زبدة البيان في أحكام القرآن

الشيخ أحمد بن محمّد الأردبيلي [ المقدّس الأردبيلي ]

زبدة البيان في أحكام القرآن

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمّد الأردبيلي [ المقدّس الأردبيلي ]


المحقق: محمّد الباقر البهبودي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: المكتبة المرتضويّة لإحياء الآثار الجعفريّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٠١

(لِيُنْفِقْ) إشارة إلى كيفيّة الإنفاق على الزوجة بل مطلقا بأن ينفق (ذُو سَعَةٍ) على ما يليق بحال مثله (مِنْ سَعَتِهِ) في المعيشة مأكلا ومشربا وملبسا ومسكنا ولا يخرج عن ذلك إلى الطرفين إسرافا وتقتيرا اللّذين هما منهيّان ، والفقير كذلك وإليه أشار بقوله (وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ) فلا يتكلّف تكلّف الأغنياء بل يعطي وينفق ممّا قدّر الله له ، ولا تكلّف بالزائد ، ولا ينقص عن اللائق بحاله ، فإنّه منهيّ عنه ، وبالجملة يعمل ما يتعارف في أمثاله مع القدرة فإنّ الله تعالى لم يكلّفه بأزيد من ذلك لأنّه ما أعطاه فكيف يكلّفه به ، وإليه أشار بقوله (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها) إشارة مدلّلة حسنة فافهم ، فهو يدلّ على القبح العقليّ وأنّ التكليف بما لا يطاق بل بما يشقّ لا يقع من الله ، بل محال ، وفيه وفيما بعده (سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً) تطييب لقلب الفقراء ، بل من يجب نفقتهم عليهم ووعدهم بحصول العوض وتبديل العسر باليسر ، إمّا في الدنيا أو في الآخرة على سبيل منع الخلوّ كذا في الكشاف. وفي القاضي : تطييب لقلب المعسر والأوّل أولى.

(النوع الرابع)

(في أشياء من توابع النكاح)

وفيه آيات :

الاولى : (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) (١).

الخطاب له صلى‌الله‌عليه‌وآله والمقول لهم هم المسلمون ولعلّ اللّام مقدّر ، والتقدير ليغضّوا فتأمّل ، ويبعد أن يكون بتقدير غضّوا يغضّوا إذ المناسب الفاء مع أنّ حذف المقصود وذكر غير المقصود غير موجّه ، وأيضا الخبر غير مناسب إذ مضمونه قد لا يقع وفي الكشّاف من للتبعيض والمراد غضّ البصر عمّا يحرم ، والاقتصار به على ما يحلّ وجوّز الأخفش أن تكون مزيدة وأباه سيبويه وأنت تعلم أنّ التبعيض هنا يفيد

__________________

(١) النور : ٣١.

٥٤١

تحريم غضّ بعض البصر دون البعض ، لا بعض المبصر ، وهو المطلوب والمعقول كما يفهم من قوله «والمراد إلخ» فتأمّل فالزيادة أولى بحسب المعنى.

وقال أيضا : في ترك «من» في الفروج فقط دلالة على أنّ أمر النظر أوسع من أمر الفرج ألا ترى أنّ المحارم لا بأس بالنظر إلى شعورهنّ وصدورهنّ وثديهنّ وأعضادهنّ وأسوقهنّ وأقدامهنّ وكذلك الجواري المستعرضات للبيع والأجنبيّة ينظر إلى وجهها وكفّيها وقدميها في إحدى الروايتين ، وأمّا أمر الفرج فمضيّق وكفاك فرقا أن [كان] أبيح النظر إلّا ما استثني منه ، وحظر الجماع إلّا ما استثني منه وقد عرفت ما فيه ممّا تقدّم من أنّ هذا ليس مفاد التبعيض هنا وأيضا ليس في منطوق القرآن إباحة الأوّل وتحريم الثاني إلّا ما استثني فافهم ، ثمّ قال : ويجوز أن يراد مع حفظها عن الإفضاء إلى ما لا يحلّ حفظها عن الإبداء وفهم هذا المعنى لا يخلو عن بعد ، نعم يمكن بعد العلم بالمسئلة من غير هذه ، ثمّ قال : وعن أبي زيد كلّ ما في القرآن من حفظ الفرج فهو عن الزنا إلّا هذا فإنّه أراد به الاستنار قال في مجمع البيان : وهو المرويّ عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال فلا يحلّ للرجل أن ينظر إلى فرج أخيه ولا يحلّ للمرأة أن تنظر إلى فرج أختها ، وقال أيضا معناه قل يا محمّد للمؤمنين يغضّوا أبصارهم عمّا لا يحلّ لهم النظر إليه. ويحفظوا فروجهم عمّن لا يحلّ لهم وعن الفواحش ، وقيل إنّ «من» زائدة وتقديره يغضّوا أبصارهم عن عورات النساء ، وقيل إنّها للتبعيض لأنّ غضّ البصر إنّما يجب في بعض المواضع عن أبي مسلم ، والمعنى يغضّوا من نظرهم ، فلا يبصروا ولا ينظروا إلى ما حرّم ، وقيل إنّها لابتداء الغاية وفي التبعيض ما تقدّم فتأمّل.

وأيضا لا يخفى أنّ في الآية إجمالا فإنّه ما نعلم ما لا يحلّ وما يحلّ ، فلم نعلم حينئذ غضّ البصر في أيّ موضع يحرم وفي أيّ موضع يحلّ وينبغي أن يقال المفهوم تحريم النظر وعدم حفظ الفرج مطلقا ، وقد علم الجواز في المحارم والحلائل بالآية والإجماع وغيرهما ، وبقي الباقي تحته (وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) عطف على يغضّوا (ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ) أي أنفع لدينهم ودنياهم وأطهر وأتقى من التهمة

٥٤٢

وأقرب إلى التقوى عليم بما يعملونه على أيّ وجه يعملونه.

واعلم أنّ في الأمر للمؤمنين بحفظ الفروج فقط مع أمر المؤمنات في الآية الثانية به ، وبعدم إبداء الزينة مع الأصل وحصر المحرّمات دلالة ظاهرة على عدم وجوب الستر من المحرّمات على الرجال ، سوى فروجهم ، فبدنهم ليس بعورة وإن كان رؤيته عليهنّ حراما ، فلا يجب عليهم الستر من باب المعاونة على الإثم والعدوان وإن عملوا بذلك لما تقدّم ، ويمكن تحريم ذلك لو قصدوا ذلك فتأمّل ودلالة أيضا على أنّ عورتهم ليس إلّا الفرج ، والفرج يطلق على المخرجين.

الثانية : (وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَ) (١).

هذا ظاهر في نهي النساء عن النظر إلى الأجانب أصلا ورأسا ، ويؤيّده خبر ابن أمّ مكتوم المشهور (٢) (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ) أي مواضعها (إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها) فبعد الاستثناء يبقى ما بطن وسيجيء الاستثناء منه أيضا بقوله (إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ) الآية في الكشاف الزينة ما تزيّنت به المرأة من حليّ أو كحل أو خضاب ، فما كان ظاهرا

__________________

(١) النور : ٣٢.

(٢) روى عن أم سلمة أنها قالت : كنت أنا وميمونة عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فدخل علينا ابن أم مكتوم بعد آية الحجاب ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لنا : احتجنا فقلنا : يا رسول الله إنّه أعمى ، فقال : أفعميا وان أنتما؟ ألستما تبصرانه؟ أخرجه أبو داود والترمذي وصححه والنسائي والبيهقي في سننه عن أم سلمة كما في الدر المنثور ج ٥ ص ٤٢.

أقول : قد اشتبه المراد من آية الحجاب على بعض كالمؤلف رضوان الله عليه ، فتوهم أن المراد بآية الحجاب في هذا الحديث آية النور المبحوث عنها وليس كذلك ، بل المراد آية الأحزاب : ٥٤ (وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ. ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ) ففرض أن لا يتكلموا إلا وبينهم وبينهن حجاب من ستر ، وهذا الحكم من مختصات أمهات المؤمنين.

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله «احتجبا» يعنى أدخلا وراء الستر ، فقالا إنه أعمى يعنون أن عماه كالغشاء والستر بينه وبينهن ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : هذا ستر يستركن عن عينه ولا يستره عن عيونكن ، وقد كان الواجب حجاب يستر على الجانبين.

٥٤٣

منها كالخاتم والفتخة وهي حلقة من فضّة لا فصّ لها ، والكحل والخضاب فلا بأس بإبدائه للأجانب ، ثمّ قال : إنّ المراد من الزينة موقعها والصحيح أنّه العضو كلّه لا المقدار الّذي يلامسه الزينة منه كما فسّرت مواقع الزينة الخفيّة وكذلك مواقع الزينة الظاهرة الوجه موقع الكحل في عينيه والخضاب بالوسمة في حاجبيه وشاربيه والغمرة في خدّيه ، والكفّ والقدم موقعا الخاتم والفتخة والخضاب بالحنّاء وإنّما تسومح في هذه المواقع ، لأنّ سترها فيه حرج ، فإنّ المرأة لا تجد بدّا من مزاولة الأشياء بيديها ، ومن الحاجة إلى كشف وجهها خصوصا في الشهادة والمحاكمة والنكاح وتضطرّ إلى المشي في الطرقات ، وظهور قدميها وخصوصا الفقيرات منهنّ وهذا معنى قوله (إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها) يعني إلّا ما جرت العادة على ظهوره ، والأصل فيه الظهور.

ولا شكّ في بعد كون الوجه موقع الكحل والوسمة وكونها في شاربيه ، مع أنّ المناسب تأنيث الضمير في الكلّ كحذف المرأة ، وأيضا لا شكّ أنّ مع الضرورة والحاجة يجوز إبداء موقع الزينة الظاهرة والباطنة كالعلاج للطبيب وللشهادة والمحاكمة ، وأيضا إن نظر إلى العادة والظاهر خصوصا الفقيرات فالعادة ظهور الرقبة بل الصدر والعضدين والساقين وغير ذلك ، وبالجملة الحكم محلّ الاشكال وقد أوضحته في الجملة في محلّه من الفروع في شرح الإرشاد فتأمّل.

(وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ.)

أي يضعن خمارهنّ على صدورهنّ ليسترنه وما فوقه من الرقبة ، ففيها دلالة على عدم وجوب ستر الوجه فافهم ، وكانت جيوبهنّ واسعة يبدوا منها نحورهنّ وصدورهنّ وما حواليهما ، وكنّ يسدلن الخمر من ورائهنّ فتبقى مكشوفة فامرن أن يسدلنها من قدّامهنّ حتّى يغطّينها ويجوز أن يراد بالجيوب الصدور تسمية بما يليها ويلابسها ، ومنه قولهم ناصح الجيب ، وقولك ضربت بخمارها على جيبها كقولك ضربت بيدي على الحائط إذا وضعتها عليه.

٥٤٤

(وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَ) أزواجهن (أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ.)

والمراد بالآباء الأب وإن علا ، وبالأبناء الابن وإن سفل ، والأخ أعمّ من أن يكون من الطرفين أو أحدهما وبني الإخوة والأخوات وإن سفلوا ، فهؤلاء مستثنون ، والظاهر من النسب والرّضاع للصدق ، فيحرم نكاح بعضهم على بعض فهؤلاء محارم.

والمراد بالزينة المحرّم إبداؤها هو موضع الزينة لأنفسها إذ نفسها يجوز النظر إليها لكلّ أحد وليس بحرام فلا يصحّ الحكم المستثنى منه إلّا أن يكون هناك ريبة أو شهوة أو فتنة ، فالظاهر جواز نظرهم إلى سائر البدن إلّا العورة لغير البعولة للأصل ولما تقدّم ، ولظاهر هذه الآية ، حيث إنّ الظاهر أنّ المراد موقع الزينة الخفيّة ، ويحتمل اختصاص محلّها فقطّ ، فلا يتعدّى إلى غيرها ، خصوصا المواضع الخفيّة في أكثر الحالات والقريبة من العورة فتأمّل.

وقال في الكشّاف : إنّ المراد جميع العضو كما تقدّم في الزينة الظاهرة فهذا يدلّ على أنّ المراد بإلّا ما ظهر هو الموضع ، كما مرّ إليه الإشارة فتأمّل ، والزينة الخفيّة مثل السّوار للزند ، والخلخال للسّاق ، والدملج للعضد ، والقلادة للعنق والوشاح للرأس ، والقرط ، للاذن ، وذكر الزينة دون مواقعها للمبالغة كما في (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى) لأنّ هذه الزينة واقعة على مواضع يحرم النظر إليها لغير المذكورين ، قال في الكشّاف إنّما سومح في الزينة الخفيّة أولئك المذكورون لما كانوا مختصّين به من الحاجة المضطرّة إلى مداخلتهم ومخالطتهم ، ولقلّة موقع الفتنة من جهاتهم ، ولما في الطباع من النفرة عن مماسّة القرائب ، ويحتاج المرأة إلى صحبتهم في الأسفار للنزول والركوب وغير ذلك.

(أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ) في الكشّاف قيل : هنّ المؤمنات لأن ليس للمؤمنة أن تتجرّد بين يدي مشركة أو كتابيّة عن ابن عبّاس ، فيكون ذكر استثناء

٥٤٥

الكشف للمسلمات وعدمه للكافرات ، فإنّه إذا كانت النساء كلّها داخلة تحت حكم الستر واستثني منها المسلمات (١) بقيت الكافرات وهو ظاهر ، ثمّ قال والظاهر أنّه عنى بنسائهنّ وما ملكت أيمانهنّ : من في صحبتهنّ وخدمتهنّ من الحرائر والإماء والنساء كلّهنّ سواء في حلّ نظر بعضهنّ إلى بعض ، وقيل (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ) هم الذكور والإناث جميعا ، وعن عائشة أنّها أباحت النظر إليها لعبدها.

ثمّ قال : المراد بها الإماء وهذا هو الصحيح ، لأنّ عبد المرأة بمنزلة الأجنبيّ منها خصيّا كان أو فحلا ، هذا هو المشهور والصحيح عندنا أيضا ، ولكن في بعض الأخبار ما يدلّ على خلاف ذلك فينبغي الرجوع والتأمّل فيها.

(أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (٢).

في الكشاف : الإربة الحاجة ، قيل : هم الّذين يتبعونكم ليصيبوا من فضل طعامكم ولا حاجة لهم إلى النساء لأنّهم بله لا يعرفون شيئا من أمرهنّ أو شيوخ صلحاء إذا كانوا معهنّ غضّوا أبصارهم أو بهم عنانة ، وقرئ «غير» بالنصب على الاستثناء أو الحال ، والجرّ على الوصفيّة ، وضع الواحد موضع الجمع لأنّه يفيد الجنس ويبيّن ما بعده أنّه يراد به الجمع ونحوه (نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً).

(لَمْ يَظْهَرُوا) إمّا من ظهر على الشيء إذا اطّلع عليه أي لا يعرفون ما العورة ولا يميّزون بينها وبين غيرها ، وإمّا من ظهر على فلان إذا قوي عليه ، وظهر على القرآن أخذه وأطاقه أي لم يبلغوا أوان القدرة على الوطي.

ولا يخفى أنّ الشيوخ الصلحاء الّذين يغضّون أبصارهم إذا كانوا معهنّ لا يحتاجون إلى الاستثناء بل لا يصحّ فانّ الظاهر من الاستثناء جواز الكشف لهم ، وجواز النظر لهم ، فافهم ، وأنّ وجود العنّة لا يوجب جواز النظر إلى مواضع الزينة

__________________

(١) المؤمنات خ.

(٢) النور : ٣٢.

٥٤٦

الباطنة وأنّ في استثناء «غير» تأمّلا فالظاهر الجرّ أو الحال ، وأنّه ينبغي أن يقول يراد منه الجمع ويبيّنه ما بعده أي «الّذين» والطفل عطف على بعولتهنّ ، ويحتمل أن يكون عطفا على الرجال و «الّذين» يكون صفتهما.

فالظاهر منها تحريم نظر الخنثى إلى الزينة الباطنة ، وتحريم كشف ذلك عليهنّ ، وقد مرّ الخلاف والقول في الظاهرة والباطنة ، ولا يبعد حملها على العرف ولا يبعد حمل الظاهر على ما في الكشاف ، فلا يحرم النظر إلى الوجه وغيره إلّا مع اللذة أو الفتنة والرّيبة ، فيحتمل أن يراد النظر الأوّل لا التكرار كما قال به بعض الأصحاب ويحتمل التكرار أيضا للعموم لو لا خلاف الإجماع للصدق عرفا فتأمّل ، ووجوب ضرب الخمر على الجيوب ، وحاصله تحريم كشف الصدور وغيره للأجانب ، ووجوب سترها عنهم ، وتحريم كشف الباطنة والنظر إليها ، وقد استثني من تقدّم وقد مرّ معناه ، وأنّ المراد بنسائهنّ المؤمنات ، فلا يجوز الكشف عند نساء الكفّار وقيل : إذا علم خبرهنّ للرجال وفيه تأمّل ، ويمكن أن يقال التقييد ليس بحجّة إلّا أنّ الاستثناء بعد مطلق الحكم يقتضي بقاء نساء الكفّار تحت التحريم فتأمّل.

وأنّ المراد بما ملكت هي الإماء والظاهر العموم وهو المرويّ عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، فالظاهر جواز رؤية الزينة الباطنة أيضا لعبيدهنّ ، وأنّ المراد بالتّابعين : الّذين لا يعرفون ولا يطمعون في النساء وهم البله ، وبالطفل : الّذي لا حظّ له من عورة النساء ، فيفهم التحريم على غيره من غير البلّغ أيضا بمعنى تحريم الكشف عليهنّ عندهم ، ووجوب منعهم على الأولياء.

وفي مجمع البيان : المراد بالطفل الجماعة من الأطفال الّذين لم يظهروا على عورات النساء ويريد به الصبيان الّذين لم يعرفوا عورات النساء لعدم شهوتهم ، وقيل لم يطيقوا مجامعة النساء ، فإذا بلغوا مبلغ الشهوة ، كان حكمهم حكم الرجال والظاهر أنّ «قيل» ليس بجيد وإليه أشار بقوله فإذا إلخ.

(وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ) قيل كانت المرأة تضرب برجلها لتسمع صوت الخلخال منها فنهاهنّ الله عن ذلك ، وقيل معناه ولا تضرب المرأة برجلها إذا مشت ليتبيّن

٥٤٧

خلخالها أو يسمع صوته ، عن ابن عبّاس ، فيكون ذلك لقصد أن يتوجّه إليهنّ ويرينهم موضع زينتهنّ الباطنة حراما حيث يؤل إلى الحرام ، ويحتمل التحريم مطلقا عمدا وإن لم يؤل إلى ذلك كما هو ظاهر الآية ، وفي الكشّاف كانت المرأة تضرب الأرض برجلها ليتقعقع خلخالها ، فيعلم أنّها ذات خلخال ، وقيل : كانت تضرب بإحدى رجليها الأخرى ليعلم أنّها ذات خلخالين ، وإذا نهين عن إظهار صوت الحليّ بعد ما نهين عن إظهار الحلي ، علم بذلك أنّ النهي عن إظهار مواضع الحلي أبلغ وأبلغ ، أوامر الله ونواهيه في كلّ باب لا يكاد العبد الضعيف يقدر على مراعاتها وإن ضبط نفسه واجتهد ، ولا يخلوا من تقصير يقع منه ، فلذلك وصيّ المؤمنين جميعا بالتوبة والاستغفار ، وبتأميل الفلاح إذا تابوا واستغفروا ، وعن ابن عبّاس : توبوا ممّا كنتم تفعلونه في الجاهليّة لعلّكم تسعدون في الدنيا والآخرة.

فإن قلت : قد صحّت التوبة بالإسلام والإسلام يجبّ ما قبله ، فما معنى هذه التوبة؟ قلت أراد بها ما يقوله العلماء إنّ من أذنب ذنبا ثمّ تاب عنه ، يلزمه كلّما تذكّره أن يجدّد عنه التوبة لأنّه يلزمه أن يستمرّ على ندمه وعزمه ، إلى أن يلقى ربّه ، ووجوب الندامة والتوبة كلّما ذكر لا دليل عليه وهو مشكل ، نعم لو خطر بباله وتردّد في خاطره يجب عليه ذلك فتأمّل.

وقال : فان قلت : لم لم يذكر الله تعالى الأعمام والأخوال؟ قلت : سئل الشعبيّ عن ذلك فقال لئلّا يصفها العمّ عند ابنه والخال كذلك ، ومعناه أنّ سائر القرابات تشرك الأب والابن في المحرميّة إلّا العمّ والخال وأبناؤهما ، فإذا رآها العمّ فربما وصفها لابنه ، وليس بمحرم فيداني تصوّره لها بالوصف نظره إليها ، وهذا أيضا من الدلالات البليغة على وجوب الاحتياط عليهنّ في الستر. ولا يخفى أنّه يجوز للعمّ والخال النظر ، فعدم ذكرهما في الآية لا ينفع مع أنّ عدم ذكره لهذا بعيد جدّا ، إذ يفهم عدم جواز النظر لهما وتحريم التكشّف لهما ، نعم لو فهم أنّ عدم ذكرهما مع جواز التكشّف عندهما لأن لا يقولا ولا يصفى لكان جيّدا ، ولكن لا يفهم ، وهذا من العامّ المخصوص بغيره ويمكن أن يكون ذلك نكتة الترك فتأمّل

٥٤٨

والأمر في ذلك وأمثاله بعد العلم بالمسئلة هيّن.

الثالثة : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) (١).

في مجمع البيان : مروا عبيدكم وإماءكم أن يستأذنوا عليكم إذا أرادوا الدخول إلى مواضع خلواتكم عن ابن عبّاس ، وقيل : أراد العبيد خاصّة وهو المرويّ عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام (وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ) أي الأطفال الّذين لم يبلغوا من الأحرار (ثَلاثَ مَرَّاتٍ) ثمّ فسّرها فقال (مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ) لأنّه وقت القيام من المضاجع وطرح ما ينام فيه من الثياب ولبس ثياب اليقظة (وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ) لأنّها وقت وضع الثياب للقائلة (وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ) لأنّه وقت التجرّد من ثياب اليقظة والاستلحاف بثياب النوم.

(ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ) في مجمع البيان هو خبر مبتدأ محذوف على تقدير رفعه والتقدير هذه ثلاث عورات لكم ، وبدل من ثلاث مرّات على تقدير نصبه بتقدير أوقات ثلاث عورات ، حذف المضاف وأعرب المضاف إليه بإعرابه ، وفي الكشّاف سمّى كلّ واحدة من هذه الأحوال عورة لأنّ الناس يختلّ تستّرهم وتحفّظهم فيها ، والعورة الخلل ومنها الأعور المختلّ العين وفي مجمع البيان : لأنّ الإنسان يضع هذه الأوقات ثيابه فتبدو عورته وعن السّدّي أنّ أناسا من الصحابة كانوا يواقعون في هذه الأوقات فأمر الله سبحانه بأن يأمروا الغلمان والمملوكين أن يستأذنوا في هذه السّاعات ، والظاهر أنّ (الَّذِينَ مَلَكَتْ) أعمّ من العبيد والإماء والأجانب والمحارم لأنّ «الّذين» عامّ ولا مخصّص له ، وأنّ المراد بالّذين لم يبلغوا الحلم أيضا أعمّ من الذكور والإناث والمحارم والأجانب ولكن يحتمل أن يكون بشرط التمييز الّذي أشار إليه في الآية المتقدّمة (أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ) وفي مجمع البيان أراد به الصبيّ الّذي يميّز بين العورة وغيرها.

وأنّ حكم غير الأوقات الثلاثة حكمها إذا كانت مشتملة على ما يشتمل تلك

__________________

(١) النور : ٥٨.

٥٤٩

فإنّ المقصود هو التستّر وأنّ المراد من بعد صلاة العشاء وقت النوم تمام اللّيل وبالجملة الظاهر أنّ المقصود النهي عن الدخول وقت مظنّة كون المدخول عليه على حالة يستقبح الدخول عليه وأنّ الاستيذان يحصل بكلّ ما يرفع ذلك وأنّ ظاهر هذا الأمر الوجوب والظاهر أن لا نزاع فيه بالنسبة إلى البلّغ وأمّا بالنسبة إلى الأطفال فيحتمل أن يكون ذلك متوجّها إلى الأولياء ولكن هو خلاف الظاهر فيحتمل أن يكون على حقيقته.

قال في مجمع البيان قال الجبائي الاستيذان واجب على كلّ بالغ في كلّ حال ، وعلى الأطفال في هذه الأوقات الثلاثة بظاهر الآية ، ويكون هذا الوجوب مستثنى من عدم تكليف غير البالغ للتأديب وتعليم الأحرار أو يكون للندب بأن يكون للرجحان المطلق أو يكون للإرشاد وتعليم المعاشرة ، وعلى كلّ تقدير لا شكّ أنّ فيها دلالة على كون الطفل الغير البالغ مأمورا بأمر الله ومخاطبا بخطابه ، لا أنّ الأمر إنّما هو للأولياء وهم مأمورون بأوامرهم لا بأمر الله فإنّ الأمر بالأمر لهم ليس أمرا منه لهم كما حقّق في الأصول ، وفيها دلالة ما على أنّ ذلك أمر منه لهم وتحقيقه في الأصول.

وأيضا فيها مع ما بعدها دلالة على أنّ البلوغ بالاحتلام وخروج المنىّ مطلقا لا قبله إلّا أن يثبت بدليل من إجماع ونحوه مثل إكمال خمسة عشر سنة إلّا أن يراد ببلوغ الحلم بلوغ زمان يمكن فيه الاحتلام ولكنّ العلم بذلك مشكل ، وهو يعلم في الذكر ببلوغ كمال خمسة عشر سنة باتّفاق أصحابنا ، وبدونه مثل الشروع فيها عند بعض وفي أربعة عشر وثلاثة عشر رواية ولكنّ العمل بها مشكل من دون ظهور القائل ، وإن كان سندها صحيحا لأنّه خلاف ظاهر القرآن والأصل ، ولكنّ الاحتياط يقتضي العمل بها وتمام ذلك مذكور في محلّه ، وفي الأنثى يتحقّق البلوغ بخروج المني والحيض وإكمال تسع وإنبات الشعر فيهما ، والدليل عليه غير واضح ، وكأنّه لا خلاف في ذلك عندهم والله أعلم.

«لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ

٥٥٠

[كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ] أي لا إثم ولا حرج من الله عليكم أيّها المؤمنون ولا عليهم في ترك الاستيذان ، وفي عدم منعكم إيّاهم من الدخول وإن رأوكم مكشوفين في غير هذا الأوقات اتّفاقا من غير قصد وعلم منكم ومنهم.

في الكشّاف ثمّ عذرهم في ترك الاستيذان وراء هذه المرّات وبيّن وجه العذر في قوله (طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ) يعني أنّ بكم وبهم حاجة إلى المخالطة والمداخلة يطوفون عليكم في الخدمة وتطوفون عليهم للاستخدام فلو جزم الأمر بالاستيذان في كلّ وقت لأدّى إلى الحرج ، ولا يخفى أنّ فيها نقصا وزيادة من جهة عدم بيان الجناح المنفيّ عنهم ، وبيان كونهم طوّافين عليهم للاستخدام وإن كان فيه بيان لبعضكم على بعض ، وهو الظاهر لأنّ الظاهر أنّ الطواف العبيد والأطفال لا هم ، ولهذا قال في مجمع البيان ثمّ بيّن المعنى وقال (طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ) أي هم خدمكم فلا يجدون بدّا من دخولهم عليكم في غير هذه الأوقات ويتعذّر عليهم الاستئذان في كلّ وقت ، قال سبحانه (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ). ثمّ قال في الكشّاف : إذا رفعت (ثَلاثُ عَوْراتٍ) كان (لَيْسَ عَلَيْكُمْ) في محلّ الرفع على الوصف ، والمعنى : هنّ ثلاث عورات مخصوصة بالاستيذان ، وإذا نصبت لم يكن له محلّ وكان كلاما مقرّرا للأمر بالاستيذان في تلك الأحوال خاصّة ، «وبعضكم» مرفوع بالابتداء وخبره «على بعض» على معنى طائف على بعض ، وحذف لأنّ طوّافون يدلّ عليه ، ويجوز أن يرتفع بيطوف مضمرا لتلك الدلالة.

الرابعة : (وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) (١).

في مجمع البيان : «منكم» أي من الأحرار فليستأذنوا في جميع الأوقات كما استأذن الّذين من قبلهم من الأحرار الكبار الّذين أمروا بالاستيذان على كلّ

__________________

(١) النور : ٥٩.

٥٥١

حال في الدخول عليكم ، فالبالغ يستأذن في كلّ الأوقات والطفل والمملوك يستأذنان في العورات الثلاث (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ) أي كما بيّن لكم ما تتعبّدون به في هذه يبيّن لكم الآيات الدّالّة على الأحكام (وَاللهُ عَلِيمٌ) بما يصلحكم (حَكِيمٌ) فيما يفعله ، فهذه الأطفال الأحرار الّذين بلغوا بأحد العلامات يجب عليهم أن يستأذنوا للدخول على البيوت والناس مطلقا أبا وابنا استيذانا كاستئذان الّذين بلغوا من قبلهم ، وهم الرّجال البلّغ العقلاء أو الّذين ذكروا من قبلهم في قوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً) الآية.

والمعنى أنّ الأطفال مأذون لهم في الدخول بغير إذن إلّا في العورات الثلاث فإذا اعتاد الأطفال ذلك ثمّ خرجوا من حدّ الطفوليّة بأن يحتلموا ويبلغوا السنّ الّذي يحكم فيها عليهم بالبلوغ وجب أن يفطموا عن تلك العادة ، ويحملوا على أن يستأذنوا في جميع الأوقات ، كما يحمل الرجال الكبار الّذين لم يعتادوا الدخول عليكم إلّا بإذن ، وهذا ممّا يغفل عنه الناس ، وهو عندهم كالشريعة المنسوخة ، وعن ابن عبّاس آية لا يؤمن بها أكثر الناس آية الاذن ، وإنّي لآمر جارتي أن يستأذن عليّ ، وسأله عطاء : أستأذن على أختي؟ قال : نعم ، وإن كانت في حجرك تمونها وتلا هذه الآية ، وعنه ثلاث آيات جحدهنّ الناس : الاذن كلّه ، وقوله (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) فقال ناس أعظمكم بيتا ، وقوله تعالى (وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ). وعن ابن مسعود رضي‌الله‌عنه عليكم أن تستأذنوا على آبائكم وأمّهاتكم وأخواتكم.

هذا كلّه من الكشّاف : ولا يخفى ما في هذه من المبالغة في الاستيذان حتّى أنّ ظاهر الآية وجوب ذلك على الأطفال والمماليك في ثلاث مرّات وعلى غيرهم دائما الأقارب والأباعد ، والمحرم وغيره ، فلا يناسب الترك بوجه فتأمّل ولكن يفهم عدم الاستيذان للمماليك البلّغ فيشعر بعدم وجوب التستّر عنهم كما مرّ إليه الإشارة فافهم.

٥٥٢

الخامسة : (وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (١).

في الكشاف : القاعد الّتي قعدت عن الحيض والولد لكبرها (لا يَرْجُونَ نِكاحاً) لا يطمعن فيه ، والمراد بالثياب الثياب الظاهرة كالملحفة والجلباب الّذي فوق الخمار (غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ) غير مظهرات بزينة يريد الزينة الخفيّة الّتي أرادها في قوله (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ) أو غير قاصدات بالوضع التبرّج ولكن التخفّف إذا احتجن إليه والاستعفاف من الوضع خير لهنّ.

لما ذكر الجائز عقّبه بالمستحبّ بعثا منه على اختيار أفضل الأعمال وأحسنها كقوله «وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى. وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ» وفيه تأمّل إذ قد تقدّم جواز إظهار الزينة الظاهرة فليس على غير القاعد من النساء أيضا جناح في وضع الثياب الظاهرة ، والظاهر من سوق هذه الآية أنّ القاعدات من النساء مستثنيات من الحكم السّابق الّذي هو وجوب التستّر ، وتحريم كشف الزينة الباطنة ومواضعها المتقدّمة ، فلا يحرم عليها كشف مواضع الزينة الباطنة المحرّم على غيرها ، ولكن بشرط أن لا تتبرّج بزينة أي لا يقصد إظهارها.

قال في مجمع البيان : التبرّج إظهار المرأة من محاسنها ما يجب عليها ستره انتهى ، فإذا تبرّجت بها يحرم عليها أيضا ذلك ، كما يحرم على غيرها ، لا بقصد التكشّف والإظهار وهي الّتي بلغت سنّا أيست عن الجماع ، وأيس الناس أيضا عنها بمعنى أن لا يكون مطعما ولا يكون لها طمعا عادة وعرفا ، ولكنّ العلم بذلك مشكل فانّ الرجال والنساء يتفاوتون في ذلك تفاوتا كثيرا جدّا ، فانّ بعض الناس يفعلون بأيديهم بل بالأرض والخشب وأيّة ثقبة كانت ، فليست القاعد أقلّ من

__________________

(١) النور : ٦٠.

٥٥٣

ذلك ، وعلى كلّ حال لا شكّ أنّ الستر والعفاف لها خير لاحتمال ذلك وهو ظاهر غير مخفيّ.

وفي مجمع البيان : هنّ المستثنيات من النساء اللّاتي قعدن عن التزويج لأنّه لا يرغب في تزويجهنّ ، وقيل هنّ اللّاتي ارتفع حيضهنّ ولا يطمع نكاحهنّ (فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ) يعني الجلباب فوق الخمار عن ابن مسعود وسعيد بن جبير ، وقيل : يعني الخمار والرداء عن جابر بن يزيد ، وقيل : ما فوق الخمار من المقانع وغيرها ، أبيح لهنّ القعود بين يدي الأجانب في ثياب أبدانهنّ مكشوفة الوجه واليد ، فالمراد بالثياب ما ذكرناه لا كلّ الثياب (غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ) أي غير قاصدات بوضع ثيابهنّ إظهار زينتهنّ ، بل يقصدن به التخفيف عن أنفسهنّ فإظهار الزينة في القواعد وغيرهنّ محظور ، وأمّا الشابّات فإنهنّ يمنعن من وضع الجلباب أو الخمار ، ويؤمرن بلبس أكثف الجلابيب لئلّا تصفهنّ ثيابهنّ وقد روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : للزوج ما تحت الدرع ، وللابن والأخ ما فوق الدرع ، ولغير ذي محرم أربعة أثواب : درع ، وخمار ، وجلباب ، وإزار ولا يخفى أنّ فيه ما هو غير ظاهر الوجه فتأمّل.

السادسة : (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (١).

«أنّى» في محلّ النصب لأنّها ظرف مكان إذا كان بمعنى حيث أو أين ، وظرف زمان إذا كان بمعنى متى ، والعامل فيه «فأتوا» و «شئتم» جملة فعلية في موضع الجرّ بإضافة «أنّى» إليها ، وإذا كان بمعنى كيف في محلّ النصب على المصدر ، ولا محلّ لشئتم حينئذ ، وتقديره فأتوا حرثكم أيّ نوع شئتم قيل : نزلت ردّا على اليهود قالوا إنّ الرجل إذا أتى المرأة من خلفها في قبلها خرج الولد أحول ، فكذّبهم الله

__________________

(١) البقرة : ٢٢٣.

٥٥٤

تعالى عن ابن عبّاس وجابر ، وقيل : أنكرت اليهود إتيان المرأة قائمة وباركة فردّ عليهم.

وفي مجمع البيان معنى (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ) أنّهنّ مزرع لكم ومحرث لكم عن ابن عبّاس والسّديّ ، أو أنّهنّ موضع حرثكم وذوات حرث لكم فيهنّ تحرثون الولد ، فحذف المضاف ، أو يكون بحذف كاف التشبيه أي كحرث لكم فأتوا حرثكم أي أدخلوا في أيّ موضع تريدون من موضع حرثكم (أَنَّى شِئْتُمْ) أي من أين شئتم كما يدلّ عليه اللغة عن قتادة ، وقيل كيف شئتم عن مجاهد وقيل متى شئتم عن الضحّاك وهذا خطاء عند أهل اللّغة إذ «أنّى» ما جاء إلّا بمعنى من أين كذا في مجمع البيان.

ثمّ قال استدلّ مالك بهذه الآية على إباحة وطي الدبر ، وذلك غير بعيد ، وأمّا الاستدلال بها على عدم الجواز ، كما هو المشهور فذلك بعيد ، إذ على تقدير تسليم أنّ المعنى : فأتوا حرثكم كيف شئتم ، بناء على سبب النزول الّذي مضى ومناسبة الحرث للإتيان في محلّ الحرث وهو القبل ، لحصول الولد منه ، وتشبيها لهنّ بالمزرع لقرار النطفة في أرحامهنّ كالبذر في الزرع ، لا يدلّ على ذلك ، إذ ليس فيه المنع عن غير محلّ الزرع وغير الزراعة ، ولأنّه يجوز الإتيان في المزرع في جميع أجزائه وأيّ مكان منه أراد ، ولهذا يجوز الإتيان في النساء في غير القبل والدبر والانتفاع منها ، ولا شكّ أنّه لو صرّح الإتيان بالقبل لما دلّ على منع غيره إلّا بمفهوم بعيد ليس حجّة وهو ظاهر بغير نزاع.

(وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ) الأعمال الصالحة الّتي أمرتم بها ورغّبتم فيها ، ليكون ذخرا لكم عند الله ، وزادا ليوم فاقتكم ، وقيل : هو طلب الولد ، لما روي في مجمع البيان أنّه إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلّا من ثلاث : ولد صالح ، وصدقة جارية وعلم ينتفع به بعد موته ، وقيل هو تقديم الإفراط جمع فرط وهو الولد الّذي يقدّمه الإنسان قبل بلوغه لما ورد في الحديث من قدّم ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث لم

٥٥٥

تمسّه النار إلّا تحلّة القسم (١) فقيل يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله واثنان؟ فقال : واثنان ، وهو بعيد ، لأنّه ليس باختياريّ فيحتاج إلى التأويل وقيل التسمية عند الجماع ، وقيل الدعاء وهما مرويّان ، وقيل التزويج ليحصل منهما الولد الصالح ، ولهذا استحبّ اختيار كريمة الأصل والعفيفة الولود.

(وَاتَّقُوا اللهَ) معاصيه (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ) أي ملاقو جزائه يعني ثوابه إن أطعتموه ، وعقابه إن عصيتموه ، وإنّما أضاف إليه تعالى على ضرب من المجاز أي تزوّدوا ما لا تفتضحون به عنده ، وهو التقوى ، فانّ خير الزاد التقوى (وَبَشِّرِ) يا محمّد (الْمُؤْمِنِينَ) الكاملين في الايمان أو العاملين المستوجبين للمدح والتعظيم بفعل الطاعات والحسنات ، وترك المعاصي والقبائح ، وكأنّ (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ) بيان لقوله (مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ) أي المأمور بالإتيان موضع حرثكم فأتوه من أين أردتم كما في الحرث إلّا أنكم تجتنبون في زمان الحيض مكانه ، والله أعلم.

السابعة : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ) (٢).

في الكشّاف : إنشاء عبّر عنه بالخبر كقوله (يَتَرَبَّصْنَ) للمبالغة ، معناه لترضع الأمّهات أولادهنّ على طريق الاستحباب والندب إذ لا يجب عليهنّ إرضاع أولادهنّ عندهم إلّا في الصور المخصوصة ، فيه أنّه خلاف الظاهر مع التعبير بالخبر للمبالغة ، وأيضا الظاهر أنّ الإرضاع في الحولين واجب فلا يفهم حينئذ من الآية لحملها على الندب ، مع أنّ الأكثر يستدلّ بها على حدّه ، أو الوجوب فيلزم تخصيصها بالصور الخاصّة مثل أن لا يعيش إلّا بلبن أمّه بأن لا يشرب إلّا لبنها أو لا يوجد غيرها أو الوالد يكون عاجزا عن تحصيل غيرها لعدم قدرته على الأجرة فيكون الولد ممّن تجب نفقته على الامّ إن كانت قادرة ويحتمل أيضا أن يكون المعنى أنّ الإرضاع في هذه المدّة للامّ ، بمعنى أنّه حقّها يجب على الأب تمكينها منه ولا يجوز له الأخذ

__________________

(١) وفي الحديث لا يموت للمؤمن ثلاثة أولاد فتمسه النار إلا تحله القسم اى قدر ما بين الله تعالى قسمه فيه بقوله تعالى (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا) (الصحاح).

(٢) البقرة : ٢٣٣.

٥٥٦

منها وإرضاع غيرها ، فيكون حينئذ إخبارا عن حقّ الامّ الواجب على الأب فلا يحتاج إلى ارتكاب الخروج عن الظاهر ، ولكن شرط الأصحاب عدم رضاع غيرها بأقلّ ممّا ترضى ، وعدم وجود متبرّعة إذا لم تتبرّع هي بالإرضاع ، وهو بالحقيقة شرط وقيد لقوله (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ) على بعض الوجوه.

والظاهر حمل الوالدات على عمومها كما هو الظاهر ، لا تخصيصها بالمطلّقات لأنّ الكلام فيهنّ لعموم اللّفظ ، وأيضا الظاهر أن تقييد الحولين بالكاملين لدفع احتمال المسامحة المشهورة في مثله يقال أقمت عند فلان سنة وفي البلد الفلاني سنة ، مع عدم استكمالها (لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) أي هذا الحكم وهو الإرضاع في الحولين لمن أراد إتمام الرضاعة من الآباء أو أنّه متعلّقة بيرضعن فانّ الوالد هو الّذي يرضع الولد له وينسب إليه لا الأمّ في الأغلب والأكثر ، وأكّد هذا المضمون بقوله (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) حسب ما يكون معروفا في العرف والشرع مثله لمثلها ، فيكلّف بما يحصل له بسهولة ويليق بأمثالهما ، ولعلّه نبّه عليه بقوله (لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها) أي لا يكلّف الله تعالى نفسا مّا أمرا شاقّا بحيث يكون حرجا وضيقا ، فإنّه لا يناسب الشّريعة السهلة ، بل العقل أيضا ، لا أنّه لا يكلّف بما لا يطاق أصلا كما قيل ، إذ لا يحتاج ذلك إلى النقل فانّ العقل يحكم به بديهة.

فبظاهرها دلّت على أنّ الإرضاع حقّ لهنّ فلا يمنعن أو على استحبابه أو وجوبه في الجملة على ما مرّ ، وأنّ ذلك عامّ لكلّ أمّ فإن خرجت واحدة لدليل وإلّا بقيت على العموم ، ودلّت أيضا على أنّ الحولين حقّ لكلّ ولد سواء ولد لستّة أشهر أو أكثر أن أراد الوليّ إتمام الرّضاعة ، وبعضهم خصّصه بالأوّل ويفهم كونه مقبولا للأصحاب من مجمع البيان لقوله (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) والظاهر خلافه ، وعلى أن ليس أكثر من ذلك وقت الرضاع ، فلو علّق أمرا بالرّضاع لا يتعدّى عن الحولين فافهم.

فدلّت بالقيد على جواز النقص مطلقا إن لم يرد إتمام الرضاعة ، ولكن قال

٥٥٧

الأصحاب لا يجوز النقص إلّا شهرا وشهرين وفي بعض العبارات ثلاثة أيضا ولعلّ هذا التحديد بالإجماع أو الروايات ، فقول صاحب مجمع البيان : وأمّا حدّ القلّة فمنوط بحال الصبيّ فبأيّ شيء يعيش يجوز الاقتصار عليه ، والكثرة محدودة بالحولين. محلّ التأمّل ، نعم ظاهر الآية تحديد جانب الكثرة كما قلنا لكنّ الأصحاب جوّزوا الزيادة عليه أيضا بمقدار ما جوّزوا النقيصة ، فكأنّه لما مرّ أو للضرورة ، فلا ينافي الآية لأنّ جميع الأحكام مخصوصة ظاهرا بحال الاختيار عقلا ونقلا أو بقوله تعالى (فَإِنْ أَرادا فِصالاً) لما سيجيء.

ودلّت أيضا على وجوب النفقة والكسوة على والد الولد ، فإيجاب اجرة زيادة على نفقة الزوجيّة بها بعيد ويمكن حملها عليه حيث قوبلت بالرّضاع فتكون محمولة على اجرة المثل ، وكونها في وقت نزولها ذلك غير بعيد ، وفي غير ذلك يكون اجرة المثل يساوي ذلك أو زاد أو نقص ، وهذا يكون مخصوصا بما إذا كانت الولد ممّن تجب نفقته على الوالد ، بأن يكون فقيرا وأبوه غنيّا إذا الظاهر أن ليس شيء واجب على الوالد إلّا النفقة وهي مخصوصة لما قلناه على ما صرّحوا به ، وإلّا يكون من مال الولد وإن لم يكن له مال فعلى الامّ وإلّا فمن بيت المال.

(لا تُضَارَّ) وكأنّه تفصيل وبيان للاتكلّف أي يكلّف كلّ منهما ما ليس في وسعه وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب لا تضارّ بالرفع بدلا عن قوله (لا تُكَلَّفُ) كذا قيل والظاهر أنّ معناه يغاير معنى لا تكلّف ولو ببعض الاحتمالات ، وقرأ أكثر القرّاء بفتح الراء ، وعلى التقديرين يحتمل البناء للفاعل فأصله «يضارر» بكسر الأوّل والمفعول فأصله يضارر بفتحه ، والمعنى المقصود على التقادير النهي ، أي لا تضارّ والدة زوجها بسبب ولدها ، وهو أن تعنّفه به وتطلب منه ما ليس بمعروف وعدل من الرزق والكسوة ، وأن تشغل قلبه في شأن الولد وأن تقول بعد ما ألفها الولد اطلب له ظئرا وما أشبه ذلك ، مثل أن تترك إرضاع الولد فيحصل للولد مرض أو موت في يد الأجنبيّة أو لم تفعل ما وجب عليها بعد الإجارة بحيث يحصل الضرر للولد فيضرّ الوالد بسببه ولا يضارّ المولود له أيضا امرأته بسبب ولده بأن يمنعها شيئا ممّا

٥٥٨

وجب عليه من رزقها وكسوتها ، أو يأخذه منها وهي تريد الإرضاع فتتضرر بمفارقة الولد ونحوه ، ولا يكرهها عليه إذا لم تردّه فتتضرّر بالإكراه.

وقال في مجمع البيان : وروي عن السيدين الباقر والصّادق عليهما‌السلام لا تضارّ والدة بأن يترك جماعها خوف الحمل ، لأجل ولدها المرتضع ، ولا مولود له بولده أي لا تمنع نفسها من الأب خوف الحمل ، فيضرّ ذلك بالأب ، لعلّ المراد في الأولى بعد مضىّ أربعة أشهر ، فإنّه حينئذ لا يجوز له الترك ، وأمّا قبله فيجوز فلا يكون منهيّا إلّا أن يحمل على الكراهة ، وقيل مطلق الجماع حال الرضاع يضرّ المرتضع تحمل الأمّ أم لا ، رأيت ذلك في قانون الشيخ في الطبّ ولا يتفاوت الحال بالبناء للفاعل والمفعول ، فإنّه يكون نهيا عن أن يلحق بها الضرر من قبل الزوج ، وأن يلحق به الضرر من جهة الزوجة بسبب الولد.

ويجوز أن يكون «تضارّ» بمعنى تضرّ ، وأن يكون الباء من صلته أي لا تضرّ والدة بولدها فلا تسيء غذاءه وتعهّده ولا تفرّط فيما ينبغي له ، ولا تدفعه إلى الأب بعد ما ألفها ، ولا يضرّ الوالد به بأن ينتزعه من يدها مع الإلف والضرر ، أو يقصر في حقّها فتقصّر هي في حقّ الولد ، وإسناد الولد إليها تارة بقوله ولدها وإليه أخرى بقوله لولده إشارة إلى الاستعطاف وعدم التقصير في حقّه واستعمال الشفقة.

(وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ) قيل إنّه عطف على المولود له إلخ وما بينهما اعتراض لبيان تفسير المعروف ، فكأنّ المعنى وعلى وارث المولود له مثل ما وجب عليه ، أي يجب عليه مثل ما وجب على المورّث ، فعلى الوارث خبر مقدّم متعلّق بمقدّر ، ومثل ذلك مبتدأ ، يعني إن مات المولود له لزم من يرثه أن يقوم مقامه في أن يرزقها ويكسوها بالمعروف وعدم الضرر ، وهذا مشكل لعدم وجوب نفقة الولد على غير الأبوين ، فلا تجب اجرة الرضاع على غيرهما ، وهو مذهب الأصحاب والشافعيّ فقيل المراد من الوارث هو الولد المرتضع فتجب الأجرة في ماله بأن يعطيه الوليّ أو الوصيّ أو الحاكم أو من ينوبه فيسترضع وهو بعيد عن ظاهر الآية.

٥٥٩

ويحتمل بعيدا أيضا أن يكون المراد أمّ المرتضع أي المرضعة يجب على نفسها حينئذ نفقتها وكسوتها ويحتمل إرادة الجدّ والجدّة أيضا على المذهب أو كانت الأمّ المرضعة محتاجة لا تعيش بدون اجرة رضاعها ويحتمل أيضا كونها واجبة على الورثة في مال الميت بأن كان أوقع الإجارة ، ومات من غير أن يسلم تمام الأجرة فتكون الآية حينئذ دليلا على عدم بطلان الأجرة بموت الموجر ، وقيل المراد وارث الصبيّ وهو خلاف الظاهر إذ الظاهر أنّ المراد من الوارث وارث الميّت المشار إليه وأيضا إنّ الوارث إنّما يقال حقيقة إذا ورث وإطلاقه على من يكون وارثا على تقدير موت الصبيّ وتخلّفه مالا بعيد ، وأيضا ليس بمنطبق على المذهب المتقدّم إلّا بالتأويل المذكور في الجملة فلا يحتاج حمله على خلاف الظاهر ، إذ يصحّ حمله على وارث الوالد.

(فَإِنْ أَرادا) الوالد والوالدة (فِصالاً) أي قطع الولد من الرضاع قبل الحولين أو بعده ، على الاحتمال كما قاله في الكشّاف ، فانّ الفصال أعمّ فالحمل عليه دون ما قبله كما في باقي التفاسير أولى ، صادرا (عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ) مشتملا على مصلحة الصبيّ وعدم ضرر به (فَلا جُناحَ) ولا إثم (عَلَيْهِما) فيما فعلا وحذف للظهور واشتراط رضى الأب ممّا لا كلام فيه ، لأنّه وليّ اتّفاقا وأمّا الأمّ فلأنّها أحقّ بالتربية وهي أعرف بحال الصبيّ مع كثرة حقّها عليه وزيادة شفقتها له ، فناسب اعتبار رضاها ، إذا لم يكن قصدها إلّا الإصلاح ، ولا يبعد حينئذ الرضا والمشورة من العارفين بحال الصبيّ فكيف الامّ العارفة فكأنّ في إطلاق التشاور من غير الإضافة إليهما إشارة إلى ما قلناه فافهم ، [و] التشاور والمشاورة والمشورة استخراج الرأي من شرت العسل إذا أخرجته.

فدلّت الآية على جواز النقص والزيادة على الحولين ، لكن مع التراضي والمصلحة ، وهو ظاهر ، وقاله الأصحاب أيضا ، لكن ما ذكروا التراضي وحدّدوا بشهر واثنين وثلاثة كأنّه للإجماع أو الرواية كما مرّ.

(وَإِنْ أَرَدْتُمْ) خطاب للأزواج (أَنْ تَسْتَرْضِعُوا) المراضع (أَوْلادَكُمْ) أي لأولادكم فالاسترضاع يتعدّى إلى مفعولين حذف أحدهما للاستغناء عنه ، وكذا

٥٦٠