السيد جعفر مرتضى العاملي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: منشورات جماعة المدرّسين في الحوزة العلمية ـ قم المقدّسة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥١٢
ونسيم قول الله تعالى : « ومن بغي عليه لينصرنه الله .. ».
وأما ما ذكرتم : من استبصار المأمون في البيعة لأبي الحسن الرضا (ع) ؛ فما بايع له المأمون إلا مستبصرا في أمره ، عالما بأنه لم يبق أحد على ظهرها أبين فضلا ، ولا أظهر عفة ، ولا أورع ورعا ، ولا أزهد زهدا في الدنيا ، ولا أطلق نفسا ، ولا أرضى في الخاصة والعامة ، ولا أشد في ذات الله منه. وإن البيعة له لموافقة رضا الرب عز وجل. ولقد جهدت وما أجد في الله لومة لائم ..
ولعمري ، لو كانت بيعتي بيعة محاباة ، لكان العباس ابني ، وسائر ولدي أحب إلى قلبي ، وأجلى في عيني ، ولكن أردت أمرا ، وأراد الله أمرا ؛ فلم يسبق أمري أمر الله.
وأما ما ذكرتم : مما مسكم من الجفاء في ولايتي ، فلعمري ما كان ذلك إلا منكم بمظافرتكم عليه ، علي ( خ د ) ، وممايلتكم إياه ، فلما قتلته وتفرقتم عباديد ، فطورا أتباعا لابن أبي خالد ، وطورا أتباعا لأعرابي ، وطورا أتباعا لابن شكلة ، ثم لكل من سل سيفا علي. ولو لا أن شيمتي العفو ، وطبيعتي التجاوز ما تركت على وجهها منكم أحدا ، فكلكم حلال الدم ، محل بنفسه ..
وأما ما سألتم : من البيعة للعباس ابني .. أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير؟! ويلكم ، إن العباس غلام حدث السن ، ولم يؤنس رشده ، ولم يمهل وحده ، ولم تحكمه التجارب. تدبره النساء ، وتكفله الاماء ، ثم .. لم يتفقه في الدين ، ولم يعرف حلالا من حرام ، إلا معرفة لا تأتي به رعية ، ولا تقوم به حجة ، ولو كان مستأهلا ، قد أحكمته التجارب ، وتفقه في الدين ، وبلغ مبلغ أمير العدل في الزهد في الدنيا ، وصرف النفس عنها .. ما كان له عندي في الخلافة ، إلا ما كان لرجل من عك وحمير ، فلا تكثروا من هذا المقال ، فإن لساني لم
يزل مخزونا عن أمور وأنباء ، كراهية أن تخنث النفوس عند ما تنكشف ، علما بأن الله بالغ أمره ، ومظهر قضاه يوما ..
فإذ أبيتم إلا كشف الغطاء ، وقشر العظاء ، فالرشيد أخبرني عن آبائه ، وعما وجده في كتاب الدولة ، وغيرها : أن السابع من ولد العباس ، لا تقوم لبني العباس بعده قائمة ، ولا تزال النعمة متعلقة عليهم بحياته ، فإذا أودعت فودّعها ، فإذا أودع فودعاها ، وإذا فقدتم شخصي ، فاطلبوا لأنفسكم معقلا ، وهيهات ، ما لكم إلا السيف ، يأتيكم الحسني الثائر البائر ، فيحصدكم حصدا ، أو السفياني المرغّم ، والقائم المهدي لا يحقن دماءكم إلا بحقها ..
وأما ما كنت أردته من البيعة لعلي بن موسى ، بعد استحقاق منه لها في نفسه ، واختيار مني له ، فما كان ذلك مني إلا أن أكون الحاقن لدمائكم ، والذائد عنكم ، باستدامة المودة بيننا وبينهم. وهي الطريق أسلكها في إكرام آل أبي طالب ، ومواساتهم في الفيء بيسير ما يصيبهم منه.
وإن تزعموا : أني أردت أن يؤول إليهم عاقبة ومنفعة ، فإني في تدبيركم ، والنظر لكم ولعقبكم ، وابنائكم من بعدكم .. وأنتم ساهون ، لاهون ، تائهون ، في غمرة تعمهون ، لا تعلمون ما يراد بكم ، وما أظللتم عليه من النقمة ، وابتزاز النعمة. همة أحدكم أن يمسي مركوبا ، ويصبح مخمورا تباهون بالمعاصي ، وتبتهجون بها ، وآلهتكم البرابط ، مخنثون ، مؤنثون لا يتفكر متفكر منكم في إصلاح معيشة ، ولا استدامة نعمة ، ولا اصطناع مكرمة ، ولا كسب حسنة يمد بها عنقه ، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ..
أضعتم الصلاة ، واتبعتم الشهوات ، واكببتم على اللذات ، فسوف تلقون غيا. وأيم الله ، لربما أفكر في أمركم ، فلا أجد أمة من الامم استحقوا
العذاب ، حتى نزل بهم لخلة من الخلال ، إلا أصيب تلك الخلة بعينها فيكم ، مع خلال كثيرة ، لم أكن أظن أن إبليس اهتدى إليها ، ولا أمر بالعمل بها. وقد أخبر الله تعالى في كتابه العزيز عن قوم صالح :
أنه كان فيهم تسعة رهط يفسدون في الارض ولا يصلحون ، فأيكم ليس معه تسعة وتسعون من المفسدين في الأرض ، قد اتخذتموهم شعارا ، ودثارا ، استخفافا بالمعاد ، وقلة يقين بالحساب. وأيكم له رأي يتبع ، أو روية تنفع ، فشاهت الوجوه ، وعفرت الخدود.
وأما ما ذكرتم : من العثرة كانت في أبي الحسن (ع) نور الله وجهه ، فلعمري. إنها عندي للنهضة والاستقلال ، الذي أرجو به قطع الصراط ، والأمن والنجاة من الخوف يوم الفزع الاكبر. ولا أظن عملا هو عندي أفضل من ذلك ، إلا أن أعود بمثلها إلى مثله ، وأين لي بذلك ، وأنى لكم بتلك السعادة ..
وأما قولكم : إني سفهت آراء آبائكم ، وأحلام أسلافكم ، فكذلك قال مشركوا قريش : « إنا وجدنا آباءنا على أمة ، وإنا على آثارهم مقتدون ». ويلكم ، إن الدين لا يؤخذ إلا من الأنبياء ، فافقهوا ، وما أراكم تعقلون ..
وأما تعييركم إياي : بسياسة المجوس إياكم ، فما أذهبكم الانفة (١) من ذلك ، ولو ساستكم القردة والخنازير ، وما أردتم إلا أمير المؤمنين .. ولعمري ، لقد كانوا مجوسا فأسلموا ، كآبائنا ، وأمهاتنا في القديم ، فهم المجوس الذين أسلموا وأنتم المسلمون الذين ارتدوا ، فمجوسي أسلم خير من مسلم ارتد ، فهم يتناهون عن المنكر ، ويأمرون بالمعروف ، ويتقربون من الخير ، ويتباعدون من الشر ، ويذبون عن حرم المسلمين ،
__________________
(١) الظاهر أن الصواب : « فما أذهبكم عن الأنفة ».
يتباهجون بما نال الشرك وأهله من النكر ، ويتباشرون بما نال الاسلام وأهله من الخير .. منهم من قضى نحبه ، ومنهم من ينتظر ، وما بدلوا تبديلا.
وليس منكم إلا لاعب بنفسه ، مأفون في عقله وتدبيره : إما مغن ، أو ضارب دف ، أو زامر. والله ، لو أن بني أمية الذين قتلتموهم بالأمس نشروا ، فقيل لهم : لا تأنفوا من معايب تنالوهم بها ، لما زادوا على ما صيرتموه لكم شعارا ودثارا ، وصناعة وأخلاقا ..
ليس منكم إلا من إذا مسه الشر جزع ، وإذا مسه الخير منع ، ولا تأنفون ، ولا ترجعون إلا خشية ، وكيف يأنف من يبيت مركوبا ، ويصبح باثمه معجبا ، كأنه قد اكتسب حمدا ، غايته بطنه وفرجه ، لا يبالي أن ينال شهوته بقتل ألف نبي مرسل ، أو ملك مقرب. أحب الناس إليه من زين له معصية ، أو أعانه في فاحشة ، تنظفه المخمورة ، وتربده المطمورة ، فشتت الأحوال .. فإن ارتدعتم مما أنتم فيه من السيئات والفضائح ، وما تهذرون به من عذاب ألسنتكم .. وإلا فدونكم تعلوا بالحديد ..
ولا قوة إلا بالله ، وعليه توكلي ، وهو حسبي ».
رسالة عبد الله بن موسى الى المأمون
النص الأول للرسالة :
قال أبو الفرج الاصفهاني ، صاحب كتاب « الأغاني » ، في كتابه : مقاتل الطالبيين ص ٦٣٠ ، ٦٣١ ، في معرض حديثه عن عبد الله بن موسى ، بن عبد الله بن الحسن ، بن علي بن أبي طالب (ع) ، الذي كان قد توارى في أيام المأمون :
« .. وأخبرني جعفر بن محمد الورّاق الكوفي ، قال : حدثني عبد الله بن علي بن عبيد الله العلوي الحسيني ، عن أبيه ، قال :
كتب المأمون إلى عبد الله بن موسى ، وهو متوار منه ، يعطيه الأمان ، ويضمن له : أن يوليه العهد بعده ، كما فعل بعلي بن موسى ، ويقول :
« .. ما ظننت أن أحدا من آل أبي طالب يخافني ، بعد ما عملته بالرضا .. ».
وبعث الكتاب إليه. فكتب إليه عبد الله بن موسى :
« .. وصل كتابك ، وفهمته ، تختلني فيه عن نفسي ختل القانص ، وتحتال علي حيلة المغتال ، القاصد لسفك دمي ..
وعجبت من بذلك العهد ، وولايته لي بعدك ؛ كأنك تظن أنه لم يبلغني ما فعلته بالرضا!! ففي أي شيء ظننت أني أرغب من ذلك؟!. أفي الملك الذي قد غرتك نضرته وحلاوته؟!. فو الله ، لأن أقذف ـ وأنا حي ـ في نار تتأجج أحب إليّ من أن ألي أمرا بين المسلمين ، أو أشرب شربة من غير حلها ، مع عطش شديد قاتل ..
أم في العنب المسموم ، الذي قتلت به الرضا؟!.
أم ظننت أن الاستتار قد أملني ، وضاق به صدري؟!. فو الله ، إني لذلك ، ولقد مللت الحياة ، وأبغضت الدنيا ، ولو وسعني في ديني أن أضع يدي في يدك ، حتى تبلغ من قبلي مرادك ، لفعلت ذلك ، ولكنّ الله قد حظر عليّ المخاطرة بدمي. وليتك قدرت علي ، من غير أن أبذل نفسي لك ، فتقتلني ، ولقيت الله عز وجل بدمي ، ولقيته قتيلا مظلوما ؛ فاسترحت من هذه الدنيا ..
واعلم : أني رجل طالب النجاة لنفسي ، واجتهدت فيما يرضي الله عز وجل عني ، وفي عمل أتقرب به إليه ؛ فلم أجد رأيا يهدي إلى شيء من ذلك ، فرجعت إلى القرآن ، الذي فيه الهدى والشفاء ، فتصفحته سورة سورة ، وآية آية ، فلم أجد شيئا أزلف للمرء عند ربه ، من الشهادة في طلب مرضاته ..
ثم تتبعته ثانية ، أتأمل الجهاد أيّه أفضل ، ولأي صنف ، فوجدته جل وعلا يقول : « قاتلوا الذين يلونكم من الكفار ، وليجدوا فيكم غلظة » ، فطلبت أي الكفار أضر على الإسلام ، وأقرب من موضعي ، فلم أجد أضر على الاسلام منك ، لأن الكفار أظهروا كفرهم ، فاستبصر الناس في أمرهم ، وعرفوهم فخافوهم .. وأنت ختلت المسلمين بالإسلام ، وأسررت الكفر ، فقتلت بالظنة ، وعاقبت بالتهمة ، وأخذت مال الله من غير حله ، فأنفقته في غير حله ، وشربت الخمر المحرمة صراحا ،
وأنفقت مال الله على الملهين ، وأعطيته المغنين ، ومنعته من حقوق المسلمين ، فغششت بالاسلام ، وأحطت بأقطاره إحاطة أهله ، وحكمت فيه للمشرك ، وخالفت الله ورسوله في ذلك ، خلافة المضاد المعاند ، فان يسعدني الدهر ، ويعنّي الله عليك بأنصار الحق ، أبذل نفسي في جهادك ، بذلا يرضيه مني ، وان يمهلك ، ويؤخرك ، ليجزيك بما تستحقه في منقلبك ، أو تختر مني الأيام قبل ذلك ، فحسبي من سعيي ما يعلمه الله عز وجل من نيتي ، والسلام .. ».
وثمة نص آخر :
وكان أبو الفرج قد ذكر قبل ذلك أي في ص ٦٢٨ ، ٦٢٩ من نفس الكتاب نصا آخر هو إما رسالة أخرى .. أو نص آخر لهذه الرسالة نفسها .. والظاهر أنه رسالة اخرى .. وكيف كان فقد قال أبو الفرج :
« وكان عبد الله توارى في أيام المأمون ، فكتب بعد وفاة الرضا يدعوه إلى الظهور ، ليجعله مكانه ، ويبايع له ، واعتد عليه بعفوه عمن عفا من أهله ، وما أشبه هذا من القول :
فأجابه عبد الله برسالة طويلة يقول فيها :
فبأي شيء تغرني؟ ما فعلته بأبي الحسن ـ صلوات الله عليه ـ بالعنب الذي أطعمته إياه فقتلته.
والله ، ما يقعدني عن ذلك خوف من الموت ، ولا كراهة له ، ولكن لا أجد لي فسحة في تسليطك على نفسي ، ولو لا ذلك لأتيتك حتى تريحني من هذه الدنيا الكدرة.
ويقول فيها :
هبني لا ثأر لي عندك وعند آبائك المستحلين لدمائنا ، الآخذين حقنا ،
الذين جاهروا في أمرنا فحذرناهم ، وكنت ألطف حيلة منهم بما استعملته من الرضى بنا والتستر لمحننا ، تختل واحدا فواحدا منا. ولكنني كنت امرأ حبب إليّ الجهاد ، كما حبب إلى كل امرئ بغيته ، فشحذت سيفي ، وركبت سناني على رمحي ، واستفرهت فرسي ، لم أدر أي العدوّ أشد ضررا على الإسلام ، فعلمت أن كتاب الله يجمع كل شيء ، فقرأته ، فإذا فيه : « يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار ، وليجدوا فيكم غلظة » ..
فما أدري من يلينا منهم ، فأعدت النظر ، فوجدته يقول : « لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادّون من حاد الله ورسوله ، ولو كانوا آباءهم ، أو إخوانهم ، أو عشيرتهم » ، فعلمت أن عليّ أن أبدأ بما قرب مني ..
وتدبرت ، فإذا أنت أضر على الاسلام والمسلمين من كل عدو لهم ، لأن الكفار خرجوا منه ، وخالفوه ، فحذرهم الناس ، وقاتلوهم ، وأنت دخلت فيه ظاهرا ، فأمسك الناس ، وطفقت تنقض عراه عروة عروة ، فأنت أشد أعداء الإسلام ضررا عليه .. » .. ثم قال أبو الفرج : وهي رسالة طويلة أتينا بها في الكتاب الكبير ..
رسالة سفيان الى هارون
مصادر الرسالة :
ذكر هذه الرسالة الدميري في حياة الحيوان ج ٢ ص ١٨٨ ، ١٨٩ ، نقلا عن ابن بليان ، والامام الغزالي ، ودحلان في الفتوحات الاسلامية ط مصطفى محمد ج ٢ ص ٤٤٩ حتى ٤٥٣.
وأشار إليها ابن خلدون في مقدمته ، ص ١٧ مستدلا بها على تدين الرشيد والتزامه .. وذكر جرجي زيدان شطرا منها في كتابه : تاريخ التمدن الاسلامي المجلد الأول ، جزء ٢ ص ٣٨٥ ، ٣٨٦ ، والمجلد الثاني جزء ٤ ص ٤٨٠. ونحن نذكرها هنا عن الدميري مع بعض تعديلات عن دحلان.
مناقشة لا بد منها :
ولكن الرسالة تذكر أن الذي كاتبه الرشيد ، والمجيب له هو سفيان الثوري .. وهذا لا يمكن أن يكون صحيحا ؛ فان سفيان قد توفي في خلافة المهدي متخفيا ، في سنة ١٦١ ه ؛ وهارون لم يتولّ الخلافة إلا في سنة ١٧٠ ه.
ولعل الصواب : هو أن مرسلها هو : إمام مكة سفيان بن عيينة ، المتوفى سنة ١٩٨ ه. عن إحدى وتسعين سنة ..
ولعل الراوي قد اشتبه عليه الأمر ، عفوا ، أو عمدا!! لحاجة في نفسه قضاها .. وأيّاما كانت الحقيقة ؛ فإن هذه الرسالة تعتبر وثيقة تاريخية هامة ؛ لأنها تصور لنا حقيقة الوضع في تلك الفترة من الزمن ..
وتعطينا شأنها شأن رسالة الخوارزمي ، ورسالة عبد الله بن موسى إلى المأمون صورة واضحة عما كان يمارسه خلفاء ذلك الوقت من مآثم ، وما يرتكبونه من موبقات ..
نص الرسالة :
وملخص حكاية هذه الرسالة هي : أن الرشيد أرسل إلى سفيان الثوري!! ـ وقد قلنا : إن الظاهر : أنه ابن عيينة ـ كتابا يتودد إليه فيه ، ويطلب منه أن يقدم عليه.
فلما وصل الكتاب إلى سفيان ، رماه من يده ، وقال لإخوانه : ليقرأه بعضكم ؛ فإني أستغفر الله أن أمس شيئا مسه ظالم ..
فلما قرءوه ، أمرهم أن يكتبوا إلى الظالم في الجواب ما يلي :
« من العبد الميت سفيان ، إلى العبد المغرور بالآمال هارون ، الذي سلب حلاوة الإيمان ، ولذة قراءة القرآن ..
أما بعد :
فإني كتبت إليك أعلمك : أني قد صرمت حبلك ، وقطعت ودّك ، وقليت موضعك ، وأنك جعلتني شاهدا عليك ؛ بإقرارك على نفسك في كتابك : بما هجمت على بيت مال المسلمين ؛ فأنفقته في غير حقه ،
وأنفذته بغير حكمه ، ولم ترض بما فعلته وأنت ناء عني ، حتى كتبت إلي تشهدني على نفسك ، فأما أنا فإني قد شهدت عليك ، أنا وإخواني الذين حضروا قراءة كتابك ، وسنؤدي الشهادة غدا بين يدي الله الحكم العدل ..
يا هارون ، هجمت على بيت مال المسلمين بغير رضاهم. هل رضي بفعلك المؤلفة قلوبهم ، والعاملون عليها في أرض الله ، والمجاهدون في سبيل الله ، وابن السبيل؟ أم رضي بذلك حملة القرآن ، وأهل العلم؟!
أم رضي بفعلك الأيتام والأرامل؟!.
أم رضي بذلك خلق من رعيتك؟! ..
فشد يا هارون مئزرك ، وأعدّ للمسألة جوابا ، وللبلاء جلبابا ، واعلم أنك ستقف بين يدي الله الحكم العدل ؛ فاتق الله في نفسك ، إذا سلبت حلاوة العلم والزهد ، ولذة قراءة القرآن ، ومجالسة الأخيار ، ورضيت لنفسك أن تكون ظالما ، وللظالمين إماما ..
يا هارون ، قعدت على السرير ، ولبست الحرير ، وأسبلت ستورا دون بابك ، وتشبهت بالحجبة برب العالمين. ثم أقعدت أجنادك الظلمة دون بابك وسترك ، يظلمون الناس ولا ينصفون. ويشربون الخمر ، ويحدون الشارب. ويزنون ، ويحدون الزاني ، ويسرقون ، ويقطعون السارق. ويقتلون ، ويقتلون القاتل.
أفلا كانت هذه الأحكام عليك ، وعليهم ، قبل أن يحكموا بها على الناس؟! فكيف بك يا هارون غدا ، إذا نادى المنادي من قبل الله : احشروا الظلمة ، وأعوانهم أين الظلمة ، وأعوان الظلمة ؛ فتقدمت بين يدي الله ، ويداك مغلولتان إلى عنقك ، لا يفكهما إلا عدلك وانصافك ، والظالمون حولك ، وأنت لهم إمام ، أو سائق إلى النار.
وكأني بك يا هارون .. وقد أخذت بضيق الخناق ، ووردت المساق ، وأنت ترى حسناتك في ميزان غيرك ، وسيئات غيرك في ميزانك على سيئاتك ، بلاء على بلاء ، وظلمة فوق ظلمة ؛ فاتق الله يا هارون في رعيتك ، واحفظ محمدا (ص) في أمته. واعلم أن هذا الأمر لم يصر إليك ، إلا وهو صائر إلى غيرك ، وكذلك الدنيا تفعل بأهلها ، واحدا بعد واحد ؛ فمنهم من تزود زادا نفعه ، ومنهم من خسر دنياه وآخرته ، وإني أحسبك يا هارون ممن خسر دنياه وآخرته.
وإياك ، ثم إياك أن تكتب إليّ بعد هذا ؛ فإني لا أجيبك .. والسلام .. » ..
ثم بعث بالكتاب منشورا ، من غير طيّ ، ولا ختم ..
قصيدة الأمير أبي فراس الحمداني
نقاط رئيسية :
كنت قد وعدت القارئ الكريم في فصل : سياسة العباسيين ضد العلويين ، بأن أورد في أواخر هذا الكتاب قصيدة الأمير أبي فراس الحمداني المعروفة ب : « الشافية ».
وقد حان الآن موعد الوفاء بذلك الوعد .. وقبل ذلك ، لا بأس بالإشارة إلى :
أن أبا فراس قد ولد في سنة ٣٢٠ ه. ، وتوفي في سنة ٣٥٧ ه. عليه الرحمة والرضوان ..
وفي زمانه : كان بنو العباس الخلفاء ، وآل بويه السلاطين ، وآل حمدان الامراء ..
ولاء .. وشجاعة :
وأما عن سبب نظم هذه القصيدة ، فهو أن أبا فراس وقف على قصيدة ابن سكرة ، التي يتحامل فيها على العلويين ، والتي أولها :
بني علي دعوا
مقالتكم |
|
لا ينقض الدر
وضع من وضعه |
فحمي أبو فراس ، ونظم هذه القصيدة ، التي سارت بها الركبان.
ودخل بغداد ، وأمر أن يشهر في المعسكر خمسمائة سيف ، وقيل : أكثر من ذلك .. ثم أنشد هذه القصيدة ، وخرج من الناحية الاخرى (١) وقد شرح هذه القصيدة عدد من الادباء والعلماء ، منهم ابن خالويه ، ومنهم محمد بن أمير الحاج حسيني.
والقصيدة هي :
الدين مخترم
والحق مهتضم |
|
وفيء آل رسول
الله مقتسم |
والناس عندك لا
ناس فيحفظهم |
|
سوم الرعاء ولا
شاء ولا نعم |
إني أبيت قليل
النوم أرّقني |
|
قلب تصارع فيه
الهم والهمم |
وعزمة لا ينام
الدهر صاحبها |
|
إلا على ظفر في
طيه كرم |
يصان مهري لأمر
لا أبوح به |
|
والدرع والرمح
والصمصامة الخذم |
وكل مائرة
الضبعين مسرحها |
|
رمث الجزيرة
والخذراف والعنم |
وفتية قلبهم قلب
إذا ركبوا |
|
يوما ورأيهم رأي
إذا عزموا |
يا للرجال أما
لله منتصر |
|
من الطغاة ، أما
للدين منتقم |
بنو علي رعايا
في ديارهم |
|
والأمر تملكه
النسوان والخدم |
__________________
(١) راجع : شرح الشافية ، لمحمد بن أمير حاج حسيني ص ٦ ، وقاموس الرجال ج ١٠ ص ١٥٧ ، ورجال المامقاني ج ٣ ص ٣٠ من باب الكنى ، ورجال أبي علي ص ٣٤٩ ، والغدير ج ٣ ص ٤٠٣ والكنى والألقاب ج ١ ص ١٣٧ ، والفتوني في كشكوله ، وغير ذلك.
محلئون فأصفى
وردهم وشل |
|
عند الورود
وأوفى شربهم لمم |
فالأرض إلا على
ملاكها سعة |
|
والمال إلا على
أربابه ديم |
فما السعيد بها
إلا الذي ظلموا |
|
وما الشقي بها
إلا الذي ظلموا |
للمتقين من
الدنيا عواقبها |
|
وإن تعجل فيها
الظالم الأثم |
لا يطغين بني
العباس ملكهم |
|
بنو علي مواليهم
، وإن رغموا |
أتفخرون عليهم
لا أبا لكم |
|
حتى كأن رسول
الله جدكم |
وما توازن يوما
بينكم شرف |
|
ولا تساوت لكم
في موطن قدم |
ولا لكم مثلهم
في المجد متصل |
|
ولا لجدكم مسعاة
جدهم |
ولا لعرقكم من
عرقهم شبه |
|
ولا نثيلتكم من
أمهم أمم |
قام النبي بها «
يوم الغدير » لهم |
|
والله يشهد ،
والأملاك ، والامم |
حتى إذا أصبحت
في غير صاحبها |
|
باتت تنازعها
الذؤبان والرخم |
وصيروا أمرهم
شورى كأنهم |
|
لا يعلمون ولاة
الحق أيهم |
تالله ما جهل
الاقوام موضعها |
|
لكنهم ستروا وجه
الذي علموا |
ثم ادعاها بنو
العباس ملكهم |
|
وما لهم قدم
فيها ، ولا قدم |
لا يذكرون إذا
ما معشر ذكروا |
|
ولا يحكم في أمر
لهم حكم |
ولا رآهم أبو
بكر وصاحبه |
|
أهلا لما طلبوا
منها وما زعموا |
فهل هم يدعوها
غير واجبة |
|
أم هل أئمتهم في
أخذها ظلموا |
أمّا علي فقد
أدنى قرابتكم |
|
عند الولاية إن
لم تكفر النعم |
أينكر الحبر عبد
الله نعمته |
|
أبوكم ، أم عبيد
الله ، أم قثم |
بئس الجزاء
جزيتم في بني حسن |
|
أباهم العلم
الهادي ، وأمهم |
لا بيعة ردعتكم
عن دمائهم |
|
ولا يمين ، ولا
قربى ولا ذمم |
هلا صفحتم عن
الاسرى بلا سبب |
|
للصافحين ببدر
عن أسيركم |
هلا كففتم عن
الديباج سوطكم |
|
وعن بنات رسول
الله شتمكم |
ما نزهت لرسول
الله مهجته |
|
عن السياط فهلاّ
نزّه الحرم |
ما نال منهم بنو
حرب وان عظمت |
|
تلك الجرائر إلا
دون نيلكم |
كم غدرة لكم في
الدين واضحة |
|
وكم دم لرسول
الله عندكم |
أأنتم آله فيما
ترون وفي |
|
أظفاركم من بنيه
الطاهرين دم |
هيهات لا قربت
قربى ، ولا رحم |
|
يوما إذا أقصت
الأخلاق والشيم |
كانت مودة سلمان
لهم رحما |
|
ولم تكن بين نوح
وابنه رحم |
يا جاهدا في
مساويهم يكتمها |
|
غدر الرشيد
بيحيي كيف ينكتم |
ذاق الزبيري عبء
الحنث وانكشفت |
|
عن ابن فاطمة
الأقوال والتهم |
ليس الرشيد
كموسى في القياس ولا |
|
مأمونكم كالرضا
إن أنصف الحكم (١) |
باءوا بقتل
الرضا من بعد بيعته |
|
وأبصروا بعض يوم
رشدهم وعموا |
يا عصبة شقيت من
بعد ما سعدت |
|
ومعشر هلكوا من
بعد ما سلموا |
لبئسما لقيت
منهم وان بليت |
|
بجانب الطف تلك
الأعظم الرمم |
__________________
(١) كان هذا البيت مقدما على الذي قبله في بعض مصادر هذه القصيدة. لكن الصواب تأخيره ؛ ليتحد السياق ، وينسجم المعنى ..
لا عن أبي مسلم
في نصحه صفحوا |
|
ولا الهبيريّ
نجى الحلف والقسم |
ولا الأمان لأهل
الموصل اعتمدوا |
|
فيه الوفاء ، ولا
عن غيهم حلموا |
أبلغ لديك بني
العباس مألكة |
|
لا تدّعوا ملكها
ملاكها العجم |
أي المفاخر أمست
في منابركم |
|
وغيركم آمر فيها
، ومحتكم |
أنّى يفيدكم في
مفخر علم |
|
وفي الخلاف
عليكم يخفق العلم |
يا باعة الخمر
كفوا عن مفاخركم |
|
لمعشر بيعهم يوم
الهياج دم |
خلوا الفخار
لعلامين إن سئلوا |
|
يوم السؤال ،
وعمّالين إن علموا |
لا يغضبون لغير
الله إن غضبوا |
|
ولا يضيعون حكم
الله إن حكموا |
تنشى التلاوة في
أبياتهم سحرا |
|
وفي بيوتكم
الأوتار والنغم |
إذا تلوا آية
غنى إمامكم : |
|
قف بالديار التي
لم يعفها قدم |
منكم علية أم
منهم ، وكان لكم |
|
شيخ المغنين
ابراهيم ، أم لهم |
ما في بيوتهم
للخمر معتصر |
|
ولا بيوتهم للشر
معتصم |
ولا تبيت لهم
خنثى تنادمهم |
|
ولا يرى لهم قرد
له حشم |
الركن ، والبيت
، والاستار منزلهم |
|
وزمزم والصفا ،
والحجر ، والحرم |
وليس من قسم في
الذكر نعرفه |
|
إلا وهم دون شك
ذلك القسم |
وبذلك ينتهي هذا الكتاب ، والحمد لله أولا وآخرا ، وصلى الله على خير خلقه أجمعين ، محمد وآله الطيبين الطاهرين ..
|
جعفر مرتضى الحسيني العاملي |
فهارس الكتاب :
١ ـ مصادر الكتاب ..
٢ ـ محتويات الكتاب اجمالا ..
٣ ـ محتويات الكتاب بالتفصيل ..