السيد محمد بن أبي طالب الحسيني الكركي الحائري
المحقق: فارس حسّون كريم
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الطبعة: ١
ISBN: 964-6289-11-8
الصفحات: ٥٦٧
الرحمن ، وهم وإن لم ينصبوا الأنصاب جهرة ولم يتّخذوا الأصنام آلهة فقد أحدثوا من الفساد في البلاد ، والعدوان على العباد ، والظلم لآل الرسول والهضم لذرية البتول ، ما نقضوا عبادة الأوثان عن عشر عشيره ، ويختفر بعظيم الأنداد في جنب حقيره ، من ظلم سادتهم وامرائهم ، ومن قرن الله ذكره بذكرهم ، فقتلوهم في محاريب صلواتهم ، وخذلوهم في حروبهم وغزواتهم ، وأرهفوهم برحى سمومهم ، ولم يراقبوا الله في هديهم وفديتهم ، وشنّوا عليهم غاراتهم ، ونصبوا العداوة لأحفادهم وذرّيّاتهم.
فانظر إلى صاحب المحنة العظيمة ، والواقعة الجسيمة والمصيبة الّتي أنفدت بتراكمها ماء الشؤون ، وقرحت بتفاقمها الآماق والجفون ، مصيبة أشرف الثقلين ، وسبط سيّد الكونين ، وابن صاحب بدر واحد وحنين ، أبي عبد الله الحسين ، كاتبوه وراسلوه ووعدوه وعاهدوه ، حتّى إذا انقطعت معذرته بظنة وجود الناصر ، ولزمه القيام بأمر الله في الظاهر ، خذلوه وأسلموه ، وجحدوه وقتلوه ، وسقوه من غروب سيوفهم كؤوس الحمام ، وسودوا بقتله وقتل ولده وجه الاسلام.
فياعيوني لمصيبتة بعبرتي لا تبخلي ، ويا كربتي لرزيّته عن حشاشتي لا تنجلي ، ويا حرقتي لما ناله لا تخمدي ويا زفرتي لمصرعه من التراقي تصاعدي ، ألغيره أذخر حزني وبكائي؟ أم على سواه أصف وجدي وبلوائي؟ أم على هالك بعده أنثر جواهر نثري؟ أم على قانت غيره أسمط بالمراثي شعري؟
يهيج في وجدي إذا ذكرت غربته ، وتضطرب أحشائي وقلبي إذا تصورت محبّته ، وتذكو آثار الأسى في جوانحي بفضيع مصرعه ، وينحلّ قلبي
بصبري ويجود طرفي بمدمعه ، إذا مثّلت شيبه بدمائه مخضوباً ، وكريمه على القناة منصوباً ، ونساءه على الأقتاب حيارى ، وأبناءه في الأصفاد اُسارى ، وشلوه على الرمضاء طريحاً ، وطفله بسهام الأعداء ذبيحاً ، وثقلة نهيباً ، ورداءه سليباً ، وجبينه تريباً ، ويومه عصيباً ، وجسده بسهام البغاة صريعاً ، وثغره بقضيب الطغاة قريعاً ، ذكت بثوران الأسى في أضلعي ، وأغرقتني بفيضها أدمعي ، ونفى ذكره عن عيني رقادي ، وأطال حزني ليلي بسهادي.
فها أنذا لواقعته حليف الأحزان ، أليف الأشجان ، قريح الأجفان ، جريح الجنان ، أقطع ليلي بالتأسف والأنين ، ونهاري بالتأوّه والحنين ، وأوقاتي بإهداء تحيّاتي وصلواتي إليه ، وساعاتي بلعن من اجترى بكفره عليه ، ويروي لساني عن جناني ، وبناني عن إيماني ، غرراً من بدائع نثري ونظمي ، ودرراً من تواضع حكمي وفهمي ، اُشنّف بها المسامع ، واُشرّف المجامع ، واُسيل بتردادها المدامع ، وأشجي بإنشادها الطبائع ، وأقمع بها هامة الكفور الجاحد وأقطع دابر الكنود الحاسد ، وأبوح بسري في شعري ، وأنوح ودمعي من طرفي يجري ، وأقول وفؤادي بنار حزني يتأجج ، ولساني من شدّة نحيبي يتلجلج :
حـزن قلبي وهيـامي |
|
ونحولــي وسقـامي |
لا على عيش تقضّى |
|
لم أنل منـه مرامـي |
لا ولا مـن فقــد آلا |
|
ف تناءوا عـن مقامي |
بل لقوم من بني المخـ |
|
ـتار سادات كــرام |
من أبوهم صاحب الكو |
|
ثر فيب يوم القيــام |
والذيـــن امهـم ذو |
|
شرف في المجد سامي |
أصبحوا في كربلا مـا |
|
بين مقتول وظــامي |
في صعيد الطفّ قد جر |
|
ع كاسات الحمــام |
من نجيع النحـر
يسقى |
|
صـــدراً بعـد
الاوام |
ونســاء حـاسـراتٍ |
|
غاب عنهنّ المحـامي |
عترة المختار خير الـ |
|
ـناس من خاصٍّ وعامي |
لهـف قلـبي لشهيـد |
|
ضــل مخفور الذمـام |
حـر صـدري لإمـامٍ |
|
طــاهر وابن إمــام |
جسمه غودر ضمنــاً |
|
بسيـــوف وسهــام |
طول حزني لتريب الـ |
|
ـخدّ منــه النحردامي |
رأسه مـن فوق رمـح |
|
مخجل بــدر التمــام |
وبنات المصطفى شبـ |
|
ـه اُسـارى نجل حامي |
فكذا قلبـي وطرفي |
|
في احتـراق وانسحـام |
وكذا عن مقلتي حز |
|
ني نفى طيب منامي |
فاصطباري في انتقاض |
|
وجوابي فـي تمامي |
وإذا فكّرت فيمــا |
|
قد جرى زاد هيامي |
حــاسرات يتسترّ |
|
ن بــأطراف الكمام |
ويســاقون بـلا رفـ |
|
ـق إلى شرّ الأنام |
يا بني المختار ما حلـ |
|
ـل بكم يذكي ضـرامي |
وبعـــاشور يزيد الـ |
|
ـحزن لي في كلّ عام |
واســح الدمع من طر |
|
ف لفرط الحزن دامي |
ثمرات نثرهــا كالـ |
|
ـدرّ في سلك النظــام |
يزدريها الناصب الها |
|
ئم فـي تيـه الظلام |
وإليها المؤمـن المخـ |
|
ـلص يصغـي باحتشام |
واحتــراق وزفيــر |
|
من فؤاد مستهام |
يـا بني طـه مـن صفا |
|
كـم مـــن كلّ دامي |
حبّكـم غذّى بـه قـلـ |
|
ـبي ومخـي وعظامي |
قد اُضيعت حرمة المخـ |
|
ـتار في الشهر الحرام |
حين أصبحتـم لقـا بيـ |
|
ـن الروابــي والآكام |
بكت السبــع عليـكم |
|
بدماءٍ كــالغمـام |
إن يكـن فـاتكم نصـ |
|
ـري برمحي وحسامي |
فلكم أنصـر بـالحجـ |
|
ـجة فـي كـلّ مـقام |
ولمن نــاواكــم ارد |
|
ي بكم مـن كلامــي |
اهشم الهــامات من آ |
|
ل وليــد وهشــام |
وزياد وابـن سعـــد |
|
وبني حرب اللئـــام |
وكذا افلق قحــف ابـ |
|
ـن قحاف بملامــي |
وابن خطاب ومـن يتـ |
|
ـلوه مــن بخل اللئام |
وكـذا مــن قــادت |
|
الفتنة تعبــأ بالـرمام |
وأتت في جحـفلٍ تهـ |
|
ـوي من البيت الحرام |
وعلى أشياعهــم لعنـ |
|
ـي اُوالــي بـدوام |
من حجازي وبصـري |
|
ي وكوفيّ وشــامي |
وبهذا أرتـجي مــن |
|
خالقـي يـوم قيـامي |
محشراً في ضمن قـوم |
|
هم معاذي واعتصامـي |
أهل أركـان وبيــت |
|
وحطيــم ومقـــام |
بولاهم يقبــل اللـ |
|
ـه صلاتي وصيـامي |
وعليهــم صلــوات |
|
ناميــات بســلامي |
ما شدت في الايك ورق |
|
ساجعــات بغــرام |
المجلس السادس
في ذكر مقامات أذكر فيها ما تمّ على الحسين عليه
السلام بعد موت معاوية عليه اللعنة والعذاب ، وذكر
ولاية يزيد عليه من الله ما يستحق من العذاب
المهين أبد الآبدين إلى يوم الدين ، وغير ذلك من
رسائل صدرت إليه عليهالسلام من مواليه
ومخالفيه ، وما أجاب عنها ، صلوات الله وسلامه
عليه ، وعلى آبائه الطاهرين ، وأبنائه المنتجبين.
الخطبة
الحمد لله الّذي جعل البلاء موكّلاً بأنبيائه وأوليائه ، والابتلاء وسيلة لهم إلى اجتبائه واصطفائه ، وكلفهم ببذل الأرواح في جهاد أعدائه ، وشرى منهم الأنفس والأموال بنعيمه الباقي ببقائه ، وربحت تجارتهم لما أوقعوا عقد بيعة ربّهم ، وفازت صفقتهم لما حازوا من الزلفى بقربهم ، وشمّروا عن ساق في سوق عباده إلى طاعته ، وكشفوا عن ساعد الاستنقاذ أنامه من ورطة معصيته ، وتلقوا حر الصفاح بوجوههم وأجسادهم ، وصبروا على مضّ الجراح لاستخلاص الهلكى وإرشادهم ، فأغرى الشيطان سفهاءهم ، وحمل أولياءه على حربهم ،
فركبوا الصعب والذلول في قتالهم ، وخالفوا نص الرسول بكفرهم وضلالهم وقصدوهم في أنفسهم وأموالهم ، وحاربوهم بخيلهم ورجالهم ، فاستشعروا لباس الصبر الجميل طلباً للثواب الجزيل ، وباعوا النزر القليل بالباقي الجليل ، وجاهدوا الفجرة بجدّهم وجهدهم ، وحاربوا الكفرة بذاتهم وولدهم ، وتبرّموا بالحياة في دولة الظّالمين ، واستطابوا الممات لغلبة الضالين ، وامتثلوا أمر الله بعزائم أبية ، وانوف حمية ، واصول نبوية ، وفروع علوية ، وأرواح روحانية ، وأنفس قدسية ، وقلوب على تقوى الله جبلت ، وبالحق قضت وعدلت.
عرجت أرواحها إلى المحلّ الأسنى ، ورقت نفوسها إلى الملكوت الأعلى ، فشاهدت بأبصار بصائرها منازل الشهداء في جنّة المأوى ، ولاحظت بأفكار ضمائرها ما اعد للمجاهدين في سبيله في دار الجزاء ، فآثرت الآخرة على الاولى ، وما يبقى على ما يفنى.
فيا من يخطّىء صوابهم ، ويستحب عتابهم ، ويستعذب ملامهم ، ويسفّه أحلامهم ، ويتلو بنية فاسدة مشتركة : ( وَلَا تُلقُوا بِأيـدِيكُم إلَى التَّهلُـكَةِ ) (١) ، جهلاً منه بمواقع التنزيل ، وغيّاً عن مواضع التأويل ، تبت يدك ، وفلَّ جدّك ، لقد نافقت بإسلامك ، وأخطأت عن مرامك ، وعشى عن ضوء شمس الحق إنسان عينك ، واستولى الشك على مشوب يقينك ، أتعلم من أنزل في بيوتهم ، وورد الذكر في صفاتهم ونعوتهم ، وفخر جبريل يوم العبا بصحبتهم ، واُنزلت سورة « هل أتى » في مدحتهم؟
يا ويلك أتورد حجتك ، وتوّرك شبهتك ، على قوم الدنيا في أعينهم أقلّ من كلّ قليل ، وعزيزها لديهم أذل من كلّ ذليل؟ علمهم لدني ، وكشفهم
__________________
١ ـ سورة البقرة : ١٩٥.
رحمانيّ ، أطلعهم سبحانه على مصون سره ، وقلّدهم ولاية أمره في برّه وبحره ، وسهله ووعره ، فهم الوسائل إليه ، والأدلاء عليه ، قصرت الأفهام عن إدراك جلالهم ، وحصرت الأوهام عن تصور كمالهم ، فاقوا الخضر في علم الباطن والظاهر ، وفاتوا الحصر بالدليل القاطع والمعجز الباهر ، فالخليل يفخر باُبوّتهم ، والكليم يقصر عن رتبتهم ، والمسيح باسمائهم يبرىء الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله ، والروح الأمين يتنزّل عليهم في منازلهم بأمر الله.
لما علموا أنّ الحياة الفانية مبالغة لهم عن حصول مطلوبهم ، قاطعة عن الوصول إلى محبوبهم ، حاجبة عن منازل قربهم ، حاجزة عن جوار ربّهم ، قطعوا العلائق للاتصال بالمحل الأسنى ، وخلعوا لباس العيش الدني الاولى ، وتلقوا بوجههم الصفاح والرماح ، وصبروا بشدة عزمهم على مضّ الجراح ، تشوفاً إلى الاتصال بمنازل القبول والرضوان ، وتشوقاً إلى الاستظلال بأظلة تلك العواطف والامتنان ، وبذلوا أنفسهم فنالوا فضلها ، وكانوا أحقّ بها وأهلها ، وكان أعظم من أطاع الله منهم بجدّه وجهده ، وأخلص لله ببذل نفسه وولده ، وأراد أن تكون كلمة الله العليا ، وكلمة الّذين كفروا السفلى ، وسبب الله الأقوى ، ودينه الأعلى ، إمام الاُمّة ، وأب الأئمّة ، ومنبع الحكمة ، ومجمع العصمة ، صاحب الأصل السامي ، والفرع النامي ، والمجاهد المحامي ، معاذي وملاذي يوم حشري وقيامي ، وحياتي ومماتي وارتحالي ومقامي ، والأوّاه الحليم ، الجواد الكريم ، صاحب المصيبة العامّة ، والرزيّة الطامّة ، والواقعة الكبرى ، والمحنة العظمى ، قتيل العبرة وصريع الفجرة ، وسليل البررة ، وسراج العترة ، وطاهر الاسرة.
النبوّة أصله ، والامامة نسله ، خاتم أصحاب الكساء ، ابن خير الرجال وخير النساء ، جدّه النبيّ ، وأبوه الوصيّ ، واُمّه الزهراء ومغرسه البطحاء ، طار
بقوادم الشرف وخوافيه ، وتعالى في سماء الكرم بمعاليه ، أشرف خلق الله ، وأفضل شهيد في الله ، الباذل ذاته في الله ، البائع نفسه من الله ، القائم بأمر الله ، الصادع بحكم الله ، المخلص بجهاده في الله ، الموفي بما عاهد عليه الله.
كتف الرسول مركبه ، وثدي البتول مشربه ، كلّ شرف لشرفه يخضع ، وكل مجد لمجده يصرع ، وكل مؤمن له ولأبيه وجده يتبع ، وكل منافق عن سبيله وسبيل آله يتكعكع ، لا يقبل الله إيمان امرىء إلا بولائه ، ولا يزكّي عمل عامل إلا باتباعه ، ولا يدخل الجنّة إلا مستمسكاً بحبله ، ولا يصلى النّار إلا منكراً لفضله ، أطول خلق في المجد باعاً وذراعاً ، وأشرف رهط في الفخر ذرّيّة وأشياعاً ، جدّه عليّ ، وجدّه نبيّ ، وأبوه وليّ ، وولده أطهار ، ونجله أبرار.
المجاهد الصبور ، الحامد الشكور ، منبع الأئمّة ، وسراج الاُمّة ، أطهر الأنام أصلا ، وأظهرهم فضلاً ، وأزكاهم فعلاً ، وأتقاهم نجلاً ، وأنداهم كفاً ، وأعلاهم وصفاً ، وأشرفهم رهطاً ، وأقومهم قسطاً ، سؤدده فاخر ، ومعدنه طاهر ، لا يقذع صفاته ، ولا تغمز قناته ، ولايدرك ثناؤه ، ولا يحصى نعماؤه ، كم أغنى ببره عائلاً؟ وكم آثر بقوته سائلاً؟ أفخر أسباط الانبياء ، وأفضل أولاد الأولياء ، محيي الليل بركوعه وسجوده ، ومجاري السيل بنائله وجوده ، واقوى من بذل في الله غاية مجهوده ، وأسمى من استأثر من العلى بطارفه وتليده.
إمام المشرقين والمغربين ، ونتيجة القمرين ، بل الشمسي ، وابن مجلي الكربين ، عن وجه سيّد الكونين ، في بدر وحنين ، ومصلي القبلتين ، وصاحب الهجرتين ، سيّدنا ومولانا أبا عبد الله الحسين ، عليه تحيّاتي بتوالي صلواتي تتلى ، وفي فضله تروى قصائدي ، وبذكره تنجح مقاصدي ، وبسببه تتّصل أسبابي ، وفي حضرته محطّ ركابي ، ولرزيته تتصاعد زفراتي ، ولمصيبته تتقاطر
عبراتي ، ولواقعته تستهلّ شؤوني ، ولقتله لا تبخل بدمعها عيوني.
فها أنذا أنشد من قلب جريح ، وأروي عن طرف قريح :
ولّى الشبـاب فقلبي فيه حسـرات |
|
وفي حشـاي لفرط الحزن حرقاتُ |
وحين ولّى شبابي وانقضى عمري |
|
حلت بجسمي لفرط الضعـف آفاتُ |
في كلّ يوم يزيد الوهن في جسدي |
|
وتعترينـي من الأسقـام فتـراتُ |
وابيض فودي ولكن سودّت صحفي |
|
كبـائر صـدرت عنــي وزلّاتُ |
إذا تذكرتها أذكـت رسيـس جوى |
|
في مهجتي وجرت في الخدّ عبرات |
كم ليلـة بـتَّ أحسبهـا بمـوبقة |
|
تذكو لتذكارها فـي القلب جمراتُ |
كأن ما كان من شرح الشباب ومن |
|
لذات عيـش مضـت إلا مناماتُ |
أعملـت فكري فـي قوم صحبتهم |
|
لم يبق مـن أثرهـم إلا الروايات |
سألـت ربعهـم عنّي فجــاوبني |
|
من الصدى كلّ مـن ناديتَهم ماتوا |
يذيـب تذكـارهـم قلـبي ويجعلـه |
|
دمعـاً يصـاعده وجـد وزفراتُ |
سبعون عاماً تقضّت صرت أحصرها |
|
في عدها لفناء عمـري علامـاتُ |
لـم أستفد صالحـاً فيهـا ولا علقت |
|
يدي بما فيه لي في الحشر منجاتُ |
سوى اعتصامي بمن في مدحهم نزلت |
|
مـن المهيمـن في التنزيل آياتُ |
في سورة الدهر والأحـزاب فضلهم |
|
مقامهـم قصـرت عنه المقاماتُ |
وفي العقود مـن المجـد الرفيع لهم |
|
عقود مـدح لهـا فيهـم إشاراتُ |
ليوث حرب إذا نيـرانها اضطرمت |
|
غيوث جـدب إذا مـا عمّ أزماتُ |
مطهّرون من الأرجـاس إن وصفوا |
|
منزّهون عـن الأدنـاس ساداتُ |
هم المصـابيح فـي جنح الدجا فلهم |
|
فيـه مـن الله بالاخلاص حالاتُ |
هـم البحـار إذ وازنـت فضلهـم |
|
بهـا فعلمهــم فيــه زيـاداتُ |
باعـوا مـن الله أرواحـاً مطهّـرة |
|
أثمانهـا مـن جـوار الله جنّاتُ |
يطـاف منهـا عليهم فـي منـازلهم |
|
من الرحيق بأيدي الحور كاساتُ |
نـاداهـم الله بـالتعظيـم إذ لـهم |
|
أرواح صدق سميعات مطيعـاتُ |
أن ابذلــوا أنفسـاً في طاعتي فلكم |
|
ببذلها في جنان الخلد روضـاتُ |
أجاب منهـم لسـان الحـال ان لنا |
|
رضاك روح وريحان وراحـاتُ |
الخلــد والجنـة العليـا ولذتهــا |
|
في جنب حبك إيانا حقيــراتُ |
أنت المــراد وأنت السؤل قد صدقت |
|
منا لأمرك في الدنيا العزيمـاتُ |
هذا الحسيــن الّذي وفّى ببيعته |
|
لله صدقاً فوافته السعـــادات |
نال المعـــالي ببـذل النفس مجتهداً |
|
لم تثنه من بني الدنيا خيـالاتُ |
إن قيل في الناس من أعلى الورى نسباً |
|
أومت إليه اُصول هاشميـّـاتُ |
أعلى الورى حسبــاً أقواهم سببـاً |
|
أزكاهم نسباً ما فيه شبهــاتُ |
الجدّ أكرم مبعــوث ووالـده |
|
في الله كم كشفت منه ملمّـاتُ |
حزني لمـا نالـه لا ينقضي فــإذا |
|
ذكرته هـاج بي للوجد حسراتُ |
وينثني الطرف منّي والحشا لهمــا |
|
في الخد والقلب عبرات وحرقاتُ |
لم أنسه في صعيد الطفّ مُنعفــراً |
|
قد أثخنته مــن القوم الجراحاتُ |
يشكوا الاوام ويستسقي وليس لعصـ |
|
ـبة به أحدقت فـي الله رغباتُ |
لهفي عليه تريب الخد قد قطعـت |
|
أوصاله من أكف القوم شفـراتُ |
أردوه في الترب تعفوه الرياح له |
|
من الدماء سرابيل وخلعـــاتُ |
وصيروا رأسه مــن فوق ذابلهـم |
|
كبدر تمّ به تجلـى الدجنــاتُ |
وسيدات نساء العالميــن لها |
|
فوق الرحـال لفرط الحزن أنّاتُ |
تساق والصدر فيه مـن تألّمها |
|
عقود دمع لهـا في الخد حبـّاتُ |
يسترن منهن بالأيدي الوجـوه وفي |
|
قلوبهن مـن التبريـح جمـراتُ |
يندبن من كان كهف العائذيـن ومن |
|
في كفه لذوي الحاجـات نعمـاتُ |
أو في الأنـام فتـى وفـي ببيعته |
|
وخير من ربحت منه التجـاراتُ |
مـن عرقت فيـه أصلاب مطهّرة |
|
من كلّ رجس وأرحـام زكيـّاتُ |
وامهات وآباء علــت شرفــاً |
|
على السمـاك وأجداد وجــدّاتُ |
إن عد علم وحكم كـان فيه لهـم |
|
بالخطب والحرب آراءٌ ورايـاتُ |
في حبهـم قدمـي مـا ان لثابتها |
|
حتى اضطجاعي في لحدي مزلّاتُ |
أبكي لخطبهـم بدل الدموع دمـاً |
|
كأنّني لعظيــم الـحزن مـقلاة |
إذا ذكرت ابن بنت المصطفى وبه |
|
قد أحدقت مـن جنود البغي ثلّاتُ |
وصار فيهم وحيداً لا نصيـر لـه |
|
منهم ولا من له في الخير عاداتُ |
قوم بغاة شروا دين الضلالة بالـ |
|
ـهدى فخابت لهم للخسر صفقاتُ |
فيا عيوني أذرفي حزناً عليه لكي |
|
تطفي سعيراً لها في القلب لدغاتُ |
إذا خبت زادها منّي رسيس جوىً |
|
يذيب ناحل جسمي منه نفحــاتُ |
يا للرجال أمّا للحقّ مـن عصب |
|
لهــا وفـاء وآنـاف حميـّاتُ |
تذب عن أهل بيت للأنـام هـم |
|
نور به تنجلي عنهـم مغمـّـاتُ |
قوم لهم نسب كالشمس في شرف |
|
تزينـه أوجــه منهـم نقيّـاتُ |
البذل شيمتهم والمجـد همّتهـم |
|
والذكر فيـه لهـم فضل ومِدحاتُ |
البيت يزهو إذا طافوا بـه ولهم |
|
مجد به شرّفـت منهـم بيوتـاتُ |
أخنى الزمان عليهم فانثنى وهم |
|
في كربلا لسيوف البغي طعمـاتُ |
اُولي رؤوس وأطراف مقطّعـة |
|
تُقرأ عليها مــن الله التحيـّـات |
نفسي الفدا لهم صرعى جسومهم |
|
تسفي عليها من الأعصاب قتراتُ |
أرواحها فارقت أجسادها فلهـا |
|
بذاك في دار عفـوا الله غرفـاتُ |
حزني لنسوته حسرى مهتّكــة |
|
إلى يزيد بها تسـري الحمـولاتُ |
اُولي وجوه لحرّ الشمس ضاحية |
|
ما آن لها من هجير القيظ ستراتُ |
حتى إذا دخلـوا شـر البلاد على |
|
شرّ العبـاد بدت منـه المسـرّاتُ |
وعاده عيــد أفـراح بمقدمهـم |
|
عليه أسرى ووافتـه البشــاراتُ |
فأظهر الكفـر والإلحـاد حينئـذ |
|
بقوله ليت أشياخــي الاُولى فاتوا |
في يوم بدر رأوا فعلي وما كسبت |
|
يدي لطابت لهم بالصفو أوقــاتُ |
ولا استهلوا وقالوا يا يزيـد لقـد |
|
بك انجلت من غموم الحزن كرباتُ (١) |
[ وذكر الامام أحمد بن أعثم الكوفي انّ معاوية لما حجّ حجّته الأخيرة ارتحل من مكّة ، فلمّا صار بالابواء ونزلها قام في جوف الليل لقضاء حاجته ، فاطلع في بئر الأبواء ، فلمّا اطّلع فيها اقشعرّ جلده وأصابته اللقوة في وجهه ، فأصبح وهو لما به مغموم ، فدخل عليه الناس يعودونه ، فدعوا له وخرجوا من عنده ، وجعل معاوية يبكي لما قد نزل به.
فقال له مروان بن الحكم : أجزعت يا أمير المؤمنين؟
فقال : لا يا مروان ، ولكنّي ذكرت ما كنت عنه عزوفاً ، ثمّ إنّي بكيت في إحني ، وما يظهر للناس منّي ، فأخاف أن يكون عقوبة عجلت لي لما كان من دفعي حقّ عليّ بن ابي طالب عليهالسلام ، وما فعلت بحجر بن عديّ وأصحابه ، ولولا هواي من يزيد لأبصرت رشدي ، وعرفت قصدي.
__________________
١ ـ سقط من الأصل ـ ما بعد هذا ـ مقدار صفحة واحدة أو صفحتين ، ولعلّ القصيدة لم تنته بعد.
قال : ولمّا أخذ البيعة ليزيد أقبل عليه فقال : يا بنيّ ، اخبرني الآن ما أنت صانع في هذه الاُمّة ، أتسير فيهم بسيرة أبي بكر الصدّيق الّذي قاتل أهل الردة ، وقاتل في سبيل الله حتّى مضى والناس عنه راضون؟
فقال : يا أمير المؤمنين ، إنّي لا اطيق أن أسير بسيرة أبي بكر ، ولكن آخذهم بكتاب الله وسنّة رسوله.
فقال : يا بنيّ ، أتسير فيهم بسيرة عمر بن الخطّاب الّذي مصرّ الأمصار ، وفتح الديار ، وجنّد الأجناد ، وفرض الفروض ، ودوّن الدواوين ، وجبى الفيء ، وجاهد في سبيل الله حتّى مضى والناس عنه راضون؟
فقال يزيد : لا أدري ما صنع عمر ، ولكن آخذ الناس بكتاب الله والسنة.
فقال معاوية : يا بنيّ ، أفتسير فيهم بسيرة ابن عمّك عثمان بن عفّان الّذي أكلها في حياته ، وورثها بعد مماته ، واستعمل أقاربه؟
فقال يزيد : قد أخبرتك يا أمير المؤمنين ، إن الكتاب بيني وبين هذه الاُمّة به آخذهم وعليه أقتلهم.
قال : فتنفس معاوية الصعداء وقال : إنّي من أجلك آثرت الدنيا على الآخرة ، ودفعت حقّ عليّ بن ابي طالب ، وحملت الوزر على ظهري ، وإنّي لخائف انّك لا تقبل وصيّتي فتقتل خيار قومك ، ثمّ تغزو حرم ربّك فتقتلهم بغير حقّ ، ثمّ يأتي الموت بغتة ، فلا دنيا أصبت ، ولا آخرة أدركت.
يا بنيّ ، إنّي جعلت هذا الملك مطعماً لك ولولدك من بعدك ، وإنّي موصيك بوصية فاقبلها فإنّك تحمد عاقبتها ، وإنّك بحمد الله صارم حازم ؛ انظر ان تثب
على أعدائك كوثوب الهزبر البطل ، ولا تجبن كجبن الضعيف النكل ، فإنّي قد كفيتك الحل والترحال ، وجوامع الكلم والمنطق ، ونهاية البلاغة ، ورفع المؤنة ، وسهولة الحفظ ، ولقد وطأت لك يا بنيّ البلاد ، وذللت لك رقاب العرب الصعاب ، واقمت لك المنار ، وسهلت لك السبل ، وجمعت لك اللجين والعقيان ، فعليك يا بنيّ من الاُمور بما قرب مأخذه ، وسهل مطلبه ، وذر عنك ما اعتاص عليك.
وأعلم ـ يا بنيّ ـ ان سياسة الخلافة لا تتم إلا بثلاث : بقلب واسع ، وكفّ بسيط ، وخلق رحيب ، وثلاث اُخر : علم ظاهر ، وخلق طاهر ، ووجه طلق ، ثمّ تردف ذلك بعشر اُخر : بالصبر ، والأناة والتودّد ، والوقار ، والسكينة ، والرزانة ، والمروءة الظاهرة ، والشجاعة ، والسخاء ، والاحتمال للرعية بما تحب وتكره.
ولقد علمت ـ يا بنيّ! ـ أنّي قد كنت في أمرٍ الخلافة جائعاً شبعان ، بشماً شهوان ، اُصبح عليها جزعاً ، واُمسي هلعاً ، حتّى أعطاني الناس ثمرة قلوبهم وبادروا إلى طاعتي ، فادخل ـ يا بنيّ ـ من هذه الدنيا في حلالها ، واخرج من حرامها ، وانصف الرعية ، واقسم فيهم بالسويّة.
واعلم ـ يا بنيّ ـ أنّي أخاف عليك من هذه الاُمّة أربعة نفر من قريش : عبد الرحمان بن أبي بكر ، وعبد الله بن عمر ، وعبد الله بن الزبير ، وشبيه أبيه الحسين بن علي.
فأمّا عبد الرحمان بن أبي بكر فإنّه إذا صنع أصحابه صنع مثلهم وهو رجل همته النساء ولذة الدنيا فذره ـ يا بنيّ ـ وما يريد ، ولا تأخذ عليه شيئاً من أمره فقد علمت ما لأبيه من الفضل على هذه الاُمّة ، وقد يحفظ الولد في أبيه.
وأمّا عبد الله بن عمر فإنّه رجل صدق وحش من الناس ، قد أنس بالعبادة ، وخلا بالوحدة فترك الدنيا وتخلّى منها ، فهو لا يأخذ منها شيئاً ، وإنّما
تجارته من الدنيا كتجارة أبيه عمر بن الخطّاب ، فاقرأ عليه ـ يا بنيّ ـ منك السلام وابعث إليه بعطاياه موفرة مهنأة.
وأمّا عبد الله بن الزبير فما أخوفني منه عنتاً فإنّه صاحب خلل في القول ، وزلل في الرأي ، وضعف في النظر ، مفرّط في الاُمور ، مقصّر عن الحقّ ، وإنّه ليجثو لك كما يجثوا الأسد في عرينه ، ويراوغك روغان الثعلب ، فإذا أمكنته منك فرصة لعب بك كيف شاء ، فكن له ـ يا بنيّ ـ كذلك ، واحذه كحذو النعل بالنعل ، إلا أن يدخل لك في الصلح والبيعة فأمسك عنه واحقن دمه ، وأقمه على ما يريد.
وأمّا الحسين بن عليّ ، فأوه أوه يا يزيد ، ماذا أقول لك فيه؟ فاحذر أن تتعرّض له إلا بسبيل خير ، وامدد له حبلاً طويلاً ، وذره يذهب في الأرض كيف يشاء ، ولاتؤذه ولكن أرعد له وأبرق ، وإيّاك والمكاشفة له في محاربة بسيف أو منازعة بطعن رمح ، بل أعطه وقرّبه وبجّله ، فإن جاء إليك أحد من أهل بيته فوسّع عليهم وأرضهم ، فإنّهم أهل بيت لا يسعهم إلا الرضا والمنزلة الرفيعة.
وإياك ـ يا بنيّ ـ أن تلقى الله بدمه فتكون من الهالكين ، فقد حدّثني ابن عبّاس ، فقال : حضرت رسول الله صلىاللهعليهوآله عند وفاته وهو يجود بنفسه وقد ضمّ الحسين إلى صدره وهو يقول : هذا من أطائب أرومتي ، وأبرار عترتي ، وخيار ذرّيّتي ، لا بارك الله فيمن لم يحفظه من بعدي.
قال ابن عبّاس : ثمّ اُغمي على رسول الله ساعة ثمّ أفاق فقال : يا حسين ، إنّ لي ولقاتلك يوم القيامة مقاماً بين يدي ربّي وخصومة ، وقد طابت نفسي إذ جعلني الله خصماً لمن قاتلك يوم القيامة.
يا بنيّ ، فهذا حديث ابن عبّاس وأنا اُحدّثك عن رسول الله صلّى الله عليه
وآله انّه قال : أتاني يوماً حبيبي جبرئيل فقال : يا محمد ، إنّ اُمّتك تقتل ابنك حسيناً ، وقاتله لعين هذه الاُمّة ، ولقد لعن النبيّ صلىاللهعليهوآله قاتل حسين مراراً.
فانظر ـ يا بنيّ ـ ، ثمّ انظر أن تتعرّض له بأذى ، فإنّه مزاج ماء رسول الله ، وحقّه والله ـ يا بنيّ ـ عظيم ، وقد رأيتني كيف كنت أحتمله في (١) حياتي ، واضع له رقبتي وهو يجبهني بالكلام القبيح الّذي يوجع قلبي فلا اجيبه ، ولا أقدر له على حيلة ، لأنّه بقيّة أهل الأرض في يومه هذا. (٢)
قلت : لعن الله معاوية ما أشدّ نفاقه ، وأعظم شقاقه؟ فإنّه كان يعرف الحقّ لكن الشقاق وحبّ الدنيا غلب على قلبه ، حتّى كفر بأنعم ربّه ، وارتدّ عن الدين الّذي كان قد تديّن به ظاهراً ، وأبوه من قبله لا باطناً ، وهب إنّه كان في الظاهر والباطن مسلماً وليس كذلك ، أليس قد كفر بحرب أميرالمؤمنينن وقتل جماعة من المهاجرين الأوّلين ، كخزيمة بن ثابت وعمار وغيرهما من أكابر الصحابة والتابعين لهم بإحسان؟ فهو إمّا كافر أصلي أو مرتد عن الاسلام ، فعلى كلا الأمرين لا تقبل توبته لقول رسول الله صلىاللهعليهوآله : يا عليّ ، حربك حربي (٣).
وقوله صلىاللهعليهوآله : محاربوا عليّ كفرة (٤).
وقوله صلىاللهعليهوآله : يا عليّ ، من آذى شعرة منك فقد آذاني ، ومن
__________________
١ ـ ما بين المعقوفتين أثبتناه من مقتل الخوارزمي.
٢ ـ مقتل الحسين عليهالسلام للخوارزمي : ١/١٧٣ ـ ١٧٦.
٣ ـ انظر : إحقاق الحقّ : ٦/٤٤٠ ـ ٤٤١ ، وج ٧/٢٩٦ ، وج ١٣/٧٠.
٤ ـ انظر في معناه : إحقاق الحقّ : ٤/٢٣٥ و٢٣٨ ـ ٢٣٩ و٢٧٦ و٢٧٧ ، وج ٧/٣٣١ و٣٣٧ وج ١٥/٥٨٠ ، وج ١٧/٢٧٩ ، وج ١٨/٤٧٠.
آذاني فقد آذى الله ، ومن آذى الله فعليه لعنة الله. (١)
وممّا يدلّ على كفره وإلحاده فعله بالامام السبط التابع لمرضاة الله أبي محمد الحسن عليهالسلام من شن الغارات عليه ، وإفساد قلوب الناس له ، وبذل الأموال في حربه ، وإفساد جموعه وجنوده ، ثمّ دسّ السمّ له حتّى ألقى كبده وحشاه ، ومضى شهيداً مظلوماً مسموماً ، فهل في فعله هذه الأفعال الشنيعة من حرب أمير المؤمنين وموارطته ثمانية عشر شهراً ، ثمّ قتل سبعة من أكابر الصحابة بعد كحجر بن عديّ وأصحابه ، ثمّ بسبّه أمير المؤمنين عليهالسلام على المنابر إلا كما قال الله سبحانه : ( فَلَمَّا رَأَوا بَأسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحدَهُ وَكَفَرنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشرِكِينَ فَلَم يَكُ يَنفَعُهُم إيمَانُهُم لَمَّا رَأَوا بَأسَنَا ) (٢) وكقول فرعون لما أدركه الغرق : ( قَالَ آمَنتُ أنَّهُ لَا إلهَ إلَّا الَّذِي آمَنَت بِهِ بَنُوا إسرَائِيلَ وَأنَا مِنَ المُسلِمِينَ ) (٣) فردّ الله سبحانه عليه بقوله : ( الآنَ وَقَد عَصَيتَ قَبلُ وَكُنتَ مِنَ المُفسِدِينَ ) (٤).
فكان حال معاوية لما رأى علامات الموت كحال فرعون والكفّار الّذين ذكرهم سبحانه بقوله : ( فَلَمَّا رَأَوا بَأسَنَا ) ، فعليه وعلى من يعتذر له ، ويصوّب آراءه واجتهاده فيما علم بطلانه من الدين ضرورة لعنة الله ولعنة اللاعنين ، لأن إنكار ولاية أمير المؤمنين وحربه ، واستحلال وسفك دمه ودم ذرّيّته وشيعته ، كحال منكري الشرائع من الصلاة والزكاة والحج والنبوّة ، فهل يحلّ لمؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يصوّب اجتهاده ، ويؤوّل مراده ، ويمهد له العذر على فعله؟
__________________
١ ـ انظر : إحقاق الحقّ : ٦/٣٨٠ ـ ٣٩٤ ، وج ١٦/٥٨٨ ـ ٥٩٩ ، وج ٢١/٥٣٧ ـ ٥٤٣.
٢ ـ سورة غافر : ٨٤ و٨٥.
٣ ـ سورة يونس : ٩٠.
٤ ـ سورة يونس : ٩١.