السيّد علي الحسيني الميلاني
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-266-0
الصفحات: ٥١
هذا الرأي : وفيه نظر (١).
ويقول الصاوي في حاشية البيضاوي : وهو بعيد (٢).
وصاحب المنار يقول : وهو تكلّف ظاهر (٣).
فتكون هذه المناقشة أيضاً مردودة من قبلهم.
المناقشة الثالثة :
إنّ قراءة الجرّ ليست بالعطف علىٰ لفظ برؤوسكم ليدلّ قوله تعالىٰ في هذه الآية المباركة علىٰ المسح ، لا ، وإنّما هو كسر علىٰ الجوار.
عندنا في اللغة العربيّة كسر علىٰ الجوار ، ويمثّلون له ببعض الكلمات أو العبارات العربيّة مثل : هذا جحر ضبٍّ خربٍ ، يقال : هذا كسر علىٰ الجوار.
فليكن كسر ( وَأَرْجُلِكُمْ ) أيضاً علىٰ الجوار ، فحينئذ يسقط الاستدلال.
أورد هذه المناقشة : العيني في عمدة القاري ، وأبو البقاء في
_______________
(١) عمدة القاري في شرح صحيح البخاري ٢ / ٢٣٩.
(٢) الصاوي على البيضاوي ١ / ٢٧٠.
(٣) تفسير المنار ٦ / ٢٣٣.
إملاء ما منّ به الرحمن ، والآلوسي في تفسيره ، ودافع الآلوسي عن هذا الرأي.
ردّ المناقشة الثالثة :
لكنّ أئمّة التفسير لا يوافقون علىٰ هذا.
لاحظوا ، يقول أبو حيّان : هو تأويل ضعيف جدّاً (١).
ويقول الشوكاني : لا يجوز حمل الآية عليه (٢).
ويقول الرازي وكذا النيسابوري : لا يمكن أن يقال هذا في الآية المباركة (٣).
ويقول القرطبي قال النحّاس : هذا القول غلط عظيم (٤).
وهكذا يقول غيرهم كالخازن والسندي والخفاجي في حاشيته علىٰ البيضاوي وغيرهم من العلماء الأعلام.
فهذه المناقشة أيضاً مردودة.
_______________
(١) البحر المحيط ٣ / ٤٣٨.
(٢) فتح القدير ٢ / ١٦.
(٣) غرائب القرآن ٦ / ٥٣.
(٤) الجامع لأحكام القرآن ٦ / ٩٤.
المناقشة الرابعة :
يقولون إنّ الآية بكلتا القراءتين تدلّ علىٰ المسح ، يعترفون بهذا ، فقراءة النصب تدلّ علىٰ المسح ، وقراءة الجر تدلّ علىٰ المسح ، لكن ليس المراد من المسح أنْ يمرّ الإنسان يده علىٰ رجله ، بل المراد من المسح المسح علىٰ الخفّين ، حينئذ تكون الآية أجنبيّة عن البحث.
إختار هذا الوجه جلال الدين السيوطي ، واختاره أيضاً المراغي صاحب التفسير.
ردّ المناقشة الرابعة :
لكن هذه المناقشة تتوقّف :
أوّلاً : علىٰ دلالة السنّة علىٰ الغَسل دون المسح ، وهذا أوّل الكلام.
ثانياً : إنّ جواز المسح علىٰ الخفّين في حال الإختيار أيضاً أوّل الكلام ، فكيف نحمل الآية المباركة علىٰ ذلك الحكم.
وفي هذه المناقشة أيضاً إشكالات أُخرىٰ.
وتلخّص إلىٰ الآن : أنّهم اعترفوا بدلالة الاية المباركة بكلتا القراءتين علىٰ وجوب المسح دون الغسل ، اعترفوا بهذا ثمّ قالوا بأنّنا نعتمد علىٰ السنّة ونستند إليها في الفتوىٰ بوجوب الغسل ، ونرفع اليد بالسنّة عن ظاهر الكتاب.
وحينئذ ، تصل النوبة إلىٰ البحث عن السنّة ، والمناقشات في الآية ظهر لنا اندفاعها بكلّ وضوح ، فنحن إذن والسنّة.
الاستدلال بالسنّة على المسح
وفي السنّة النبويّة ـ بغضّ النظر عن روايات أهل البيت ومافي كتاب وسائل الشيعة وغير وسائل الشيعة من روايات أهل البيت عليهمالسلام ـ ننظر إلىٰ روايات أهل السنّة في هذه المسألة.
وفي كتبهم المعروفة المشهورة ، نجد أنّ الروايات بهذه المسألة علىٰ قسمين ، وتنقسم إلىٰ طائفتين ، منها ما هو صريح في وجوب المسح دون الغسل ، أقرأ لكم بعض النصوص عن جمعٍ من الصحابة الكبار ، وننتقل إلىٰ أدلّة القول الآخر.
الرواية الاُولىٰ :
عن علي عليهالسلام : إنّه توضّأ فمسح علىٰ ظهر القدم وقال : لولا أنّي رأيت رسول الله فعله لكان باطن القدم أحقّ من ظاهره.
هذا نصّ في المسح عن علي عليهالسلام أخرجه أحمد والطحاوي (١).
الرواية الثانية :
عن علي عليهالسلام قال : كان النبي يتوضّأ ثلاثاً ثلاثاً إلّا المسح مرّةً مرّة.
في المصنّف لابن أبي شيبة وعنه المتقي الهندي (٢).
الرواية الثالثة :
عن علي عليهالسلام إنّه توضّأ ومسح رجليه ، في حديث مفصّل وقال : أين السائل عن وضوء رسول الله ؟ كذا كان وضوء رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم.
هذا في مسند عبد بن حميد وعنه المتقي الهندي (٣).
وهذا الخبر الأخير تجدونه بأسانيد أُخرىٰ عند ابن أبي شيبة وأبي داود وغيرهما ، وعنهم المتقي (٤) ، وبسند آخر تجدون هذا
_______________
(١) مسند أحمد ١ / ٩٥ ، ١١٤ ، ١٢٤ ، شرح معاني الاثار ٢ / ٣٧٢.
(٢) كنز العمال ٩ / ٤٤٤.
(٣) كنز العمال ٩ / ٤٤٨.
(٤) كنز العمال ٩ / ٤٤٨ ، ٦٠٥.
الحديث الأخير في أحكام القرآن (١).
فأميرالمؤمنين عليهالسلام يروي المسح عن رسول الله ، وهم يروون خبره وأخباره في كتبهم المعتبرة بأسانيد عديدة.
الرواية الرابعة :
عن ابن عبّاس : أبى الناس إلّا الغسل ولا أجد في كتاب الله إلّا المسح.
رواه عبدالرزّاق الصنعاني وابن أبي شيبة وابن ماجة ، وعنهم الحافظ الجلال السيوطي (٢).
الرواية الخامسة :
عن رفاعة بن رافع عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم : يغسل وجهه ويديه إلىٰ المرفقين ويمسح برأسه ورجليه إلىٰ الكعبين.
وهذا نص صريح أخرجه أبو داود في سننه (٣) ، والنسائي في
_______________
(١) أحكام القرآن للجصّاص ١ / ٣٤٧.
(٢) الدر المنثور ٢ / ٢٦٢.
(٣) سنن أبي داود ١ / ٨٦.
سننه (١) ، وابن ماجه في سننه (٢) ، والطحاوي (٣) ، والحاكم (٤) ، والبيهقي ، والسيوطي في الدر المنثور (٥).
قال الحاكم : صحيح علىٰ شرط الشيخين.
قال الذهبي : صحيح.
وقال العيني : حسّنه أبو علي الطوسي وأبو عيسىٰ الترمذي وأبو بكر البزّار ، وصحّحه الحافظ ابن حبّان وابن حزم.
الرواية السادسة :
عن عبدالله بن عمر ، كان إذا توضّأ عبدالله ونعلاه في قدميه ، مسح ظهور قدميه برجليه ويقول : كان رسول الله يصنع هكذا (٦).
الرواية السابعة :
عن عبّاد بن تميم عن عمّه : إنّ النبي توضّأ ومسح علىٰ
_______________
(١) سنن النسائي ١ / ١٦١.
(٢) سنن ابن ماجة ١ / ١٥٦.
(٣) الطحاوي ١ / ٣٥.
(٤) المستدرك ١ / ٢٤١.
(٥) الدر المنثور ٢ / ٢٦٢.
(٦) شرح معاني الآثار ١ / ٣٥.
القدمين ، وإنّ عروة بن الزبير كان يفعل ذلك.
هذا الحديث رواه كثيرون من أعلام القوم ، فلاحظوا في شرح معاني الآثار (١) ، وفي الاستيعاب (٢) وصحّحه صاحب الاستيعاب.
وقال ابن حجر : روىٰ البخاري في تاريخه وأحمد وابن أبي شيبة وابن أبي عمرو والبغوي والباوردي وغيرهم كلّهم من طريق أبي الأسود عن عبّاد بن تميم المازني عن أبيه قال : رأيت رسول الله يتوضّأ ويمسح الماء علىٰ رجليه.
قال ابن حجر : رجاله ثقات (٣).
وروىٰ هذا أيضاً ابن الأثير في أُسد الغابة عن ابن أبي عاصم وابن أبي شيبة (٤).
الرواية الثامنة :
عن عبدالله بن زيد المازني : إنّ النبي توضّأ ومسح بالماء علىٰ رجليه.
_______________
(١) شرح معاني الآثار ١ / ٣٥.
(٢) الاستيعاب ١ / ١٥٩.
(٣) الإصابة في معرفة الصحابة ١ / ١٨٥.
(٤) أسد الغابة في معرفة الصحابة ١ / ٢١٧.
ابن أبي شيبة في المصنَّف وعنه في كنز العمّال (١) ، وابن خزيمة في صحيحه وعنه العيني في عمدة القاري (٢).
الرواية التاسعة :
عن حمران مولىٰ عثمان بن عفّان قال : رأيت عثمان بن عفّان دعا بماء ، فغسل كفّيه ثلاثاً ، ومضمض واستنشق وغسّل وجهه ثلاثاً وذراعيه ، ومسح برأسه وظهر قدميه.
رواه أحمد والبزّار وأبو يعلىٰ وصحّحه أبو يعلىٰ (٣).
الرواية العاشرة :
ابن جرير الطبري بسنده عن أنس بن مالك : وكان أنس إذا مسح قدميه بلّهما.
قال ابن كثير : إسناده صحيح (٤).
_______________
(١) كنز العمال ٩ / ٤٥١.
(٢) عمدة القاري في شرح البخاري ٢ / ٢٤٠.
(٣) كنز العمال ٩ / ٤٤٢.
(٤) تفسير ابن كثير ٢ / ٢٥.
الرواية الحادية عشرة :
عن عمر بن الخطّاب.
أخرج ابن شاهين في كتاب الناسخ والمنسوخ عنه حديثاً في المسح ، ولاحظ عمدة القاري (١).
الرواية الثانية عشرة :
عن جابر بن عبدالله الانصاري كذلك.
أخرجها الطبراني في الأوسط وعنه العيني (٢).
وهناك أحاديث وآثار أُخرىٰ لا أُطيل عليكم بذكرها ، وإلّا فهي موجودة عندي وجاهزة.
ومن هنا نرىٰ أنّهم يعترفون بذهاب كثير من الصحابة والتابعين إلىٰ المسح.
لاحظوا أنّه اعترف بذلك ابن حجر العسقلاني في فتح الباري ، وابن العربي في أحكام القرآن ، وابن كثير في تفسيره ، هؤلاء كلّهم اعترفوا بذهاب جماعة من الصحابة والتابعين والسلف إلىٰ المسح ،
_______________
(١) عمدة القاري في شرح البخاري ٢ / ٢٤٠.
(٢) عمدة القاري في شرح البخاري ٢ / ٢٤٠.
وفي بداية المجتهد لابن رشد : ذهب إليه قوم ، أي المسح.
وأمّا رأي محمّد بن جرير الطبري صاحب التاريخ والتفسير ، فقد نقلوا عنه الردّ علىٰ القول بتعيّن الغسل ، وهذا القول عنه منقول في تفاسير : الرازي والبغوي والقرطبي وابن كثير والشوكاني في ذيل آية الوضوء ، وكذا في أحكام القرآن ، وفي شرح المهذّب للنووي ، والمغني لابن قدامة أيضاً ، وفي غيرها من الكتب.
وإلىٰ الآن ظهر دليل القول بالمسح من الكتاب والسنّة ، علىٰ أساس كتب السنّة ورواياتهم ، وظهر أنّ عدّة كثيرة من الصحابة والتابعين يقولون بتعيّن المسح ، ويروون هذا الحديث عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فإذا فشل القوم من إثبات مذهبهم ـ الغسل ـ عن الكتاب والسنّة ماذا يفعلون ؟
القرآن لا يمكنهم تكذيبه ، لكنَّ الروايات يكذّبونها :
في روح المعاني للآلوسي : إنّ هذه الروايات كذب ...!! وسأقرأ لكم نصّ عبارته في روح المعاني.
أمّا ابن حجر العسقلاني ، ففي فتح الباري (١) يقول : نعم ، الكتاب والسنّة يدلّان علىٰ المسح وإنّ كثيراً من الصحابة قالوا
_______________
(١) فتح الباري في شرح صحيح البخاري ١ / ٢١٣.
بالمسح ، لكنّهم عدلوا عن هذا الرأي.
ومن أين يقول عدلوا ؟ لا يوضّح هذا ولا يذكر شيئاً !!
ومنهم من يناقش في بعض أسانيد هذه الاحاديث كي يتمكّن من ردّها ، وإلّا لخسر الكتاب والسنّة كليهما ، فهؤلاء مشوا علىٰ هذا الطريق ، وسأذكر بعضهم.
ومنهم الذين حرّفوا هذه الأحاديث ، الأحاديث الدالّة علىٰ المسح ، وجعلوها دالّة علىٰ الغسل ، وهذه طريقة أُخرىٰ ، سجّلت بعضهم وبعض ما فعلوا.
فمثلاً في إحدىٰ الروايات عن علي عليهالسلام ، الرواية التي قرأناها ، كانت تلك الرواية دالّة علىٰ المسح ، فجعلوها دالّة علىٰ الغسل ، يقول الراوي : إنّ عليّاً مسح رجليه ، فحُرّف إلى : غسل رجليه ، فارجعوا إلىٰ كنز العمال (١) وقارنوا بين هذا الخبر في هذه الصفحة وبين رواية أحمد (٢) ، وأيضاً الطحاوي في معاني الآثار.
ومن ذلك أيضاً الحديث الذي قرأناه عن حمران مولىٰ عثمان ، فقد حرّفوه وجعلوه دالّاً علىٰ الغسل ، فبدل ما يقول إنّه مسح علىٰ
_______________
(١) كنز العمال ٩ / ٤٤٤.
(٢) مسند أحمد ١ / ٩٥.
قدميه ، جعلوا اللفظ : غسل قدميه ، وهذا الحديث في مسند أحمد (١).
وأكتفي بهذا المقدار لأنّ هناك بحوثاً أُخرىٰ.
_______________
(١) مسند أحمد ١ / ٩٥.
النظر في أدلّة القائلين بالغسل
ننتقل الآن إلىٰ دليل القائلين بالغسل من أهل السنّة.
أمّا من الكتاب ، فليس عندهم دليل.
قالوا : نستدلّ بالسنّة ، فما هو دليلهم ؟
إنّ المتتبع لكتب القوم لا يجد دليلاً علىٰ القول بالغسل إلّا دليلين :
الاوّل : ما اشتمل من ألفاظ الحديث عندهم على جملة : « ويل للأعقاب من النار » ، وسأقرأ نصّ الحديث ، فهم يستدلّون بهذا الحديث علىٰ وجوب الغسل دون المسح.
الثاني : ما يروونه في بيان كيفيّة وضوء النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وسأقرأ لكم بعض تلك الأحاديث.
إذن ، لا يدلّ علىٰ وجوب الغسل إلّا ما ذكرت من الأحاديث :
أوّلاً : ما اشتمل علىٰ « ويل للأعقاب من النار ».
وثانياً : ما يحكي لنا كيفيّة وضوء رسول الله.
لاحظوا كتبهم التي يستدلّون فيها بهذين القسمين من الأحاديث علىٰ وجوب الغسل ، كلّهم يستدلّون ، أحكام القرآن لابن العربي ، فتح الباري ، تفسير القرطبي ، المبسوط ، معالم التنزيل للبغوي ، الكواكب الدراري في شرح البخاري ، وغير هذه الكتب ، تجدونهم يستدلّون بهذين القسمين من الحديث فقط علىٰ وجوب الغسل دون المسح ، وعلينا حينئذ أنْ نحقق في هذين الخبرين.
الاستدلال بحديث « ويل للأعقاب من النار » :
والعمدة هي رواية : « ويل للأعقاب من النار » ، وهي رواية عبدالله بن عمرو بن العاص ، هذه الرواية موجودة في البخاري ، وموجودة عند مسلم ، فهي في الصحيحين ، أقرأ لكم الحديث بالسند ، ولاحظوا الفوارق في السند والمتن :
قال البخاري : حدّثنا موسىٰ
، حدّثنا أبو عوانة ، عن أبي بشر ، عن يوسف ابن ماهك ، عن عبدالله بن عمرو قال : تخلّف النبي صلىاللهعليهوسلم عنّا في سفرة سافرناها ، فأدركنا وقد أرهقتنا العصر ـ أي صلاة العصر ـ فجعلنا نتوضّأ ونمسح علىٰ أرجلنا ، فنادىٰ
بأعلىٰ
صوته :
« ويل للأعقاب من النار ، ويل للأعقاب من النار ، ويل للأعقاب من النار ». مرّتين أو ثلاثاً كرّر هذه العبارة.
هذا الحديث في البخاري بشرح ابن حجر العسقلاني (١).
وأمّا مسلم فلاحظوا : حدّثني زهير بن حرب ، حدّثنا جرير وحدّثنا إسحاق أخبرنا جرير ، عن منصور ، عن هلال بن يساف ، عن أبي يحيىٰ ، عن عبدالله بن عمرو قال : رجعنا مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم من مكّة إلىٰ المدينة ـ هذه السفرة كانت من مكّة إلىٰ المدينة ـ حتّىٰ إذا كنّا بماء بالطريق تعجّل قوم عند العصر ، فتوضّؤوا وهم عجال ، فانتهينا إليهم وأعقابهم تلوح لم يمسّها الماء [ وهذه القطعة من الحديث غير موجودة عند البخاري ، وهي المهم ومحل الشاهد هذه القطعة ] فانتهينا إليهم وأعقابهم تلوح لم يمسّها الماء ، فقال رسول الله : « ويل للأعقاب من النار أسبغوا الوضوء » (٢).
مناقشة الاستدلال بحديث « ويل للأعقاب من النار » :
نقول : عندما نريد أن نحقّق في هذا الموضوع ـ ولنا الحقّ أنْ نحقق ـ فأوّلاً نبحث عن حال هذين السندين وفيهما من تكلّم فيه ،
_______________
(١) فتح الباري في شرح البخاري ١ / ٢١٣.
(٢) شرح النووي علىٰ صحيح مسلم ٢ / ١٢٨ ، هامش ارشاد الساري.
لكنّا نغضّ النظر عن البحث السندي ، لأنّ أكثر القوم علىٰ صحّة الكتابين.
إذن ، ننتقل إلىٰ البحث عن فقه هذا الحديث :
لاحظوا في صحيح البخاري : فجعلنا نتوضّأ ونمسح علىٰ أرجلنا فنادىٰ بأعلىٰ صوته « ويل للأعقاب من النار ، ويل للأعقاب من النار » لكنْ لابدّ وأنْ يكون الكلام متعلّقاً بأمر متقدّم ، رسول الله يقول : « ويل للأعقاب من النار » وليس قبل هذه الجملة ذكر للأعقاب ، هذا غير صحيح.
أمّا في لفظ مسلم : فانتهينا إليهم وأعقابهم تلوح لم يمسّها الماء فقال : « ويل للأعقاب من النار » وهذا هو اللفظ الصحيح.
إذن ، من هذا الحديث يظهر أنّ أصحاب النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم لم يغسلوا أرجلهم في الوضوء ، وإنّما مسحوا ، لكنّهم لمّا مسحوا لم يمسحوا كلّ ظهر القدم وبقيت الأعقاب لم يمسّها الماء ، فاعترض عليهم رسول الله ، لماذا لم تمسحوا كلّ ظهر القدم ، ولم يقل رسول الله لماذا لم تغسلوا ، قال : لماذا لم تمسحوا كلّ ظهر القدم.
لابد وأنّكم تشكّون فيما أقول ، ولا
تصدّقون ، ولا توافقوني في دلالة الحديث على المعنى الذي ذكرته ، وتريدون أن آتي لكم بشواهد من القوم أنفسهم ، فيكون هذا الحديث دالّاً علىٰ المسح
دون الغسل !! مع إنّهم يستدلون بحديث عبدالله بن عمرو بن العاص علىٰ وجوب الغسل دون المسح !! لاحظوا :
يقول ابن حجر العسقلاني بعد أن يبحث عن هذا الحديث ويشرحه ، ينتهي إلىٰ هذه الجملة ويقول : فتمسّك بهذا الحديث من يقول بإجزاء المسح.
ويقول ابن رشد ـ لاحظوا عبارته ـ : هذا الأثر وإنْ كانت العادة قد جرت بالإحتجاج به في منع المسح ، فهو أدلّ علىٰ جوازه منه علىٰ منعه ، وجواز المسح أيضاً مروي عن بعض الصحابة والتابعين (١).
رسول الله لم يقل لماذا لم تغسلوا أرجلكم ، قال : لماذا لم تمسحوا علىٰ أعقابكم ، يعني : بقيت أعقابكم غير ممسوحة ، وقد كان عليكم أن تمسحوا علىٰ ظهور أرجلكم وحتّىٰ الأعقاب أيضاً يجب أنْ تمسحوا عليها ، ويل للأعقاب من النار.
يقول صاحب المنار : هذا أصحّ الأحاديث في المسألة ، وقد يتجاذب الاستدلال به الطرفان.
أي القائلون بالمسح والقائلون بالغسل (٢).
_______________
(١) بداية المجتهد ١ / ١٦.
(٢) تفسير المنار ٦ / ٢٢٨.
ولاحظوا بقيّة عباراتهم ، فهم ينصّون علىٰ هذا.
والحاصل : إنّ رسول الله لم يعترض علىٰ القوم في نوع ما فعلوا ، أي لم يقل لهم لماذا لم تغسلوا ، وإنّما قال لهم : لماذا لم تمسحوا أعقابكم « ويل للأعقاب من النار » وهذا نصّ حديث مسلم ، إلّا أنّ البخاري لم يأت بهذه القطعة ، فأُريد الاستدلال بلفظه علىٰ الغسل.
ولا أدري هل لم يأت بالقطعة من الحديث عمداً أو سهواً ، وهل أنّه هو الساهي أو المتعمّد ، أو الرواة هم الساهون أو المتعمّدون ؟
ولمّا كان هذا الحديث الذي يريدون أن يستدلّوا به للغسل ، كان دالاً علىٰ المسح ، اضطرّوا إلىٰ أن يحرّفوه ، لاحظوا التحريفات ، تعمّدت أن أذكرها بدقّة :
فالحديث بنفس السند الذي في صحيح مسلم الدالّ علىٰ المسح لا الغسل ، بنفس السند ، يرويه أبو داود في سننه ويحذف منه ما يدلّ علىٰ المسح (١).
وهكذا صنع الترمذي في صحيحه ، والنسائي في صحيحه ،
_______________
(١) سنن ابي داود ١ / ١٥.