العبّاس عليه السلام

السيد عبد الرزاق الموسوي المقرّم

العبّاس عليه السلام

المؤلف:

السيد عبد الرزاق الموسوي المقرّم


المترجم: الشيخ محمّد الحسّون
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: منشورات الإجتهاد
الطبعة: ١
ISBN: 964-95037-0-6
الصفحات: ٣٩١

فقال عبد المُطّلب : مدّ يدَك. فمدّ يده فضرب بيده على يد أبي طالب ، ثم قال عبد المُطّلب : الآن خُفف عليَّ الموت. ولم يزل يُقبّله ويقول : أشهدُ أنّي لم أرَ أحداً في وُلدي أطيبَ ريحاً منك ، ولا أحسنَ وجهاً (١).

وفرح أبو طالب بهذه الحظوة من أبيه العطوف ، وراح يدّخر لنفسه السّعادة الخالدة بكفالة نبيّ الرحمة ، فقام بأمره ، وحماه في صغره بماله وجاهه من اليهود والعرب وقريش ، وكان يؤثره على أهله ونفسه ، وكيف لا يؤثره وهو يشاهد من ابن أخيه ـ ولمّا يبلغ التاسعة من عمره ـ هيكل القدس يملأ الدست هيبةً ورجاحة. أكثر ضحكه الابتسام ، ويأنس بالوحدة أكثر من الاجتماع.

وإذا وضع له الطعام والشراب لا يتناول منه شيئاً إلاّ قال : «بسمِ اللّهِ الأحد». وإذا فرغ من الطعام حمد اللّه وأثنى عليه ، وإنْ رصده في نومه شاهد َالنّور يسطع من رأسه إلى عنان السّماء (٢).

وكان يوماً معه بذي المجاز ، فعطش أبو طالب ولم يجد الماء ، فجاء النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى صخرة هناك وركلها برجله ، فنبع من تحتها الماء العذب (٣). وزاد على ذلك ، توفر الطعام القليل في بيته حتّى أنّه يكفي الجمع الكثير إذا تناول النّبيُّ صلى‌الله‌عليه‌وآله منه شيئاً (٤).

وهذا وحده كافٍ في الإِذعان بأنّ أبا طالب كان على يقين من نبوّة ابن أخيه محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله.

__________________

(١) كمال الدِّين وتمام النّعمة / ١٧٢ ، وعنه المجلسي في بحار الأنوار ١٥ / ١٤٣.

(٢) انظر : مناقب آل أبي طالب ١ / ٣٦ ـ ٣٧ ، وعنه المجلسي في بحار الأنوار ١٥ / ٢٣٥.

(٣) السّيرة الحلبيّة ١ / ١٩١.

(٤) المصدر نفسه ١ / ١٨٩.

٤١

أضف إلى ذلك قوله في خطبته لمّا أراد أنْ يزوّجه من خديجة : وهو واللّه ، بعد هذا له نبأٌ عظيم ، وخطرٌ جليل (١).

وفي وصيّته لقريش : إنّي اُوصيكم بمحمّدٍ خيراً ؛ فإنّه الأمينُ في قريش ، والصدّيقُ في العرب ، وهو الجامع لكُلِّ ما أوصاكم به ، وقد جاء بأمرٍ قِبَله الجنان (٢).

ولمّا جاء العبّاس بن عبد المُطّلب يخبره بتألّب قُريش على معاداة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال له : إنّ أبي أخبرني أنّ الرسول على حقٍّ ، ولا يضرّه ما عليه قريش من معاداة له ، وإنّ أبي كان يقرأ الكتب جميعاً ، وقال : إنّ من صُلبي نبيّاً ، لوددت أنّي أدركته فآمنت به ، فمَن أدركه فليؤمن به (٣).

واستشهاده بكلمة أبيه القارئ للكتب ، مع أنّه كان يقرؤها مثله ، يدلّنا على تفنّنه في تنسيق القياس وإقامة البرهان على صحة النّبوّة ، وأنّ الواجب اعتناق شريعته الحقَّة.

أمّا هو نفسه ، فعلى يقين من أنّ رسالة ابن أخيه صلى‌الله‌عليه‌وآله خاتمة الرُّسل ، وهو أفضل مَن تقدّمه قبل أنْ يشرق نور النّبوّة على وجه البسيطة

__________________

(١) السّيرة الحلبيّة ١ / ٢٢٦ ، إمتاع الأسماع للمقريزي ٦ / ٢٩ ، تفسير البحر المحيط ٣ / ١١٠.

(٢) السّيرة الحلبيّة ٢ / ٤٩ ، الغدير ٧ / ٣٦٦ ، وقد ذكر المصادر المُوردة للحديث.

(٣) الفتوح لابن أعثم الكوفي ٢ / ٥٥٧ ، الغدير ٧ / ٣٤٨ ، وقد ذكر المصادر المُوردة للحديث ، ثمّ قال ، قال الأميني : أترى أنّ أبا طالب يروي ذلك عن أبيه مُطمئناً به ، وينشط رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله هذا التنشيط لأوّل يومه ، ويأمره بإرشاد أمره والإشادة بذكر اللّه ، وهو مُخبت بأنّه هو ذلك النّبي الموعود بلسان أبيه والكتب السّالفة ، ويتكهّن بخضوع العرب له ; أتراه سلام اللّه عليه يأتي بهذه كلِّها ثُمّ لا يؤمن به؟! إنّ هذا إلاّ اختلاق.

٤٢

ولم تُجهل لديه صفات النّبي المبعوث صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وعلى هذا الأساس ؛ أخبر بعضُ أهل العلم من الأحبار حينما أسرّ إليه بأنّ ابن أخيه محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله الروح الطيّبة ، والنّبي المُطهّر على لسان التوراة والإنجيل ، فاستكتمه أبو طالب الحديثَ كي لا يفشوا الخبر ، ثمّ قال له : إنّ أبي أخبرني أنّه النّبيُّ المبعوث ، وأمر أنْ أستر ذلك ؛ لئلاّ يغرى به الأعادي.

ولو لمْ يكن مُعتقداً صدق الدَّعوة ، لما قال لأخيه حمزة لمّا أظهر الإسلام :

فصَبْراً أبا يَعلَى على دينِ أحمدٍ

وكُنْ مُظهراً للدِّين وُفّقتَ صابِرَا

وحطْ مَن أتى بالدِّين مِن عندِ ربِّهِ

بصدقٍ وحقٍّ لا تكُنْ حمزَ كافرَا

فقدْ سَرّني إذْ قلتَ إنّك مُؤمنٌ

فكُنْ لرسولِ اللّهِ في اللّهِ ناصرَا

ونادِ قُريشاً بالذي قَدْ أتيتَهُ

جهاراً وقُلْ ما كان أحمدُ ساحرَا (١)

وقال رادّاً على قريش :

أَلَمْ تَعْلَموا أنّا وجدنا محمّداً

نبيّاً كموسى خُطَّ في أوّلِ الكُتُبِ (٢)

__________________

(١) مناقب آل أبي طالب ١ / ٥٦ ، كنز الفوائد للكراجكي / ٧٩ ، الغدير ٧ / ٣٥٧ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١٤ / ٧٦.

(٢) مناقب آل أبي طالب ١ / ٥٧ ، كنز الفوائد للكراجكي / ٧٩ ، البداية والنّهاية لابن كثير ٣ / ١٠٨ ، السّيرة النّبويّة لابن هشام ١ / ٢٣٥.

٤٣

وقال :

وأَمسَى ابنُ عبدِ اللّهِ فينا مُصدّقاً

على سَخَطٍ مِنْ قَومِنا غيرَ مُعتبِ (١)

وقال :

أمينٌ مُحبٌّ في العبادِ مُسوّمٌ

بخاتمِ ربٍّ قاهرٍ للخواتمِ

يرى النّاسُ بُرهاناً عليه وهيّبةً

وما جاهلٌ في فعلِهِ مثلُ عالمِ

نبيٌّ أتاه الوحيُ منْ عندِ ربِّهِ

فمَنْ قال لا يقرعْ بها سنَّ نادمِ (٢)

وممّا خاطب به النّجاشي :

تَعَلَّمْ خيارَ النّاسِ أنّ مُحمّداً

نبيٌّ كموسى والمسيحِ بنِ مريمِ

أتَى بالهُدى مثلَ الذي أتيَا بهِ

فكُلٌّ بأمرِ اللّه يهدي ويَعصمُ

وإنّكُمُ تتلونَهُ في كتابكُمْ

بِصدقِ حديثٍ لا حديثِ المُترجمِ

فلا تجعلوا للّهِ نِدَّاً وأسلموا

فإنّ طريقَ الحقِّ ليسَ بمُظلِمِ

وقال :

اذهبْ بُنيَّ فمَا عليكَ غَضاضَة

اذهبْ وقرَّ بذاك مِنكَ عُيونا

واللّهِ لنْ يَصلوا إليكَ بجمعِهمْ

حتّى اُوسّدَ في التّرابِ دفينا

ودعوتني وعلمتُ أنّكَ ناصحي

ولقد صدقتَ وكُنتَ قَبلُ أمينا

__________________

(١) مناقب آل أبي طالب ١ / ٥٨ ، سيرة ابن إسحاق / ١٤٥ ، الدّر النّظيم للعاملي / ٢١٦.

(٢) كنز الفوائد للكراجكي / ٧٩ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١٤ / ٧٣.

٤٤

وذكرتَ دِيناً لا محالةَ أنّهُ

مِنْ خير أديانِ البريَّةِ دِينا (١)

وبعد هذه المصارحة ، هل يخالج أحداً الريبُ في إيمان أبي طالب؟

وهل يجوز على مَن يقول : ... إنّا وجدنا محمّداً نبيّاً كموسى ... إلاّ الاعتراف بنبوّته والإقرار برسالته كالأنبياء المُتقدّمين؟

وهل يكون إقرار بالنّبوّة أبلغ من قوله : وأَمسَى ابنُ عبدِ اللّهِ فينا مُصدّقاً ...؟

وهل فرق بين أنْ يقول المُسلم : أشهد أنْ لا إله إلاّ الله ، وبين أنْ يقول :

وإنْ كانَ أحمدُ قَدْ جاءَهُمْ

بصدقٍ ولم يُتَّهمْ بالكَذبْ؟ (٢)

أو يعترف الرجلُ بأنّ محمّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله كموسى وعيسى عليهما‌السلام جاء بالهدى والرشاد مثل ما أتيا به ، ثُمّ يُحكم عليه بالكفر؟

وهل هناك جملة يعبّر بها عن الإسلام أصرح من قول المسلم :

وذكرتَ دِيناً لا محالةَ أنّهُ

مِنْ خير أديانِ البريَّةِ دِينا؟

كلاّ ، ولو لم يعرف أبو طالب من ابن أخيه الصدقَ فيما أخبر به لَما قال له بمحضر قريش ؛ ليريهم من فضله وهو به خبيرٌ وجنانُهُ طامنٌ : يابن أخي ، اللّه أرسلك؟

__________________

(١) مناقب آل أبي طالب ١ / ٣٠١ ، بحار الأنوار ٣٥ / ٨٧ ، الغدير ٧ / ٣٣٤ ، فتح الباري ٧ / ١٤٨ ، تخريج الأحاديث والآثار للزيلعي ١ / ٤٣٥ ، الكشّاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل للزمخشري ٢ / ١٢ ، تفسير الثعلبي ٤ / ١٤١ ، تفسير البغوي ٢ / ٩١ ، زاد المسير لابن القيّم ٢ / ١٧ ، تاريخ الإسلام للذهبي ١ / ١٥٠ ، البداية والنّهاية لابن كثير ٣ / ٥٦ ، السّيرة الحلبيّة ١ / ٤٦٢ ، وغيرها من المصادر الكثيرة التي نقلت هذا الشعر بتمامه أو بعض المقاطع منه.

(٢) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١٤ / ٦٢ ، سيرة ابن إسحاق / ١٤٤.

٤٥

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «نعم».

قال : إنّ للأنبياء معجزةً وخرقَ عادةٍ ، فأرنا آية.

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «يا عمُّ ، ادعُ تلك الشجرةَ وقُل لها ، يقول لك محمّدٌ بنُ عبد اللّه : أقبلي بإذن اللّه». فدعاها أبو طالب ، فأقبلت حتّى سجدت بين يديه ، ثُمّ أمرها بالانصراف فانصرفت ، فقال أبوطالب : أشهدُ أنّك صادق. ثُمّ قال لابنه علي عليه‌السلام : يا بُنيَّ الزمه (١).

وقال يوماً لعليٍّ عليه‌السلام : ما هذا الذي أنت عليه؟

قال : «يا أبة ، آمنتُ باللّهِ ورسولهِ ، وصدّقتُ بما جاء به ، ودخلتُ معه واتَّبعتُهُ». فقال أبو طالب : أما أنّه لا يدعكَ إلاّ إلى خير فالزمه (٢).

وهل يجد الباحث بعد هذا كُلّه ملتحداً عن الجزم بأنّ شيخ الأبطح كان مُعتنقاً للدّين الحنيف ، ويكافح طواغيت قريش حتّى بالائتمام مع النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في صلاته وإنْ أهمله فريق من المؤرّخين ؛ رعايةً لِما هُم عليه من حُبّ الوقيعة في أبي طالب ورميه بالقذائف ؛ حنقاً على ولده (الإمام) الذي لم يتسنّ لهم أي غميزة فيه ، فتحاملوا على اُمّه وأبيه إيذاءً له ، وإكثاراً لنظائر مَن يرومون إكباره وإجلاله ممّن سبق منهم الكفر ، وحيث لمْ يسعهم الحطُّ من كرامة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو الوصيّ عليه‌السلام عمدوا إلى أبويهما الكريمين ، فعزوا إليهما الطّامّات ، وربما ستروا ما يُؤثر عنهما من الفضائل إيثاراً لما يروقهم اثباته؟!

__________________

(١) بحار الأنوار ٣٥ / ١١٥ ، الغدير ٧ / ٣٩٦.

(٢) مناقب آل أبي طالب ١ / ٣٠١ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١٣ / ٢٠٠ ، تفسير الثعلبي ٥ / ٨٥ تاريخ الطبري ٢ / ٥٨ ، السّيرة الحلبيّة ١ / ٤٣٦ ، سُبل الهدى والرشاد للصالحي الشامي ٢ / ٣٠١.

٤٦

ويشهد لذلك ما ذكره بعض الكتّاب عند ذكرى أسرى بدر ، فقال : وكان من الأسرى عمُّ النّبي ، وعقيل ابن عمّه (أخو علي) (١)!

فإنّه لو كان غرضه تعريف المأسور ، لكان في تعريف عقيل بأنّه ابن عمّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كفاية ، كما اكتفى في تعريف العبّاس بأنّه عَمُّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولم يحتج أنْ يكتب بين قوسين (أخو علي)! وأنت تعرف المراد من ذكر هذه الكلمة بين قوسين ، وإلى أيّ شيء يرمز بها الكاتب ، ولكن فاته الغرض ، وهيهات الذي أراد ففشل!

ثُمّ جاء فريق آخر من المؤرّخين يحسبون حصر المصادر في ذوي الأغراض المستهدفة ، وأنّ ما جاؤوا به حقائق راهنة ، فاقتصر على مرويّاتهم ممّا دبَّ ودرج ، وفيها الخرافات وما أوحته إليهم الأهواء والنّوايا السيّئة ؛ ومن هنا اُهملت حقائق ورويت أباطيل.

فعزوا إلى أبي طالب قوله : إنّي لا اُحبّ أنْ تعلوني اُستي (٢).

__________________

(١) تاريخ الاُمّة العربية / ٨٤ ، مطبعة الحكومة ـ بغداد / ١٩٣٩ م.

(٢) مُسند أحمد ١ / ٩٩ ، مجمع الزوائد للهيثمي ٩ / ١٠٢ ، وقال : رواه أحمد وأبو يعلى باختصار ، والبزّار والطبراني في الأوسط ، وإسناده حسن. مُسند أبي داود الطيالسي / ٢٦ ، السّيرة الحلبيّة ١ / ٤٣٦.

والجدير بالذكر أنّ الحديث ورد عن طريق يحيى بن سلمة بن كهيل ، عن أبيه ، عن حبّة العرني ، عن علي ، وعليه فالكلام يقع في مقامين :

الأوّل : في سند الحديث.

والثاني : في متن الحديث.

أمّا سند الحديث فلا يحتاج إلى كثير مؤونة ; لأنّ يحيى بن سلمة بن كهيل ضعيف ، قال الذهبي في ميزان الاعتدال ٤ / ٣٨١ / ٩٥٢٧ : يحيى بن سلمة بن كهيل عن أبيه :

قال أبو حاتم وغيره : منكر الحديث.

٤٧

ثُمّ رووا عنه أنّه قال لرسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله : ما هذا الدِّين؟

قال رسول اللّه : «دينُ اللّه ودينُ ملائكتهِ ورُسلهِ ، ودين أبينا إبراهيم ، بعثني اللّه به إلى العباد ، وأنت أحقُّ مَن دعوته إلى الهدى ، وأحقُّ مَن أجابني».

__________________

وقال النّسائي : متروك.

وقال عباس عن يحيى : ليس بشيء ، لا يُكتب حديثه.

وقال محمّد بن إبراهيم بن أبي العنس : أخبرني يحيى بن سلمة ، قال : كان سفيان الثوري يجيء إلى أبي وهو غلامٌ عليه أقبية يسمع منه ، فكان أبي يُعيّرني به ، ويقول : انظر إلى هذا الغلام يجيء من بني ثور رغبة في الحديث ، وأنت هاهنا لا ترغب فيه!

وارجع إلى غيره تجد ترجمته كما ذُكرنا.

وأمّا النّاحية الثانية المتعلقة بمتن الحديث ، فنقول : إنّ صاحب السّيرة الحلبيّة ١ / ٤٣٦ قال بعد أنْ ذكر الحديث : وهذا ـ كما لا يخفى ـ ينبغي أنْ يكون صَدرَ منه قبل ما تقدّم من قوله لابنه جعفر : صِلْ جناح ابن عمِّك وصلِّ على يساره ، لمّا رأى النّبيَّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يُصلّي وعليٌّ على يمينه.

فاذاً لابُدّ من تَخطّي هذا الأمر وإثبات أنّ هذا القول صدر بعد ما أوصى جعفر بالصلاة مع النّبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنّى له إثبات ذلك ، مع ما عرفته من حال السّند؟!

أضف إلى ذلك أنّه قال : وذكر أنّ أبا طالب قال لعليٍّ : أي بُني ، ما هذا الذي أنت عليه؟

فقال : «يا أبتِ ، آمنتُ باللّه ورسولِهِ ، وصدّقتُ ما جاء به ، ودخلتُ معه واتَّبعتُهُ».

فقال : أما أنّه لمْ يدعكَ إلاّ إلى خير فالزمه.

وعليه فيكون الحديث المُتقدّم باطلاً ; لأنّ المعروف خلافه.

يُضاف إلى ذلك تناقض آخر ، إذ ذكروا أنّ أبا طالب مات مُشركاً ، لا لأجل هذه المقولة : إنّي لا اُحبّ أنْ تعلوني اُستي ؛ بل لأجل ما ذكروا من قول أبي طالب : إنّي لأعلم أنّ ما يقوله ابنُ أخي لحقٌّ ، ولولا أنّي أخاف أنْ تُعيّرُني نساءُ قريشٍ لاتّبعته.

فيكون عدم الاتّباع لأجل هذا لا إلى ما تقدّم.

فاذاً الحديث ضعيف سنداً ، ومن الجهة الاُخرى فيه مشاكل مقنية تأبى قبوله أو التّصديق به ، فيكون من مُختلقات العثمانيين.

٤٨

فقال أبو طالب : إنّي لا استطيع أنْ اُفارق ديني ودين آبائي. واللّه ، لا يخلص إليك من قريش شيءٌ تكرههُ ما حييت (١).

فحسبوا من هذا الكلام أنّ أبا طالب ممّن يعبد الأوثان ، كيف! وهو على التوحيد أدلّ.

وجوابه : هذا من أنفس التورية وأبلغ المحاورة ؛ فإنّ مراده من قوله لرسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله عقيب قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «أنت أحقُّ مَن دعوته». إنّي لا أستطيعُ أنْ اُفارق ديني ودين آبائي ؛ الاعتراف بإيمانه ، وأنّه باقٍ على الملّة البيضاء ، وحنيفيّة إبراهيم الخليل عليه‌السلام الذي هو دين الحقّ والهدى ، وهو دينه ودين آبائه ، ثُمّ زاد أبو طالب في تطمين النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بالمُدافعة عنه مهما كان باقياً في الدُّنيا.

نعم ، مَن لا خبرة له بأساليب الكلام وخواصّ التورية يحسب أنّ أبا طالب أراد بقوله : إنّي لا اُفارق ديني ... الخضوع للأصنام ، فصفّق طرباً واختال مرحاً.

وجاء الآخر يعتذر عنه : بأنّه كان يراعي بقوله هذا ، الموافقة لقريش ؛ ليتمكّن من كلائة النّبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وتمشية دعوته.

نحن لا نُنكر أنّ شيخ الأبطح كان يلاحظ شيئاً من ذلك ، ويروقه مداراة القوم في ما يمسّ بكرامة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله للحصول على غايته الثمينة ، لكنّا لا نوافقهم في كلّ ما يقولون : من انسلاله عن الدِّين الحنيف انسلالاً باتّاً ؛ فإنّه خلاف الثابت من سيرته حتّى عند رواة تلكم المُخزيات ، ومُهملي الحقائق النّاصعة حذراً عمّا لا يُلائم خطّتهم ، فلقد كان يُراغم اُولئك الطواغيت بما هو أعظم من التّظاهر بالإيمان ، والائتمام بالصلاة مع النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

__________________

(١) تاريخ الطبري ٢ / ٥٨ ، الكامل في التاريخ ٢ / ٥٨.

٤٩

وإنّ شعرّه الطافح بذكر النّبوّة والتصديق بها سرت به الركبان ، وكذلك أعماله النّاجعة حول دعوة الرسالة :

ولولاَ أبُو طَالبٍ وابنِهِ

لما مَثِّلَ الدِّين شَخْصاً فَقامَا

فَذاكَ بِمكَّةَ آوَى وحَامَا

وهذا بيثرِبَ جَسّ الحِمامَا

تَكفّلَ عَبدُ مُناف بأمرٍ

وأَودَىَ فَكَان عليٌّ تَمامَا

فللهِ ذا فَاتِحٌ للهُدَى

وللّه ذا للمَعالِي خِتامَا

وما ضرَّ مَجدَ أبي طَالبٍ

عَدوٌّ لَغَا أو جَهولٌ تعامَى (١)

__________________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١٤ / ٨٤ ، قال ابن أبي الحديد المعتزلي : وصنّف بعض الطالبيين في هذا العصر كتاباً في إسلام أبي طالب وبعثه إليّ ، وسألني أنْ أكتب عليه بخطّي نظماً أو نثراً ، أشهد فيه بصحة ذلك وبوثاقة الأدلّة عليه ، فتحرّجتُ أنْ أحكم بذلك حكماً قاطعاً ؛ لما عندي من التوقّف فيه ، ولم استجزْ أنْ أقعد عن تعظيم أبي طالب ؛ فإنّي أعلمُ أنّه لولاه لما قامت للإسلام دعامة ، وأعلمُ أنّ حقّه واجبٌ على كلّ مسلم في الدُّنيا إلى أنْ تقوم السّاعة ، فكتبت على ظاهر المجلد : ولولاَ أبُو طَالبٍ وابنِهِ ...

على أنّا نقول : إنّ الأدلّة على إيمانه كثيرة ، بينما الأدلّة المنقولة عن عدم إيمانه ، فيها ما هو مرفوض ; لأنّ في أسانيدها مَن كان يُبغض عليَّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، كحديث الضحضاح من النّار ; فإنّه رواية المغيرة بن شعبة ، وهو معلوم البغض والعداوة لأهل البيت عليهم‌السلام ولعلي عليه‌السلام بالخصوص ؛ حيث كان يسبُّه على المنابر ، ويُقيم الخطباء على سبِّه ، فمثل هذا الشخص لا تحلّ عنه الرواية مُطلقاً فضلاً عن روايته عن حال أهل البيت عليهم‌السلام.

والخُلاصة : إنّ أبا طالب مؤمنٌ باللّه ورسوله لعدّة أدلّة لا مطعن لها،ولا تحتاج إلى تأويل ، وهي كالتالي :

١ ـ الأشعار الكثيرة التي أطلقها أبو طالب في حقّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والذي فيها التصريح بإيمانه وتصديقه برسالة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله.

٢ ـ إنّ فاطمة بنت أسد ـ زوجة أبي طالب ـ من المُسلمات الأوّليّات ، وقد بقيت على نكاح أبي طالب إلى أنْ مات ، ولم يُفرِّقها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ولا أمر بتفريقهما.

٣ ـ بعض الأحاديث المنقولة عن أبي طالب والتي تدلّ على إسلامه.

٥٠

وأمّا أمير المؤمنين عليه‌السلام فيخرس البليغ عن أنْ يأتي على صفاته ، ويقف الكاتب مُتردّداً ، وما عساه أنْ يقول في مَن قال فيه أبوه أبو طالب ، لمّا فزعت قريش إليه ليلة ولادة أمير المؤمنين عليه‌السلام إذ أبصروا عجائب لم يروها ، ولم يسمعوا بها :

أيّها النّاس ، سيظهر في هذه الليلة وليٌّ من أولياء اللّه ، يُكمّل فيه خصالَ الخير ، ويُتمّ به الوصيّين ، وهو إمام المُتّقين وناصر الدِّين ، وقامع المُشركين وغيظ المُنافقين ، وزين العابدين ووصيِّ رسول ربِّ العالمين ؛ إمامُ هدىً ، ونجم علاً ومُصباح دجىً ، ومبيد الشرك والشبهات ، وهو نفس اليقين.

__________________

٤= محبَّة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله لأبي طالب معلومة مشهورة ، فهذا يدلّ على إيمانه ؛ لأنّ اللّه تعالى أمر ببغض المُشركين والتَّبري منهم ، فلو كان مشركاً لأبغضه.

السّنن الكبرى للبيهقي ٩ / ١٣١ ، مجمع الزوائد للهيثمي ٦ / ١٥٠ و ١٥١ ، وقال عقيبه : رواه أحمد ، ورجاله رجال الصحيح ، و ٩ / ١٢٠ و ١٢٣ و ١٢٤ و ٣٧١ ، مُسند أبي داود الطيالسي / ٣٢٠ ، المُصنّف للصنعاني ١١ / ٢٢٨ ، ح ٢٠٣٩٥ ، المُصنّف لابن أبي شيبة الكوفي ٧ / ٤٩٦ ، ح ١٥ و ٥٠٠ ، ح ٣٣ وح ٣٥ وح ٣٧ و ٥٠٤ ، ح ٥٦ و ٨ / ٥٢٠ ، ح ٢ وح ٧ و ٥٢٢ ، ح ١٠ وح ٢٢ ، مُسند ابن راهويه ١ / ٢٥٣ ، ح ٢١٩ ، مُسند سعد بن أبي وقاص / ٥١ ، ح ١٩ ، كتاب السنّة لابن عاصم / ٥٩٤ ، ح ١٣٧٩ وح ١٣٨٠ ، السّنن الكبرى للنسائي ٥ / ٤٦ ، ح ٨١٤٩ و ٨١٥١ و ١٠٨ ، ح ٨٣٩٩ وح ٨٤٠٠ وح ٨٤٠١ وح ٨٤٠٢ وح ٨٤٠٣ وح ٨٤٠٤ وح ٨٤٠٥ وح ٨٤٠٦ وح ٨٤٠٧ وح ٨٤٠٨ وح ٨٤٠٩ و ١٢٣ ، ح ٨٤٣٩ و ١٤٥ ، ح ٨٥١١ ، و ١٧٢ ، ح ٨٥٨٧ و ١٧٨ ، ح ٨٦٠١ و ١٧٩ ، ح ٨٦٠٢ و ١٨٠ ، ح ٨٦٠٣ ، خصائص أمير المؤمنين للنّسائي / ٤٩ و ٥٠ و ٥١ و ٥٢ و ٥٣ و ٥٥ و ٥٦ و ٥٧ و ٥٨ و ٥٩ و ٦٠ و ٦١ و ٦٢ و ٨٢ و ١١٦ ، صحيح ابن حبان ١٥ / ٣٧٩ و ٣٨٠ و ٣٨٢ ، المعجم الأوسط للطبراني ١ / ٢٣٩ ، و ٦ / ٥٩ ، المعجم الصغير للطبراني ٢ / ١١ ، المعجم الكبير للطبراني ٦ / ١٢٧ و ٧ / ١٣ و ١٧ و ٣٥ و ٧٧ ، الاستيعاب لابن عبد البر ٢ / ٧٨٧ و ٣ / ١٠٩٩ ، الدرر في اختصار المغازي والسّير لابن عبد البر / ١٩٨ و ١٩٩ و ٢٠٠ ، رياض الصالحين للنووي / ١٠٨ و ١٤٥.

٥١

ولم يزل يُكرّر هذا القول ، وهو يتخلّل سكك مكّة وأسواقها حتّى أصبح (١).

ويقول رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ضربةُ عليٍّ عمرَو بن ود تعدل عِبادةَ الثقلين» (٢).

وقال يوم خيبر : «لأعطينّ الراية رجلاً يُحبُّ اللّهَ ورسولَهُ ويُحبُّهُ اللّهُ ورسولُهُ ، لا يرجع حتّى يفتح». فأعطاها لعليٍّ عليه‌السلام ، وكان الفتح على يده (٣).

وبعد هذا فلنقف عن الإتيان بما أودع اللّه فيه من نفسيات وغرائز ، شكرها له الإسلام.

نعم ، يجب أنْ نلفت القارئ إلى شيء أكثر البحث فيه رواة الحديث ، وهو : الإسلام حال الصغر ، وتردّدت الكلمة في الجوامع ، وتضاربت فيها الأقوال ، ولا يهمّنا إطالة القول فيها :

__________________

(١) روضة الواعظين للنيسابوري / ٧٨ ، بحار الأنوار ٣٥ / ١٠٢.

(٢) ورد بهذا اللفظ في عوالي اللآلئ لابن جمهور الإحسائي ٤ / ٨٦ ، وورد بلفظ : «ضربةُ عليٍّ يوم الخندق أفضلُ من أعمال اُمّتي إلى يوم القيّامة». وفي المُستدرك على الصحيحين للحاكم ٣ / ٣٢ ، شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني ٢ / ١٤ ، تاريخ بغداد للبغدادي ١٣ / ١٩ ، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر ٥٠ / ٣٣٣.

وكلا الحديثين معناهما واحد ; لأنّ الأفضليّة في الأعمال تعني المعادلة إنْ لم تكن أكثر ، والاُمّة شاملة للثقلين مع الأنس والجنّ.

(٣) ورد الحديث بألفاظ مختلفة في : مُسند أحمد ١ / ١٨٥ و ٣٣١ و ٢ / ٣٨٤ و ٤ / ٥٢ و ٥ / ٣٣٣ و ٣٥٨ ، صحيح البخاري ٤ / ١٢ و ٢٠ و ٢٠٧ و ٥ / ٧٦ ، كتاب المغازي ـ باب غزوة خيبر ، كتاب الجهاد والسّير ـ باب دعاء النّبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، صحيح مسلم ٥ / ١٩٥ ، كتاب الجهاد والسّير ـ باب غزوة خيبر ، و ٧ / ١٢٠ و ١٢١ و ١٢٢ ، كتاب فضائل الصحابة ـ باب فضائل عليٍّ (رضي الله عنه) ، سنن ابن ماجه ١ / ٤٤ ، ح ١١٧ ، سنن الترمذي ٥ / ٣٠٢ ح ٣٨٠٨ ، فضائل الصحابة للنسائي / ١٥ و ١٦ ، المُستدرك على الصحيحين للحاكم ٣ / ٣٨ و ١٠٩ و ١٣٢ و ٤٣٧.

٥٢

١ ـ فإنّا لا نقول : إنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام أوّل مَن آمن ، وإن كانْ هو أوّل مَن وافق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله على مبدأ الإسلام لمّا صدع بالأمر ، ولكنّا نقول : متى (كفر) عليٌّ حتّى يُؤمن؟! وإنّما كان هو وصاحب الدعوة الإلهيّة عارفين بالدِّين وتعاليمه ، مُعتنقين له منذ كيانهما في عالم الأنوار قبل خلق الخلق ، غير أنّ ذلك العالم مبدأ الفيض الأقدس ، ووجودهما الخارجي مجراه ، فمحمّدٌ نبيٌّ وعليٌّ وصيٌّ ، وآدم بين الماء والطّين صلّى اللّه عليهم أجمعين.

٢ ـ على أنّ نبيّ الإسلام ، وهو العارف بأحكامه ، والذي خطّط لنّا التكاليف قبل إسلام ابن عمِّه ، وأنجز له جميع ما وعده به ؛ من الإخوّة والوصاية والخلافة يوم أجاب دعوته ، وآزره على هذا الأمرِ وقد اُحجم عنه عندما نزلت آية : (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ) (١).

وهل ترى أنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يومئذ يجدُ في شريعته عدم

__________________

(١) سورة الشعراء / ٢١٤ ، وحديثُ الإنذار ورد في مصادر مُتعدّدة ، وبأسانيد لا بأس بها ، فورد بلفظ : «إنّ هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم ، فاسمعوا له وأطيعوه». في : شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١٣ / ٢١١ ، شواهد التنزيل للحسكاني ١ / ٤٨٦ ، تفسير البغوي ٣ / ٤٠٠ ، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر ٤٢ / ٤٩ ، مناقب علي بن أبي طالب وما نزل من القرآن في عليٍّ لابن مردويه الأصفهاني / ٢٩٠ ، تاريخ الطبري ٢ / ٦٣ ، وقد حذفه في تفسيره ، فقال في جامع البيان ١٩ / ١٤٩ : «فأيّكم يُؤازرني على هذا الأمر ، على أنْ يكون أخي وكذا وكذا»!! وكذلك فعل ابن كثير في البداية والنّهاية ٣ / ٥٣ ، الكامل في التاريخ لابن الأثير ٢ / ٦٣.

وبلفظ : «فأيّكم يُبايعني على أنْ يكون أخي وصاحبي ...» في : مُسند أحمد ١ / ١٥٩ ، مجمع الزوائد للهيثمي ٨ / ٣٠٢ وقال : رواه أحمد ورجاله ثقات ، السّنن الكبرى للنسائي ٥ / ١٢٦ ، خصائص أمير المؤمنين للنسائي / ٨٦ ، تفسير ابن كثير ٣ / ٣٦٣ ، الطبقات الكبرى لابن سعد ١ / ١٨٧ ، تهذيب الكمال المزي ٩ / ١٤٧ ، إمتاع الأسماع للمقريزي ٥ / ١٧٨.

٥٣

الجدوى بإسلام مثل علي عليه‌السلام لصغره ، إلاّ أنّه حاباه؟ كلاّ وحاشا!

وإنّما قابله بكلّ ترحيب ، وخوّله ما لا يخوّل أحداً صحة إسلامه عنده ، بحيث كان على أساس رصين ، فاتّخذه رِدءاً كمن اعتنق الدِّين عن قلبٍ شاعرٍ ولبٍّ راجحٍ وعقليةٍ ناضجة ؛ يغتنم بذلك محاماته ، ومرضاة أبيه في المستقبل:

وإذا أكبرنا النّبي الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله عن كلّ مداهنة ومصانعة ، فلا نجد مسرحاً في المقام لأيّ مقال ، إلاّ أنْ نقول : إنّ إسلام علي عليه‌السلام كان عن بصيرة وثبات مقبول عند اللّه ورسوله ، وكان ممدوحاً منهما عليه.

كما تمدّح بذلك أمير المؤمنين عليه‌السلام غير مرّة ، وهو أعرف الاُمّة بتعاليم الدِّين بعد النّبي الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال : «أنا الصدّيقُ الأكبرُ ، لا يقولُها بعدي إلاّ كاذبٌ مفترٍ ؛ صلّيتُ مع رسول اللّه قبل النّاس بسبع سنين» (١).

__________________

(١) سنن ابن ماجة ١ / ٤٤ ، وقال مُحقق السّنن الشيخ محمّد عبد الباقي في الزوائد : إسناده صحيح ، رواه الحاكم في المُستدرك عن المنهال ، وقال : صحيح على شرط الشيخين ، المُستدرك للحاكم ٣ / ١١٢ ، المُصنّف لابن أبي شيبة ٧ / ٤٩٨ ، كتاب السُّنّة لابن أبي عاصم / ٥٨٤ ، السّنن الكبرى للنسائي ، خصائص أمير المؤمنين للنسائي / ٤٦ ، تفسير الثعلبي ٥ / ٨٥.

ومَن يقول : بأن عليّاً أسلم صغير.

نردُّ عليه ، فنقول : قد رووا كما في صحيح مسلم ١ / ١٣٣ ، وفتح الباري ١٠ / ٣٥٤ : أنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لما نزلت عليه (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ). دعا رسولُ اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله قريشاً ، وقال : «يا بَني كعب بن لؤي ، أنقذوا أنفسكم من النّار ... يا بَني عبد المُطّلب ، أنقذوا أنفسكم من النّار ، يا فاطمة ، أنقذي نفسك من النّار ؛ فإنّي لا أملكُ لكم مِنَ اللّه شيئاً ...». مع أنّ فاطمة سلام اللّه عليها كانت صغيرة ؛ إذ هذه الآية في بدء الدعوة العلنية ، وفاطمة سلام اللّه عليها لا

٥٤

وقال له رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله : «أنت أوّلُ المُؤمنينَ إيماناً وإسلاماً» (١). كما مدحته الصحابة بذلك ـ وهم أبصر من غيرهم ـ يوم كانوا يغترفون من مستقى العلم ومنبع الدِّين.

وعلى هذا الأساس تظافر الثناء عليه من العلماء والمؤلّفين ، والشعراء وسائر طبقات الاُمّة بأنّه أوّل مَن أسلم ، لكن هناك ضالع في سيره حَسبَ شيئاً فخانته هاجستًه وهوى إلى مدحرة الباطل ، فقال : إنّ عليّاً أسلم وهو صغير ؛ يُريد بذلك الحطَّ من مقامه وليس هناك.

٣ ـ ولو تنازلنا عن جميع ذلك ، فمِنْ أين عَلِمنا أنّ اشتراط البلوغ في التكليف كان مشروعاً في أوّل البعثة؟ فلعلّه كبقية الأحكام التدريجيّة نزل به الوحي فيما بعد ، ولقد حكى الخفاجي في شرح الشفا ٣ / ١٢٥ ، في باب دعاء النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على صبيٍّ ، عن البرهان الحلبي والسّبكي : إنّ اشتراط الأحكام بالبلوغ إنّما كان بعد واقعة اُحد. وعن غيرهما : إنّه بعد الهجرة. وفي السّيرة الحلبيّة ١ / ٣٠٤ : إنّ الصبيان يومئذ مكلّفون ، وإنّما رُفع القلمُ عن الصبيِّ عام خيبر. وعن البيهقي : إنّ

__________________

يتجاوز عمرها ثمان سنين ، ومع ذلك دعاها النّبيُّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى الإسلام وهي لم تُكلّف بعد ، وتصحيح دعوتها باعتبار كونها مميَّزة تفهم فلذلك خاطبها ، فكذلك عليُّ بن أبي طالب عليه‌السلام فأسلم وهو يعرف ما يقول ؛ فلذلك يصحُّ إسلامُهُ ويكون أوّل المسلمين ، وإلاّ إنْ رُفض ذلك ، فيلزم سقوطُ رواية الصحاح حول فاطمة سلام اللّه عليها ؛ إذ كيف يقبل مخاطبتها ودعوتها إلى الإسلام وهي صغيرة ، ولا يقبل إسلام عليِّ بن أبي طالب لكونه صغيراً؟! فإنّ ذلك قسمة ضيزى.

ومن هذا تندفع جميع الإشكالات الموجودة على صغر إسلام عليِّ بن أبي طالب عليه‌السلام.

(١) الأمالي للشيخ الصدوق / ٢٥.

٥٥

الأحكام إنّما تعلّقت بالبلوغ في عام الخندق أو الحديبية ، وكانت قبل ذلك منوطة بالتمييز (١) (٢).

٤ ـ على أنّا معاشر الإماميّة نعتقد في أئمّة الدِّين ، بأنّهم حاملون أعباء الحُجّة ، متحلّون بحليّ الفضائل كُلّها منذ الولادة ، كما بُعث عيسى في المهد نبيّاً ، واُوتي الحكم يحيى صبيّاً ، غير أنّهم بين مأمور بالكلام ، أو مأمور بالسّكوتِ حتّى يأتي أوانُه ، فلهم أحكامٌ خاصّة غير أحكام الرعيّة ، ومِن أقلّها قبول إجابة الدعوة ونحوها

__________________

(١) هامش مصباح الفقاهة للسيّد الخوئي ٢ / ٥١١.

(٢) السّيرة الحلبيّة ١ / ٤٣٥ وقال عقيب هذا الكلام : وقد ذكروا أنّ الزبير بن العوّام أسلم وهو ابن ثمان سنين ، وقيل : ابن خمس عشرة سنة ، وقيل : ابن اثنتي عشرة سنة ، وقيل : ابن ستّ عشرة سنة.

وممّا يدلّ للأوّل ، ما جاء عن بعضهم : كان عليٌّ ، والزبير وطلحة ، وسعد بن أبي وقاص وُلدوا في عام واحد.

وممّا يدلّ أيضاً ، ما جاء في كلام بعض آخر : أسلم عليُّ بن أبي طالب والزبير بن العوّام وهما ابنا ثمان سنين ، وإجماعهم على أنّ عليّاً لم يكن يبلغ الحلم يردّ القول بأنّ عمره كان إذ ذاك عشر سنين ؛ أي : بناءً على أنّ سنَّ إمكان الاحتلام تسع سنين كما تقول به أئمَّتُنا عليهم‌السلام.

ثمّ قال ، أقول ، قال بعضُ متأخِّري أصحابنا : وإنّما صحّت عبادة الصبيِّ المُميّز ولم يصح إسلامُهُ ; لأنّ عبادته نفلٌ ، والإسلام لا يُتنفَّل به ، وعلى هذا مع ما تقدّم يشكل ما في الإمتاع.

وأمّا عليُّ بن أبي طالب ، فلم يكُنْ مُشركاً باللّه أبداً ; لأنّه كان مع رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله في كفالته كأحد أولاده ؛ يتبعه في جميع اُموره ، فلم يحتجْ أنْ يدَّعي الإسلامَ ، فيُقال : أسلم.

ثُمّ رأيت في الحديث ما يدلّ لما في الإمتاع ، وهو : ثلاثة ما كفروا باللّه قَط : مؤمن آل ياسين ، وعليُّ بن أبي طالب ، وآسية امرأة فرعون.

والذي في العرائس ، روي عن النّبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «سبّاق الاُممِ ثلاثة لم يكفروا باللّه طرفة عين : حزقيلُ مؤمنُ آل فرعون ، وحبيبُ النّجار صاحب ياسين ، وعليُّ بن أبي طالب رضي اللّه تعالى عنهم ، وهو أفضلهم ...».

٥٦

فإذاً لا مساغ لأيّ أحد البحث في المسألة.

هذه هي السّلسلة الذهبيّة التي تحلّى بها أبو الفضل عليه‌السلام ، وهي (آباؤه الأكارم) ، وقد اتّحد مع كُلِّ حلقة منها الجوهرُ الفرد لإثارة الفضائل ، فما منهم إلاّ مَن أخذ بعضادتي الشرف ، وملك أزمّة المجد والخطر ، قد ضَمّ إلى طيب المَحتِد عظمة الزعامة ، وإلى طهارة العنصر نزاهة الإيمان ، فلا ترى أيّاً منهم إلاّ منارَ هدىً وبحرَ ندىً ، ومثالَ تُقىً وداعية إلى التوحيد وإلى بسالة وبطولة ، وإباء وشِمم. وهم الّذين عرّقوا في سيّدنا العبّاس عليه‌السلام هذه الفضائل كُلّها ، وإنْ كان القلم يقف عند انتهاء السّلسلة إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فلا يدري اليراع ما يخطّ من صفات الجلال والجمال ، وأنّه كيف عرّقها في وَلدهِ المحبوب (قمر الهاشميّين).

٥٧

الأعمام

هلمّ معي أيّها القارئ لنقرأ صحيفة بيضاء مختصرة من حياة أعمام أبي الفضل عليه‌السلام ، الّذين هُم أغصان تلك الشجرة التي أصلها ثابت وفرعها في السّماء ؛ فإنّ للعمومة عِرقاً يضرب في نفسيّات المولود من فضائل وفواضل ، وقد جاء في الحديث : «الولدُ ، كما يُشبهُ أخوالَهُ يُشبهُ أعمامَهُ» (١).

__________________

(١) ورد في كمال الدِّين وتمام النّعمة للصدوق / ٣١٤ ، حدّثنا أبي ومحمّد بن الحسن رضي‌الله‌عنهما ، قال : حدّثنا سعد بن عبد اللّه ... عن أبي جعفر الثاني محمّد بن علي عليه‌السلام ، قال : «أقبل أميرُ المؤمنين عليه‌السلام ذات يوم ، ومعه الحسن بن علي عليه‌السلام ، وسلمان الفارسي (رضي الله عنه) ، وأمير المؤمنين عليه‌السلام مُتّكئ على يد سلمان ، فدخل المسجد الحرام فجلس ، إذ أقبل رجل حَسن الهيئة واللباس ، فسلّم على أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فرد عليه‌السلام فجلس ، ثُمّ قال :

يا أمير المؤمنين ، أسألك عن ثلاث مسائل ، إنْ أخبرتني بهنّ علمتُ أنّ القوم ركبوا من أمرك ما أقضي عليهم أنّهم ليسوا بمأمونين في دُنياهم ولا في آخرتهم ، وإنْ تكُنْ الاُخرى علمتُ أنّك وهم شرعٌ سواء.

فقال له أمير المؤمنين عليه‌السلام : سلني عمّا بدا لك.

فقال : أخبرني عن الرجل إذا نام ، أين تذهب روحه؟ وعن الرجل كيف يذكر وينسى؟ وعن الرجل كيف يُشبه ولدُهُ الأعمامَ والأخوالَ؟

فالتفت أمير المؤمنين إلى أبي محمّد الحسن ، فقال : يا أبا محمّد ، أجبه. فقال : أمّا ما سألت عنه من أمر الإنسان إذا نام أين تذهب روحه ؛ فإنّ روحه مُتعلِّقة بالريح ، والريح مُتعلِّقة بالهواء إلى وقت ما يتحرك صاحبها لليقظة ، فإنْ أذن اللّه

٥٨

وقبل الإتيان على ما حباهم به المولى من الآلاء ، نستعرض اليسير من حياة عَمِّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، الّذي لم يزل يفتخر به في مواطن شتّى ، ألا وهو الحمزة بن عبد المُطّلب.

وما أدراك ما حمزة ، وما هو! وهل تعلم ماذا عنى نبيُّ العظمة من وصفه بـ «أسد اللّه وأسد رسوله» (١)؟ وهل أنّه أراد الشدّة والبسالة فحسب؟

لا ; لأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أفصح مَن نطق بالضّاد ، وكلامُه فوق كلام البلغاء ، فلو كان يُريد خصوص الشجاعة لكان حقّ التعبير أنْ يأتي بلفظ (الأسد) مُجرّداً عن الإضافة إلى اللّه سبحانه وإلى رسوله ، كما هو المُطّرد في التشبيه به نظماً ونثراً.

وحيث أضافه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى ذات الجلالة والرسالة فلا بدّ أنْ يكون لغاية هناك اُخرى ، وليست هي إلاّ إفادة إنّ ما فيه مِن كرٍّ

__________________

عزّ وجل بردِّ تلك الروح إلى صاحبها ، جذبت تلك الروحُ الريحَ ، وجذبت تلك الريحُ الهواءَ ، فرجعت الروحُ فاُسكنت في بدن صاحبها ...

وأمّا ما ذكرت من أمر المولود الذي يشبه أعمامه وأخواله ; فإنّ الرجل إذا أتى أهله فجامعها بقلبٍ ساكنٍ ، وعروقٍ هادئة ، وبدنٍ غيرِ مُضطرب ، فأسكنت تلك الروحُ النّطفةَ في جوف الرحم ، خرج الولد يُشبه أباه واُمّه ، وإنْ هو أتاها بقلبٍ غيرِ ساكنٍ ، وعروقٍ غيرِ هادئةٍ ، وبدنٍ مُضطربٍ ، اضطربت تلك النّطفة فوقعت في حال اضطرابها على بعض العروق ، فإنْ وقعت على عِرق من عروق الأعمام أشبه الولد أعمامه ، وإنْ وقعت على عرق من عروق الأخوال أشبه الرجل أخواله».

(١) الكافي للكليني ١ / ٢٢٤ ، ح ٢ ، كامل الزيارات لابن قولويه / ٦٢ ، الأمالي للشيخ الصدوق / ٥٤٧ ، المُستدرك للحاكم ٢ / ١١٩ و ٣ / ١٩٨ ، مجمع الزوائد للهيثمي ٩ / ٢٦٨ ، وقال : ورجاله إلى قائله رجال الصحيح. فتح الباري ٧ / ٢٨٦ ، بلفظ : إنّ حمزة مكتوب في السّماء ، أسد اللّه وأسد رسوله. وغيرها من المصادر الكثيرة.

٥٩

وإقدام ، وبطش وتنمّر مخصوص في نصرة كلمة اللّه العُليا ، ودعوة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهذا أربى من غيره وأرقى ، فكان سلام اللّه عليه من عمد الدِّين ، وأعلام الهداية ؛ ولذلك وجب عليه الاعتراف بفضله ، وبما حباه المولى سبحانه من النّزاهة التي لا ينالها أحد من الشهداء ، وكان ذلك من مكمّلات الإيمان ، ومتمّمات العقائد الحقّة.

يشهد له ما في كتاب (الطرف) للسيّد ابن طاووس : إنّ رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لحمزة في الليلة التي اُصيب في يومها : «إنّك ستغيب غيبةً بعيدةً ، فما تقول لو سألك اللّهُ عن شرائع الإسلام ، وشروط الإيمان؟».

فبكى حمزة ، وقال : أرشدني وفهّمني.

فقال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «تشهد للّه بالوحدانيّة ، ولمحمّد بالرسالة ، ولعليٍّ بالولاية ، وأنّ الأئمّة من ذُرِّيّة الحسين ، وأنّ فاطمة سيّدة نساء العالمين ، وأنّ جعفر الطيّار مع الملائكة في الجنّة ابن أخيك ، وأنّ محمّداً وآله خيرُ البريّة».

قال حمزة : آمنت وصدّقت.

ثُمّ قال رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله : «وتشهد بأنّك سيّد الشهداء ، وأسد اللّه وأسد رسوله».

فلمّا سمع ذلك حمزة اُدهش وسقط لوجهه ، ثُمّ قبّل عينَي رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقال : اُشهدك على ذلك ، واُشهِدُ اللّه وكفى باللّه شهيداً (١).

وإنّ التأمّل في الحديث يُفيدنا منزلة كبرى لحمزة من الدِّين والإيمان لا تحدّ ، وإلاّ فما الفائدة في هذه البيعة والاعتراف بعد ما صدر منه بمكّة من الشهادة للّه بالوحدانية ولرسوله بالنّبوّة؟

__________________

(١) بحار الأنوار ٦٥ / ٣٩٥.

٦٠