الدّرر النجفيّة - ج ٢

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الدّرر النجفيّة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢١

يخفى على من تتبع تلك الأخبار وجاس خلال تلك الديار.

وحينئذ ، فلا معارض لهذا الخبر وأمثاله فيما ادّعيناه ، ولا مناقض له فيما قلناه ؛ وبذلك يسقط ما أطال به شيخنا الصالح بعد نقل كلام شيخه قدس‌سرهما من معارضة ما قدمه من الأخبار ، كرواية ابن أبي يعفور وغيرها لهذا الخبر ، وأنه يجب حمله على ما ذكروه ، أو طرحه لذلك إلى آخر ما آطال به فيما هنالك.

هذا ، ومن الأخبار الواردة في التشديد على العلماء ، ما روي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : «قصم ظهري اثنان (١) ؛ عالم متهتّك ، وجاهل متنسك ؛ فالجاهل يغش الناس بتنسّكه ، والعالم يضرّهم (٢) بتهتكه». وقد نظم بعضهم ذلك فقال :

فساد كبير عالم (٣) متهتك

وأكبر منه جاهل متنسك

هما فتنة للعالمين عظيمة

لمن بهما في دينه يتمسك (٤)

وروى في (الكافي) عن سليم بن قيس قال : سمعت أمير المؤمنين عليه‌السلام يحدث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال في كلام له : «العلماء رجلان : رجل عالم آخذ بعلمه فهذا ناج ، وعالم تارك لعلمه فهذا هالك. وإن أهل النار ليتأذون من ريح (٥) التارك لعمله ، وإن أشد أهل النار ندامة وحسرة رجل دعا عبدا إلى الله فاستجاب له وقبل منه فأطاع الله ، فأدخله الله الجنة ، وأدخل الداعي (٦) النار بتركه علمه واتّباعه الهوى وطول الأمل ، أما اتباع الهوى فيصد عن الحق ، وطول الأمل ينسي الآخرة» (٧).

وروى في الكتاب المذكور بسنده إلى علي بن الحسين عليهما‌السلام قال : «مكتوب في

__________________

(١) ليست في المصدر.

(٢) في المصدر : ينفّرهم.

(٣) في «ح» عالم كبير ، بدل كبير عالم.

(٤) البيتان من الطويل. ديوان الإمام الشافعي : ١٠٢ ، منية المريد : ١٨٢.

(٥) في المصدر بعدها : العالم.

(٦) ليست في «ح».

(٧) الكافي ١ : ٤٤ / ١ ، باب استعمال العلم.

٦١

الإنجيل : لا تطلبوا علم ما لا تعلمون ، ولما تعلموا بما علمتم ، فان العلم إذا لم يعمل به لم يزدد صاحبه إلّا كفرا ، أو لم يزدد من الله إلّا بعدا» (١).

وروى فيه أيضا بسنده إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام في كلام خطب به على المنبر : «أيها الناس ، إذا علمتم فاعملوا بما علمتم ؛ لعلكم تهتدون ، إنما العالم العامل بغيره كالجاهل الحائر الذي لا يستفيق من جهله. بل قد رأيت أن الحجة عليه أعظم ، والحسرة أدوم على هذا العالم المنسلخ من علمه منها على هذا الجاهل المتحيّر في جهله ، وكلاهما حائر بائر ، لا ترتابوا فتشكّوا ، ولا تشكّوا فتكفروا ، ولا ترخصوا لأنفسكم فتدهنوا ، ولا تدهنوا في الحق فتخسروا. وإن من الحق أن تتفقهوا ، ومن الفقه ألّا تغتروا ، وإن أنصحكم لنفسه أطوعكم لربّه ، وأغشكم لنفسه أعصاكم لربه ، ومن يطع الله يأمن ويستبشر ، ومن يعص الله يخب ويندم» (٢).

وروى فيه أيضا بسنده عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «من أراد الحديث لمنفعة الدنيا لم يكن له في الآخرة نصيب ، ومن أراد به خير الآخرة أعطاه الله خير الدنيا والآخرة» (٣).

وروى فيه عنه عليه‌السلام قال : «إذا رأيتم العالم محبا لدنياه فاتّهموه على دينكم ، فإن كل محب لشي‌ء يموت حول (٤) ما أحب. وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : أوحى الله إلى داود عليه‌السلام : لا تجعل بيني وبينك عالما مفتونا بالدنيا فيصدّك عن طريق محبتي ؛ فإن اولئك قطاع طريق عبادي المريدين ، إن أدنى ما أنا صانع بهم أن أنزع حلاوة مناجاتي من قلوبهم» (٥).

وروى فيه بسنده عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «الفقهاء امناء الرسل ما لم يدخلوا في

__________________

(١) الكافي ١ : ٤٤ ـ ٤٥ / ٤ ، باب استعمال العلم.

(٢) الكافي ١ : ٤٥ / ٦ ، باب استعمال العلم.

(٣) الكافي ١ : ٤٦ / ٢ ، باب المستأكل بعلمه والمباهي به.

(٤) في المصدر : يحوط ، بدل : يموت حول.

(٥) الكافي ١ : ٤٦ / ٤ ، باب المستأكل بعلمه والمباهي به.

٦٢

الدنيا». قيل : يا رسول الله ، وما دخولهم في الدنيا؟ قال : اتّباع السلطان ، فإذا فعلوا ذلك فاحذروهم على دينكم» (١).

والظاهر أن المراد بقوله : «اتّباع السلطان» ، أي حب الأمارة والسلطنة والكبر والرئاسة ، كما يشير إليه الخبر الذي بعده ، وهذا هو الداء الدفين الذي لا ينجو منه إلّا من عصمه الله تعالى ، (وَقَلِيلٌ ما هُمْ). وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال لأصحابه : «تعلموا العلم ، وتعلموا له (٢) السكينة والحلم ، ولا تكونوا من (٣) جبابرة العلماء ، فلا يقوم علمكم بجهلكم» (٤).

وعن عيسى ـ على نبينا وعليه الصلاة والسّلام ـ أنه قال : «مثل علماء السوء مثل الصخرة وقعت في فم النهر لا هي تشرب الماء ولا هي تترك الماء ليخلص إلى الزرع» (٥).

إلى غير ذلك من الأخبار الواضحة المنار ، الناعية على العلماء بما فيهم من شرب الأكدار والخروج عن طاعة العزيز الجبار ، وعدم موافقة العمل لما علموه ، والاغترار بالدنيا.

وحينئذ ، فكيف يجوز الاقتداء بهم بمجرد اتّصافهم بالعلم من غير العمل باقترانه بالعمل الموجب لنجاته في نفسه من الزلل والخطل؟ ولا ريب أن مرتكب المعصية ـ ولا سيما إذا كان ممن تنعى عليه معصيته ، ويعان بها بين الناس ، ويخالف لما هو عليه من ذي اللباس ، وتكون سببا لنقصه من أعين الناظرين وانحطاط رتب القاصرين ـ لا يدخل فيها ولا يرتكبها مجاهرة ، ولا على وجه تنعى عليه وإنما يتلبس بها على وجه لا يشعر به إلّا الفطن اللبيب ، والموفق

__________________

(١) الكافي ١ : ٤٦ / ٥ ، باب المستأكل بعلمه والمباهي به.

(٢) في المصدر : للعلم.

(٣) ليست في المصدر.

(٤) بحار الأنوار ٢ : ٣٧ / ٤٩.

(٥) إحياء علوم الدين ١ : ٦٠.

٦٣

المصيب ؛ فإن الشيطان يفتح له أبوابا يريه (١) [بها] أن الذي يأتي به ليس بمعصية ، بل يسوّل له أنه من قبيل الطاعات ، وأن العذر فيها واضح لمن سمعه أو رآه من الناس.

وقد رأينا بين من أدركناه من العلماء الأعلام ، وأرباب النقض والإبرام من الحسد الذي ورد فيه أنه يأكل الأعمال كما تأكل النار الحطب (٢) ، والغيبة التي صارت في جملة الأوقات نقلا (٣) للمجالس والمجامع ، فلا يعاب ولا يستعاب على ناقل لها ولا سامع ، وحب (٤) التقدم والتصدر والرئاسة في الامور ما يضيق له متسع الصدور. ومع ذلك كله فلم يكن قادحا فيهم بين الناس ، ولا موجبا للشك فيهم والوسواس ؛ لأنها أشياء قد صارت مضادة للخلق غير منكورة ، والسبب في ذلك كله فساد العلماء ؛ فإن الناس تبع لهم ، فإنهم يظهرون للناس من الوجوه والأعذار في تلك الامور ما يدخلها في قالب المشروع المندوب إليه المأمور.

ولذا قال بعض الأجلّاء العارفين : (إن عامة الناس أبدا دون المتلبس بالعلم بمرتبة ، فإذا كان ورعا تقيا صالحا تلبست العامة بالمباحات ، وإذا اشتغل بالمباح تلبست العامة بالشبهات ، فإذا دخل في الشبهات تعلق العامي بالحرام ، فان تناول الحرام كفر العامي) (٥) انتهى.

وكفى شاهدا على صدق هذا البيان العيان وعدول الوجدان ، فضلا عن نقل الأعيان ، ولله در من قال من ذوي الكمال :

__________________

(١) في «ح» : يريد.

(٢) انظر الكافي ٢ : ٣٠٦ / ١ ـ ٢ ، باب الحسد.

(٣) النّقل ـ بالضمّ ، وبعضهم يفتح النون ـ : ما يتنقل به على الشراب. مختار الصحاح : ٦٧٧ ـ نقل.

(٤) معطوف على (الحسد) من قوله : وقد رأينا .. من الحسد .. ، أو على (الغيبة).

(٥) انظر : منية المريد : ١٦٢ ـ ١٦٣ ، المحجّة البيضاء ١ : ١٥٧ ـ ١٥٨ ، والكلام بمعناه من غير نسبة لأحد في التفسير الكبير ٢ : ١٧٠.

٦٤

وراعي الشاة يحمي الذئب عنها

فكيف إذا الرعاة لها ذئاب (١)

وقال آخر :

يا معشر القراء يا ملح البلد

ما يصلح الملح إذا الملح فسد (٢)

أقول : وهذا هو السر فيما ورد أن قوام الدنيا واستقامتها باستقامة العلماء (٣) ، وإن زلة العالم زلة العالم (٤). وقد شاهدنا من بعض علماء عصرنا غيبة بعضهم لبعض ، برغم تحذير الناس عنهم وعن الاغترار بهم ، وربما كان المستغاب أتقى وأورع من المستغيب ، وقد أدركنا رجلين من مشايخنا المشهورين ، اللذين [هما] (٥) عمدة البلاد ، و [إليهما] (٦) رجوع من فيها من العباد بلغ بهما التحاسد والعداوة والعناد إلى أنهما معا يصليان الجمعة إمامين في موضع يسمع أذان كلّ منهما الآخر ، وجملة من الناس يعتقدون بواحد ، وآخرون بالآخر.

وبالجملة ، فإن الأمر في علماء هذه الأزمان قد بلغ إلى مبلغ لا يحتاج إلى الشرح والبيان من حبهم للدنيا وحب الرئاسة والتقدم في الامور (٧) ، والحسد والغيبة وأمثالها مما هو ظاهر مشهور ومتعارف غير منكور. والسبب في ذلك كله هو الاغترار بهذه (٨) العلوم الرسمية التي حصلوها ، والغفلة عن ملاحظة تلك العلوم الأصلية والاصول الحقيقية ؛ لأنها قد صارت مهجورة في أكثر الأزمان ، وغير معمول عليها في كل مكان ، بل نظر الناس من عالم وغيره ، إنما هو إلى تحصيل هذه العلوم الرسمية ، ودقة النظر فيها ، وجودة الفكر واستخراج معانيها.

__________________

(١) البيت من الوافر. إحياء علوم الدين : ٦١.

(٢) البيت من الرجز. إحياء علوم الدين : ٦١.

(٣) غرر الحكم ودرر الكلم : ٥٠٤ / ١٠٥ ، بحار الأنوار ٢ : ٣٦ / ٤٤.

(٤) نسبه في إحياء علوم الدين ١ : ٦٤ إلى الخليفة الثاني.

(٥) في النسختين : هم.

(٦) في النسختين : إليهم.

(٧) في «ح» : للأمور. بدل : في الامور.

(٨) في «ح» : بهذا.

٦٥

فمن كان أطول يدا في ذلك صار هو المشار إليه والمعتمد عليه وإن كان عاريا من (١) ذلك بالكلية ، وهذه البلية في الدين هي أصل كل بلية ، بل ربما أدى منهم (٢) الحرص على هذه العلوم الرسمية وشدة الرغبة في تحصيلها إلى التهاون بالعبادات والصلوات ، وتأخيرها عن أوقاتها ، أو الإتيان بها على غير ما هو حقها ، وترك بعض السنن المرغب فيها.

وقد أخبرني من أثق به عن بعض مشايخنا الذي رجعت إليه في وقته رئاسة البلاد ، وعكف عليه جملة من فيها ، بل في غيرها من العباد أنه بعد أن كان مواظبا على صلاة الليل تركها اشتغالا بالمطالعة للعلوم ، محتجا بما ورد من فضل العلم على العبادة ، وفضل العالم على العابد ، وهو (٣) مما يقضى منه العجب من مثل ذلك العلّامة الذي أذعن له في وقته العجم والعرب.

ولو صح هذا له قدس‌سره للزم أن تكون تلك الأوامر الشرعية بالنوافل وسائر الطاعات وصنوف العبادات ، إنما توجهت للجاهل خاصة ، وخطاب هذا العالم إنما هو بتحصيل العلم وتعليمه الجهّال ، وإلّا فهو غير مخاطب بها ، ولا هي مطلوبة منه ، وهل هو حينئذ إلّا كالسراج الذي يحرق نفسه ليضي‌ء لغيره؟ وكيف غفل قدس‌سره عن الأخبار الّتي قدّمنا جملة منها الدالة على وجوب إرداف العلم بالعمل ، وإلّا لمضى عنه وارتحل وبقي صاحبه في خوف ووجل؟ ما هذه إلّا خدعة شيطانية.

والحديث الذي نقل عنه قدس‌سره ، الدال على تفضيل العالم على العابد ، ليس إلّا باعتبار أن العالم (٤) ثمرة علمه هو عمله بموجبه ، وتعليمه الناس ، فهو أفضل من العابد الذي ثمرة عبادته إنما تعود عليه خاصّة. ولو كان العالم لا يعمل بعلمه ولا

__________________

(١) في «ح» : عن.

(٢) ليست في «ح».

(٣) في «ح» : وهما.

(٤) في «ح» بعدها : يكون.

٦٦

يفيده غيره لكان كالشجرة الخالية من الثمر ، ولو كان إنما هو لإفادة الغير خاصة لكان كالسراج الذي يحرق نفسه ويضي‌ء لغيره ، فإنه يسهر الليل ، ويتعب في الطلب. ويتحمل المشقّة والنصب لأجل الناس.

وبالجملة ، ففضل العلم وفضيلة العالم إنّما يتحقّق مع إضافة العمل وضمه إليه لا بدونه ، وحينئذ فالعالم الحقيقي ومصداق هذا العنوان التحقيقي إنما هو من اتّصف بتلك العلوم الجليلة التي أشرنا إليها مع ما يحتاج إليه لنفسه ، أو لنفسه وغيره من هذه العلوم الرسميّة المشهورة ، دون من اختصّ بهذه كما توهّمه من لا تأمّل له ولا تحقيق ، ولم ينظر في الأدلّة القطعية (١) بالنظر الدّقيق.

وكفاك شاهدا على صحّة ما ذكرنا قوله سبحانه (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) (٢) ، فمناط الخشية العلم ، ولا يخفى أن الخشية لا ترتّب لها على هذه العلوم ، لمجامعتها للفسق كما هو معلوم من علماء السوء وفسّاق العلماء ، وإنما ترتب على تلك العلوم (١) ، كما تقدم بيانه في الخبر المتقدّم.

__________________

(١) أقول : وممّا يدخل في هذا المقام ، وينتظم في سلك هذا النظام ما ذكره المحقق رحمه‌الله في أوّل (المعتبر) حيث قال ـ ونعم ما قال ـ : (إن في الناس المستعبد نفسه لشهوته ، المستغرق وقته في أهويته مع إيثاره الاشتهار بآثار الأبرار ، واختياره الاتّسام بسير الأخيار ؛ إما لأن ذلك في جبلّته ، أو لأنه وسيلة إلى حطام عاجلته. فيثمر هذان الخلقان نفاقا غريزيا وحرصا على الرئاسة الدينية طبيعيا ، فإذا ظهرت لغيره فضيلة عليه خشي غلبة المزاحم ، ومنافسة المقاوم ، ثم يمنعه نفاقه من المكافحة ، فيرسل القدح في ذي المناصحة ، ويقول : لو قال كذا لكان أقوم ، لو لم يقل كذا لكان أسلم ، موهما أنه أوضح كلاما وأرجح مقاما. فإذا ظفرت بمثله ، فليشغلك الاستعاذة بالله من بليته عن الاشتغال بإجابته ، فإنه شر الرجال ، وأضر على الامة من الدجّال) (٣) إلى آخر كلامه قدس‌سره منه (هامش «ح»).

__________________

١ـ في «ح» : العقلية.

٢ ـ فاطر : ٢٨.

٣ ـ المعتبر ١ : ٢١.

٦٧

ويعضده أيضا قوله سبحانه (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) (١) ؛ فإن المراد بالفقه في الآية على ما ذكره جماعة من أصحابنا منهم شيخنا البهائي في كتاب (الأربعين) ، وشيخنا الشهيد الثاني في كتاب (منية المريد) (٢) ، والمحقق الشّارح المازندراني (٣) إنما هو العمل بتلك العلوم الّتي أشرنا إليها ، وهي الّتي يحصل بها الإنذار ، والتي يترتب عليها الحذر ، لا هذه العلوم الرسميّة. ومما يؤيد ما قلناه ويؤكّد ما سطرناه ما صرّح به جملة من علمائنا الأعلام في هذا المقام منهم (٤) الشهيد الثاني في كتاب (منية المريد) ، قال قدس‌سره : (وللعالم في تقصيره في العمل بعد أخذه بظواهر الشريعة ، واستعمال ما دوّنه القدماء من الصلاة والصّيام والدعاء وتلاوة (القرآن) ، وغيرها من العبادات ضروب اخر ، فإنّ الأعمال الواجبة عليه فضلا عن غير الواجبة غير منحصرة فيما ذكر ، بل من الخارج عن الأبواب الّتي رتبها الفقهاء ما هو أهمّ ، ومعرفته أوجب ، والمطالبة [به] والمناقشة عليه أعظم ، وهو تطهير النفس من الرذائل الخلقية من الكبر والرّياء والحسد والحقد وغيرها من الرذائل المهلكات ، مما هو مقرّر في علوم تختصّ به ، وحراسة اللّسان عن الغيبة والنميمة ، وكلام ذي اللسانين ، وذكر عيوب المسلمين وغيرها.

وكذا القول في سائر (٥) الجوارح فإن لها أحكاما تخصّها ، وذنوبا مقرّرة في محالّها ، لا بدّ لكل أحد من تعلمها وامتثال حكمها ، وهي تكليفات لا توجد في كتاب البيوع والإجارات وغيرها من كتب الفقه ، بل لا بدّ [من] (٦) الرجوع فيها إلى علماء الحقيقة العاملين وكتبهم المدوّنة في ذلك. وما أعظم اغترار العالم بالله في

__________________

(١) التوبة : ١٢٢.

(٢) منية المريد : ١٥٧.

(٣) شرح اصول الكافي ١ : ٤٦ ـ ٤٧.

(٤) في «ح» بعدها : شيخنا.

(٥) ليست في «ح».

(٦) في النسختين : في.

٦٨

رضاه بالعلوم الرسميّة وإغفاله [إصلاح] (١) نفسه وإرضاء ربّه تبارك وتعالى.

وغرور من هذا شأنه يظهر لك من حيث العلم ، ومن حيث العمل.

أمّا العمل فقد ذكرنا وجه الغرور فيه ، وأن مثاله مثال المريض إذا تعلم نسخة الدّواء واشتغل بتكراره وتعليمه ، لا بل مثاله مثال من به علة البواسير والبرسام (٢) وهو مشرف على الهلاك يحتاج إلى تعلم الدّواء واستعماله ، فاشتغل بتعلّم دواء الحيض أو الاستحاضة ، وتكرار ذلك ليلا ونهارا ، مع علمه بأنه رجل لا يحيض ولا يستحيض ، ولكنه يقول : ربما تقع علة الحيض أو الاستحاضة لامرأة وتسألني عنه ، وذلك غاية الغرور ، حيث ترك تعلم الدواء النافع لعلته مع استعماله ، ويشتغل بما ذكرناه.

كذلك هذا [المتفقة] (٣) المسكين قد تسلط عليه اتّباع الشهوات ، والإخلاد إلى الأرض ، والحسد والرياء ، والغضب والبغضاء ، والعجب بالأعمال التي يظنّها من الصالحات ، ولو فتش عن باطنها وجدها من المعاصي الواضحات ، فليلتفت إلى قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «أدنى الرياء شرك» (٤) ، وإلى قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لا يدخل الجنّة من في قلبه مثقال من الكبر» (٥) ، وإلى قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب» (٦) ، وإلى قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «حبّ المال والشرف ينبتان النفاق كما ينبت الماء البقل» (٧) ، إلى غير ذلك من الأخبار المدوّنة في أبواب هذه المهلكات.

__________________

(١) من المصدر ، وفي النسختين : لصلاح.

(٢) البرسام ـ بفتح الباء وكسرها ، ويسمى الجرسام ـ : ورم يعرض للحجاب الذي يقع بين المعدة والكبد ، أو بين القلب والكبد. موسوعة كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم ١ : ٣٢٢ ـ ٣٢٣ ـ البرسام.

(٣) من المصدر ، وفي النسختين : الفقير.

(٤) إحياء علوم الدين ٣ : ٢٩٤.

(٥) الكافي ٢ : ٣١٠ / ٦ ، باب الكبر.

(٦) بحار الأنوار ٧٠ : ٢٥٧ / ٣٠ ، سنن أبي داود ٤ : ٢٧٦ / ٤٩٠٣.

(٧) بحار الأنوار ٧٢ : ٢٠٥ ، إحياء علوم الدين ٣ : ٢٧٨.

٦٩

وكذلك يترك استعمال الدواء لسائر المهلكات الباطنة ، وربما يختطفه الموت قبل التوبة والتلافي ، فيلقى الله وهو عليه غضبان ، فترك ذلك كله واشتغل بعلم النحو وتصريف الكلمات ، والمنطق وبحث الدلالات ، وفقه الحيض والاستحاضات ، والسلم والإجارات ، واللعان والجراحات ، والدعاوى والبيّنات ، والقصاص والديات ، ولا يحتاج [إلى] (١) شي‌ء من ذلك مدّة عمره إلّا نادرا وإن احتاج إليه غيره ، فهو من فروض الكفاية ، وغفل مع ذلك عن العلوم الّتي هي فرض عيني بإجماع المسلمين.

فغاية تلك العلوم إذا قصد بها وجه الله العظيم وثوابه (٢) الجسيم أنها فرض كفاية ، ومرتبة فرض الكفاية بعد تحصيل الفرض العيني ، فلو كان غرض هذا الفقيه العالم بعلمه وجه الله تعالى لاشتغل بترتيب العلوم بالأهم فالأهم والأنفع فالأنفع ، فهو إما غافل مغرور ، وإما مراء في دينه ، مخدوع ، طالب للرئاسة والاستعلاء ، والجاه والمال ، فيجب عليه التنبيه لإحدى العلتين قبل أن تقوى عليه وتهلكه.

وليعلم مع ذلك أيضا أن مجرد تعلم هذه المسائل المدونة ليس هو الفقه عند الله تعالى ، وإنّما الفقه عند الله تعالى بإدراك جلاله وعظمته ، وهو العلم الذي يورث الخوف والهيبة والخشوع ، ويحمل على التقوى ، ومعرفة الصفات المخوفة فيجتنبها ، والمحمودة فيرتكبها ، ويستشعر الخوف والحزن كما نبّه عليه الله تعالى في كتابه حيث يقول (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ) (٣).

__________________

(١) من المصدر ، وفي النسختين : في.

(٢) في «ح» بعدها : العظيم.

(٣) التوبة : ١٢٢.

٧٠

والذي يحصل به الإنذار غير هذا العلم المدون ؛ فإن مقصود هذا العلم ، حفظ الأموال بشروط المعاملات ، وحفظ الأبدان بالأموال ، وبدفع القتل والجراحات ، والمال في طريق الله آلة ، والبدن مركب (١). وإنما العلم المهمّ هو معرفة سلوك الطريق إلى الله ؛ وقطع عقبات القلب الّتي هي الصفات المذمومة ، فهي الحجاب بين العبد وبين الله تعالى ، فإذا مات متلوثا بتلك الصفات كان محجوبا عن الله تعالى ، ومن ثمّ كان العلم موجبا للخشية ، بل هي منحصرة في العالم ـ كما نبّه عليه تعالى بقوله (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) (٢) ـ أعمّ من يكون فقيها أو غير فقيه) (٣) انتهى المقصود من (٤) كلامه وهو طويل.

وقال شيخنا البهائي قدس‌سره في كتاب (الأربعون) في شرح حديث كميل بن زياد ما لفظه : (وقد قسم عليه‌السلام الذين لهم أهلية تحمّل العلم إلى أربعة أقسام :

أولها : جماعة فسقة لم يريدوا بالعلم وجه الله سبحانه ، بل إنما أرادوا به الرياء والسمعة ، وجعلوه شبكة لاقتناص اللّذات الدنية والمشتهيات الدنيوية.

وثانيها : قوم من أهل الصلاح ، ولكن ليس لهم بصيرة في الوصول إلى أغواره والوقوف على أسراره ، بل إنما يصلون إلى ظواهره ، فتنقدح الشكوك في قلوبهم من أوّل شبهة تعرض لهم.

وثالثها : جماعة لا يتوصّلون بالعلم إلى المطالب الدنيويّة ، ولا هم عادمون للبصيرة في إحيائه بالكلية ، ولكنهم اسراء في أيدي القوّة البهيميّة ، منهمكون في ملاذّ الواهية الوهميّة.

ورابعها : جماعة سلموا من تلك الصفات الذميمة ، وسلكوا الطريقة المستقيمة ،

__________________

(١) من «ح» وفي «ق» : مركوب.

(٢) فاطر : ٢٨.

(٣) منية المريد : ١٥٤ ـ ١٥٧.

(٤) في «ح» بعدها : نقل.

٧١

لكنهم لم يخلصوا من صفة خسيسة اخرى ، وهي حب المال وادّخاره وجمعه وإكثاره.

وبالجملة ، فلا بدّ لطالب العلم الحقيقي من تقديم طهارة النفس عن رذائل الأخلاق وذمائم الأوصاف ؛ إذ (١) العلم عبادة القلب وصلاته ، وكما لا تصحّ الصلاة التي هي وظيفة الجوارح الظاهرة إلّا بتطهير الظاهر (٢) من الأخباث والأحداث ، كذلك لا تصحّ عبادة القلب وصلاته إلّا بعد طهارته عن أخباث الأخلاق وأنجاس الأوصاف) (٣) انتهى.

أقول : انظر أيّدك الله تعالى إلى ما عليه العلماء من الأفراد في هذا الخبر وإلى الفرد المختار منها ، وهو ما ذكره الشيخ المذكور ـ توجّه الله تعالى بتاج من النور ـ بقوله : (وبالجملة) إلى آخره. وحينئذ ، فكيف لا يحتاج إلى معرفة هذا الفرد من بين هذه الأفراد وتمييزه من بينها ، كما هو المقصود من سوق ذلك الخبر والمراد؟

وقال شيخنا الشهيد الثاني ـ طيب الله تعالى مرقده ـ في الكتاب المذكور آنفا ، بعد ذكر جملة من الأخلاق النفسانية الّتي تجب المحافظة عليها فعلا أو تركا ما صورته : (والغرض من ذكرها هاهنا تنبيه العالم والمتعلم على اصولها ليتنبّه لها ارتكابا واجتنابا على الجملة. وهي وإن اشتركت بين الجميع إلّا إنها فيهما أولى ، فلذلك جعلناها من وظائفهما ؛ لأن العلم كما قاله بعض الأكابر : (عبادة القلب وعمارته ، وصلاة السر ، وكما لا تصح الصلاة التي هي وظيفة الجوارح إلّا بعد تطهيرها من الأحداث والأخباث ، فكذلك لا تصحّ عبادة الباطن إلّا بعد تطهيره

__________________

(١) سقط في «ح».

(٢) إلّا بتطهير الظاهر ، سقط في «ح».

(٣) الأربعون حديثا : ٤٢٨ ـ ٤٢٩ / شرح الحديث : ٣٦.

٧٢

من (١) خبائث الأخلاق) (٢) ، ونور العلم لا يقذفه الله في القلب المتنجّس بالكدورات النفسيّة والأخلاق الذميمة ، كما قال الصادق عليه‌السلام : «ليس العلم بكثرة التعلّم ، وإنما هو نور يقذفه الله في قلب من يريد أن يهديه» (٣).

ونحوه قال ابن مسعود : (ليس العلم بكثرة الرواية ، إنما العلم نور يقذفه الله في القلب) (٤) ، وبهذا يعلم أن العلم (٥) ليس مجرد استحضار المعلومات الخاصة وإن كانت هي العلم في العرف العامي ، وإنما هو النور المذكور الناشئ من ذلك العلم الموجب للبصيرة والخشية لله تعالى كما تقدم تقريره) (٦) انتهى.

وقال أيضا قدس‌سره في الكتاب المشار إليه بعد ذكر اشتراط الإخلاص في العلم ، ونقل جملة من الأخبار في هذا المعنى ما لفظه : (فصل : هذه الدرجة ـ وهي درجة الإخلاص ـ عظيمة المقدار ، كثيرة الأخطار ، دقيقة المعنى ، صعبة المرتقى ، يحتاج طالبها إلى نظر دقيق وفكر صحيح ومجاهدة تامة ، وكيف لا يكون كذلك وهو مدار القبول ، وعليه يترتّب الثواب ، وبه تظهر ثمرة عبادة العابد [وتعب العالم] (٧) وجد المجاهد؟ ولو فكر الإنسان في نفسه ، وفتش (٨) حقيقة عمله لوجد الإخلاص فيه قليلا ، وشوائب الفساد إليه متوجهة ، والقواطع عليه متراكمة ، سيّما المتّصف بالعلم وطالبه فإن الباعث الأكثري ـ سيّما في الابتداء لباغي العلم ـ طلب الجاه والمال والشهرة وانتشار الصيت ، ولذة الاستيلاء ، واستثارة الحمد

__________________

(١) قوله : والأخباث .. تطهيره من ، سقط في «ح».

(٢) إحياء علوم الدين ١ : ٤٨.

(٣) مشكاة الأنوار : ٥٦٣ / ١٩٠١ ، علم اليقين ١ : ٨ ، بحار الأنوار ١ : ٢٢٥ / ١٧.

(٤) إحياء علوم الدين ٤٩.

(٥) من «ح» والمصدر.

(٦) منية المريد : ١٦٧ ـ ١٦٨.

(٧) من المصدر ، وفي «ح» : نصب الغافل ، وفي «ق» : تعب الغافل.

(٨) في «ح» بعدها : عن.

٧٣

والثناء ، وربما يلبس الشيطان عليهم مع ذلك ويقول لهم : غرضكم نشر دين الله والنضال عن الشرع الذي شرعه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

والمظهر لهذه المقاصد يتبين عند ظهور أحد من الأقران أكثر علما منه وأحسن حالا بحيث يصرف الناس عنه ، فلينظر حينئذ فإن كان حاله مع الموقّر له والمعتقد لفضله أحسن ، وهو له أكثر احتراما وبلقائه أشدّ استبشارا ممّن يميل إلى غيره ، مع كون ذلك الغير مستحقا للموالاة ، فهو مغرور ، وعن دينه (١) مخدوع ، وهو لا يدري كيف ، وربما انتهى الأمر بأهل العلم إلى أن يتغايروا تغاير النساء ، فيشق على أحدهم [أن] يختلف بعض تلامذته إلى غيره وإن كان يعلم أنه منتفع بغيره ومستفيد منه في دينه. هذا رشح الصفات المهلكة المستكنة في سر القلب التي يظن العالم النجاة منها ، وهو مغرور في ذلك ، وإنما ينكشف بهذه العلامات ونحوها ، ولو كان الباعث له على العلم هو الدين لكان إذا ظهر غيره شريكا أو مستبدّا أو معينا على التعليم لشكر الله ، إذ كفاه وأعانه على هذا المهمّ بغيره وكثّر أوتاد الأرض ومرشدي (٢) الخلق ومعلميهم (٣) دين الله تعالى ومحيي سنن المرسلين) (٤).

ثم أطال في ذلك المقال إلى أن قال : (وبالجملة ، فمعرفة حقيقة الإخلاص والعمل به بحر عميق يغرق فيه الجميع الشاذ النادر المستثنى [في] (٥) قوله تعالى : (إِلّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) (٦). فليكن العبد شديد التفقد والمراقبة لهذه الدقائق ، وإلّا التحقق بأتباع الشياطين ، وهو لا يشعر) (٧) انتهى.

__________________

(١) في «ح» : عن ذنبه ، بدل : وعن دينه.

(٢) في «ح» : مرشد.

(٣) في «ح» : معلمهم.

(٤) منية المريد : ١٤٢ ـ ١٤٣.

(٥) من المصدر ، وفي النسختين : من.

(٦) الحجر : ٤٠ ، ص : ٨٣.

(٧) منية المريد : ١٤٦.

٧٤

فانظر ـ أيدك الله تعالى ـ إلى صعوبة المقام ، وخطره التام ، وتدبر في كلمات هؤلاء الأعلام ، وهل كلامه عليه‌السلام في الخبر المبحوث عنه إلّا على نحو هذه الكلمات من بيان ما ينبغي أن يكون عليه العالم الحقيقي من الصفات؟

وقال بعض الفضلاء : (ولا تظنن أن ترك المال يكفي للّحوق بعلماء الآخرة ، فإن الجاه أضرّ من المال ، ولذلك قيل (١) : حدثنا باب من أبواب الدنيا ، فإذا سمعت الرجل يقول : حدثنا فإنما يقول : أوسعوا لي. وقيل : فتنة الحديث أشدّ من فتنة الأهل والمال والولد. وقيل : العلم كله دنيا والآخرة منه العمل به ، والعمل (٢) كله هباء إلّا الإخلاص.

قال عيسى عليه‌السلام : «كيف يكون من أهل العلم من [مسيره إلى آخرته] (٣) وهو مقبل على دنياه؟ وكيف يكون من أهل العلم من يطلب العلم ليخبر به لا ليعمل به؟» (٤).

وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «من طلب علما مما يبتغى به وجه الله تعالى ليصيب به غرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة» (٥).

وقد وصف الله عزوجل علماء السوء بأكل الدنيا بالعلم ، ووصف علماء الآخرة بالخشوع والزهد ، فقال في علماء الدنيا (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً) (٦) ، وقال في علماء الآخرة (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) (٧).

__________________

(١) في المصدر : ولذلك قال بشر.

(٢) في «ح» بعدها : به.

(٣) من المصدر ، وفي النسختين : يكون سبيله إلى الفرقة.

(٤) انظر : الكافي ٢ : ٣١٩ / ١٣ ، باب حب الدنيا والحرص عليها ، منية المريد : ١٤١ ، بحار الأنوار ٢ : ٣٨ ـ ٣٩ / ٦٦.

(٥) منية المريد : ١٣٤ ، بحار الأنوار ٢ : ٣٨ / ٥٨ ، سنن أبي داود ٣ : ٣٢٣ / ٣٦٦٤.

(٦) آل عمران : ١٨٧.

(٧) آل عمران : ١٩٩.

٧٥

وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «أوحى الله إلى بعض الأنبياء : قل للذين يتفقهون لغير الدين ، [ويتعلّمون] (١) لغير العمل ، ويطلبون الدنيا بعمل الآخرة ، ويلبسون للناس ، قلوبهم كقلوب الذئاب ، وألسنتهم أحلى من العسل ، وقلوبهم أمرّ من الصبر : إياي تخادعون ، وبي تستهزءون؟ لأفتحن لهم فتنة تذر الحليم حيران») (٢) انتهى.

وفي كتاب (مصباح الشريعة) عن الصادق عليه‌السلام أنه قال : «العالم حقا هو الذي تنطق عنه أعماله الصالحة وأوراده الزاكية وصدقه وتقواه ، لا لسانه وتطاوله في دعواه.

ولقد كان يطلب هذا العلم في غير هذا الزمان من كان فيه عقل ونسك وحكمة وحياء وخشية ، وإنا نرى طالبه اليوم من ليس فيه من ذلك شي‌ء ، والعالم يحتاج إلى عقل ورفق وشفقة ونصح وحلم وصبر وبذل ، والمتعلم يحتاج إلى رغبة وإرادة وفراغ ونسك وخشية وحفظ وحزم» (٣) انتهى.

وقال بعض الأجلّاء في وصف علماء الآخرة : (ومنها أن يكون عنايته بتحصيل العلم النافع في الآخرة المرغب في الطاعة ، مجتنبا للعلوم التي يقل نتجها ويكثر فيها الجدال والقيل والقال ، [فمثال] (٤) من يعرض عن علم الأعمال ، ويشتغل بالجدال ، مثل رجل مريض به علل كثيرة وقد صادف طبيبا حاذقا في وقت ضيّق يخشى فواته ، فاشتغل بالسؤال عن خاصية العقاقير والأدوية وغرائب الطب وترك مهمه الذي هو مؤاخذ به ، وذلك محض السفه. وقد روي أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال له : علمني من غرائب العلم. فقال له : «ما صنعت في رأس العلم؟». قال : وما رأس العلم؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «هل عرفت الرب؟». قال : نعم. قال : «وما صنعت في حقّه؟». قال : ما شاء الله. قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «هل عرفت الموت؟». قال : نعم.

__________________

(١) من المصدر ، وفي النسختين : ويعلمون.

(٢) إحياء علوم الدين ١ : ٦١ ـ ٦٢.

(٣) مصباح الشريعة : ١٤ ـ ١٥.

(٤) من المصدر ، وفي المخطوط : فمثل.

٧٦

قال : «فما أعددت له؟». قال : ما شاء الله. قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «اذهب فاحكم ما هنالك ، ثم تعال نعلمك غرائب العلم» (١)) (٢) انتهى.

وقال المحدّث (٣) الكاشاني في بعض رسائله : (إن من أهل الشقاء لمن يبطن شقاءه فيلتبس أمره على الذين لا يعلمون. ثم إنه ليتوغل في الخفاء لتوغله في الشقاء ، فيذهب على الألباء اولي الذكاء ، حتى إنهم يحسبون أنهم مهتدون لشدة الشبه بين الفريقين ، وكثرة الشبه في النجدين ، وليس النفاق بالإذعان لمكان النفاق في نوع الإنسان. وكلّما كان أحد المتقابلين من الآخر أبعد كان الاشتباه أكثر وأشد ؛ فإن أرباب الرئاسة الدينيّة أمرهم في الأغلب غير مبين ؛ لمكان المرائين. وهذه هي المصيبة الكبرى في الدين ، والفتنة العظمى لبيضة المسلمين ، وهي التي أوقعت الجماهير في الحرج ، وأمالتهم عن سبيل المخرج ؛ إذ من الواجب اتباع الأذناب للرأس ، والرأس قد خفي في نفاق الناس ؛ ولأجل ذلك تقاتل التي تبغي حتى تفي‌ء إلى أمر الله) انتهى.

أقول : انظر إلى اندماج هذا الكلام على ما دل عليه ذلك الخبر من الاحتياج في تحصيل العالم الحقيقي إلى مزيد البحث والنظر ، وعدم الاكتفاء بمجرد ما ظهر وإن اشتهر.

ثمّ أقول : وممّا يؤيد ما ذكرناه ويؤكده ما سطرناه ما استفاض من الأخبار في وصف المؤمن ، وما ورد في وصف الشيعة ، وكفاك في ذلك حديث همام الذي رواه جملة من علمائنا الأعلام (٤).

__________________

(١) التوحيد : ٢٨٤ ـ ٢٨٥ / ٥ ، ولم ينقله بتمامه.

(٢) إحياء علوم الدين ١ : ٦٥.

(٣) في «ح» بعدها : المحسن.

(٤) انظر : نهج البلاغة : ٤٠٩ / الخطبة : ١٩٣ ، الكافي ٢ : ٢٢٦ ـ ٢٣٠ / ١ ، باب المؤمن وعلاماته ، الأمالي (الصدوق) : ٦٦٢ / ٦٧٠ / ١٨٩٦ ، بحار الأنوار ٦٤ : ٣٤١ ـ ٣٤٥ / ٥١.

٧٧

ومن ذلك ما رواه في (الكافي) بسنده عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «المؤمن له قوة في دين ، وحزم في لين ، وإيمان في يقين ، وحرص في فقه ، ونشاط في هدى ، وبرّ في استقامة ، وعلم في حلم ، وكيس في رفق ، وسخاء في حقّ ، وقصد في غنى ، وبخل في فاقة ، وعفو في قدرة ، وطاعة لله في نصيحة ، وانتهاء في شهوة ، وورع في رغبة ، وحرص في جهاد ، وصلاة في شغل ، وصبر في شدّة. وفي الهزاهز وقور ، وفي (١) المكاره صبور ، وفي الرّخاء شكور. ولا يغتاب ، ولا يتكبّر ، ولا يقطع الرحم ، وليس بواهن ، ولا فظّ ، ولا غليظ ، لا يسبقه بصره ، ولا يفضحه بطنه ، ولا يغلبه فرجه ، ولا يحسد الناس ، يعيّر ولا يسوّف (٢) ، ينصر المظلوم ، ويرحم المسكين. نفسه منه في عناء ، والناس منه في راحة ، لا يرغب في عزّ الدنيا ، ولا يجزع من ذلها. للناس همّ قد أقبلوا عليه ، وله همّ قد شغله. لا يرى في حكمه نقص ، ولا في رأيه وهن ، ولا في دينه ضياع. يرشد من استشاره ، ويساعد من ساعده ، ويكيع عن الخنا والجهل» (٣).

وروى في الكتاب المذكور بسنده عنه عليه‌السلام : «شيعتنا الشاحبون (٤) الذابلون الناحلون ، الذين إذا جهنّم الليل استقبلوه بحزن» (٥).

وروى فيه أيضا بسنده عنه عليه‌السلام قال : «إيّاك والسفلة ، فإنما شيعة علي من عف بطنه وفرجه ، واشتدّ جهاده ، وعمل لخالقه ، ورجا ثوابه ، وخاف عقابه ، فإذا رأيت أولئك فاولئك شيعة جعفر» (٦).

__________________

(١) من «ح».

(٢) في «ح» : يسرف.

(٣) الكافي ٢ : ٢٣١ / ٤ ، باب المؤمن وعلاماته وصفاته.

(٤) في «ح» : السائحون ، وفي هامش «ح» ورد ما يلي : وفي بعض النسخ بالشين المعجمة ، وتقديم المهملة على الموحّدة. والشحبة : تغيّر اللون والهزال ، الذابل : اليابس الشفة ، والناحل : من ذهب جسمه من مرض ونحوه. (هامش «ح»).

(٥) الكافي ٢ : ٢٣٣ / ٧ ، باب المؤمن وعلاماته وصفاته.

(٦) الكافي ٢ : ٢٣٣ / ٩ ، باب المؤمن وعلاماته وصفاته.

٧٨

وروى فيه أيضا بسنده عنه عليه‌السلام قال : «إن شيعة عليّ كانوا خمص (١) البطون ، ذبل الشفاه ، أهل رأفة وعلم وحلم ، يعرفون بالرهبانية ، فأعينوا على ما أنتم عليه بالورع والاجتهاد» (٢).

وروى فيه أيضا بسنده عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «إنما شيعة عليّ الحلماء العلماء ، الذبل الشفاه ، تعرف الرهبانية على وجوههم» (٣).

وروى فيه أيضا بسنده إلى المفضّل بن عمر عن أبي عبد الله قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «إذا أردت أن تعرف أصحابي ، فانظر إلى من اشتدّ ورعه ، وخاف خالقه ، ورجا ثوابه. فإذا رأيت هؤلاء فهؤلاء أصحابي» (٤).

إلى غير ذلك من الأخبار (٥) المتكاثرة والآثار المتضافرة. وهذه الأخبار وإن كانت محمولة على كل المؤمنين والشيعة ، إلّا إنه يجب بطريق الأولوية أن يكون النائب عنهم عليه‌السلام والخليفة القائم مقامهم في جملة الأحكام من المتصفين بتلك الأوصاف الشريفة والأخلاق المنيفة ، بل المتقدّمين فيها والسابقين إليها والفرد الأعلى فيها.

تذنيب : في حديث عنوان البصري

نقل شيخنا المجلسي ـ عطر الله مرقده ـ في (بحار الأنوار) قال : (وجدت بخط شيخنا البهائي ـ قدس الله روحه ـ ما هذا لفظه : قال الشيخ شمس الدين محمد بن مكي : نقلت من خط الشيخ أحمد الفراهاني رحمه‌الله عن عنوان البصري (٦) ـ

__________________

(١) خماص البطن : كناية عن قلة الأكل ، والقصد : عن أكل أموال الناس. (س) ، (هامش «ح»).

(٢) الكافي ٢ : ٢٣٣ / ١٠ ، باب المؤمن وعلاماته وصفاته.

(٣) الكافي ٢ : ٢٣٥ / ٢٠ ، باب المؤمن وعلاماته وصفاته.

(٤) الكافي ٢ : ٢٣٦ / ٢٣ ، باب المؤمن وعلاماته وصفاته.

(٥) انظر الكافي ٢ : ٢٣٦ ـ ٢٤١ / ٢٤ ـ ٣٩ ، باب المؤمن وعلاماته وصفاته.

(٦) من «ح» والمصدر ، وفي «ق» : الفهري.

٧٩

وكان شيخا كبيرا قد أتى عليه أربع وتسعون سنة ـ قال : كنت أختلف إلى مالك ابن أنس سنين ، فلما قدم جعفر الصادق عليه‌السلام المدينة اختلفت إليه ، وأحببت أن آخذ عنه كما أخذت عن مالك ، فقال لي يوما : «إنّي رجل مطلوب ، ومع ذلك لي أوراد في كل ساعة من آناء الليل والنهار ، فلا تشغلني عن وردي ، وخذ عن مالك واختلف إليه كما كنت تختلف إليه».

فاغتممت من ذلك وخرجت من عنده ، وقلت في نفسي : لو تفرس فيّ خيرا لما زجرني عن الاختلاف إليه والأخذ عنه. فدخلت مسجد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلمت عليه ، ثم رجعت من الغد إلى الروضة وصليت فيها ركعتين ، وقلت : أسألك يا الله يا الله أن تعطّف عليّ (١) قلب جعفر ، وترزقني من علمه ما أهتدي به إلى صراطك المستقيم. ورجعت إلى داري مغتمّا ، ولم أختلف إلى مالك بن أنس لما اشرب قلبي من حبّ جعفر ، فما خرجت من داري إلّا إلى الصلاة المكتوبة ، حتى عيل صبري ، فلما ضاق صدري تنعلت وترديت ، وقصدت جعفرا. وكان بعد ما صليت العصر ، فلما حضرت باب داره استأذنت عليه ، فخرج خادم له فقال : ما (٢) حاجتك؟ فقلت : السّلام على الشريف. فقال : هو قائم في مصلّاه.

فجلست بحذاء بابه ، فما لبثت إلّا يسيرا ، إذ خرج خادم ، فقال : ادخل على بركة الله. فدخلت وسلمت عليه ، فردّ السّلام وقال : «اجلس غفر الله لك». فجلست ، فأطرق مليّا ، ثم رفع رأسه فقال : «أبو من؟». قلت : أبو عبد الله. قال : «ثبت الله كنيتك ، ووفقك يا أبا عبد الله ، ما مسألتك؟».

فقلت في نفسي : لو لم يكن لي من زيارته والتسليم عليه غير هذا الدعاء لكان كثيرا. ثم رفع رأسه ، فقال : «ما مسألتك؟». فقلت : سألت الله أن يعطّف قلبك علي ،

__________________

(١) سقط في «ح».

(٢) من «ح».

٨٠