الدّرر الملتقطة في تفسير الآيات القرآنيّة

المؤلف:

محمد إسماعيل الخواجوئي


المحقق: السيد مهدي الرجائي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار القرآن الكريم
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٧٨

العلماء ـ وظاهر انه اراد به الفاضلين ـ صريح في انه لا يقول بذلك ، ولا يرضى بهذا الدليل ، وانه ليس مما اتفقت به الشيعة ، كما هو ظاهر كلام العلامة قدس سره.

وبالجملة لا يسوغ القول بأن علياً ـ عليه السلام ـ او واحدا من الائمة سلام الله عليهم صار مثله ومساويا له ـ صلى الله عليه وآله ـ في وقت بقي ذلك المساوي ولو في آن بعده ، فان بقاءه فيه مصدقا بالله وبصفاته العليا وملائكته وكتبه ورسله واليوم الاخر الى غير ذلك ، ونفسه ونومه فيه تسبيح وعبادة يستحق به الثواب ؛ لان نفس العالم تسبيح ونومه عبادة ، ويلزم منه ما تقدم.

واللازم باطل ، فالملزوم مثله ، وبدون المساواة في الفضيلة لا يتم التقريب ، وهو كونه ـ عليه السلام ـ افضل من سائر الانبياء والمرسلين ، لكونه مساويا للافضل منهم ، وهو خاتم النبيين صلوات الله عليهم اجمعين.

وأما ما ورد في بعض الاخبار من قوله ـ صلى الله عليه وآله ـ « انهم مثلي » فالمراد به انهم مثله في العصمة ، وفرض الطاعة ، والدلالة الى الله ، والهداية اليه ، وما شاكل ذلك ، لا انهم مثله في الدرجة والفضيلة ، ليلزم منه المساواة ، فيلزم منه ما سبق.

والمشبه لا يلزم ان يكون مثل المشبه به في كل الوجوه ، وكيف يمكن القول بمساواتهم كلهم له ـ صلى الله عليه وآله؟ وهم مختلفون في المرتبة والفضيلة.

فأما الحسنان ، فأبوهما خير منهما ، وهما من التسعة ، والحجة من الثمانية صلوات الله عليهم.

ثم لا حاجة في تفضيله ـ عليه السلام ـ على الانبياء الى القول بالمساواة ، فان له طرقا عديدة اوضحناها في رسالة لنا مفردة مسماة بذريعة النجاة (١)

____________

(١) وهذه الرسالة مطبوعة في المجموعة الاولى من الرسائل الاعتقادية للمؤلف برقم (٢).

٨١

معمولة لبيان افضلية ائمتنا ـ عليهم السلام ـ من سائر الانبياء غير النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ قد اشبعنا الكلام فيها بما لا مزيد عليه ، فاليطلب من هناك ، وبالله التوفيق.

* واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا ... [ الآية : ١٠٣ ]

الحبل ما يرتبط به ، ثم استعير لكل ما يتوصل به الى الشيء.

قال الراغب : حبله هو الذي يكون معه التوصل به اليه من القرآن والنبي والعقل وغير ذلك ، مما اذا اعتصمت به اداك الى جواره (١).

ويقال : للعهد والذمة حبل ايضا لانه يعقد بهما الامان ، كما يعقد بالحبل ، ومنه « ضربت عليهم الذلة اينما ثقفوا الا بحبل من الله وحبل من الناس » (٢) اي : ذمة الله وذمة المسلمين.

وفسر حبل الله في بعض الروايات بولايته.

وروى علي بن ابراهيم بسنده عن سيدنا ابي عبد الله الصادق ـ عليه السلام ـ قال : من وفا بذمتنا فقد وفا بعهد الله وذمته ، ومن حقر ذمتنا فقد حقر ذمة الله عز وجل وعهده.

فهذا معنى التمسك بحبلهم.

____________

(١) مفردات الراغب : ١٠٧.

(٢) آل عمران : ١١٢.

٨٢

* يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم اكفرتم بعد ايمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون * وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون. [ الايتان : ١٠٦ ـ ١٠٧ ]

للمفسرين في تفسير قوله تعالى : « يوم تبيض وجوه وتسود وجوه » قولان : أحدهما : أن المراد بابيضاض الوجوه إشراقها وأسفارها بنيل البغية والظفر بالأمنية ، والاستبشار بما يصير اليه من الثواب ، كقوله تعالى : « وجوه يومئذ مسفرة * ضاحكة مستبشرة » (١).

وباسودادها ظهور اثر الحزن والكأبة عليها ، لما تصير اليه من العقاب ، كقوله تعالى : « وجوه يؤمئذ باسرة » (٢) وقوله تعالى : « وجوه يؤمئذ عليها غبرة * ترهقها قترة » (٣).

وثانيها : ان البياض والسواد محمولان على ظاهرهما ، وهما النور والظلمة ، اذ الاصل في الاطلاق الحقيقة.

فمن كان من اهل نور الحق وسم ببياض اللون واسفاره واشراقه ، ابيضت صحيفته ، وسعى النور بين يديه وبيمينه.

____________

(١) عبس : ٣٨ ـ ٣٩.

(٢) القيامة : ٢٤.

(٣) عبس : ٤٠ ـ ٤١.

٨٣

ومن كان من اهل ظلمة الباطل ، وسم بسواد اللون وكمده ، اسودت صحيفته ، واحاطت الظلمة من كل جانب.

قالوا : والحكمة في ذلك أن تعرف اهل الموقف كل صنف ، فيعظموهم ويصغروهم بحسب ذلك ، ويحصل لهم بسببه مزيد بهجة وسرور ، او ويل وثبور.

وايضا اذا عرف المكلف في الدنيا انه تحصل له في الاخرة احدى الحالتين ، ازدادت نفسه رغبة في الطاعات وحرفا عن السيئات.

والتحقيق في ذلك : ان الهيئات والاخلاق الحميدة انوار ، والملكات والعادات الذميمة ظلمات ، وكل منها لا يظهر اثاره الا بعد المفارقة الى الاخرة ، فابيضاض الوجوه عبارة عن آثار تلك الانوار ، واسودادها عبارة عن آثار تلك الظلمات ، اعاذنا الله منها.

ولنا في ذلك رسالة مفردة ، قد فصلنا القول فيه ، فليطلب من هناك.

* والذين اذا فعلوا فاحشة او ظلموا انفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب الا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون. [ الآية : ١٣٥ ]

الاصرار من الصر ، وهو الشد والربط ، ومنه الصرة ، ثم اطلق على الاقامة على الذنب من غير استغفار ، كأن المذنب ارتبط بالاقامة.

والمشهور ان الكبيرة نفس الاصرار على الصغيرة المصر عليها ، تصير بالاصرار كبيرة ، فمعنى لا صغيرة مع الاصرار انه لا اثر لها في ترتب العقاب ، بل العقاب معه يترتب على نفس الاصرار الذي هو من الكبائر ، فكأن الصغيرة

٨٤

في جنبه مضمحلة.

وقد قيل : مرجعه العرف وبلوغه مبلغا ينفي الثقة ، وظاهر ان العرف يختلف باختلاف الصغائر ، فالصغيرة التي لا يحترز عنها غالبا ، اصرارها يتحقق بأكثر مما يتحقق به الاصرار على ما يرتكب نادرا.

وقيل : المراد به العزم على فعلها بعد الفراغ منها ، وفي معناه المداومة على نوع منها بلا توبة ، فالاصرار اما فعلي ، كالمدامة علي نوع او انواع من الصغائر. او حكمي ، وهو العزم على فعلها ثانيا بعد وقوعه وان لم يفعل. كذا في قواعد (١) شيخنا الشهيد رحمه الله.

وقال شيخنا البهائي قدس سره في الاربعين : ولا يخفى ان تخصيصه الاصرار الحكمي بالعزم على تلك الصغيرة بعد الفراغ منها يعطي انه لو كان عازما على صغيرة اخرى بعد الفراغ مما هو فيه لا يكون مصرا ايضا.

وتقييده ببعد الفراغ منها يقتضي بظاهره ان من كان عازما مدة سنة على لبس الحرير مثلا ، لكنه لم يلبسه اصلا لعدم تمكنه ، لا يكون في تلك المدة مصرا ، وهو محل نظر (٢) انتهى.

وأما من فعل الصغيرة ولم يخطر بباله العزم على فعلها بعدها ولا التوبة منها ، فهو الذي لا يقدح في العدالة ، ويكفر بالاعمال الصالحة ، كما ورد في الخبر قال الله تعالى : « اقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل ان الحسنات يذهبن السيئآت » (٣).

وقال بعض العامة : الاصرار هو ادامة الفعل ، والعزم على ادامته يصح معها اطلاق وصف العزم عليه.

____________

(١) القواعد والفوائد : ١ / ٢٢٧.

(٢) الاربعون حديثاً : ١٩٠ ح ٢٩.

(٣) هود : ١١٤.

٨٥

وقال بعضهم : حد الاصرار ان تتكرر الصغيرة ، بحيث يشعر بقلة مبالاته بذنبه كاشعار الكبيرة ، وكذا اذا اجتمع صغائر مختلفة الانواع بحيث يشعر وقوعها بما يشعر به اصغر الكبائر.

وروى ثقة الاسلام في الكافي بسند ضعيف عن ابي جعفر ـ عليه السلام ـ في قوله تعالى : « ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون » قال : الاصرار ان يذنب الذنب فلا يستغفر الله ولا يحدث نفسه بتوبة فذلك الاصرار (١).

وقيل : هو يدل على ان يتحقق الذنب مع عدم الاستغفار والتوبة ، سواء اذنب ذنبا اخر من نوع ذلك الذنب ، او من غير نوعه ، او عزم على ذنب اخر ام لا.

أما تحققه في غير الاخير ، فظاهر. وأما الاخير ، فلان التوبة واجبة في كل آن ، فتركها ذنب مضاف الى الذنب الاول ، فتحقق الاصرار.

وعن ابي بصير قال : سمعت ابا عبد الله ـ عليه السلام ـ يقول : لا والله لا يقبل الله شيئا من طاعته على الاصرار على شيء من معاصيه (٢).

____________

(١) أصول الكافي : ٢ / ٢٨٨ ح ٢.

(٢) أصول الكافي : ٢ / ٢٨٨ ح ٣.

٨٦

( سورة النساء )

* والمحصنات من النساء الا ما ملكت ايمانكم كتاب الله عليكم واحل لكم ما وراء ذلكم ان تبتغوا باموالكم محصنين غير مسافحين فما استمتعتم به منهن فآتوهن اجورهن فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة ان الله كان عليماً حكيماً [ الآية : ٢٤ ]

قال البيضاوي بعد كريمة « فما استمتعتم به منهن » الآية : انها نزلت في المتعة التي كانت ثلاثة ايام حين فتحت مكة ثم نسخت ، كما روي انه ـ صلى الله عليه وآله ـ اباحها ، ثم اصبح يقول : ايها الناس اني كنت امرتكم بالاستمتاع من هذه النساء ، الا ان الله تعالى حرم ذلك الى يوم القيامة (١).

وقال الزمخشري في الكشاف : كان الرجل ينكح المرأة وقتاً معلوما ليلة او ليلتين او اسبوعا بثوب او غير ذلك ، ويقضي منها وطره ثم يسرحها ، ثم نقل الرواية المذكورة (٢).

اقول : هذه الرواية والمشهورة بين الفريقين عن ابن الخطاب ، انه قال : متعتان

____________

(١) انوار التنزيل : ١ / ٣٦.

(٢) الكشاف : ١ / ٥١٩.

٨٧

كانتا على عهد رسول الله حلالا وانا انهي عنهما واعاقب عليهما (١).

متناقضتان ؛ اذ الاولى صريحة في عدم بقاء المتعة الى زمان عمر ، بل تدل على نسخها في عهد رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ حيث اصبح يخاطب الناس باسناد تحريمها اليه تعالى من وقته الى يوم القيامة.

والمشهورة عنه صريحة في بقائها وشهرتها الى زمنه ، حيث اسند تحريمها والنهي عنها والمعاقبة عليها الى نفسه بضرب من الرأي ، فلولا بقاؤها وانتشارها بينهم في زمانه وفعلهم اياها في هذا الزمان لما كان لقوله « انا احرمهما » كما في رواية ، او « انا انهي عنهما واعاقب عليهما » كما في الرواية المذكورة معنى.

وكذلك ما في الكشاف عن عمر انه قال : لا اوتي برجل تزوج امرأة الى اجل الا رجمتها بالحجارة (٢).

وما في تفسير الثعلبي عن عمران بن حصين : نزلت آية المتعة في كتاب الله تعالى ولم تنزل بعدها آية تنسخها ، فأنا امرنا رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ فتمتعنا مع الرسول ، فمات ولم ينهنا عنها ، فقال رجل بعده برأيه ما شاء (٣).

وما في صحيح الترمذي : ان رجلا من اهل الشام سأل ابن عمر عن متعة النساء ، فقال : هي حلال ، فقال : ان اباك قد نهى عنها ، فقال : أرأيت ان كان ابي نهى عنها وسنها رسول الله ، تترك السنة وتتبع قول ابي (٤).

وما في نهاية ابن الاثير عن ابن عباس « ما كانت المتعة الا رحمة رحم الله بها امة محمد ، ولولا نهيه عنها ما احتاج الى الزنا الا شفاً » اي : قليلا من

____________

(١) سنن البيهقي : ٢ / ٢٠٦.

(٢) الكشاف : ١ / ٥١٩.

(٣) صحيح مسلم : ٢ / ٩٠٠ ح ١٧٢.

(٤) صحيح الترمذي : ١ / باب ما جاء في التمتع. وشرح معاني الاثار للطحاوي : ٣٧٣.

٨٨

الناس (١).

وما في رواية الحكم بن عتيبة ، وهو من اكابر اهل السنة ، قال قال علي بن ابي طالب ـ عليه السلام : لولا ان نهى عن المتعة ما زنا الا شقي (٢).

وما في النقل المشهور ان يحيى بن اكثم قال لشيخ من البصرة : بما اقتديتم في تحليل المتعة؟ فقال : بعمر بن الخطاب ؛ لانه قال : ان الله ورسوله احلا لكم متعتين وانا احرمهما عليكم واعاقب عليهما ، فقبلنا شهادته ، ولم نقبل تحريمه.

وما في صحيح مسلم بن حجاج عن ابن جريح قال عطا : قدم جابر بن عبد الله معتمرا ، فجئنا منزله ، فسأله القوم عن اشياء ، ثم ذكروا المتعة ، فقال : نعم استمتعنا على عهد رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ وابي بكر وعمر. (٣) كلها صريحة في بقائها الى زمانه ، فالمنافاة ظاهرة.

وايضا فما فائدة هذا التزويج المؤجل بعد نسخة الى زمن الثاني؟ حتى يستوجب فاعله الرجم بالحجارة او المعاقبة ، وهل فرق بعد نسخه بينه وبين الزنا؟

فلولا ان غرضهم اباحة الفروج به ، والتسنن بسنة النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ لما فعلوه الى وقت نهيه ، وخاصة كبار الصحابة الموثقين ، كعبد الله بن عباس ومن في طبقته ، حيث قالوا : انها لم تنسخ وكانوا يقرؤون فما استمتعتم به منهن الى اجل مسمى ، على ما في الكشاف.

وفي تفسير الثعلبي عن ابي نضرة ، قال : سألت ابن عباس عن المتعة ، فقال : أما قرأت سورة النساء؟ فقلت : بلى ، فقال : أما تقرأ فما استمتعتم به منهن الى اجل مسمى؟ قلت : لا اقرأ هكذا ، قال ابن عباس : والله هكذا انزله الله عز وجل

____________

(١) نهاية ابن الاثير : ٢ / ٤٨٨.

(٢) التفسير الكبير : ٩ / ٥٠.

(٣) صحيح مسلم : ٢ / ١٠٢٣ ح ١٥.

٨٩

ثلاث مرات (١).

وأما رجوعه عن القول بالمتعة وتوبته عند موته بقوله : اللهم اني اتوب اليك من قولي بالمتعة وقولي بالصرف ، على ما نسب اليه الزمخشري والبيضاوي ، فمع كونه بعيدا عنه غاية البعد ، غير ثابت ولا دافع للمنافاة ، كما لا يخفى.

وكيف يصح منه الرجوع والتوبة عنه عند موته؟ مع عدم ظهور دليل خلافه في حياته. وظهور دليله عند الموت ، وكونه مخفيا عليه وعلى غيره حتى يمنعوه عنه الى حين موته ، بعيد بل ممتنع عادة.

على ان اسناد الثاني التحريم الى نفسه في الرواية المشهورة عنه مناف ايضا لما في الرواية الاولى من اسناده اليه تعالى ، وهو ظاهر.

وبالجملة فبين تلك الروايات الواردة في طريقهم من التدافع والتناقض ما لا يخفى.

والعجب ان الزمخشري والبيضاوي مع نقلهما رواية الرجم بالحجارة ، لم يتفطنا بذلك ولم يتصديا لدفعه ، وانى لهما ذلك.

وقد ورد في طريقهما عن علي ـ عليه السلام ـ ان رسول الله ـ صلى عليه وآله ـ نهى عن متعة النساء يوم خبير (٢).

ورووا عن الربيع بن سبرة عن ابيه ، قال : شكونا العزبة في حجة الوداع ، فقال : استمتعوا من هذه النساء ، فتزوجت امرأة ، ثم غدوت على رسول الله وهو قائم بين الركن والباب ، وهو يقول : كنت قد اذنت لكم في الاستمتاع ، الا وان الله قد حرمهما الى يوم القيامة (٣).

____________

(١) كتاب السبعة من السلف : ٧٢ ، عن تفسير الثعلبي.

(٢) صحيح مسلم : ٢ / ١٠٢٧.

(٣) صحيح مسلم : ٢ / ١٠٢٥.

٩٠

واللازم من الروايتين نسخها مرتين ؛ لان اباحتها في حجة الوداع اولا ناسخة لتحريمها يوم خيبر ويوم فتحت مكة ، ولا قائل به.

والآية كما قيل ظاهرة في المتعة ، والقراءة المنقولة صريحة فيها ، والاجماع واقع على انها سائغة ، وكذلك الروايات ، فالكتاب والسنة والامة متفقة على جوازها.

واختلفت الامة في بقائها ، والاصل والاستصحاب وعدم دليل واضح على النسخ وكونه خلاف الاصل ، مع الخلاف في جواز نسخ الكتاب بالسنة المتواترة ، وعدم الاجماع ، مع عدم العلم بالتواتر منا ، وعدم جوازه بالخبر الواحد ، على تقدير صحته وثبوته بالعقل والنقل من الاجماع وغيره ، دليل البقاء.

والحمد لله ما دامت الارض والسماء ، والصلاة على اشرف الانبياء محمد وآله المعصومين الامناء.

* ان تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئآتكم وندخلكم مدخلاً كريماً. [ الآية : ٣١ ]

قد اختلفت اقوال الاكابر في تحقيق الكبائر : ففي الكافي عن الصادق ـ عليه السلام : هي التي اوجب الله تعالى عليها النار (١).

وقال قوم : هي كل ذنب رتب عليها الشارع حداً ، او صرح فيه بالوعيد.

وقيل : هي كل معصية يلحق صاحبها الوعيد الشديد بنص من كتاب او سنة.

وقيل : هي كل جريرة يؤذن بقلة اكتراث صاحبها بالدين ، او كل ذنب علم

____________

(١) أصول الكافي : ٢ / ٢٧٦.

٩١

حرمته بدليل قاطع.

وقيل : هي السبع الموبقات : الشرك ، والسحر ، وقتل النفس المحترمة ، واكل الربا ومال اليتيم ، والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات المؤمنات.

وفيه : انها الى سبعمائة اقرب منها الى السبع.

وعن الرضا ـ عليه السلام : هي السبع المذكورة ، واليأس من روح الله ، والامن من مكر الله ، وعقوق الوالدين ، والزنا ، واليمين الغموس ، والغلول ، ومنع الزكاة ، وشهادة الزور ، وكتمان الشهادة ، وشرب الخمر ، وترك الصلاة او شيء مما فرضه الله ، ونقض العهد ، وقطيعة الرحم (١).

وزاد بعضهم : اللواط ، والغيبة ، وترك احترام الكعبة ، والتعرب بعد الهجرة.

وزاد آخر : اكل الميتة والدم ، ولحم الخنزير ، وما اهل به لغير الله من غير ضرورة ، والسحت ، والقمار ، والبخس في الكيل والوزن ، ومعاونة الظالمين ، وحبس الحقوق من غير عسر ، والسعاية ، وتأخير الحج ، والاسراف ، والتبذير ، والخيانة ، والاشتغال بالملاهي ، والاصرار على الذنب ، والرشوة ، والمحاربة بقطع الطريق ، والقيادة والدياثة ، والنميمة ، والغصب ، والكذب ، وضرب المؤمن بغير حق ، وتأخير الصلاة عن وقتها (٢).

وذهب جماعة من اصحابنا ، كالمفيد وابن البراج وابي الصلاح وابن ادريس الى ان الذنوب كلها كبائر ، لاشتراكها في مخالفة الامر ، واطلاق الصغير والكبير عليها اضافي ، فالقبلة بالنسبة الى الزنا صغيرة ، وكبيرة بالنظر الى النظر بشهوة.

فمعنى قولهم « العدل من يجتنب الكبائر ولا يصر على الصغائر » انه اذا ظهر له امران ، كف عن الاكبر ولم يصر على الاصغر ، فلا يلزمهم كون كل

____________

(١) اصول الكافي : ٢ / ٢٨٥ ح ٢٤.

(٢) راجع مدارك هذه الاقوال الى اصول الكافي : ٢ / ٢٧٦ ـ ٢٨٧.

٩٢

معصية مخرجة عن العدالة ، وفيه من الحرج والضيق مالا يخفى ؛ لان غير المعصوم لا ينفك عنه.

واجاب عنه ابن ادريس بأن الحرج ينفى بالتوبة.

ورد بأن الحكم بها لا يكفي فيه مطلق الاستغفار واظهار الندم ، بل لابد وان يعلم من حاله ذلك ، وذلك قد يؤدي الى زمان طويل يفوت معه الغرض من الشهادة ونحوها ، فيبقى الحرج.

وقال العلامة النيسابوري في تفسيره : الحق في هذه المسألة وعليه الاكثر بعد اثبات تقسيم الذنب الى الصغير والكبير انه تعالى لم يمييز جملة الكبائر عن جملة الصغائر ، لما بين في قوله تعالى : « ان تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سئيآتكم » ان اجتناب الكبائر يوجب تكفير الصغائر.

فلو عرف المكلف جميع الكبائر اجتنبها فقط ، واجترأ على الاقدام على الصغائر ، أما اذا عرف انه لا ذنب الا ويجوز كونه كبيرا صار هذا المعنى زاجرا له عن الذنوب كلها.

ونظير هذا في الشرع اخفاء ليلة القدر في شهر رمضان ، وساعة الاجابة في ساعات الجمعة ، ووقت الموت في جملة الاوقات. هذا ولا مانع ان يبين الشارع في بعض الذنوب انه كبيرة ، كما روي أنه ـ عليه السلام ـ قال : اجتنبوا السبع الموبقات الى غير ذلك (١) انتهى.

* ان الله يأمركم ان تؤدوا الامانات الى اهلها واذا حكمتم بين الناس ان تحكموا بالعدل ان الله نعما يعظكم به ان الله كان سميعاً بصيراً. [ الآية : ٥٨ ]

____________

(١) راجع تفسير النيسابوري : ٥ / ٣٣ ـ ٣٦.

٩٣

العدالة لغة : الاستواء والاستقامة ، ويطلق على ضد الظلم وعدم الاخلال بالواجب وترك فعل القبيح.

ومنه ما ورد : وبالعدل قامت السموات والارض. لان المراد بعدله تعالى انه لا يفعل القبيح الذي هو الاخلال بالواجب.

وقيل : العدل التقسيط على سواء ، فتارة يراد به السواء باعتبار المقدار ، ومنه « ولن تستطيعوا ان تعدلوا بين النساء » (١) اي : في مقدار المحبة ، اشارة الى ما عليه جبلة الانسان من ان الانسان لا يقدر ان يسوي بينهن في المحبة ، وتارة باعتبار الحكمة والانتظام.

ومنه ما روي : بالعدل قامت السموات والارض. تنبيهاً على انه لو كان شيء مما قامتا به زائدا عما هو عليه ، او ناقصا عنه على غير ما اقتضته الحكمة ، لم يكن العالم منتظما ، وانتظامه بتقدير ذلك على ما يليق بقوامه وقيامه ، ومتى وصف الله سبحانه بالعدل ، فانما يراد ان افعاله واقعة على نهاية الحكمة البالغة والانتظام انتهى.

وقد يطلق على الفريضة ، ومنه ما ورد : من اكل حراما لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً. الصرف النافلة ، والعدل الفريضة. فدل على ان آكل الحرام لا نافلة له ولا فريضة ، الا ان يفرق بين القبول والاجزاء.

وقال صاحب الكشاف في قوله تعالى : « ولا يقبل منه شفاعة ولا يؤخذ منها عدل » (٢) اي فدية لانها معادلة للمفدي ، ثم قال : ومنه الحديث لا يقبل منه صرف ولا عدل. اي : توبة ولا فدية (٣). وعلى هذا فالامر اشكل.

وفي القاموس : العدل ضد الجور ، وما قام في النفوس انه مستقيم

____________

(١) النساء : ١٢٩.

(٢) البقرة : ٤٨.

(٣) الكشاف : ١ / ٢٧٩.

٩٤

كالعدالة والعدولة ، وعدل الحكم تعديلاً اقامه ، وفلاناً زكاه ، والميزان سواه ، والفريضة ، والنافلة ، والسوية ، والاستقامة (١).

وفي كتاب عدة الداعي لابن فهد في شرح اسماء الله الحسنى : العدل هو الذي لا يميل به الهوى فيجور في الحكم ، والعدل من الناس المرضي قوله وفعله وحكمه (٢).

ونحوه في نهاية ابن الاثير ، الا انه زاد فقال : وهو في الاصل مصدر اسمي فوضع موضع العادل ، وهو ابلغ منه لانه جعل المسمى نفسه عدلاً (٣).

ومنه ما ورد في الخبر : احب الناس الى الله واقربهم منه السلطان العادل ، وابغضهم اليه وابعدهم منه السلطان الجائر (٤).

دلت المقابلة على ان العدل ضد الجور ، كما تقدم فيما نقلناه عن القاموس.

وقال الواسطي : العدل ان لا تحرك جميع الاعضاء الا لله تعالى.

وقال الحكماء : اصول الفضائل الخلقية ثلاثة : الشجاعة ، والعفة والحكمة ، ومجموعها العدل.

واعلم ان العدل اصل كل خير ، وعليه مدار كل امر ، وبه قامت السموات والارض ، وهو ميزان الله القسط في الدنيا والاخرة.

وهو : اما بالقوة فهيئة نفسانية يطلب بها المتوسط بين الافراط والتفريط ، واما بالفعل فالامر المتوسط بين طرفي الافراط والتفريط.

فالاعتبار الاول قيل : هو اصل الفضائل كلها ، من حيث ان صاحبه يكسب به جميع الفضائل.

____________

(١) القاموس : ٣ / ١٣.

(٢) عدة الداعي : ٣٠٦.

(٣) نهاية ابن الاثير : ٣ / ١٩٠.

(٤) كنز العمال : ٦ / ٩.

٩٥

وبالاعتبار الثاني قيل : هو الفضائل كلها من حيث انه لا يخرج شيء من الفضائل عنه.

وبيانه : ان الفضائل كلها ملكات متوسطة بين طرفي افراط وتفريط ، فالمتوسط منها هو العدل ، كالحكمة النظرية المتوسطة بين الجربزة والغباوة ، والعفة المتوسطة بين خمود الشهورة والفجور ، والشجاعة المتوسطة بين الجبن والتهور ، والسخاء بين التبذير والبخل ، والتواضع بين الكبر والذل ، والاقتصاد بين الاسراف والتقتير ، والانصاف بين الظلم والانظلام ، وقس على ذلك سائر الاخلاق الفاضلة.

فالاوساط بين هذه الاطراف المتضادة هي الفضائل ، ولكل منها طرفا تفريط وافراط هما مذمومان ، والخروج الى احدهما هو الجور الذي هو ضد العدل ، والاطراف المتضادة هي الرذائل ، ومن هنا قيل : خير الامور اوسطها.

ثم هذا الحكم في العدل جار في باب العقائد ايضا ، كالتوحيد المتوسط بين التعطيل والشرك ، والتعويل على الامر بين الجبر والتفويض ، وفي باب الاعمال كأداء الواجبات والسنن المتوسط بين البطالة والترهب ، وفي باب الاقوال كالبلاغة المتوسطة بين العي والهذر.

والذين يجب على الانسان استعمال العدل معهم خمسة :

الاول : رب العزة تعالى وتقدس ، وذلك بمعرفة توحيده واحكامه والقيام بها.

الثاني : قوى النفس ، وذلك بأن يجعل هواه مستسلماً لعقله ، فقد قيل : اعدل الناس من انصف عقله من هواه.

الثالث : اسلافه الماضون في انفاذ قضاياهم والدعاء لهم.

الرابع : معاملوه واحباؤه في اداء الحقوق ، والانصاف في المعاملات من المبايعات والمقارضات والكرامات.

الخامس : عامة الناس على سبيل الحكم ، وذلك اذا تؤتى الحكم بينهم.

٩٦

وأما اذا كان الحكم بينه وبين غيره وكان الحق له ، فالفضل اشرف من العدل.

وقد نص الله تعالى الامرين ، فقال في من له الحق « وان تعفوا اقرب للتقوى ولا تنسوا الفضل بينكم » (١) وقال في الحكم بين الناس « ان الله يأمركم ان تؤدوا الامانات الى اهلها واذا حكمتم بين الناس ان تحكموا بالعدل ».

أسأل الله تبارك وتعالى ان يوفقنا ويسددنا لاجراء الامور على وفق العدل والانصاف.

____________

(١) البقرة : ٢٣٧.

٩٧
٩٨

( سورة المائدة )

* انما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون. [ الآية : ٥٥ ]

نزلت هذه الآية الشريفة في حق مولانا علي ـ عليه السلام ـ عند المخالف والمؤالف حين سأله سائل وهو راكع في صلاته ، فأومى اليه بخنصره اليمنى ، فأخذ الخاتم من خنصره.

وعن سيدنا ابي عبد الله الصادق ـ عليه السلام : ان الخاتم الذي تصدق به امير المؤمنين ـ عليه السلام ـ وزن خلقته اربعة مثاقيل فضة ، ووزن فصه خمسة مثاقيل ، وهي ياقوتة حمراء ، قيمته خراج الشام ، وخراجه ستمائة حمل فضة واربعة احمال من الذهب ، هو لطوق بن الحران (١) قتله امير المؤمنين ـ عليه السلام ـ واخذ الخاتم من اصبعه ، واتى به النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ من جملة الغنائم ، فأعطاه النبي فجعله في اصبعه صلوات الله عليهما وآلهما (٢).

قال الزمخشري : انما جيء به على لفظ الجمع ، وان كان السبب فيه رجلاً واحداً ، ليرغب الناس في مثل فعله ، ولينبه ان سجية المؤمنين يجب ان تكون على هذه الغاية من الحرص على البر والاحسان (٣) انتهى كلامه.

____________

(١) كذا في الاصل وفي البرهان : لمروان بن طوق.

(٢) البرهان : ١ / ٤٨٥.

(٣) الكشاف : ١ / ٦٢٤.

٩٩

أقول : ولا حاجة اليه ؛ لانه قد اشتهر في اللغة التعبير عن الواحد بلفظ الجمع.

للتعظيم والتكريم ، فأي حاجة الى الاستدلال عليه ، فهذه الآية من اوضح الدلائل على فرض ولايته وصحة امامته بعد النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ بلا فصل.

نقل انه اجتمع نفر من اصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ في مسجد المدينة ، فقال بعضهم لبعض : ان كفرنا بهذه الآية كفرنا بسائرها ، وان آمنا صارت فيما يقول ، ولكنا نتولى ولا نطيع علياً ، فنزلت « يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها » (١).

____________

(١) النحل : ٨٣.

١٠٠