وضوء عبد الله بن عباس

السيد علي الشهرستاني

وضوء عبد الله بن عباس

المؤلف:

السيد علي الشهرستاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار مشعر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-7635-78-8
الصفحات: ١٥٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

غسلهما في النعل ، فلا وجه لإفراده بأنّه خالف الثقات.

فإن قال : إنّما أفرده لأنّ في حديثه قرينة تمنع من التأويل بالغسل ، وهي قوله « و مسح بأسفل الكعبين » (١).

قلنا : قد جمعتَ بينهما في باب المسح على النعل و أوّلت الحديثين بهذا التأويل ؛ حيث قُلتَ : « و رواه عبدالعزيز وهشام عن زيد ، فحكيا في الحديث رشّاً على الرجل و فيه النعل ، و ذلك يحتمل أن يكون غسلهما في النعل ».

ثمّ قُلتَ : « و العدد الكثير أولى بالحفظ من العدد اليسير » ، فأحدُ الأمرين يلزمك إمّا جمعهما بهذا التأويل في كتاب المعرفة في هذا الباب ، بخلاف ما فعل هاهنا (٢) ... ).

و هذا البحث من الأعلام في وجه دلالة خبر هشام يؤكّد اضطرابه ، و نحن لا نرى وجهاً لكلام ابن التركماني بعد أن عرفنا توقّف ابن حجر و البيهقي و غيرهما في الخبر ، وهم أدقّ من ابن التركماني روايةً و أكثر إحاطة بوجوه التأويل والتفسير !!

و الحاصل : فإنّه لم يعد خافياً عليك أنّ ما رواه زيد بن أسلم مضطرب متناً ؛ لاختلاف متون الروايات الّتي رواها عنه الرواة ، خصوصاً في مورد النزاع والاختلاف ؛ و هو مسح أو غسل الرجلين ، و هذا الاضطراب كافٍ في التوقف عن الاحتجاج بها.

_______________________________

(١) هذا غلط من ابن التركماني ، فإن الّذي في الرواية « و مسح باسفل النعلين ».

(٢) الجوهر النقي ( المطبوع بهامش السنن الكبرى ، للبيهقي ) ١ : ٧٢.

٢١

ثمّ لما عارضَتْ هذهِ الرواياتِ روايةُ المسح الّتي هي أصح سنداً و أصرح دلالة ، كان لا مَفَرَّ من الحكم بكونها مرجوحة من جميع الجهات ، و لذا قلنا : إنّ ما رواه زيد بن أسلم لا يعدو أن يكون شاذاً أو منكراً ، و بخاصة لو لاحظنا أن سيرة ابن عبّاس المقطوع بها هي المسح لا الغسل.

و لتقف على حقيقة الحال فإليك بعض أسانيد الوضوء الثنائي المسحي عن ابن عباس ، وتصريحات كبار علماء العامّة بأنّ مذهبه المسح لا الغسل المدّعى.

٢٢



المناقشة السندية و الدلالية للروايات المسحية

لقد اتفقت الروايات الثنائية المسحية عن ابن عباس على أنّه كان يقول : « الوضوء غسلتان و مسحتان » ، و يقول : « افترض الله غسلتين و مسحتين ، ألا ترى أنّه ذكر التيمّم فجعل مكان الغسلتين مسحتين و ترك المسحتين » ، و يقول : « يأبى الناس إلاّ الغسل ، و نجد في كتاب الله المسح يعني القدمين » ، أو « و لا أجد في كتاب الله إلاّ المسح » ، و يقول : « ما علمنا في كتاب الله إلاّ غسلتين و مسحتين » ، و قد روى العامّة ذلك عن ابن عباس بأسانيد صحاح بل بعضها على شرط البخاري لكنّه لم يروها في الصحيح !!! و إليك هذه الأسانيد.

الروايات المسحية

١ ـ قال عبد الرزاق ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني عمرو بن دينار

٢٣

أنّه سمع عكرمة يقول : قال ابن عباس : الوضوء غسلتان ومسحتان (١).

٢ ـ قال عبدالرزاق ، عن معمر ، عن قتادة ، عن جابر بن يزيد أو عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : افترض الله غسلتين و مسحتين ، ألا ترى أنّه ذكر التيمم فجعل مكان الغسلتين مسحتين و ترك المسحتين. و قال رجل لمطر الورّاق : من كان يقول : المسح على الرجلين ؟ فقال : فقهاء كثير (٢).

٣ ـ روى عبدالرزاق ، عن معمر ، عن عبدالله بن محمد بن عقيل ، عن الرُبَيّع : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله غسل قدميه ثلاثاً ، ثمّ قالت لنا : إنّ ابن عبّاس قد دخل عليّ فسألني عن هذا [ الحديث ـ ظ ] فأخبرته ، فقال : يأبى الناس إلاّ الغسل ، و نجد في كتاب لله‏ المسح ـ يعني القدمين (٣).

٤ ـ قال ابن أبي شيبة : حدثنا ابن علية ، عن روح بن القاسم ، عن عبدالله‏ بن محمد بن عقيل ، عن الربيّع بنت المعوذ بن عفراء ، قالت : أتاني ابن عبّاس فسألني عن هذا الحديث تعني حديثها الذي ذكرت أنّها رأت النبيّ توضأ ، و أنّه غسل رجليه ـ قالت : فقال ابن عبّاس : أبى الناس إلاّ الغسل و لا أجد في كتاب الله إلاّ المسح (٤).

و روى ابن ماجة مثله ، و في الزوائد : إسناده حَسَنٌ (٥).

_______________________________

(١) مصنف عبدالرزاق ١ : ١٩ / ح ٥٥ و عنه في كنز العمال : رقم ٢٢١١.

(٢) مصنف عبدالرزاق ١ : ١٩ / ح ٥٤.

(٣) مصنف عبدالرزاق ١ : ٢٢ / ح ٦٥ و عنه في كنز العمال.

(٤) مصنف بن أبي شيبة ١ : ٣٧ / ح ٩٩.

(٥) سنن ابن ماجة ١ : ١٥٦ / ح ٤٥٨.

٢٤

٥ ـ قال الحميدي : حدّثنا سفيان ، قال : حدَّثنا عبدالله‏ بن محمد بن عقيل بن أبي طالب ، قال : أرسلني عليّ بن الحسين إلى الربيع بنت المعوذ بن عفراء ، أسألها عن وضوء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله و كان يتوضّأ عندها ، فأتيتُها فأخرجت إليّ إناءً يكون مدّاً أو مدّاً و ربع ( و في نسخة منه : مدّاً و ربعا ) بمدّ بني هاشم ، فقالت : بهذا كنت أخرج لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الوضوء فيبدأ فيغسل يديه ثلاثاً قبل أن يدخلهما الإناء ، ثمّ يتمضمض ويستنثر ثلاثاً ثلاثاً ، و يغسل وجهه ثلاثاً ، ثمّ يغسل يديه ثلاثاً ثلاثاً ، ثمّ يمسح برأسه مقبلاً و مدبراً ، و يغسل رجليه ثلاثاً ثلاثاً ، قالت : و قد جاءني ابن عمتك (١) ، فسألني عنه فأخبرته ، فقال : ما علمنا في كتاب الله إلاّ غسلتين و مسحتين ، يعني ابن عبّاس.

٦ ـ قال الدارقطني : حدثنا إبراهيم بن حماد ، حدثنا العباس بن يزيد ، أنبأنا سفيان بن عيينة ، حدثني عبدالله‏ بن محمد بن عقيل : أنّ علي بن الحسين أرسله إلى الربيع بنت معوّذ يسألها عن وضوء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقالت : إنّه كان يأتيهنّ و كانت تخرج له الوضوء.

قال : فأتيتها فأخرجَت إليَّ إناءً ، فقالت : في هذا كنت أخرج الوضوء لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فيبدأ فيغسل يديه قبل أن يدخلهما ثلاثاً ، ثمّ يتوضّأ فيغسل وجهه ثلاثاً ، ثمّ يمضمض ثلاثاً ، و يستنشق ثلاثاً ، ثمّ يغسل يديه ، ثمّ يمسح برأسه مقبلاً و مدبراً ، ثمّ غسل رجليه.

_______________________________

(١) كذا في الأصل ، والصواب « ابن عمّ لك » كما في السنن الكبرى للبيهقي و مسند أحمد من طريق سفيان.

٢٥

قالت : و قد أتاني ابن عمٍّ لك ـ تعني ابن عبّاس ـ فأخبرتُهُ ، فقال : ما أجدُ في الكتاب إلاّ غسلتين ومسحتين. فقلت لها : فبأيّ شيء كان الإناء ؟ قالت : قدر مدٍّ بالهاشمي أو مدّ وربع (١).

و روى البيهقي موضع الحاجة منه فقال : أنبأنا الفقيه أبوبكر أحمد بن محمد بن أحمد بن الحارث ، أنبأنا علي بن عمر الحافظ ، حدّثنا إبراهيم بن حمّاد ، حدثنا العبّاس بن يزيد ، حدثنا سفيان بن عيينة ، قال : أنبأنا عبدالله‏ بن محمد بن عقيل : أنّ عليّ بن الحسين أرسله إلى الربيع بنت معوّذ ليسألها عن وضوء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فذكر الحديث في صفة وضوء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، و فيه : قالت : ثمّ غسل رجليه. قالت : و قد أتاني ابن عمّ لك ـ تعني ابن عبّاس ـ فأخبرتُهُ ، فقال : ما أجد في الكتاب إلاّ غسلتين و مسحتين (٢).

٧ ـ قال عبدالله‏ بن أحمد بن حنبل : حدّثني أبي ، حدثنا سفيان بن عيينة ، قال : حدّثني عبدالله‏ بن محمد بن عقيل بن أبي طالب ، قال : أرسلني علي بن الحسين إلى الربيع بنت المعوذ بن عفراء ، فسألتُها عن وضوء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأخرجت له يعني إناءً يكون مدّاً أو نحو مدٍّ و ربع ـ قال سفيان : كأنّه يذهب إلى الهاشمي ـ قالت : كنت أخرج له الماء في هذا فيصبّ على يديه ثلاثاً ـ و قال مرةً : يغسل يديه قبل أن يدخلهما ـ و يغسل وجهه ثلاثاً ، و يمضمض ثلاثاً و يستنشق ثلاثاً ، و يغسل يده اليمنى ثلاثاً

_______________________________

(١) سنن الدارقطني ١ : ٩٦ / ح ٥.

(٢) السنن الكبرى ، للبيهقي ١ : ٧٢ ، باب « إنَّ فرض الرجلين الغسل و أن مسحهما لا يجزي ».

٢٦

و اليسرى ثلاثاً ، و يمسح برأسه ـ و قال مرّة أو مرتين : مقبلاً و مدبراً ـ ثمّ يغسل رجليه ثلاثاً ؛ قد جاءني ابن عمٍّ لك فسألني ـ و هو ابن عبّاس ـ فأخبرته فقال لي : ما أجد في كتاب الله إلاّ مسحتين وغسلتين (١).

المناقشة السندية

و هذه الروايات فيها من نقاط القوّة و الصحة ما تترجّح به بمراتب على الروايات المدّعية للوضوء الغسلي عن ابن عباس.

أمّا الإسناد الأوّل

فإنّه صحيح على شرط البخاري ـ و أن لم يخرّجه في صحيحه لعلّة لا تخفى على اللبيب ـ إذ ليس في هذا الإسناد إلاّ ما قد يقال في عكرمة من أقاويل باطلة ، ولذلك قال البخاري : ليس أحد من أصحابنا إلاّ و هو يحتجّ بعكرمة (٢) ، و قال البزار : روى عن عكرمة مائة و ثلاثون رجلاً من وجوه البلدان كلهم رضوا به (٣).

و على كل حال فإن لهذا الإسناد لطائف تجعله راجحاً على باقي الأسانيد بمراتب ، و هي :

أ ـ إنّ رواة هذا الطريق أئمة ثقات ، ضابطون ، عدول ، حفاظ للحديث ، فقهاء في الشريعة ، علماء بالسّنّة.

_______________________________

(١) مسند أحمد ٦ : ٣٥٨.

(٢) تهذيب الكمال ٢٠ : ٢٨٩ ، تاريخه الكبير ٧ : الترجمة ٢١٨ و انظر جواب ابن حجر عن جميع التهم الموجهة لعكرمة في مقدمة فتح الباري : ٤٢٤.

(٣) مقدمة فتح الباري : ٤٢٨.

٢٧

ب ـ إنهم هم مقصد البخاري في صحيحه ، لأنّهم بمثابة الطبقة الأولى من الطبقات التي تروي عن الزهري.

ج‍ ـ إنّ لكلّ من رواة هذا الطريق ملازمة طويلة ـ لا تقل عن عدّة أعوام ـ كلّ عمن يروي عنه ، و هذا ما يجعل هذا الطريق أكثر قوّة و أرجح حجية.

د ـ إنّ بعض رواة هذا الطريق كان أعلم من غيره بعلم ابن عباس ، فعن ابن عيينة قال : ما أعلم أحداً أعلم بعلم ابن عباس من عمرو بن دينار ؛ سمع من ابن عباس و سمع من أصحابه.

ه‍ ـ إنّ رواية عكرمة عن ابن عباس في هذا الطريق محفوفة بالقرائن التي تورث الاطمئنان ، لأنّ عكرمة كان ملازماً لابن عباس ، و قد اطلع على وضوئه عن حسّ لمدّة طويلة ، فيكون إخبار عكرمة عن ابن عباس أعلى من محض الرواية بالسماع.

و ـ إنّ الجماعة وطائفة أهل العلم قد احتجّوا برواة هذا الطريق ، و عليه فهذا الطريق حجّة عند الجميع.

ز ـ إنّ في هذا الإسناد توثيق صحابيّ لتابعي ، فقد روي عن عثمان بن حكيم ـ بسند صحيح كما صرّح بذلك ابن حجر ـ قوله : كنت جالساً مع أبي أمامة بن حنيف إذ جاء عكرمة فقال : يا ابا أمامة ، أُذكّرك الله هل سمعتَ ابن عباس يقول : ما حدّثكم عني عكرمة فصدِّ قوه فإنه لم يكذب عَلَيَّ ؟ فقال أبو أمامة : نعم (١).

_______________________________

(١) مقدمة فتح الباري : ٤٢٧ ، تهذيب الكمال ٢٠ : ٢٧١.

٢٨

وأمّا الإسناد الثاني

فهو يمتاز أيضا ببعض الميزات ، منها أنّ عبدالرزاق جالس معمراً سبع أو ثمان سنين (١) ، و كان حديث عبدالرزاق عن معمر أحبّ إلى أحمد لأنّه كان يتعاهد كتبه وينظر فيها (٢). و منها أنّ معمراً جلس إلى قتادة و هو ابن اربع عشرة سنة فما سمع منه حديثاً إلاّ كأنّه مُنْقَشٌ في صدره (٣). و قد احتج الجماعة أصحاب الصحاح برواية قتادة عن جابر و عكرمة (٤) ، و ما قد يقال من أنّه ربّما دلّس فمدفوع هنا بأنّ عنعنته هنا محمولة على السماع لأنّ له تصريحات معتبرة بالسماع عن جابر بن زيد و عكرمة. على أنّ متن هذا الحديث قويّ من جهة كونه مشفوعاً بالاستدلال على الوضوء الثنائي المسحي ؛ إذ استدل ابن عباس بأنّ مسح المغسولَيْن و سقوط الممسوحَيْن في التيمّم ليدل على أنّ الوضوء غسلتان و مسحتان.

وأمّا الأسانيد الخمسة الباقية

فليس فيها إلاّ ما قد يقال من سوء حفظ و قلة ضبط عبدالله‏ بن محمد بن عقيل الذي كان بسبب طول عمره ، و أمّا وثاقته فلا كلام فيها (٥) ، فهو ممن يتابع على حديثه ، و أمّا باقي الرواة فثقات ، بل بعضهم

_______________________________

(١) تهذيب الكمال ١٨ : ٥٦.

(٢) تهذيب الكمال ١٨ : ٥٧ عن الاثرم عن احمد ، و في ٥٨ عن ابي زرعة قريب منه.

(٣) تهذيب الكمال ٢٨ : ٣٠٦.

(٤) انظر تهذيب الكمال ٢٣ : ٤٩٩ ، ٥٠١.

(٥) انظر ترجمته في تهذيب الكمال ١٦ : ٧٨ ، و سير اعلام النبلاء ٦ : ٢٠٤.

٢٩

أئمّة. و هذه الأسانيد محفوفة بقرائن ترقى بها إلى درجة الحجيّة ، و هي :

أ ـ إنّ ثلاثة من أثبات أهل العلم رووا هذا الحديث بلا زيادة و لا نقيصة عن عبدالله‏ بن محمد بن عقيل ، وهم : معمر بن راشد الأزدي ، و روح بن القاسم ، وسفيان بن عيينة ، و هذا يدل على أنّه كان حافظا ضابطاً في هذا الحديث.

ب ـ ظاهر كلام الترمذي هو الاحتجاج بما يرويه عبدالله‏ بن محمد بن عقيل.

ج‍ ـ إنّ ما رواه عبدالله‏ بن محمد بن عقيل مُوافق للروايات المسحية الصحيحة عن ابن عباس ، ومعتضد بأقوال العلماء الجازمة بأنّ مذهب ابن عباس هو المسح على القدمين لا غير.

فهذه الأسانيد ترتقي إلى درجة الصحّة ، خصوصاً بملاحظة النصوص الأخرى الموجودة في كتب التفاسير :

تصريحات العلماء :

قال الطبري : حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا محمد بن قيس الخراساني ، عن ابن جريج ، عن عمرو بن دينار ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : الوضوء غسلتان ومسحتان (١).

و قال السيوطي : و أخرج عبدالرزاق وعبد بن حميد ، عن ابن عباس ، قال : افترض الله غسلتين و مسحتين ، ألا ترى أنه ذكر التيمم فجعل مكان الغسلتين مسحتين وترك المسحتين. و أخرج ابن جرير

_______________________________

(١) تفسير الطبري ٦ : ٨٢.

٣٠

و ابن المنذر عن قتادة مثله (١).

و قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو معمر المنقري ، حدثنا عبدالوهاب ، حدثنا علي بن زيد ، عن يوسف بن مهران ، عن ابن عباس ( وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ ) قال : هو المسح (٢).

قال ابن حجر : ولم يثبت عن أحد من الصحابة خلاف ذلك [ أي الغسل ] إلاّ عن علي و ابن عباس وأنس (٣) ...

و قال موفق الدين ابن قدامة : ولم يُعلم من فقهاء المسلمين من يقول بالمسح غير من ذكرنا (٤) ... و كان علي بن أبي طالب و ابن عباس ممن ذكرهم.

و قال أبو زرعة في حجة القراءات : و قرأ ابن كثير و أبو عمرو وحمزة و أبوبكر ( وأرجلِكم ) خفضاً ، عطفاً على الرؤوس ، و حجتهم في ذلك ما روي عن ابن عباس أنه قال : الوضوء غسلتان ومسحتان (٥).

و قال الجصاص : قرأ ابن عباس و الحسن و ... ( وأرجلِكم ) بالخفض ، وتأوّلوها على المسح (٦).

و قال القاسمي : ولا يخفى أنّ ظاهر الآية صريح في أنّ واجبها المسح

_______________________________

(١) الدر المنثور ٢ : ٢٦٢.

(٢) تفسير ابن كثير ٢ : ٤٤ ، شرح معاني الآثار ١ : ٤٠.

(٣) فتح الباري ١ : ٢١٣ ، و نحوه عن الشوكاني في نيل الأوطار ١ : ٢٠٩.

(٤) انظر المحلى ١ ـ ٢ : ٥٦ المسألة ٣٠٠.

(٥) المغني ١ : ١٥١ المسألة ١٧٥.

(٦) احكام القرآن ، للجصاص ٢ : ٣٤٥.

٣١

كما قاله ابن عباس و غيره (١).

هذا ، و قد نقل كثير من أهل العلم ـ عدا من ذكرنا ـ مذهب المسح عن ابن عباس ، كالسرخسي (٢) ، و ابن العربي (٣) ، و الرازي (٤) ، و الشوكاني (٥) ، و القرطبي (٦) ، وأبي حيان الأندلسي (٧) ، و القاضي ابن عطية الأندلسي (٨) ، و البغوي (٩) ، و ابن جزي الكلبي (١٠) ، وغيرهم.

و من كل هذا يُعلم أن صريح مذهب ابن عباس هو المسح لا غير ، و أنّ ما روي عنه من الوضوء الغسلي لا يمكنه أن يعارض ما ثبت عنه من المسح ، فيكون المرويّ الغسلي عنه إما شاذّاً و أمّا منكرا ، و الرواية الشاذة و المنكرة لا يمكنها أن تقاوم الصحيح المحفوظ.

المناقشة الدلالية

بعد أن فرغنا من إثبات صحة الأسانيد المسحية لابن عباس ورجحانها على المنسوب الغسلي إليه ، نأتي إلى البحث الدلالي للروايات

_______________________________

(١) تفسير القاسمي ٦ : ١١١.

(٢) المبسوط ، للسرخسي ١ : ٨.

(٣) احكام القرآن ، لابن العربي ٢ : ٥٧٧.

(٤) التفسير الكبير ، للرازي ١١ : ٤٥٢.

(٥) فتح القدير ، للشوكاني ٢ : ١٨.

(٦) الجامع لاحكام القرآن ٦ : ٩٢.

(٧) البحر المحيط ٣ : ٤٥٢.

(٨) المحرر الوجيز ٢ : ١٦٢.

(٩) تفسير البغوي ( معالم التنزيل ) ٢ : ١٦.

(١٠) التسهيل لعلوم التنزيل ، لابن جزي الكلبي ١ : ١٧٠.

٣٢

المسحيّة عن ابن عبّاس : فنجمل القول فيها بعدة نقاط :

الأولى : اتّفاق النصوص المسحيّة في صراحة المسح عن ابن عبّاس ـ بخلاف الغسليّة ـ إذ المسحيّة كلّها تشير إلى حقيقة واحدة ، و هي أنّ الوضوء ما هو إلاّ غسلتان و مسحتان ، و أن كان في بعضها زيادة « ألا ترى أنّه ذكر التيمم فجعل مكان الغسلتين مسحتين و ترك المسحتين » (١).

و في نقل هذه الزيادة عن ابن عبّاس إشارة إلى أنّ مخالفيه كانوا من أصحاب الرأي والاستحسان ، و لأجله قرّب لهم الأمر طبقاً للرأي الّذي يتبنّونه و يعتقدون به ، و مثله الحال بالنسبة إلى استدلاله بالقرآن و اعتراضه على الربيع بما نسبت من وضوءٍ إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أي أنّ ابن عبّاس استدلَّ على صحة كلامه بثلاثة أدلّة :

١ ـ القرآن الكريم ، لكونه الأصل الأول في التشريع الإسلامي ، و هو ما أراد الخلفاءُ حصر الاستدلال به ، فقال للربيّع ـ وفقاً لما دَعَوا له من الاستدلال ـ : لا أجد في كتاب الله إلاّ مسحتين وغسلتين.

٢ ـ السنّة النّبويّة ، فإنّ رفضه لنقل الربيع يرشدنا إلى أنّ ابن عبّاس لا يقبل نسبة هذا المنقول إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لكونه هو قد عاصره صلى‌الله‌عليه‌وآله و بات في بيته و رأى وضوءه و صلى معه و شمله دعاؤه و ...

٣ ـ إلزامهم بما يعتقدون به من وجوه التأويل و التفسير و الرأي ، مع تأكيدنا على أنّ ابن عبّاس كان لا يرتضي الرأي بل يتعبد بالنصوص القرآنية و الحديثية ، و أن تمسّكه بهذه الجملة جاء من باب إلزام الآخرين

_______________________________

(١) مصنف عبدالرزاق ١ : ١٩ / ح ٥٤.

٣٣

بما يعتقدونه ويقولونه.

الثانية : كثرة الرواة الّذين رووا عن ابن عبّاس المسح ، فقد روى ذلك عنه الربيّع بنت المعوذ (١) و عكرمة (٢) و جابر(٣) و يوسف بن مهران (٤).

و أغلب هؤلاء من تلامذة ابن عبّاس ، و بينهم من دوّن عنه أحاديثه ، بعكس رواة الغسل عنه ، فهم أقلّ عدداً وليسوا ممّن اختصّ بابن عبّاس ؛ إذ عرفت انحصار رواية الغسل عنه بعطاء بن يسار و سعيد بن جبير ، و سعيد و أن كان من المدوّنين لحديث ابن عبّاس لكنّا بيّنا ضعف الطريق إليه بوجود عبّاد بن منصور فيه ، و هو المضعَّف عند الجميع ، و حينما سقطت رواية سعيد بن جبير بقي طريق عطاء بن يسار ، و هذا ـ أي عطاء ـ لم يختص بابن عبّاس ولم يدوِّن عنه ، بعكس رواة المسح حسبما ستعرف.

الثالثة : سعى أهل الاجتهاد و الرأي ـ من خلال رسم أصول الجرح و التعديل ـ لتضعيف رواة الوضوء المسحي ؛ لا لكونهم قد رووا الوضوء المسحيّ حسب ، بل لروايتهم أحاديث غريبة منكرة بنظرهم لم يألفوها في كتبهم و صحاحهم !!

نعم ، إنّهم قد ضعفوا أئمّة حفاظاً كانت الجماعة ـ أصحاب الصحاح و السنن ـ قد روت لهم في موارد أخرى ، و اعتبروا روايتهم لهذه الأحاديث جرحاً لهم لكونها منكرة و غريبة بنظرهم !! فمثلاً لو لحظت الإسناد الأول

_______________________________

(١) كما مرّ عليك في الأسانيد المسحية عن ابن عبّاس و شهادة الربيّع بأنّ مذهب ابن عبّاس هو المسح.

(٢ ـ ٣) الماران قبل قليل.

(٤) تفسير ابن كثير ٢ : ٤٤.

٣٤

من الطرق المسحيّة عن ابن عبّاس ، لرأيت رواته أئمّة حفاظاً ؛ قد روى لهم أئمّة الصحاح والسنن ، و الطريق هو « عبدالرزاق ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني عمرو بن دينار أنّه سمع عكرمة يقول : قال ابن عبّاس ... ».

فعبد الرزاق قد احتج به الجماعة (١) ، وهكذا ابن جريج (٢) ، و مثله عمرو بن دينار (٣) وعكرمة (٤).

و بما أنّ الجماعة قد رووا لهؤلاء و ثبت لكلّ واحد منهم ملازمة طويلة لمن يروي عنه ـ مع أنّ بينهم من هو أعلم بعلم ابن عبّاس من غيره ـ فلماذا لم تُروَ هذه الرواية و أمثالها في صحاح القوم ؟!

ألم يقع هؤلاء البخاري عن سليمان بن بلال ـ الّذي تحتاج روايته إلى تابع ـ و لا يخرّج خبر ابن عبّاس « لا أجد في كتاب الله إلاّ مسحتين و غسلتين » بالإسناد الصحيح المتقدّم ، مع أنّ رواته أئمّة حفّاظ و قد أخرج لهم في مواطن أخرى ؟!! واحتج بهم بشكل ليس معه ريب ؟!!

الرابعة : إنّ الباحث في النصوص المسحيّة عن ابن عبّاس يعرف أنّها نصوص استنكارية فيها إشارة إلى موقف ابن عبّاس الاعتراضي على ثقل الاتّجاه المقابل ، و مثله الحال بالنسبة إلى خبر ابن عقيل ، فإنّ عليّ بن

_______________________________

(١) اُنظر تهذيب الكمال ١٨ : ٥٧.

(٢) اُنظر تهذيب الكمال ١٨ : ٣٣٨.

(٣) اُنظر تهذيب الكمال ٢٠ : ٢٦٤.

(٤) فقد روى له مسلم مقروناً بغيره ثمّ رجع و احتج به كما احتج به الباقون ( اُنظر تهذيب الكمال ٢٠ : ٢٦٤ ).

٣٥

الحسين حينمنا أرسله إلى الربيّع لم يكن لأخذ الحكم عنها ، بل جاء ليسألها عن ادّعائها لوضوء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، و كيف بهم ـ و هم أهل بيت النّبوة ـ لا يعرفون ما تحكيه عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله ؟!

نعم ، جاءها كي يثبت لها مخالفة ما تدّعيه للثابت المقطوع عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، حيث تواترت الأخبار عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه كان يتوضأ بالمدّ (١) و يغتسل بالصاع ، و هذا لا يتطابق مع ما ترويه عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله.

و قد فهمتَ الرُبيِّعُ غرضَ ابن عقيل الاستنكاري فقالت له : « و قد جاءني ابن عمّ لك » تعني به ابن عبّاس ، فلمّحت بقولها إلى أنّ الطالبيين لا يرتضون نقلها لمخالفته ما عرفوه من سيرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والقرآن الحكيم.

فابن عقيل أكّد إشكاله وسؤاله بصورة أخرى فقال ، « فقلت لها : فبأي شيء كان الإناء ؟

قالت : قدر مدٍّ أو مدٍّ و ربع ».

فجملة « فبأيّ شيءٍ كان الإناء » أراد بها ابن عقيل بيان أمرين :

أوّلهما : إرشادها إلى سقم رؤيتها ، لأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله لو كان يمسح رأسه مقبلاً و مدبراً ، و يغسل رجليه ثلاثاً لاحتاج إلى أكثر من مدّ ؛ لعدم كفاية المُدّ لغسل تمام أعضاء الوضوء ، و هذا التشكيك من ابن عقيل هو الّذي حدا بالربيع أن تزيد في قدر المدّ !! فقالت : قدر مدّ بالهاشمي أو مدّ وربع.

فإنّها انتبهت إلى عدم إمكان إيفاء المدّ من الماء بمسح الرأس كلّه مقبلاً

_______________________________

(١) و هو قُرابة ٧٥٠ غراماً. و قيل : المدّ هو مِلْ‏ءُ كفَّي المعتدل إذا ملاُهما و مَدَّ يَدهُ بهما ؛ و به سُمِّيَ مُدّا. أقرب الموارد ٢ : ١١٩٢ نقلاً عن الفيروزآبادي.

٣٦

و مدبراً مع غسل الرجلين وبقية الأعضاء ثلاثاً ، فأتت بتلك الزيادة كي تعذر نفسها !!

و ثانيهما : إنّ ابن عقيل أراد أن يرى الإناء الّذي ادَّعت أنَّها كانت تصبّ فيه الماء لرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله كي يوضّح لها على ضوئه بأنّ ما تقوله لا يلائم ما تفرضه من حجم الماء الّذي فيه ؛ لأنّ الماء الموجود في هذا الظرف الصغير لا يمكنه غسل الرجلين ثلاثاً !! أي أنّ ابنَ عقيل أراد أن يوضّح لها كذب كلامها على وجه الدّقة والتحقيق لا الحدس والتخمين !!

كان هذا مجمل القول في الروايات المسحيّة عن ابن عبّاس ، و قد عرفت أنّها تُرَجَّحُ على الغسليّة ، بكثرة الطرق ، و وحدة النّص وعدم الاضطراب فيها و ... بعكس الطرق الغسليّة.

و الّذي يجب التنبيه عليه هنا هو أنّ جمعاً من تلامذة ابن عبّاس كانوا قد دوّنوا أحاديثه ، منهم : ابن أبي مليكة (١) و الحكم بن مقسم (٢) و سعيد بن جبير (٣) و علي بن عبدالله‏ بن عبّاس (٤) و عكرمة (٥) و كريب (٦)

_______________________________

(١) مقدمة صحيح مسلم : ١٣ ، صحيح البخاري الرهن ٦ ، الشهادات ٢٠ ، مسند أحمد ١ : ٢٤٣ ، ٣٥١ ، السنن الكبرى ٦ : ٨٣.

(٢) فتح المغيث ٢ : ١٣٨.

(٣) العلل ١ : ٥٠ ، الطبقات لابن سعد ٦ : ١٧٩ ، تقييد العلم : ١٠٢ ـ ١٠٣ ، تاريخ أبي زرعة : ١١٩ ـ أ.

(٤) الطبقات الكبرى لابن سعد ٥ : ٢١٦.

(٥) الفهرست ، لابن النديم : ٣٤.

(٦) الطبقات الكبرى ٥ : ٢١٦.

٣٧

و مجاهد (١) و نجدة الحروري (٢) و عمرو بن دينار (٣) و لم نَرَ بين هؤلاء اسم عطاء بن يسار ـ راوي الغسل عن ابن عبّاس ـ و لم يصحّ طريق سعيد بن جبير إلى ابن عبّاس لوجود عباد بن منصور فيه ، بعكس الطرق المسحيّة عن ابن عبّاس فقد ثبت ذهاب عكرمة إلى المسح ، و نقل عمرو بن دينار : أنّه سمع عكرمة يقول : قال ابن عبّاس : « الوضوء غسلتان و مسحتان » ، و هما ممّن اختصّوا بابن عبّاس ورووا أحاديثه في المدوّنات.

قال سفيان : قال لي عمرو بن دينار : ما كنت أجلس عند ابن عبّاس ، ما كتبت عنه إلاّ قائماً.

و نقل ابن عيينة عن سفيان قوله : ما أعلم أحداً أعلم بعلم ابن عبّاس رضي الله عنه من عمرو بن دينار ، سمع ابن عبّاس و سمع أصحابه.

فاستبان إذن أنّ خبر المسح هو الأرجح نسبةً إلى ابن عبّاس بخلاف الغسل ، و يؤكّده جردنا لرواة أسانيد الغسل و المسح عنه ـ في نسبة الخبر إليه ـ إذ ترى غالب الّذين رووا عن ابن عبّاس المسح ـ و في جميع الطبقات ـ كانوا من أصحاب المدونات ، بعكس رواة الغسل فلم يكن فيهم إلاّ سعيد بن جبير ـ الّذي لم يثبت الطريق إليه ، لوجود عبّاد بن منصور المضعّف عند الجميع في خبره ـ و سليمان بن بلال ، و محمد بن عجلان

_______________________________

(١) الفهرست : ٣٣.

(٢) مسند أحمد ١ : ٢٢٤ ، ٢٤٨ ، ٢٩٤ ، ٣٠٨ ، مسند الحميدي ١ : ٢٤٤ ، صحيح مسلم ، الجهاد ١٣٧ ـ ١٤١ ، الاصابة ٢ : ٢٣٤.

(٣) تاريخ الفسوي ٣ : ٥ ، تاريخ أبي زرعة ٧٨ ب كما في الدّراسات للاعظمي ١ : ١١٨.

٣٨

و عبدالله‏ بن إدريس ، وهؤلاء كانوا من المدوِّنين إلاّ أنّهم من المدوِّنين في عصر التدوين الحكومي ـ أي بعد عمر بن عبدالعزيز ـ فلا أهميّة لمدوّناتهم ، بعكس رواة المسح ؛ فإنّهم أئمّة متقدّمون ، كعلي بن الحسين ( زين العابدين ) ، و عكرمة ، و عمرو بن دينار ، و عبدالله‏ بن محمد بن عقيل ، و جابر بن زيد و غيرهم ، فهؤلاء قد دوّنوا الحديث قبل عصر التدوين الحكومي ، و لذلك تكون لمدوّناتهم قيمة أكثر و منزلة أعظم.

و بهذا اتّضح أنّ الطرق المسحيّة عن ابن عبّاس هي أقوى سنداً و دلالة ، و قد رويت بطرق متعدّدة و في جميع الطبقات عن المدوِّنين ، و هذا يؤكّد أنّ استقرار الوضوء المسحي ثبت بجهود المدوِّنين القدماء على مر الأجيال.

٣٩

٤٠