي الذي وقعت الاقلام تحت وطأته ، وتلك الحدود الضيقة التي حبست فيها الاقلام والافكار كانت باعثا قويا الى توجيه افكار رجال صالحين من اهل العلم والامانة عملوا تحت نكبات الصعاب فدونوا كثيرا من الحقائق بامانة واخلاص كما هي بعيدين عن اغراض السياسة واهدافها.

ولقد كلف هؤلاء الاعلام بالحق لذات الحق وهو الذي حملهم على

__________________

(١) هذا رأى الاستاذ عبد الله العلائي وقد استقاه من اللورد اكتن.

١١

تسجيل الحقائق وتدوينها ، وهذا الشعور دائما هو مفتاح اعمالهم وشفافيه نفوسهم الطيبة ، فتحملوا النكبات ، وصبروا على الاذى ، ولم يخفهم سمل العيون وقطع الايدى والارجل والصلب على الجذوع النخل.

ومن الحقائق التي حملت الينا على لسان اولئك البررة بامانة واخلاص حديث مؤتمر نجران وما دار فيه من جدل وحوار ونحن نقدمه الى القارئ في خاتمة هذا الكتاب ، ولعل هذا الحديث النادر هو الذي حملنا على افراد هذا الكتاب.

.. ففي سنة ١٣٤٧ ه‍ اخرجت المطبعة رسالة سماحة المجتهد الاكبر البحاثة الجليل السيد عبد الحسين شرف الدين سماها «الكلمة الغراء في تفضيل الزهراء» جاء في الصفحة الثالثة ما نصه بالحرف : «وقد تصدى سيدينا الشريف المقدس ابن طاووس لتفصيل المباهلة ومقدماتها وما كان قبلها في نجران ، من المؤتمرات والمناظرات في جلساتهم المنعقدة لذلك حين دعاهم سيد الانبياء والمرسلين الى الله تعالى وارسل إليهم في ذلك رسله ، فليراجع الاقبال من اراد الوقوف على تفصيل تلك الاحوال ، ليرى اعلام النبوة ، وآيات الاسلام ، وبشائر النبيين بسيدهم محمد (ص) وبعترته الطيبين الطاهرين وبذريته المباركة من بضعته سيدة نساء العالمين ، وكنت اردت ان اخرج هذه القصة من كتاب الاقبال وانتشرها في رسالة على حده تعميما لفوائدها وتسهيلا لطالبها ، ولعل بعض اهل العلم العالية ممن حبسوا نفوسهم على نشر الحق يسبقني الى ذلك فاكون قد فزت بتنبيه الى هذه المهمة»

١٢

جلجل الصوت في سمعي فان الدعوة جميلة ومنبعثة عن شعور قلب كبير استوعبت مشاعري ووعاها سمعي وبصري ، لانها دعوة الخير مست القلب فتحرك ، وقرعت السمع فوعاها الذهن ، ولكنها رهيبه! أمن المستطاع ان تقرن بالتلبية؟. ام هي عصيه على هذا القلم القاصر؟! ...

لقد حبست نفسي على نشر الحق ، واوقفت هذا القلم ـ ان صح التعبير ـ على نشر الحق ايضا غير اني لست من اهل الهمم العالية الذين يقرنون الدعوة بالتلبية ولكن الصوت العالي المنطلق في الفضاء من الرجل الكبير كان رنانا عذبا مشت على نعماته النفس ، وتحركت فيها البواعث القوية لاخراج هذه الصورة عن مؤتمر نجران التي حملها الينا السيد ابن طاووس ، ولكنها مقدمة باحاديث معقبة بشروح وحواشي ، غير انها رغبة ابت ان تحققها الايام وانحسر الستر عن القضاء فإذا هو باسم ساخر! ...

وكيف مضى الزمن والفكرة لم تحقق!؟

وليس عجبا ان تبقى الفكرة طوال هذه المدة إذا كانت مقودة بزمام القضاء والقدر ولكن الفكرة لم تتزحزح عن مكانها الذي ولدت فيه ، وانما ركدت تحت اكداس من رماد القضاء.

لم يتغير المبدأ الذي اتخذته لنفسي منذ تنسمت الحياة العملية في ميادين الاعمال ، ولم تتبدل الفكرة انما برزت بروزا واضحا منذ سمعت الصوت من الرجل الجليل واخذت امهد السبل بالمطالعة والبحث عن يوم المباهلة ، وإذا

١٣

بكتاب «فجر الاسلام» يشق طريقه من الافق المصرى وله في السمع دوى مجلجل ، وفي القلب طعنات دامية ، وفي الضمائر وخزات مؤلمة ، فتركت يوم المباهلة وحديث مؤتمر نجران الى كتاب «تحت راية الحق» في الرد على طعون «فجر الاسلام».

كانت طعونن كتاب فجر الاسلام قاسية لا يرتكبها اديب مفكر ولا يقدم عليها عالم مثقف ولكن شاء الاديب الاستاذ احمد امين ان يتخلى عن ادبه وعلمه وشاء ان يكون مسفا ملتويا وابت عليه نفسه ان يكون حرا ودفعته الى التقليد فكتب مقلدا وطعن ظالما وتحدث بغير روية فتنكب عن الصراط السوى فانكره الادب والعلم واسف فجفاه الخلق والتوى في الطريق ففقد الثقة.

وكان من الطبيعي لنا ان نترك كتاب (المباهلة) ونترك كل شئ ، فان كتاب فجر الاسلام بما يحمله من طعون دامية يحتاج الى محاسبة دقيقة واقول دقيقة لا لان كتاب فجر الاسلام جائنا بشئ جديد لم يفتريه من قبل ابن تيمية والشهرستاني وابن حزم الظاهري ولم يلصقوه بالشيعة ، وانما يوم احمد امين بماضي سلفه وليس ما في كتابه الا حلقة تتلقى باخواتها المختفية خلف التاريخ وكأن تلك الانفس التي لفها الماضي بطياته تقمصت في هذا الانسان الذي يسمونه اليوم احمد امين.

وهكذا اسئ الى العلم والحق مرة ثانية ولكن مع الفرق بين الاسائتين فان تلك كانت في عصور مظلمة ظالمة غايتها ارضاء المحكوم لحاكمه

١٤

من عقيدة أو سياسة لا للحق والحقيقة ، وتعتبر اليوم انها انحرفت عن وجهة الحق وغادرته لكن الى عقبى وخيمة سيئة ادت الى سخط المنصفين ، وليس معنى هذا انه لا يوجد اليوم بين المسلمين من لا يحترم الاقلام المهوشة فان كتاب فجر الاسلام يعلن بان لا تزال باقية ولكن حتما ان هؤلاء سيفقدون قيمتهم الاجتاعية.

والاساءة الثانية كانت في عصر النور والحريات ولكنها تستفى من تلك العصور المظلمة ، ولا نعلم الهدف الذي يرمى إليه الاستاذ احمد امين وامثاله وقد انار العلم طريق الحياة ، واخذ الشعور بحب التحرر من تلك الاراء البالية يراود النفوس الحرة لها الطريق ، ولم يبق لتلك العناصر الهدامة اي قيمة غير انه يلوح في الافق ان عوامل الوراثة لم تمت في النفوس ، وانما ركدت قليلا وهي تعود الى سيرتها الاولى والى ما كانت عليه من قبل في عهدها الاول تسير في الافق الضيق منبعثة عن ذلك الشعور الذي لم يعرف الحق ، وانما هدفه النفوذ الى مأرب خاصة ، ولا يبالي من اي كان طريق النفوذ لا يعلم واجبه العلمي ، وغير مقدر تبعة ذلك.

هذه حقيقة راهنة لاسبيل الى نكرانها ما دام يكشف عنها كتاب فجر الاسلام وليس من موضوعنا ان نسير وراء اهداف الكتاب وقد كشفت عن نوايا الاستاذ احمد امين طعونة التقليدية.

وبالجملة فقد انصرفنا عن كتاب المباهلة الى الرد على مطاعن فجر الاسلام وكتبنا كتاب «تحت راية الحق» وقدمناه الى المطبعة ثم خرج منها

١٥

عائدا الى العراق المأوى الذي خرج منه ولكن مع الاسف لم يكن بالحسبان ان الكتاب يحبس في زاوية من زوايا الكمرك في العراق ثم يحرق.

احرق الكتاب فكانت الصدمة عنيفة جدا وعلمت آنئذ ان الحق لا يزال سجيا في قفصه وكل ما يستطيع ان يفعله فعل الاسود في المحبس الضيق ، وعلمت ايضا ان العلم لا يزال في محبسه الضيق تحوطه سيوف السياسة ورماحها ولم يتهئ له الانطلاق والتحرر لان اللحظة المرجوة لبروز العلم والحقائق لم يأت وقتها.

وفي يوم من ايام سنة ١٣٦٦ كنت جالسا في مكتبة الجامعة في بغداد مع جماعة من اهل الفضل والادب وكان الحديث متنوعا لم تحدد اطرافه وإذا بالاستاذ .. وهو احد المحامين المطلعين يدخل علينا ولم يمهلنا نحن الجالسين لحظة واحدة لنعطيه مكانه من مجلسنا وانما توجه الي بالسؤال التالي :

«ارأيت كتاب الاقبال؟ ...

استقبلت السؤال بهدوء. ولماذا؟! وما في الاقبال؟ كانه كتاب يقرؤه اولئك البررة الذين يجأرون الى الله بالدعاء فان فيه اعمال الشهور وادعيتها فهل انت ممن يقرأه

ـ «ان فيه حديث مؤتمر وفيه ادب جم وتاريخ اهملته كتب التاريخ وفيه التعريف بفضل اهل بيت النبوة آل رسول الله (ص) الذين غمط حقهم المؤرخون .. اخرجه .. اخرجه للناس وللمستشرقين».

١٦

لقد كان في دعوته حرارة ، وفي كلماته صدق ، وعلى قسمات وجهه شئ من الجد الصريح.

كلمات لمست باحدى يديها قلبي ، وبالاخرى ازاحت الستار عن تلك الفكرة المدفونة ، وكأنه شعر ان لحديث نجران موطن في نفسي ، فاراد ان يزيح الرماد وينفخ في النار.

نفخ النار. وعاد ذلك الصوت من فم الرجل العظيم الجالس في «صور» بجرسه الرنان صيحة عالية عذبة الرنة قرعت السمع فهفا إليها القلب فتقدمت الى القلم والكتاب وعدت الى الموضوع الذي اهملته من قبل وها انا اقدم هذا الكتاب الى قرائي الكرام تلبية لذلك الصوت الذي حفظه الاثير بين ذراته فان كنت اصبت الهدف فذلك من فضل الله علي وان اخطأني الحظ فتلك زلة يغفرها لي الداعي الاول وقرائي الكرام.

١٧

نجران

من الامور القطعية التي لاشبهة فيها تطور الديانات على اختلاف الادوار التي مرت عليها ولم تطرد في طريق واحد متدرجة صعودا أو متراجعة هبوطا ، والديانات التي نشأت في الشعوب كانت على اطوار مختلفة لا يمكن الحكم عليها بالتدرج ، وانما كانت صاعدة هابطة ولم تكن على طور واحد.

ومن الصعب جدا التعرف على تلك الاطوار التي مرت عليها مختلفة في شكلها وطقوسها ، لان كل ما وصل الينا ظن لم يؤيد بالبرهانن الصحيح على انه ليس من موضوعنا الحديث عنها لنتبسط في ذلك ولا تهمنا بقليل ولا كثير.

واما العقيدة بالاله أو الرب فهي فكرة سايرت الانسان في كل الادوار وآمن بها في اقدم العصور وان كانت احيطت بكثير من الضلال والسخف ولقد تعددت الارباب عند الامم الغابرة فتجاوزت العشرات الى المئات وربما كان لكل اسرة من الاسر ربا تعبده مضافا الى آله القبيلة وربما كان للشخص الواحد ربا يعبده وإذا خرج للسفر ـ ان اذن له ـ يصحبه كما هو الشأن عند بعض العرب.

ولم تكن هذه الارباب نوعا واحدا ، وانما هي انواع شتى ، تمثل افكارا شتى كالارباب التي تمثل مشاهد الطبيعة كالبرق والرعد والمطر وارباب

١٨

الاسر والقبائل واله الخلق الى غير ذلك ، وربما اشاروا بتماثيل مختلفة الصور والاشكال وقد اختلفت درجات قدسها بنظرهم.

وفي نهاية مطاف اطوار الديانات المختلفة جاء «التوحيد» ومعناه عندهم كما يلوح لنا : هو اله يعلو جميع الالهة وينفرد بالعظمة والجلال. ثم الاديان الكتابية ـ بعد تلك الاطوار ـ هي التي اشارت الى الله سبحانه واثارت فكرة التوحيد الصحيح وعلمت الناس عبادة الاله الواحد الاحد الذي خلق كل شئ ووسعت قدرته كل موجود في السموات والارض وانه لا شريك له في خلقه ولا شبيه له في عظمته تفرد بالكمال وتنزه عن النقص لا تدركه الابصار واحاط بكل شئ علمه وهو على كل شئ قدير لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا احد.

والسيد المسيح سلام الله عليه هو احد الدعاة الى توحيد الله جاء في جو مضطرب بالعقائد المفتونة بالفلسفة فدعا الناس الى الله وذكرهم بالله الرؤوف الرحيم وامرهم بعبادة الله الواحد الاحد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن في دعوته ما يمس الوحدانية بشئ ولكن الاناجيل ـ وقد جاءت بعد عصره بجيلين ـ اشارت الى ان المسيح ابن الله «وانا قد رأيت وشهدت ان هذا هو ابن الله» يوحنا ٢٤ اصحاح ١ واشارت الى انه قال «انا الراعي الصالح» يوحنا ١٤ اصحاح ١٠. واشارت الى انه ابن الله «قد اتيت باسم ابي». يوحنا ٤٣ اصحاح ٥ «وكما ان الاب يعرفني اعرف الاب» يوحنا ..

ثم تطورت النصرانية وامتزجت بعقائد وثنية واعتقدت الثالوث المقدس أو الاقانيم الثلاثة : الاب والابن وروح القدس ، واعتقدت الكنيسة

١٩

اتحاد هذه الاقانيم الثلاثة «وان الاب والابن وجود واحد ، وانك حين تقول الاب لاتدل على ذات منفصلة عن الابن أو روح القدس ، لانه لا انفصال ولا تركيب في الذات الالهية» وهم شئ واحد «وان كان يستحيل على العقل البشري ادراك كيفية الاتحاد» (١)

ولم يكن هذا التثليث المتحد معروفا عند العرب ولا مما يصل إليه عقل العربي ولا من ديانتهم ولكنه عبر حوض البحر المتوسط والبحر الاحمر ـ بحر القلزم ـ الى شبه جزيرة العرب واستقر في «نجران» الى جانب الوثنية في «مكة» يتضارعان.

ان الوثنية كانت تتصرف بعقول الاسر والقبائل العربية في شبه جزيرة العرب ، ووجدت فيها تربة خصبة ، ومنهلا عذبا ، ومرتعا صالحا ، وقد كان للعرب افانين شتى في عبادة الاوثان وكان لهذه الاوثان في نفوسهم مكانة جليلة ، وقدسية عظيمة ، ويلوح انها لم تكن في درجة واحدة من القداسة فصنم القبيلة افضل من صنم البيت ، وصنم الكعبة افضل من صنم القبيلة وقد اختلفت اشكال هذه المعبودات ، فالصنم ـ وهو ما كان متخذا من خشب أو معدن على شكل الانسان ، غير الوثن المتخذ من حجر على شكل الانسان وهما غير النصب وهو صخرة غير ذات صورة معينة.

وكذلك اختلفت درجات هذه الاصنام ، فهمل مثلا كبير آلهة العرب وهو منصوب على ظهر الكعبة يحجون إليه من كل فج عميق.

__________________

(١) المسيحية والاسلام للاب لويس ادء.

٢٠