محك النظر

أبو حامد الغزالي

محك النظر

المؤلف:

أبو حامد الغزالي


المحقق: رفيق العجم
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ١٧٦

فعلت المذاهب الفقهيّة والأصوليّة السنّيّة فعلها في آراء الغزالي ، وخصوصا مذهب الإمام الشافعيّ (١٥٠ ـ ٢٠٤ ه‍ / ٧٦٩ ـ ٨٢٥ م). وقد تلقّى الكثير من الفقه والأصول على يد الجويني كما ذكرنا. لكنّ تفصيله وتجديده الأصوليّين تأثّرا بمطالعاته المنطقيّة ، إضافة إلى رغبته العارمة في القضاء على روح الانحراف ، والتي تفشّت في عصره على أيدي قضاة الشرع الذين نزعوا إلى استغلال مناصبهم (١). فدفع ذلك الغزالي إلى أن يتشدّد في قواعد الفقه ، ويقيّدها بطرق الاجتهاد الصارمة التي وضع لها الأسس والمناهج ، رافضا الاستحسان وكلّ استدلال يخرج على النسق المعياريّ المنطقيّ (٢).

انجذب الغزالي بالتيّار الصوفيّ الذي نضج واكتمل على أيدي المحاسبي (توفي ٢٤٣ ه‍ / ٨٥٨ م) والبسطامي (٢٦١ ه‍ / ٨٧٤ م) والحلاج (٣٠٩ ه‍ / ٩٢٢ م) (٣) وأبي طالب المكّي (٣٨٦ ه‍ / ٩٩٧ م).

وانتشرت التكايا والفرق الصوفيّة في عصره بشكل كثيف ، فاختلط سلوكها بمعارف صوفيّة وآراء فلسفيّة وكلاميّة. بل سلك بعضها طريقا عمليّا يعتمد (الدروشة) ويستخدم الوسائط من صياح ورقص وإنشاد : «والحق أنّ تعاطي المنبّهات كان فاشيا في الحلقات الصوفيّة ...» (٤). وقف الغزالي من كلّ هذه التيّارات موقفا وسطا ، باستثناء موقفه المعارض للباطنيّة. فقد توسّط السلف وعقليّي الإسلام. ووقف وسطا بين الشيعة والسنّة سياسيّا وضد غلاة الباطنيّة. وارتبط بموقف فكريّ وساطيّ بين الأدلّة الإيمانيّة المسلّمة تسليما مطلقا ، وبين مناهج البحث والنظر المنطقيّة العقليّة. وهو يقول في ذلك : «فالذي يقنع بتقليد الأثر والخبر وينكر مناهج البحث والنظر لا يستتبّ له

__________________

(١) بروكلمان ، تاريخ الشعوب الإسلاميّة ، ص ٢٨٠.

(٢) سنفصّل ذلك في الفصل الثالث من الباب الثاني.

(٣) أفرد الغزالي كتاب مشكاة الأنوار للدفاع عن بعضهم.

(٤) بروكلمان ، تاريخ الشعوب الإسلاميّة ، ص ٢٨٢.

٢١

الرشاد. لأنّ برهان العقل هو الذي يعرف به صدق الشارع ، والذي يقتصر على محض العقل ولا يستضيء بنور الشرع ولا يهتدي إلى الصواب ، ومثل العقل البصر السليم عن الآفات والأذاء. فالمعرض عن العقل مكتفيا بنور القرآن كالمعترض لنور الشمس مغمضا الأجفان» (١) ، وعلى الرغم من هذه الوساطيّة ، فإنّ الغزالي تأثّر بجملة التناقضات السياسيّة والفكريّة وخاض غمارها ، قناعات ومعاناة في أثناء رحلته العلميّة. ولعب هذا التعدّد والتمزّق دورا مؤزّما في نفسيّته ، إذ تواجهت الآراء السنيّة الملتزمة بالآراء الباطنيّة الرافضة والمعارضة. وتواجه الفقه المرتبط في النصوص بالمنهج العقليّ المجرّد وبالآراء الفلسفيّة العقليّة ، كما تقابلت الجبريّة بالحريّة المختارة اختيارا تاما ، والزهد المرتبط في الدين بالتصوّف المرتبط في التجربة الذوقيّة والمكاشفة الإلهيّة.

وقد ترك الغزالي كتبا في شتّى هذه العلوم ، وحلّ الكثير من معضلات المواجهة بالموقف الوساطيّ الذي تحدّثنا عنه. والذي يعنينا هنا مؤلّفاته المنطقيّة ، وهي بحسب تسلسل تأليفها التاريخيّ ما يلي :

أوّلا ـ مقاصد الفلاسفة : تناول فيه آراء الفلاسفة في المنطق والطبيعة والميتافيزيقا. ويعتبره بعضهم مقدّمة لكتاب تهافت الفلاسفة الذي ردّ فيه الإمام على دعاوى الفلاسفة من دون التعرّض لمسائلهم المنطقيّة.

ثانيا ـ معيار العلم : عرضت فيه آراء منطقيّة مختلفة ، خالطها ميل إلى إيراد بعض المصطلحات والأمثلة الإسلاميّة.

ثالثا ـ محكّ النظر : برزت فيه الآراء المنطقيّة أيضا ، لكنّ الغزالي طواها على آراء إسلاميّة ، قالبا المصطلحات والأمثلة إلى مصطلحات وأمثلة أصوليّة تماما.

__________________

(١) الغزالي ، الاقتصاد في الاعتقاد ، القاهرة ، المكتبة التجاريّة الكبرى ، ١٩٣٦ ، ص ٢.

٢٢

رابعا ـ القسطاس المستقيم : جعل الغزالي المنطق فيه مستمدّا من منهج القرآن ودليل آياته. فاستخرج القياس من القرآن ، واستعمل مصطلحات جديدة تفهيما للمسلم وصهرا للمنطق في بوتقة إسلاميّة.

خامسا ـ المستصفى من علم الأصول : وفيه مقدّمة منطقيّة عرضت فيها قواعد المنطق وأبوابه ، بما يتشابه مع ما كان في المحكّ. وشكّل ذلك مدخلا لعلم الأصول الذي شرحه الإمام في بقيّة الكتاب ، متناولا الجوانب الأصوليّة كافة ، مركّزا على المعايير العقليّة ، وفيها تفصيل وتجديد وتأثّر بالمنطق العقليّ.

خرجت كتب الغزالي تباعا خلال حقب حياته المختلفة. وتطوّرت من نقل للمنطق إلى تحوير له ، وجعله أداة إسلاميّة ، يستعان بها في الفقه والاجتهاد. وقد بدأ الغزالي ناقلا منطق أرسطو عبر ابن سينا ، وتدرّج إلى موفّق بين المنطق والعلوم الإسلاميّة ، حتّى بلغ شأوه ، فجعل المنطق علما إسلاميّا : منهجا ومصطلحا ، وطبعه بسمات العقليّة العربيّة والإسلاميّة.

بحيث أطلقنا على هذه العمليّة اسم محاولة تطعيم المنطق بأصول الفقه.

كتب الغزالي مقاصد الفلاسفة في أثناء تلقّيه العلم ، وفي طور التدريب في بغداد. وتهيّا للردّ على الفلاسفة نتيجة خطرهم على عقول الناس وإزاغتهم للعقيدة. لم يميّز في المقاصد بين الحقّ والباطل ، إنّما قصد فيه التفهيم (١) ، وعرض النظريّات تمهيدا لدحضها في كتاب آخر.

وجد الإمام نفسه محتاجا إلى منهج عقليّ ومعيار فكريّ يدعم فيه الأصول الفقهيّة والتفكير الإيمانيّ ، بعد أن تفهّم المنطق وسرده سردا عامّا في مقاصد الفلاسفة. فكان له ما شاء ، إذ عزل المنطق عن الأبحاث الفلسفيّة وأقرّه علما معياريّا ممزوجا ببعض الخصوصيّات الإسلاميّة ، جامعا

__________________

(١) الغزالي ، مقاصد الفلاسفة ، مصر ، دار المعارف ، ١٩٦١ ، ص ٣١.

٢٣

كلّ ذلك في كتاب سمّاه ، معيار العلم. وتتابعت لديه عملية المزج فاكتملت بكتاب محكّ النظر ، وفيه إلباس المنطق حلّة إسلاميّة كاملة ، بحيث حدثت عمليّة التطعيم تماما. كان ذلك إبّان تدريسه في بغداد وقبل ارتحاله عنها عام (٤٨٨ ه‍ / ١٠٩٦ م) (٢).

رافقت أزمة الغزالي الشكّيّة النفسيّة ، أزمة معرفيّة حاول أن يحلّ فيها كلّ تناقض بين عقيدتين أو موقفين تلقّاهما. فأبطل ما يخالف الدين على المستوى الطبيعيّ والإلهيّ ، وهذّب ما استطاع من المنطق. ووجد أنّ اعتناقا مزدوجا للفلسفة العقليّة وللدين يؤدّي بالفرد إلى الاضطراب المعرفيّ والنفسانيّ. فخرج بعدها بكتاب إسلاميّ الشكل والمبنى والمعنى والاستعمال ، هو القسطاس المستقيم (٣). وفيه تهذيب المنطق خلال الرد على الباطنيّة ودحض مقدّماتهم الجدليّة. وقد كتبه الإمام عام (٤٩٧ ه‍ / ١١٠٤ م) عقب تعمّقه في المسألة المنطقيّة ، واعتصار فكره فيها ، موفّقا بينها وبين الدين الذي استخرج منه المنهج. كلّ ذلك إرضاء للقارىء المؤمن وتفهيما له. ويعتبر موقت ظهور القسطاس موقت هدوء واستقرار معرفيّ عند الشيخ. إذ كان قد وصل حينذاك إلى شيء من اليقين وثبات المعارف ، مجتازا المراحل الشكّيّة السابقة وتضارب الاتّجاهات في ذهنه.

أفرد الإمام بعدها مصنّفه المشهور المستصفى من علم الأصول ، الذي ظهر عام (٥٠٣ ه‍ / ١١٠٩ م) (١). وفيه أرسل أصول الفقه ناضجة ، بعد أن تحرّر من كلّ تأثير أصوليّ سابق. وعمل على مزج الاجتهاد بالمنطق ، فظهرت آراؤه عقليّة محضا ، تستند على نسق قياسيّ واستدلاليّ واضح.

وقد جدّد وابتكر في الكثير من المسائل وكان أن مهّد لهذا الكتاب بمقدّمة

__________________

(١) يمكن مراجعة مقدّمة الأب فكتور شلحت اليسوعي لكتاب القسطاس المستقيم ، في الحاشية ص ١٥ ، بيروت ، المطبعة الكاثوليكيّة ، ١٩٥٩.

(٢) المصدر نفسه ، ص ١٥.

(٣) المصدر نفسه ، ص ١٥.

٢٤

منطقيّة وضعها قبل عرض الأصول وجعلها مدخلا له. بل جعلها مقدّمة للعلوم كلّها فقال :

«وليست هذه المقدّمة من جملة علم الأصول ولا من مقدّماته الخاصّة به ، بل هي مقدّمة العلوم كلّها ومن لا يحيط بها فلا ثقة له بعلومه أصلا ...» (١). ويعتبر المستصفى نموذجا للمزجيّة ، يقول فيه : «إنّ أشرف العلوم ما ازدوج فيه العقل والسمع واصطحب فيه الرأي والشرع» (٢).

وتجدر الإشارة إلى أنّ الغزالي ألّف في الفقه قبل ذلك (المنخول وشفاء الغليل) ، لكنّ المنخول ليس سوى عرض لآراء فقهيّة وأصوليّة ، أخذ معظمها عن إمام الحرمين الجويني فقال : «هذا تمام القول في الكتاب ، وهو تمام المنخول من تعليق الأصول بعد حذف الفصول وتحقيق كلّ مسألة بماهيّة العقول ، مع الإقلاع عن التطويل والتزام ما فيه شفاء الغليل.

والاقتصار على ما ذكره إمام الحرمين رحمه اللّه في تعاليقه من غير تبديل وتزييد في المعنى وتعليل ...» (٣).

إذا اقتصر الفقه على النقل قبل المستصفى ، وقد صرّح بذلك الإمام قائلا : «والمختار إنّه لا يحتجّ به لأنّ العقل لا يحيل ذلك في المعقولات ، والشبهة مختلجة والقلوب مائلة إلى التقليد واتّباع الرجل المرموق فيه ، إذا قال قولا. هذا ممّا اختاره الإمام رحمه اللّه» (٤).

والقول المجمل : إنّ المسألة المنهجيّة اكتملت أكثر فأكثر بعد المرحلة الشكية ويتجلّى ذلك في المستصفى الذي جمع بين الرأي والسمع

__________________

(١) الغزالي ، المستصفى من علم الأصول ، ط أولى ، مصر ، المكتبة التجاريّة ، ج‍ ١ ، ص ٧.

(٢) المصدر نفسه ، ص ٣.

(٣) الغزالي ، المنخول من تعليقات الأصول ، تحقيق محمد هيتو ، دمشق ، ١٩٧٠ ، ص ٥٠٤.

(٤) المرجع نفسه ، ص ٣١٦.

٢٥

وبين المنطق والفقه. فظهر تأثر المنطق بالأصول والمعاني الإسلاميّة وتأثّر الأصول بالمنطق.

وإذا كان لنا شاهد على هذا التحول فخير شاهد الجدول التالي الذي يميّز بين المصطلحات في كل كتاب :

مقاصد الفلاسفة

معيار العلم

محكّ النظر

المطابقة

 المطابقة

 المطابقة

التضمّن

 التضمّن

 التضمّن

الالتزام

 الالتزام

 الالتزام

الجزئيّ

 الجزئيّ

 المعين

الكلّيّ

 الكلّيّ

 المطلق

المشتركة

 المشتركة

 المشتركة

المترادفة

 المترادفة

 المترادفة

المتواطئة

 المتواطئة

 المتواطئة

المتزايلة أو المتباينة

 المتزايلة أو المتباينة

 المتزايلة أو المتباينة

العامّ

 العامّ

 العامّ

الخاصّ

 الخاصّ

 الخاصّ

الذاتيّ

 الذاتيّ

 الذاتيّ

العرضيّ

 العرضيّ

 العرضيّ

اللازم

 اللازم

 اللازم

الحدّ

 الحدّ

 الحدّ

التصوّر

 التصوّر

 المعرفة

التصديق

 التصديق

 العلم

الجنس

 الجنس

 الجنس

النوع

 النوع

 النوع

الفصل

 الفصل

 الفصل والفصول

الخاصّة

 الخاصّة

 الخاصّة والخواص

الرسم

 الرسم

 الرسم

٢٦

مقاصد الفلاسفة

معيار العلم

محكّ النظر

الماهيّة

 الماهيّة

 الماهيّة

 الموضوع

 الموضوع

 المحكوم عليه

المحمول

 المحمول

 الحكم

القضيّة الشخصيّة

 القضيّة الشخصيّة

 القضيّة المعيّنة

القضيّة الكلّيّة

 القضيّة الكلّيّة

 القضيّة المطلقة العامة

القضيّة الجزئيّة

 القضيّة الجزئيّة

 القضيّة المطلقة الخاصّة

القضيّة المهملة

 القضيّة المهملة

 القضيّة المهملة

إيجاب

 إيجاب وموجبة

 إثبات ومثبتة

سلب

 سلب وسالبة

 نفي ونافية

القياس

 القياس

 القياس

الحدّ الأوسط

 الحدّ الأوسط

 العلّة

الشرطيّ المتّصل

 الشرطيّ المتّصل

 التلازم

الشرطيّ المنفصل

 الشرطيّ المنفصل

 التعاند

الشكل

 الشكل

 النظم

المادّة

 المادّة

 المادّة

الصورة

 الصورة

 الصورة

اليقين

 اليقين

 اليقين

الظنّ

 الظنّ

 الظنّ

البرهان

 البرهان

 البرهان

المقدّمة

 المقدّمة

 الأصل

النتيجة

 النتيجة

 الفرع

الإحساس

 الإحساس

 الإحساس

التجربة

 التجربة

 التجربة

التواتر

 التواتر

 التواتر

بديهة العقل

 بديهة العقل

 الأوّليّات

التميّز

 التميّز

 ـ

التعريف

 التعريف

 ـ

الإمكان

 الإمكان

 الإمكان

٢٧

مقاصد الفلاسفة

معيار العلم

محكّ النظر

الممتنع

 الممتنع

 الاستحالة

الوجوب

 الوجوب

 الوجوب

الوجوب

الوجوب

الوجوب

الوجوب

الوجوب

الوجوب

الوجوب

الوجوب

السبر

الوجوب

الوجوب

التقسيم

__________________

(*) تشير الإشارة ـ إلى عدم وجود مصطلح يقابل المصطلح الوارد في الكتب الباقية أو إلى عدم استخدام هذا المصطلح في الكتاب.

٢٨

طبيعة الكتاب وموضوعاته

تدور أبحاث المحك حول موضوعات المنطق التقليدية : الحد والقضية والقياس.

وترتدي هذه الأبحاث ميزة مختلفة عن الكتب المنطقية التي سبقتها كمقاصد الفلاسفة ومعيار العلم. ففيه نحا الإمام منحى مغايرا لمصطلحات المنطق التقليدية وأمعن بالإيغال في المضامين الإسلاميّة والمصطلحات العربية والفقهية والكلامية إذ ينقسم مبحث الحد في المحك إلى موضوعين أساسيين يقعان ضمن قسمي الكتاب. فيحتل موضوع الألفاظ والمعاني جزءا من القسم الأول ، وموضوع الحد القسم الثاني كلّه. وبالشكل التالي من التبويب :

ـ الفن الأول : قسم القياس ، وفيه يعالج الغزالي «النظر في الألفاظ ثم في المعاني ثم في تأليف مفردات المعاني ...» (١).

ـ الفن الثاني : قسم محك الحدّ ، وفيه يعالج الإمام فنّين : أولهما قوانين الحدّ ، وثانيهما امتحان الحدّ.

ولعلّ تأجيل بحث الحدّ وتأخيره مردّه طبيعة هذا البحث الخارجية

__________________

(١) الغزالي ، محكّ النظر ، مصر ، المطبعة الأدبية ، د. ت ، ص ٨.

٢٩

والغريبة عن الفكر الإسلامي وعقليته. فالمسلمون لم يعوا الحدّ إلاّ في دوره الاسمي المميّز بين الألفاظ.

لقد اقتصر التوجّه بالمعيار نحو بعض الأمثلة الفقهية ، وكانت بمثابة التمهيد للمحكّ ، إذ يقول الغزالي : «رغبنا ذلك أيضا في أن نورد في منهاج الكلام في هذا الكتاب أمثلة فقهية فتشمل فائدته ، وتعمّ سائر الأصناف جدواه وفائدته. ولعل الناظر بالعين العوراء ، نظر الطعن والإزراء ، ينكر انحرافنا عن العادات في تفهيم العقليّات القطعية بالأمثلة الفقهيّة الظنيّة.

فليكف عن غلوائه في طعنه وإزرائه ، وليشهد على نفسه بالجهل بصناعة التمثيل وفائدتها. فإنها لم توضع إلا لتفهيم الأمر الخفيّ بما هو الأعرف عند المخاطب المسترشد ، ليقيس مجهوله إلى ما هو معلوم عنده ، فيستقر المجهول في نفسه ... (١).

فاقتصر غرضه على إعطاء الأمثلة الفقهية ، لاستساغة الأمور العقلية لا أكثر ويعترف بأنه يقوم بصناعة فكرية للتفهيم. بينما الأمر في «المحك» يختلف تماما ، فثمة تجاف وتباعد عن غرض التقليد والاتّباع ، ـ قاصدا اتّباع ابن سينا ـ واقتراب إلى الإبداع وتأليف المنطق الإسلامي الذي يرشد إليه نور اللّه والاستبصار المعرفيّ. «وما أحوج إلى هذا من ركب متن الخطر في الارتفاع عن حضيض التقليد ، مع سلامة مغبّته إلى يفاع الاطّلاع والاستبصار ، مع خطر عاقبته وتفاقم غائلته. فإن لم يره الحق حقا ، كان نظره كلّه هباء ، وإن لم يوفّقه للعمل بما علمه كان جهده كلّه عناء ...» (٢).

وبدل أن يسمّي مبحث الحدّ تصوّرا يسمّيه في المحك المعرفة. ويصرّح بأن المعرفة متأتّية من اللغة العربية. و «يقول النحاة أن المعرفة تتعدّى إلى مفعول واحد ، إذ يقول عرفت زيدا ، والظنّ يتعدّى إلى مفعولين ، إذ تقول

__________________

(١) الغزالي ، المعيار ، ص ٢٧.

(٢) الغزالي ، المحك ، ص ٣ ـ ٤.

٣٠

ظننت زيدا عالما. والعلم أيضا يتعدّى إلى مفعولين ...» (١).

وعوضا أن يكون التصوّر ينال بالحدّ ، يصبح الأمر : «المطلوب من المعرفة لا يقتنص إلا بالحدّ ، والمطلوب من العلم الذي يتطرق إليه التصديق أو التكذيب لا يقتنص إلا بالحجة والبرهان وهو القياس ...» (٢).

إن المرجّح أنّ الغزالي قصد في استعمال مصطلح المعرفة ، إدراك الأسامي والمعاني المفردة. وكلمة معرفة من «عرف» و «معرّف» ، ويشرح الجرجاني المعرّف بأنه : «ما يستلزم تصوّره اكتساب تصوّر الشيء بكنهه أو بامتيازه عن كلّ ما عداه ، فيتناول التعريف بالحدّ ...» (٣). وهكذا يجعل للمعرّف دورين : تصوّري وتمييزيّ. فيوصل الدور التصوري لماهيّة الشيء وحقيقته ، ويهدف الدور التمييزيّ تفريق اللفظ عمّا عداه. ولم يكن الأمر عند الغزالي في المحكّ غير هذا التوفيق بين الدورين الماهويّ واللغويّ.

والحال نفسها في المعيار وفي كلّ الاتجاه المنطقي الذي سنستعرضه لاحقا.

وتجدر الإشارة أن استخدام المصطلح بقي ضمن الأغراض المنطقيّة واللغويّة ، وربّما ارتبط تعبير المعرفة «ابستمولوجيّا» بنظريّة العرفان الصوفيّ ، التي بدأ يتأثر فيها الإمام إبّان تأليفه المحكّ وبعده. بينما يوحي استعمال لفظة التصوّر في المعيار ذاك الإدراك الاسميّ والعقليّ لماهيّة الشيء. ويقول فيه الجرجاني مثلا : التصوّر هو «حصول صورة الشيء بالعقل .. وهو إدراك الماهيّة من غير أن يحكم عليها بنفي أو إثبات» (٤).

وقد اصطلح الغزالي في موضوع الألفاظ والمعاني مجموعة

__________________

(١) المصدر نفسه ، ص ٥.

(٢) المصدر نفسه ، ص ٦.

(٣) الجرجاني ، التعريفات ، ص ١٥٠.

(٤) المرجع نفسه ، ص ٤٠.

٣١

مصطلحات وأمثلة مغايرة لما ورد في المعيار ، وسنذكرها كما يلي :

ـ يطلق الغزالي ، تمشيا مع ابن سينا ، على الجزئي والكلّي تعبيري الخاصّ والعامّ. وقد أشير إلى ارتباط هذه الألفاظ بالتصوّر اللغويّ العربيّ.

لكنّ الأمر في المحك يتبدّل ، فيستعمل الإمام المعيّن والمطلق (١). واللذان وردا في المعيار. إنما التعبيران هنا يحلاّن نهائيا محلّ الخاصّ والعامّ.

وقصد الغزالي بلفظة معيّن ما يدلّ على عين واحدة. وهذا هو دور الاسم أو اللفظ في اللغة العربية. والبيّن أن الفقه وعلماء العربية يستخدمون اللفظة للتمييز بين الأسماء. فلكلّ معنى لفظ معيّن محدّد. ويلعب المعيّن استنادا إلى ذلك دور المحدّد ، الذي لا يمكن أن يكون مفهومه إلا ذلك الواحد.

ويقول الجرجاني : «التعيين ما به امتياز الشيء عن غيره ، بحيث لا يشاركه فيه غيره» (٢). وكنّا قد ذكرنا معنى الجزئي ومدلوله وكيف لم يجرّد المسلمون التصوّر إلى كلّي وجزئيّ. بل انحصروا في الخاصّ والعامّ ، وكلّها مدلولات عربيّة. أمّا هنا فالمصطلح مطابق للغة العربية ولدورها المعبّر عن الأفراد وعن ذاك الواحد المشخّص (هذا الإنسان). فالمحكّ يذهب بالمنطق إلى حدود الاندماج بالعربيّة وإخراج المعرفة أو التصور بقالب إسلاميّ وعربيّ. ويظهر الأمر جليّا في مدى تعبير المصطلح عن البعد الماصدقيّ ، في الباب التالي. ومثلما المعيّن كذلك المطلق ، فقد استعمل الغزالي هذا المصطلح بالمحكّ بديلا للعامّ في المعيار والمقاصد.

وتحدّث ابن سينا عن المطلق مقابل الضروريّ في استعراضه للممكنات (٣). وقصد بالمطلق بيان غير الضرورة ، أمّا الضرورة فهي المشروطة بقانون وجوديّ طبيعيّ. وبقيت أحكام المطلق ضمن قوانين الطبيعة لديه ولدى الفارابي أيضا. أما الغزالي فاستخدم تعبير المنطق ليدلّ

__________________

(١) الغزالي ، المحكّ ، ص ١٠ ـ ١١.

(٢) الجرجاني ، التعريفات ، ص ٥١.

(٣) ابن سينا ، الإشارات ، ص ٣٠٨ ـ ٣١٧ والشفاء ، القياس ، ص ٢٢.

٣٢

على ما هو مغاير للمعيّن ، بل وعكسه. ويحمل المطلق بمعناه العمومية وقد عرّفه الجرجاني «أنه ما يدلّ على واحد غير معيّن» (١). ويقول عنه أبو البقاء : «المطلق هو الدّال على الماهية من غير دلالة على الوحدة والكثرة ، والنكرة دالة على الوحدة ولا فرق بينهما في اصطلاح الأصوليّين» (٢). ويرتكز المطلق عند المسلمين على منحى لغوي ، يعتبر اللفظة معرفة وليست نكرة. واستعمل لفظ المطلق في الفقه ليشكّل نقيض المقيّد. إذ يجري الحكم في الأصول على إطلاقه ، إلا إذا وقع تقييد ، مثاله : «قوله تعالى (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) والمقيّد ما تعرض ذاتا موصوفة بصفة ، كقوله تعالى (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ)» (٣).

والأرجح اتّجاه الإمام إلى التأثر بالعربية والأصول في تداوله المطلق في المحك ، أكثر منه اتّباعا لابن سينا. ويزيد من ترجيحنا الاقتناع بأنّ مسائل البحث فقهيّة ، وغرض الكتاب ، كما صرّح ، تعليمي إسلاميّ.

ولأن الغزالي بعيد هنا عن معالجة الأمور الطبيعية والوجوديّة. ويدلّ على ذلك أيضا تلك الأمثلة التي أدخل عليها (أل) التعريف فاستحالت مطلقة.

فإذا كان «هذا السواد» معيّنا ، أصبح تعبير «السواد» مطلقا (٤) وكل هذا يدل على أثر اللغة العربية أو بالحريّ علم الأصول.

يستخدم الغزالي جملة أمثلة في دلالة الألفاظ على المعاني ، وجاء بعضها مغايرا للمعيار. وهي تبتعد عن التمثّل بمفهوم الماهيّة واندراج الجنس والنوع ، وتأخذ طابع مفردات اللغة العربية ومعاني الأمثلة الفقهيّة.

فيقدّم الغزالي أمثلة على الترادف : الليث والأسد ، والخمر والعقار.

__________________

(١) الجرجاني ، التعريفات ، ص ١٤٩.

(٢) الجرجاني ، التعريفات ، ص ١٤٩. الكفوي ، الكليات ، ص ٣٤١.

(٣) الكفوي ، الكليّات ، ص ٣٤٢.

(٤) الغزالي ، المحكّ ، ص ١١.

٣٣

وعلى المتواطئة : الرجل الذي يطلق على زيد وعمرو وبكر. وعلى المشتركة : اسم المشتري على قابل عقد البيع ، والكوكب إلخ ... (١).

وإذا قارنا ما سبق مع ما ورد في المعيار ألفينا أمثلة الأخير تدور حول موضوعات تستند على الماهيّة وتسلسل الأجناس والأنواع. وهي أقرب إلى التأثر بابن سينا ، فمثله على المتواطئة : إطلاق الحيوان على الفرس والإنسان والطير. ومثال اللازم في المحكّ تلخص في : كون الأرض مخلوقة (٢) ، فمخلوقة وصف لازم للأرض ، يتّضح فيه المعنى القرآنيّ. بينما مثال اللازم في المعيار صفة ذاتيّة غير مقوّمة : الولادة للطفل.

ـ تناول الغزالي بالمحكّ علاقة الذاتيّ بالمعاني. فبدل أن يعتبره تجريدا ومقوّما كليّا للنوع والجنس اعتبره صفة بالمعنى اللغويّ. واستندنا على ذلك من خلال أمثلته التي تنحصر في اللونيّة والجسميّة ، ومن تصريحه بأن الذاتيّ يسمّى صفة النفس (٣). وقد اختلفت الحال في المعيار ، كما بيّنا في حينه.

ـ يتهرّب الإمام في المحكّ من كلّ مثال يتعلّق بالماهية الأرسطوية ، أو باندماج الأجناس والأنواع. وهو يذكر مجموعة أمثلة في المحكّ تتناول المساوي والأعمّ والأخصّ. وهي بحسب الترتيب : جسم متحيّز للمساوي. والوجود للجسم للأعمّ ، والحركة للجسم للأخص (٤). بينما اختلفت الأمثلة في المعيار في هذه الموضوعات. فكان مثال المساوي : الحيوان للحسّاس. ومثال الأعمّ : الحيوان للإنسان. ومثال الأخصّ : الإنسان إلى الحيوان (٥) وربما تخوّف في المحكّ من أن يجعل الإنسان ضمن

__________________

(١) الغزالي ، المحكّ ، ص ١٢ ـ ١٣.

(٢) المصدر نفسه ، ص ١٨.

(٣) المصدر نفسه ، ص ١٧.

(٤) المصدر نفسه ، ص ١٧.

(٥) الغزالي ، المعيار ، ص ٥٧.

٣٤

الحيوان ، فلجأ إلى الأمثلة المحسوسة الطبيعية تحت فعل البعد الدينيّ.

والملخّص من موضوع الألفاظ والمعاني في محكّ النظر ، هو تلك الاختلافات بينه وبين المعيار والتي عرضناها بإيجاز سابقا. ويؤكد كلّ ذلك الاتجاه اللغويّ الذي بدأه الغزالي في المعيار بتأثير من طبيعة اللغة. وقد تعمّق هنا في المحكّ وأخذ طابعا دينيّا فقهيّا. تجاوز حدود الالتزام بأبعاد المنطق أحيانا. ويمكن القول : إنّ الكلّي ، بوصفه عمليّة منطقيّة صوريّة تعمد إلى التجريد ، انعدم نسبيا في محكّ النظر واختفى. وربّ قائل : إنّ وروده في المقاصد والمعيار لم يكن سوى نقل. ومع جانب الصحّة في هذا لقول ، إلاّ أنّ المحك قد بلور المسألة الدينية بوضوح. وربّما اختزلت عمليّة التجريد المنطقية الشكليّة في المحكّ إلى عملية تجريد عقلية نفسيّة فقط. ويتجلّى هذا في تفسير الإمام لكيفيّة تصوّر اللونيّة والشكليّة ، فيقول : «اصطلحنا على تسميتها عقلا ، فيدرك ويقضي بقضايا ، ويدرك اللونيّة مجرّدة ، ويدرك الحيوانيّة ..» (١).

يتطرق الغزالي في موضوع الحدّ إلى أبحاث الحدّ نفسها الواردة في المعيار ، مع شيء من الاختصار وبحلّة إسلامية. ويعتبر اكتمال معرفة الحدّ عن طريق التعريف باللفظ والرسم والحدّ. ويوضح الأمر في مجموعة الأسئلة التي يطرحها والتي تجيب على كنه الحدّ ، وتنحصر في أربعة مطالب : هل ، وما ، ولم ، وأيّ. ويعتبر مطلب «ما» أهمّها ، وفيه مثال الفقه المشهور : «الخمر». ويفيدنا مطلب «ما» بثلاثة أجوبة :

ـ يعرّفنا بتمييز الاسم وشرحه ، أي بالتعرّف على حدّه اللفظيّ. فنقول : ما العقار؟ هو الخمر.

ـ ويدلّنا على مميّزات الشيء العرضيّة ، ويسمّى حدّا رسميّا. فنقول

__________________

(١) الغزالي ، المحكّ ، ص ٢١.

٣٥

الخمر هي المائع الذي يقذف بالزبد ، ثم يستحيل إلى الحموضة. ويجمع من العوارض واللوازم ما يساوي حقيقة ذات الخمر.

ـ ويجيبنا عن ماهيّة الشيء وحقيقته ، ويسمّى حدا حقيقيا ، الخمر شراب معتصر من العنب (١).

وقد ركّز الإمام على التحديد الاسميّ الخاصّ باللغة العربية في المحكّ ، وحصر مكامن الغلط في الألفاظ. كما نبّه إلى ضرورة الاحتراز من «الألفاظ الغريبة والوحشية والمجازية البعيدة والمشتركة المتردّدة» (٢).

ومن ثم يجب استعمال الألفاظ المعروفة ذات النص الصريح ، وإن اعتاص الأمر فليذكر المستعار أو لترد قرينة المصرّح من المعاني. ولم ينتقل في المحكّ ، ولا في مقدّمة المستصفى ، كما سنرى ، إلى تبنّي مفهوم الحدّ اللفظيّ طريقا يفيد التعريف بالحدّ. مع العلم أن الفقهاء ونظّار المسلمين لم يعرفوا سوى الحدّ اللفظيّ ، ولم ينادوا إلاّ بالاتجاه الاسمي (٣). ومردّ هذا رفضهم الكليّات والماهيّات الأرسطويّة ، معتبرين أنّ الحقائق والمعاني الإسلامية موضوعة ، ولا يجوز تناول معان مغايرة لها.

ويمكن القول إنّ الغزالي استمرّ في كتبه المنطقيّة القريبة من الفقه وخصوصيّة اللغة العربية بعملية المزج. فقال مثلا : «اعلم أنّ من طلب المعاني من الألفاظ ، ضاع وهلك كمن استدبر المغرب وهو يطلبه. ومن قرّر المعاني أوّلا في عقله بلا لفظ ، ثمّ أتبع المعاني الألفاظ فقد اهتدى.

فلنقرّر المعاني ، فنقول : الشيء له في الوجود أربع مراتب ، الأولى حقيقة في نفسه ، الثانية ثبوت مثال حقيقة في الذهن وهو الذي يعبّر عنه بالعلم ،

__________________

(١) الغزالي ، المحكّ ، ص ٩٢.

(٢) المصدر نفسه ، ص ٩٨.

(٣) ابن تيمية ، تقي الدين ، كتاب الرد على المنطقيّين ، بمبئي ، دائرة المعارف العثمانيّة ، ١٩٤٩ ، ص ١٤ ـ ١٥.

٣٦

الثالثة تأليف مثاله بحروف تدل عليه ... الرابعة تأليف رقوم تدرك بحاسّة البصر دالة على اللفظ وهي الكتابة .. ـ إلى أن يقول ـ إنّ الأوّلين وجودان حقيقيّان لا يختلفان بالأعصار ، والأخريان وهما اللفظ والكتابة تختلف بالأعصار والأمم .. (١).

ونلاحظ أنّه في استمراره بهذه العملية الجامعة بين الاتجاهين المنطقي والأصوليّ الاسميّ أقرّ بأن تعريف الحدّ ينال بتصوّر الماهية وبالتمييز اللفظيّ والاسمي معا ، وتعتبر الفقرة السابقة على درجة من الأهمية ، كونها تشير إلى تصريح الغزالي بوجود الحقائق العقلية الكليّة ثابتة في الذهن ، وبوجودها قائمة بذاتها. وهذان الوجودان يشملان الشعوب كافة بدون تمييز. ونتساءل كيف وفّق الإمام بين هذه المعاني الأرسطويّة وبين المعاني الإسلامية القائمة في القرآن؟ وكيف صرح بذلك في كتاب المحكّ المتميّز بالطابع الإسلاميّ؟ نرجّح أنّ ذلك كان نتيجة التطعيم وتطويع المعاني المنطقيّة لإغناء الاستدلال الأصوليّ. وأخيرا نجد أنّ موضوعات «المحكّ» الأخرى في التصوّر متوافقة مع موضوعات المعيار والمقاصد فهما وتوجها.

والحال نفسها في التصديق والقضيّة. ولم يستطع الغزالي ، ومن قبله ، الفصل بين المعنى والاسم أو بين المضمون والصورة فصلا تاما.

ومن ثم تقع القضيّة في كتاب محكّ النظر بالفصل الثالث من فنّ السوابق ، وتضم أربعة تفصيلات على الشكل التالي :

ـ التفصيل الأوّل : انقسام القضيّة إلى التخصيص والعموم والتعيين والإهمال.

ـ التفصيل الثاني : انقسام القضيّة إلى ثلاثة : الإمكان والوجود والاستحالة.

ـ التفصيل الثالث : بيان نقيض القضيّة وأحكامها.

__________________

(١) الغزالي ، المحكّ ، ص ١٠٨ ـ ١٠٩.

٣٧

ـ التفصيل الرابع : بيان عكس القضيّة.

يتبيّن اختلاف التركيب الشكلي والتبويب جزئيا عن المعيار والمقاصد. لكنّ الأبحاث المنطقيّة التي تناولت القضيّة في المحكّ بمضمونها وموضوعاتها لم تبتعد تماما عن أبحاث القضيّة في الكتابين السابقين. ويتباين المضمون هنا في جانب التركيب البنيويّ للمصطلحات والتعابير والغرض والتوجّه. فإذا كان الكتابان السابقان قد تأثرا بابن سينا تأثرا واضحا ، فإن المحكّ يميل نحو المعاني الإسلامية والفقهيّة ميلا محضا. وتنقلب تعابيره وأمثلته مشكّلة أغراضا جديدة كما سنرى ، من دون الخروج على أطر المنطق الأساسية. وأشار الغزالي في نهاية المحكّ إلى العودة للمعيار ولمن يرغب في التفصيل والشرح. قائلا : «هذا الكتاب مع صغر حجمه حرّكت به أصولا عظيمة ، إن أمعنت في تفهّم الكتاب تشوقت إلى مزيد إيضاح في بعض ما أجملته واشتغلت لحكم الحال عن تفصيله ، وذلك التفصيل قد أودعت بعضه كتاب معيار العلم ...» (١) وتدل هذه الإشارة على وحدة المسألة المنطقيّة في خلفيّة الإمام من دون أن يعني ذلك عدم وجود التباين بين المحكّ والمعيار. ويعمل الغزالي بالرغم من هذا التباين على ربط المحكّ بالمعيار ، استمرارا في تطعيم المنطق بالتفكير الإسلاميّ ، وخصوصا في المحكّ ومقدّمة المستصفى.

وقد جعل مبحث القضيّة في المحكّ قالبا إسلاميا من دون أن يتخلّى عن مضامينها المنطقيّة. إذ يبدأ الفصل على نمط ما جاء في الكتب سابقا ، فيستعمل عدّة مصطلحات للتعبير عن عناصر القضيّة ، قائلا : «أحكام السوابق المعاني المؤلّفة تأليفا يتطرّق إليه التصديق والتكذيب ، كقولنا مثلا : العالم حادث والباري تعالى قديم. فإنّ هذا يرجع إلى تأليف القوّة المفكّرة بين معرفتين ، لذاتين مفردتين ونسبة أحدهما إلى الآخر بالإثبات.

__________________

(١) الغزالي ، المحكّ ، ص ١٣٣.

٣٨

فإن قلت العالم ليس بقديم ، والباري ليس بحادث ، كانت النسبة نسبة النفي. وقد التئم هذا القول من جزءين. يسمي النحويون أحدهما مبتدأ والآخر خبرا. ويسمي المتكلمون أحدهما موضوعا والآخر صفة. ويسمّي الفقهاء أحدهما حكما والآخر محكوما عليه. ويسمي المنطقيون أحدهما موضوعا وهو المخبر عنه والآخر محموله وهو الخبر. ونصطلح نحن على تسمية الفقهاء ، فنسميها حكما ومحكوما عليه. ولنسمّ مجموع الحكم والمحكوم عليه قضيّة ...» (١) ولم تكن الفقرة السابقة عرضا لمصطلحات تركيب القضيّة فحسب ، بل كانت طرحا جديدا وتبنّيا لعبارات بما تحمل من خلفيّة فقهيّة. فنرى الإمام ينتقل بالمحكّ إلى تداول الحكم والمحكوم عليه عوضا عن الخبر والمخبر عنه في المعيار ، أو بدلا عن الموضوع والمحمول. وقد استخدم الحكم والمحكوم عليه في مقدّمة المستصفى كما سنرى. والمحكوم اسم مفعول من حكم ، أطلق حكما مرادا منعه عن التبديل والتغيير والتخصيص (٢). ويلعب المحكوم عليه دور الموضوع في القضيّة المنطقيّة. ويستعمل اللفظ في الشرعيات ، «وأثر الخطاب المترتّب على الأفعال الشرعيّة ... كلّ ذلك محكوم اللّه تعالى ثبت بحكمه وإيجاده وتكوينه ، وإنّما سمّي حكم اللّه على لسان الفقهاء ...» (٣) ويعني الحكم أيضا القضيّة ككلّ. فنقول حكمنا أنّ كلّ خمر مسكرة. وقصد الغزالي بالحكم في المحكّ ومقدّمة المستصفى ما يحمل على المحكوم عليه.

ويطلق تعبير الحكم في الشرعيّات ، لأنّه : «عبارة عن حكم اللّه تعالى المتعلّق بأفعال المكلّفين» (٤) فأفعال المكلّفين هي المحكوم عليه. وكلمة حكم في اللغة هي : «الصرف والمنع للإصلاح ... ومن قوله تعالى أُحْكِمَتْ آيٰاتُهُ أي منعت وحفظت عن الغلط والكذب والباطل والخطأ

__________________

(١) المصدر نفسه ، ص ٢٣.

(٢) الجرجاني ، التعريفات ، ص ١٣٩.

(٣) الكفوي ، الكليّات ، ص ١٥٧.

(٤) الجرجاني ، التعريفات ، ص ٦٤.

٣٩

والتناقض ... وفي اصطلاح أصحاب الأصول خطاب اللّه المتعلّق بأفعال المكلّفين بالاقتصاد أو التخيير ...» (١) فثمّة علاقة بين الحكم والحكمة في طبيعتها الدينيّة.

ويتبادر من هذه التعريفات اتفاقها على دور الحكم : إنّه إسناد أمر إلى آخر. لكن يختلف الغرض والمضمون أصوليّا أو فقهيّا أو لغويّا. فعملية الحمل هي ربط حدّ بآخر أو مفهوم بمفهوم آخر. والحكم أيضا يسند معنى أو مفهوما إلى آخر ، بغرضيّة القطع والبت والتقويم والحفظ. ويأخذ معنى الحكم خلفيّة دينيّة ، فيدور حول طبيعة الأمر والمأمور ، ومفهوم الواجب والتكليف. وذكر الجرجاني أنّ الحكم هو إسناد المحمول إلى الموضوع (٢) وسنوفي الحكم بمعناه الحديث شرحا لاحقا. إنّما تبقى جذور اللفظة لغويّا والعادة في استعمالها شرعيّا ، هي الأقوى والأعرف. وملخّص الرأي بأنّ لكل مصطلح تفسيرا ودورا إجرائيا وظرف استعمال يختلف عن الآخر. إلا أنّ الواضح هنا تبنّي الغزالي للاصطلاح بقصد مزج المنطق بعلوم المسلمين مزجا كليا ، وتفسير قواعده بعد تمثّلها بالعقليّة الإسلاميّة وانطباعه بنمط تفكيرها.

يتناول الغزالي القضيّة فيقسّمها إلى قضيّة في عين ، وقضيّة مطلقة خاصّة ، وقضيّة مطلقة عامة ، وقضيّة مهملة (٣). ويقابل القضيّة المعيّنة أو القضيّة في عين : القضيّة الشخصيّة في المعيار. ويماثل المطلقة الخاصّة : الجزئيّة. والمطلقة العامّة : الكليّة. ولم تختلف الشروح المنطقيّة في المحكّ عن المعيار. فالذي يحدد الخاصّ أو العامّ في القضيّة هو السور الذي يبيّن مقدار الكمّ ٤. وذكرنا من قبل في مبحث الحدّ بالمحكّ تعريفا

__________________

(١) الكفوي ، الكليّات ، ص ١٥٧.

(٢) الجرجاني ، التعريفات ، ص ٢٤.

(٣) الغزالي ، المحكّ ، ص ٢٤.

(٤) المصدر نفسه ، ص ٢٤.

٤٠