السيد جعفر مرتضى العاملي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: منشورات جماعة المدرّسين في الحوزة العلمية ـ قم المقدّسة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥١٢
القسم الرّابع
من خلال الأحداث
١ ـ مع بعض خطط المأمون ..
٢ ـ كاد المريب أن يقول خذوني
٣ ـ ما يقال حول وفاة الإمام ..
٤ ـ دعبل والمأمون ..
٥ ـ كلمة ختامية ..
مع بعض خطط المأمون
التوجيهات الراضية غير مقبولة :
كل ما تقدم يلقي لنا ضوءا على بعض نوايا المأمون تجاه الإمام (ع) ، وعلى كثير من الأحداث التي اكتنفت ذلك الحدث التاريخي الهام ..
وإننا حتى لو سلمنا جدلا ، وغضضنا النظر عن كل تلك الأسئلة ، وعلامات الاستفهام التي يمكن استخلاصها مما تقدم .. فإننا لا نستطيع ـ مع ذلك ـ أن نعتبر البيعة صادرة عن حسن نية ، وسلامة طوية. ولا أن نقبل بالتوجيهات الراضية عن تصرفاته ، طيلة فترة ولاية العهد ، وبعدها تجاه الإمام ، الذي كان يكبر المأمون بـ (٢٢) سنة ، والذي كان مجبرا على قبول هذا الأمر ، ومهددا بالقتل إن لم يقبل. ولم لا يتركه وشأنه ما دام أنه لا يريد أن يتقلد هذا الشرف الذي تتهافت النفوس عليه ، وتزهق الأرواح من أجله؟! ..
نعم .. إننا لا نستطيع أن نسلم بذلك ، ونحن نرى منه تلك التصرفات والمواقف المشبوهة ، بل والمفضوحة تجاه الإمام (ع) ، والتي لا تبقي مجالا للشك في حقيقة نواياه وأهدافه من كل ما أقدم وما كان عاقدا العزم على الاقدام ..
وهذا الفصل معقود للحديث عن بعض تلك التصرفات ، ومن أجل بيان تلك الخطط ..
المأمون يفضح نفسه :
وقد تعجب إذا قلنا لك : إن المأمون نفسه يصرح ببعض خططه ، التي كانت تصرفاته تدور في فلكها ، ويعلن بعض الدوافع ، ويبوح ببعض النوايا تجاه الإمام ، وبالنسبة لقضية ولاية العهد فإليك ما أجاب به حميد بن مهران ، وجمعا من العباسيين ، عند ما عاتبوه ولاموه على ما أقدم عليه ، من البيعة للرضا (ع) ، يقول المأمون :
« .. قد كان هذا الرجل مستترا عنا ، يدعو إلى نفسه ؛ فأردنا أن نجعله ولي عهدنا ؛ ليكون دعاؤه لنا ؛ وليعترف بالملك والخلافة لنا ؛ وليعتقد فيه المفتونون به بأنه ليس مما ادعى في قليل ولا كثير ، وأن هذا الأمر لنا دونه.
وقد خشينا إن تركناه على تلك الحال : أن ينفتق علينا منه ما لا نسده ، ويأتي علينا ما لا نطيقه ..
والآن .. فإذ قد فعلنا به ما فعلنا ، وأخطأنا في أمره بما أخطأنا ، وأشرفنا من الهلاك بالتنويه باسمه على ما أشرفنا ؛ فليس يجوز التهاون في أمره. ولكننا نحتاج إلى أن نضع منه قليلا ، قليلا ، حتى نصوره عند الرعية بصورة من لا يستحق هذا الأمر ، ثم ندبر فيه بما يحسم عنا مواد بلائه .. »
ثم طلب منه حميد بن مهران : أن يسمح له بمجادلة الإمام (ع) ، ليفحمه ، وينزله منزلته ، ويبين للناس قصوره ، وعجزه ؛ فقال المأمون : « لا شيء أحب إلي من هذا ».
ثم كانت النتيجة عكس ما كان يتوقعه المأمون والعباسيون ، وأشياعهم وباءوا كلهم بالفشل الذريع ، والخيبة القاتلة (١) ..
والذي يعنينا الحديث عنه هنا :
هو قوله : وقد خشينا إن تركناه على تلك الحال .. إلى آخر ما نقلناه عنه آنفا ؛ فإنها أوضحت أن المأمون الذي كان يخشى الإمام خشية شديدة ، كان يخطط أولا إلى أخذ زمام المبادرة من الإمام ، وتحاشي الاصطدام معه ثم كان يخطط بعد ذلك إلى الوضع منه (ع) قليلا قليلا إلى آخر ما تقدم ..
ولا يرد : أن كلام المأمون مع حميد بن مهران ظاهره : أنه لم يكن يريد في بادئ الأمر الحط من الإمام عليهالسلام ، وإنما بدا له ذلك حين قوي مركز الامام عليهالسلام ، واستحكم أمره .. لا يرد ذلك ..
لأن كلامه هذا لا ينفي أنه كان يريد من أول الأمر ذلك ، بل هو يؤكد ذلك ، لأنه يصرح فيه : أنه إنما قدم على ما أقدم عليه ، عند ما رأى افتتان الناس به عليهالسلام ، فأراد أن يعمل عملا يفقد الإمام عليهالسلام مركزه ، ويقضي على كل نشاطاته ، ويذهب بما له من القدرة والنفوذ نهائيا ، وإلى الأبد.
ولقد تحدثنا فيما سبق عن بعض تصرفاته التي تدور في فلك خططه تلك مثل : فرضه للرقابة على الامام (ع) ، والتضييق عليه ؛ فلا يصل إليه إلا من أحب ، وعزله عن شيعته ومواليه ، وأيضا تفريقه الناس عنه ، عند ما أخبر أنه يقوم بمهمة التدريس ، وكذلك قضية صلاة العيد ، وغير ذلك مما تقدم.
__________________
(١) راجع : شرح ميمية أبي فراس ص ١٩٦ ، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٧٠ ، والبحار ج ٤٩ ص ١٨٣ ، ومسند الامام الرضا ج ٢ ص ٩٦ ..
ونزيد هنا بعض الامور الاخرى ، التي وإن كان قد سبق الحديث عن بعضها ؛ ولكنه كان حديثا من زاوية اخرى ، ومن أجل استفادة أمور غير الامور التي نحاول استفادتها منها هنا .. وذلك أمر طبيعي ، ولا يكون تكرارا ما دام أن الواقعة الواحدة قد يكون لها دلالات متعددة ، وافادات مختلفة .. ولذا فإننا نقول :
لماذا على البصرة فالأهواز :
إن من جملة الامور التي كانت من جملة خطط المأمون للتأثير على مكانة الإمام (ع) وحتى على معنوياته النفسية .. الطريق الذي أمر رجاء ابن أبي الضحاك (١) قرابة الفضل بن سهل ، والذي كان من قواد المأمون ، وولاته ـ أمره ـ بسلوكه ، عند ما أرسله ليأتي بالإمام (ع) من المدينة إلى مرو مهما كلفه الأمر ..
فقد أمره : أن يجعل طريقه بالإمام « على البصرة ، والاهواز ، ففارس. وحذره كثيرا من المرور على طريق الكوفة ، والجبل ، وقم .. » (٢).
__________________
(١) وذكر أبو الفرج ، والمفيد : أن المرسل هو الجلودي ، ولكن الصحيح هو الذي ذكرناه .. إذ من الخطأ أن يرسله المأمون لاحضار الرضا عليهالسلام ؛ لأن ذلك يضر بقضيته ، ويفسد عليه ما كان دبره ؛ لأنه موجب لسوء ظن الرضا عليهالسلام ، والعلويين ، وسائر الناس ، وتنبههم مبكرا لحقيقة الأمر ، وواقع القضية ..
وذلك لأن الجلودي هو الذي أمره الرشيد : أن يغير على دور آل أبي طالب ، ويسلب نساءهم إلخ ما تقدم .. كما أنه كان عدوا متجاهرا للامام ، وقد سجنه المأمون بسبب معارضته للبيعة للرضا عليهالسلام بولاية العهد!! ولعل سر خطأهم هو أن الجلودي كان واليا على المدينة من قبل المأمون ، حين استقدام المأمون للامام إلى مرو ، حسبما جاء في كتاب : الامام الرضا ولي عهد المأمون ص ٣٥.
(٢) تهذيب التهذيب ج ٧ ص ٣٨٧ ، وتاريخ اليعقوبي ج ٣ ص ١٧٦ ، وينابيع المودة ص ٣٨٤ ، والخرائج والجرائح طبعة حجرية ص ٢٣٦ ، واثبات الوصية ص ٢٠٥
بل لقد ورد : أن المأمون قد كتب إلى الرضا نفسه ، يقول له : « لا تأخذ على طريق الجبل وقم. وخذ على طريق البصرة ، فالأهواز ، ففارس .. » (١).
وسر ذلك واضح ؛ فإن أهل الكوفة ، وقم ، كانوا معروفين بالتشيّع للعلويين (٢) وأهل البيت. ومرور الامام (ع) من هذين البلدين ، وخصوصا الكوفة ، التي كانت تعتبر من المراكز الحساسة جدا في الدولة .. سوف
__________________
وإعلام الورى ص ٣٢٠ ، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٤٩ ، ١٨٠ ، والكافي ج ١ ص ٤٨٦ ، ومسند الامام الرضا ج ١ ص ٤٠ والبحار ج ٤٩ ص ٩١ ، ٩٢ ١١٨ و ١٣٤ ، وكشف الغمة ج ٣ ص ٦٥ ، وغير ذلك كثير.
(١) اصول الكافي ج ١ ص ٤٨٩ ، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٤٩ و ١٨٠ ، وشرح ميمية أبي فراس ص ١٦٥ ، ومعادن الحكمة ص ١٨٠ ، وإثبات الوصية للمسعودي ص ٢٠٤ ، ومسند الامام الرضا ج ١ ص ٧٣ ، والبحار ج ٤٩ ص ١٣٤.
(٢) تشيع أهل الكوفة وقم أشهر من أن يحتاج إلى بيان ، أو إقامة برهان .. لكننا نورد ـ مع ذلك ـ بعض الشواهد ، تبصرة للقارئ ، فنقول :
أما الكوفة : فقد تقدم قول محمد بن علي العباسي أنها وسوادها شيعة علي وولده .. وفي الطبري ، وابن الأثير ، وغيرهما تجد قول عبد الله بن علي للمنصور ، عند ما استشاره في أمر محمد بن عبد الله بن الحسن : « .. ارتحل الساعة حتى تأتي الكوفة ، فاجثم على أكتافهم ، فانهم شيعة أهل هذا البيت ، وأنصاره الخ .. ». وفي قضية وفاة السيد الحميري ، التي ذكرها المرزباني في كتابه أخبار السيد الحميري دلالة واضحة على تشيع الكوفيين ، وانحراف البصريين ..
ولأجل ذلك نرى المأمون يستقبل وفدا من أهل الكوفة في منتهى الغلظة والجفاء ، فراجع مروج الذهب ج ٣ ص ٤٢١. وفي البداية والنهاية ج ١٠ ص ٩٣ : أن المنصور قد اعترف بأن لإبراهيم بن عبد الله بن الحسن في الكوفة مائة ألف سيف مغمدة ، وأعرب عن مخاوفه من تشيع أهل الكوفة للعلويين ، وولائهم لهم .. بل إننا لا نستبعد أن يكون بناء
يكون من نتيجته : أن يستقبله أهلها بما يليق بشأنه : من الاجلال ، والاعزاز والتكريم.
ولا شك أن الإمام (ع) سوف يستطيع أن يستقطب المزيد من الناس ،
__________________
المنصور لبغداد هو من أجل أن يبتعد عن الكوفة ، وأهلها ، ويأمن على نفسه ؛ قال البلاذري في فتوح البلدان ص ٤٠٥ : « أخذ المنصور أهل الكوفة بحفر خندقها. وألزم كل امرئ للنفقة عليه أربعين درهما. وكان ذاما لهم ؛ لميلهم إلى الطالبيين ، وإرجافهم بالسلطان .. ». وقد تقدم أنه عند ما ذهب إليهم العباس بن موسى ، أخو الامام الرضا عليهالسلام يدعوهم للبيعة ، لم يجبه إلا البعض منهم ، وقال له آخرون : « إن كنت تدعو للمأمون ، ثم من بعده لأخيك ؛ فلا حاجة لنا في دعوتك. وإن كنت تدعو إلى أخيك ، أو بعض أهل بيتك ، أو إلى نفسك أجبناك .. ».
وعلى كل حال .. فقد كانت الكوفة مصدرا لثورات كثيرة على الامويين والعباسيين على حد سواء ، تلك الثورات التي كانت كلها تقريبا بقيادة علوي ، أو داعية إلى علوي .. ولم ينس المأمون بعد ثورة أبي السرايا التي كادت تغير الموازين ، وتقلب ماجريات الأحداث .. إلى غير ذلك مما لا مجال لتتبعه واستقصائه ..
وأما تشيع القميين ، فذلك أعرف وأشهر. وقضيتهم مع جبة دعبل التي أهداه إياها الامام لا يكاد يجهلها أحد .. وعند ما طلب المأمون من الريان أن يحدث بفضائل علي عليهالسلام ، وأجاب بأنه لا يحسن شيئا ، قال المأمون : « سبحان الله!! ما أجد أحدا يعيني على هذا الأمر ، لقد هممت أن أجعل أهل قم شعاري ودثاري .. » ...
ولعل تشيع أهل قم هذا هو الذي دفع بالمأمون لأن يوجه إليهم عامله علي بن هشام ؛ لينكل بهم ، ويحاربهم حتى يهزمهم ، ويدخل البلد ، ويهدم سورها ، ويجعل على أهلها مبلغ سبعة ملايين درهم ، بدلا من مليونين ، وهو ما لم يكن يدفعه أي بلد آخر يضاهي بلدهم في عدد السكان وغير ذلك من المميزات ، فكيف بالسبعة .. ومع أنه كان قد خفض الخراج عن السواد ، وبعض البلدان الاخرى ؛ فلما سمعوا بذلك طالبوا بتخفيض الخراج عنهم أيضا ؛ ففعل ذلك .. وكان تخفيضه عنهم بزيادة المليونين إلى سبعة ، كما قلنا .. راجع في تفصيل ذلك : الطبري ج ١١ ص ١٠٩٣ ، والكامل لابن الأثير ج ٥ ص ٢١٢ ، وتاريخ ابن خلدون ج ٣ ص ٢٥٥ ، والنجوم الزاهرة ج ٢ ص ١٩٠ ، وتاريخ التمدن الاسلامي مجلد ١ جزء ٢ ص ٣٣٧ ، وفتوح البلدان للبلاذري ص ٤٤٠ ، وتجارب الامم ج ٦ ص ٤٦٠.
ويؤثر عليهم بما حباه الله من الفضائل والكمالات الأخلاقية ، وبما آتاه الله من العلم والحكمة ، والورع والتقوى ، الذي سار ذكره في الآفاق ، حتى لا يكاد يجهله أحد .. وإذا كان أهل نيشابور ، بل وحتى أهل مرو ، معقل العباسيين والمأمون ، قد كان منهم تجاه الإمام ما لا يجهله أحد .. حتى إنهم كانوا بين صارخ ، وباك ومتمرغ في التراب إلخ .. وحتى لقد خاف المأمون وأشياعه على دمائهم ـ إذا كان هؤلاء هكذا ـ فكيف ترى سوف تكون حالة أهل الكوفة وقم ، معقلي العلويين ، والمحبين لأهل البيت ، والمتفانين فيهم ، لو أنهم رأوا الإمام (ع) بينهم ، وبالقرب منهم .. يقول الراوندي في ذلك : « إن المأمون أمر رجاء بن أبي الضحاك : أن لا يمر بالإمام عن طريق الكوفة ؛ لئلا يفتتن به أهلها .. » (١)!!.
والمأمون لا يريد أن يفتتن الناس بالامام ، وإنما الذي يريده هو عكس ذلك تماما .. إنه يريد أن يضع من الامام لا أن يرفع ..
أما أهل البصرة : فعثمانية ، يدينون بالكف ، ويقولون : كن عبد الله المقتول ، ولا تكن عبد الله القاتل .. بل لقد كانت البصرة معقلا مهما للعباسيين ، الذين حرق دورهم زيد النار ، ابن الامام الكاظم ، كما قدمنا ؛ ولهذا نلاحظ : أن دور البصريين في التشيع لم يكن يضارع دور غيرهم ، لا روائيا ، ولا كلاميا ..
وأما ما ربما يحتمله البعض : من أن المأمون كان يأمل أن يخرج من البصرة ، أو غيرها من يخلصه من الإمام (ع) نهائيا .. فلا أرى أنه يتفق مع أهداف وأغراض المأمون ، التي كان يرمي إليها من وراء لعبته تلك ..
__________________
(١) الخرائج والجرائح ، طبعة حجرية ص ٢٣٦.
الإمام يرفض كل مشاركة تعرض عليه :
إنه برغم شروط الإمام على المأمون ، والتي أشرنا إليها فيما سبق ، فإننا نرى المأمون كل مدة يحاول أن يجري اختبارا للامام ، ليعرف حقيقة نواياه ، وأنه هل أصبح له طمع بالخلافة ، وطموح لها (١) ، ليعجل عليه بما يحسم عنه مواد بلائه .. أم لا.
فكان يأتي كل مدة إليه ، يطلب منه أن يولي فلانا ، أو أن يعزل فلانا ، أو أن يصلي بالناس .. بل لقد طلب منه بعد مقتل الفضل أن يساعده في إدارة شئون الخلافة (٢) بحجة أنه يعجز وحده أن يقوم بأعباء الحكم ، ويدير دفة السلطان!!
هذا .. إن لم نقل : أنه كان يريد من وراء ذلك : أن يجعل ذلك ذريعة للقضاء على الإمام ، بحجة أنه نقض الشرط ، وليكون بذلك قد قضى على العلويين جميعا ، وإلى الأبد.
أو على الأقل كان يريد بذلك : أن يوجد للامام أعداء في الأوساط ذات القوة والنفوذ ..
وأيا ما كانت نوايا المأمون وأهدافه ، فإن الإمام (ع) كان يرفض ذلك كله بكل عزم وإصرار ، ويذكره بالشروط تلك ، ويقول له : « إن وفيت لي وفيت لك .. » .. وهذا تهديد صريح له من الإمام (ع). ولا نعجب كثيرا ـ بعد أن اتضحت لنا نوايا المأمون وأهدافه ـ اذا رأينا المأمون يتحمل هذا التهديد ، بل ويخضع له ، ويقول : « بل أفي لك »!! ..
__________________
(١) وما أشبه الليلة بالبارحة ، فقد رأينا الخليفة الثاني عمر بن الخطاب ، يسأل ابن عباس عن علي عليهالسلام : إن كان لا يزال يطمح إلى الخلافة ، ويأمل فيها .. أم لا!!.
(٢) الكافي ج ٨ ص ١٥١ ، وكشف الغمة ج ٣ ص ٦٨ و ٨٧ ، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٦٤ و ١٦٦ و ١٦٧ ، والبحار ج ٤٩ ص ١٤٤ و ١٥٥ و ١٧١ ، وغير ذلك.
وهكذا .. فقد كان الإمام (ع) يضيع على المأمون ما كان يحسب أنه فرصة مؤاتية له ، ولا يمكنه من معرفة ما يريد معرفته ، ولا من تنفيذ ما يريد تنفيذه ..
الاختبار لشعبية الإمام (ع) :
كما أنه كان كل مدة يقوم بعملية اختبار لشعبية الإمام (ع) ، ولمدى ما يتمتع به من تأييد في الاوساط الشعبية ، ليعرف إن كان أصبح (ع) يشكل خطرا حقيقيا ؛ ليعجل بالقضاء عليه أم لا .. فكان كل مدة يكلفه بأن يؤمّ الناس بالصلاة للعيد ، أو ما شاكل .. وهذا إن دل على شيء ، فإنما يدل على مدى ما يعتمر قلب المأمون من الخوف والخشية منه (ع). ( راجع : السبب الثالث من فصل البيعة ، والموقف العاشر في فصل : خطة الإمام « ع » ).
سؤال .. وجوابه :
ولعلك تقول : إذا كان المأمون يخشى الإمام (ع) إلى هذا الحد ؛ لما يعلمه من نفوذه ومكانته ؛ فلماذا لا يتخلص منه بذلك الاسلوب التقليدي الذي انتهجه أسلافه من الامويين ، والعباسيين ، وتبعهم عليه هو فيما بعد ، وكذلك من أتى بعده .. وذلك بأن يدس إليه شربة من السم ، وهو في المدينة ، من دون أن يحتاج إلى اشخاصه إلى مرو ، والبيعة له بولاية العهد ، وتزويجه ابنته ، إلى غير ذلك من الامور التي من شأنها أن تعزز من مركز الإمام ، وترفع من شأنه ، وتوجه إليه الانظار والقلوب ، حتى يضطر في نهاية الأمر لأن يعود إلى ما جرت عليه عادة أسلافه ، وأتباعه!!.
ولكن الجواب على هذا قد اتضح مما قدمناه ، فإن المأمون لم يكن يريد في بادئ الأمر موت الامام ، ولا كان هو يستطيع أن يفعل ذلك. ولو أن ذلك كان قد حدث لوقع المأمون في ورطة ، لها أول وليس لها آخر ؛ حيث إنه كان بأمس الحاجة إلى حياة الامام (ع) ؛ وذلك لما قدمناه من الأسباب والظروف التي كانت تحتم على المأمون أن يلعب لعبته تلك ، التي وإن كانت تنطوي على مخاطرة جريئة ، إلا أنه كان ـ كما قدمنا ـ قد رسم الخطة ، وأحكم التدبير للتخلص من الامام (ع) بمجرد أن يحقق مآربه ، وأهدافه ، بالطريقة التي لا تثير شك أحد ، ولا توجب تهمة أحد ؛ وقد حدث ذلك بالفعل ، كما سيمر علينا ..
وأما كتمه لفضائل الإمام (ع) :
ومن جملة الامور التي كانت تدور في فلك خطة المأمون ، التي لخصها بأنه يريد الوضع من الامام قليلا قليلا ، حتى يصوره أمام الرعية بصورة من لا يستحق لهذا الأمر ـ محاولاته كتم فضائل الامام (ع) ومزاياه عن الناس ما استطاع إلى ذلك سبيلا .. وقد تقدم : أنه عند ما سأل رجاء بن أبي الضحاك ، الذي تولى إشخاص الرضا (ع) من المدينة إلى مرو ، عن حال الرضا (ع) في الطريق ؛ فأخبره عما شاهده من عبادته (ع) ، وزهده وتقواه ، وما ظهر له من الدلائل والبراهين ، قال له المأمون : « .. بلى يا ابن أبي الضحاك ، هذا خير أهل الأرض ، وأعلمهم ، وأعبدهم ؛ فلا تخير أحدا بما شهدت منه ؛ لئلا يظهر فضله إلا على لساني .. »!!.
وهكذا .. فإن المأمون وإن استطاع أن يمرر الكثير ، إلا أنه لم يكن يجد بدا في كثير من الأحيان من أن يظهر على حقيقته وواقعه. وهذا هو أحد تلك المواقف التي مرت وسيمر معنا بعضها ، التي اضطر فيها
المأمون لأن يكشف عن وجهه الحقيقي .. وإن كان قد حاول ـ مع ذلك ـ أن يتستر بما لا يسمن ولا يغني من جوع.
ولا أعتقد أن المأمون كان يجهل : أن ما يأتي به لم يكن لينطلي كله على أعين الناس ، بل كان يعلم ذلك حق العلم ، ولكن كما يقولون : « الغريق يتشبث بالطحلب ».
ـ ولكن .. بالرغم من محاولات المأمون تلك .. فإننا نرى أن فضائل الإمام ومزاياه كانت كالعرف الطيب ، لم تزل تظهر ، وتنتشر وتذاع .. بل ولعل محاولات المأمون تلك ، التي كانت ترمي للحط من الإمام واسقاطه ، قد أسهمت كثيرا وساعدت على إظهار فضائله ، وشيوعها ، كما سيتضح.
الشائعات الكاذبة!!
وكان بالاضافة إلى ما تقدم يحاول ترويج شائعات كاذبة ، من شأنها أن تنفر الناس من العلويين عامة ، ومن الإمام (ع) ، وسائر الأئمة عليهمالسلام خاصة ..
فهذا أبو الصلت يسأل الإمام (ع) ، فيقول : « يا ابن رسول الله ، ما شيء يحكيه الناس عنكم؟! ..
قال (ع) : ما هو؟!
قال : يقولون : إنكم تدّعون : أن الناس لكم عبيد!!.
قال (ع) : يا عبد السلام ، اذا كان الناس كلهم عبيدنا ـ على ما حكوه ـ فممن نبيعهم؟! » إلخ (١).
__________________
(١) مسند الامام الرضا ج ١ قسم ١ ص ٤٥ ، والبحار ج ٤٩ ص ١٧٠ ، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٨٤.
ونرى أنه (ع) يقول ـ وعنده جماعة من بني هاشم ، فيهم إسحاق ابن عيسى العباسي ـ : « يا إسحاق ، بلغني أن الناس يقولون : إنا نزعم : أن الناس عبيد لنا. لا .. وقرابتي من رسول الله ما قلته قط ، ولا سمعته من آبائي قاله ، ولا بلغني عن أحد من آبائي قاله الخ .. ». وقد تقدمت هذه الرواية في فصل : خطة الامام ..
كما أن هشام بن ابراهيم العباسي ، الذي وضعه الفضل بن سهل ليراقب الرضا (ع) ، ويضيق عليه ، كان يشيع عن الرضا (ع) : أنه أحل له الغناء ، فلما سئل (ع) عن ذلك قال : « كذب الزنديق الخ (١) .. ».
بهذه الشائعات الكاذبة ، وامثالها أراد المأمون الحط من كرامة الامام وتضعيف مركزه ، وزعزعة ثقة الناس به ، وبالعلويين بصورة عامة ..
ولكن كما يقولون : حبل الكذب قصير ؛ إذ أن أقوال الامام (ع) وأفعاله وجميع جهات سلوكه ، سواء قبل توليته للعهد أو بعدها .. كانت تناقض هذه الشائعات ، وتدحضها (٢) .. الأمر الذي كان من شأنه
__________________
(١) رجال المامقاني ج ٣ ص ٢٩١ ، وقاموس الرجال ج ٩ ص ٣٠٩ ، ووسائل الشيعة ج ١٢ ص ٢٢٧ ، ومسند الامام الرضا ج ٢ ص ٤٥٢ ، عن رجال الكشي ص ٤٢٢. والبحار ج ٤٩ ص ٢٦٣ ، عن قرب الاسناد ص ١٩٨.
وكان هشام بن ابراهيم هذا جريئا على المأمون ؛ لأنه هو الذي رباه ، وشخص إلى خراسان في فتنة ابراهيم بن المهدي ، راجع الأغاني ط ساسي ج ٩ ص ٣١. ويسمى : العباسي مع أنه لم يكن عباسيا : إما لأن المأمون ولاه تربية ولده العباس ، أو لأنه ألف كتابا في امامة العباس نص على ذلك الكشي ط النجف ص ٢٢٣ وغيره.
(٢) وكيف يمكن أن نصدق مثل هذا الذي لا يقره العقل ، ولا يقبل به القرآن ، على الامام الذي كان يتخذ لنفسه أسلم ، وأروع منهج ، ألا وهو منهج القرآن ، حتى إنه عند ما أنكر رؤية النبي لله تعالى ، واستدل على ذلك بالآيات ، وقال له أبو قرة : فتكذب بالروايات؟! قال الامام عليهالسلام : إذا كانت الروايات مخالفة للقرآن كذبتها ، وما أجمع المسلمون
أن يثير شكوك الناس ، وظنونهم في المأمون نفسه ؛ فلم ير بدا من أن يضرب عن هذا الاسلوب صفحا ، ويتجه إلى غيره بتخيل أنه أجدى وأكثر نفعا وأقل ضررا!! ..
وبقي في كنانته سهم أخير ، كان يحسب أنه سوف يصيب الهدف ، ويحقق الغاية : التي هي تشويه سمعة الامام (ع) ، والحط من كرامته .. ألا وهو :
التركيز على افحام الامام (ع) :
فبدأ يجمع العلماء ، وأهل الكلام من المعتزلة ، وهم أصحاب جدل ، وكلام ، واستدلال ، وتنبه للدقائق من الامور ، ليحدق هؤلاء بالرضا (ع) وتجري فيما بينهم وبينه محاورات ، ومجادلات ، من أجل أن ينقصوا منه مجلسا بعد مجلس ، وأن يكسروه في أعظم ما يدعيه هو وآباؤه (ع) : من العلم والمعرفة بآثار رسول الله (ص) ، وعلومه .. والذي هو الشرط الأعظم لإمامة الإمام ، على ما يدعيه الشيعة المفتونون بالرضا (ع) ، وبسائر آبائه وأبنائه الأئمة الطاهرين ..
وحتى لا يبقى من ثم مجال لأبي نؤاس لأن يقول فيه عند ما رآه خارجا من عند المأمون :
مطهرون نقيّات
ثيابهم |
|
تجري الصلاة
عليهم أينما ذكروا |
من لم يكن علويا
حين تنسبه |
|
فما له في قديم
الدهر مفتخر |
__________________
عليه : أنه لا يحاط به علما ، ولا تدركه الابصار ، وليس كمثله شيء .. راجع : تفسير البرهان طبعة حجرية ص ١٠٥٧ ، ١٠٥٨. نقلا عن الكافي .. ومثل ذلك كثير لا مجال لاستقصائه ..
الله لما برى
خلقا فأتقنه |
|
صفّاكم واصطفاكم
أيها البشر |
فأنتم الملأ
الأعلى وعندكم |
|
علم الكتاب وما
جاءت به السور (١) |
هذه الأبيات التي سارت بها الركبان ، والتي هي تعبير صادق عن هذه الحقيقة التي أشرنا إليها ، والتي كانت تقض على المأمون وكل أسلافه وأتباعه مضاجعهم ، وتنغص عليهم حياتهم .. وعليه :
وإذا استطاع المأمون أن يظهر للملإ أن الإمام (ع) صفر اليدين مما يدعيه ، ويدعيه آباؤه من قبل ، فإنه يكون قد قضى على المصدر الأول والأساس لكل المشاكل ، والاخطار ، وينهار المذهب الشيعي حينئذ بانهيار فكرة الامامة فيه ، التي هي المحور ، والاساس له ، ويتحقق من ثم ـ حلمه الكبير ، الذي طالما جهد وشقي من أجل تحقيقه.
وأعتقد : أنه لو كان تم له ما أراد ، فلسوف لا يتعرض بعد هذا للامام (ع) بسوء ، وأنه كان سوف يبقي على حياته (ع) إبقاء لحجته ، وأنه خال من شرائط الإمامة ، وليأفل من ثم .. نجمه ، ونجم العلويين من بعده .. وإلى الأبد ..
__________________
(١) شهرة هذه الأبيات تغنينا عن ذكر مصادرها ، وقد أعطاه عليهالسلام ما كان معه ، وهو مائة دينار ، والبغلة التي كان يركبها .. لكن بعض الباحثين يرى أن أبا نؤاس لم يعش إلى زمان تولي الرضا العهد ، بل مات قبل ذلك بثلاث سنوات أي في سنة ١٩٨ ه. ومن ثم هو ينكر الحادثة الاخرى ، التي تقول : إن البعض لام أبا نؤاس حيث لم يمدح الامام عليهالسلام ، فقال أبياته المشهورة : « قيل لي أنت أشعر الناس طرا في فنون إلخ .. ».
ولكن الظاهر أن هذا الباحث لم يطلع على عبارة ابن خلكان في وفيات الأعيان ، طبع سنة ١٣١٠ ج ١ ص ٤٥٧ ؛ فانه قال : « وفيه ( أي في الرضا عليهالسلام ) يقول أيضا ـ وله ذكر في شذور العقود سنة احدى أو اثنتين ومائتين ـ : مطهرون نقيات إلخ .. ».
بل يكفي دلالة على أنه عاش إلى ما بعد ولاية العهد ذكر هذه الأبيات ، وتلك له والنص على أنه قد قالها فيه عليهالسلام ..
ومن أجل ذلك ـ بكل تأكيد ـ أخذ يجمع العلماء (١) ويجلبهم من أقاصي البلدان ، ويأمرهم بتهيئة أشكل المسائل وأصعبها ، وطرحها على الامام (ع) علّه يقطعه عن الحجة ، ولو مرة واحدة ؛ ليحط بذلك من كرامته ، ويشوه سمعته ، ويظهر عجزه وعيه ، ويرى الناس أن ما يدعيه من العلم والمعرفة بآثار رسول الله وعلومه لا حقيقة له ، ولا واقع وراءه ..
قال الصدوق عليه الرحمة : « .. كان المأمون يجلب على الامام (ع) من متكلمي الفرق ، وأهل الأهواء المضلة كل من سمع به ؛ حرصا على انقطاع الرضا (ع) عن الحجة مع واحد منهم إلخ .. » (٢).
وقال ابراهيم بن العباس : « سمعت العباس يقول : ..... وكان المأمون يمتحنه ( أي يمتحن الامام (ع) ـ ) بالسؤال عن كل شيء ؛ فيجيبه الجواب الشافي .. » (٣).
وقال أبو الصلت : « .. فلما لم يظهر منه للناس إلا ما ازداد به فضلا عندهم ، ومحلا في نفوسهم .. جلب عليه المتكلمين من البلدان ؛ طمعا في أن يقطعه واحد منهم ؛ فيسقط محله عند العلماء ؛ وبسببهم يشتهر نقصه عند العامة ؛ فكان لا يكلمه خصم من اليهود ، والنصارى ، والمجوس ، والصابئين ، والبراهمة ، والملحدين ، والدهرية ، ولا خصم
__________________
(١) مع أنه هو نفسه قد فرق عن الإمام تلامذته ، عند ما أخبروه أنه يقوم بمهمة التدريس ، كما أشرنا إليه!! ..
(٢) مسند الامام الرضا ج ٢ ص ١٠٥ ، والبحار ج ٤٩ ص ١٧٩ ، وعيون أخبار الرضا ج ١ ص ١٩١.
(٣) الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي ص ٢٣٧ ، وإعلام الورى ص ٣١٤ ، وأعيان الشيعة ج ٤ قسم ٢ ص ١٠٧ ، ويراجع أيضا : مناقب ابن شهرآشوب ج ٤ ص ٣٥٠ ، وغير ذلك.
من فرق المسلمين المخالفين له إلا قطعه ، والزمه الحجة ، وكان الناس الخ .. » (١).
وقال المأمون لسليمان المروزي : « .. إنما وجهت إليك لمعرفتي بقوتك ، وليس مرادي إلا أن تقطعه عن حجة واحدة فقط .. » (٢).
وتقدم قوله لحميد بن مهران ، عند ما طلب منه هذا أن يوليه مجادلته ؛ لينزله منزلته : « ما من شيء أحب إليّ من هذا .. ».
بل لقد صرح المأمون نفسه : بأنه كان يريد أن يجعل من جهل الامام ـ نعوذ بالله ـ ذريعة ووسيلة إلى خلعه ؛ ليشتهر بين الناس أنه قد خلع بسبب جهله ، وقلة معرفته ؛ فقد ورد أنه عند ما أخبره الرضا بصفات حمل جاريته ، قال المأمون :
« فقلت في نفسي هذه والله فرصة ؛ إن لم يكن الأمر على ما ذكر ، خلعته ؛ فلم أزل أتوقع أمرها إلخ .. » (٣).
إلى غير ذلك مما قد امتلأت به كتب الأخبار والسير ..
وحتى مع الامام الجواد قد حاول ذلك :
ولا نستبعد أيضا : أن يكون قد حاول أن يلعب نفس هذه اللعبة مع
__________________
(١) عيون أخبار الرضا ج ٢ ص ٢٣٩ ، ومثير الاحزان ص ٢٦٣ ، والبحار ج ٤٩ ص ٢٩٠ ، ومسند الامام الرضا ج ١ ص ١٢٨ ، وشرح ميمية أبي فراس ص ٢٠٤.
(٢) البحار ج ٤٩ ص ١٧٨ ، وعيون أخبار الرضا ج ١ ص ١٧٩ ، ومسند الامام الرضا ج ١ ص ٩٧.
(٣) الغيبة للشيخ الطوسي ص ٤٩ ، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ٢٢٤ ، والبحار ج ٤٩ ص ٣٠٧ ، ومناقب آل أبي طالب ج ٤ ص ٣٣٣ عن الجلاء والشفاء ..
هذا .. ولا بأس بملاحظة قوله : إنها والله فرصة!! .. الدالة على أنه كان يتحين الفرص لذلك.
الإمام الجواد (ع) أيضا ، والذي كان لا يزال صغير السن ؛ فأغرى العباسيين بأن يقفوا ذلك الموقف ؛ ليفسح المجال ليحيى بن أكثم ليطرح مسائله الصعبة على الإمام الصغير ؛ ليعجز عنها ، ويظهر للملإ : أن إمام الشيعة طفل صغير ، لا يعلم ولا يعقل شيئا ، وان كل ما يدعونه في الامام ما هو إلا زخرف باطل ، وظل زائل ..
ويلاحظ : أنه قام بهذه اللعبة قبل أن يسلم إليه ابنته ، التي كان قد عقد له عليها في حياة أبيه الرضا (ع) ، وجعل شرط تسليمها أن يغلب يحيى بن اكثم ويجيبه على مسائله!! ومعنى ذلك : أنه لو توقف ولو في مسألة واحدة لامتنع عن اعطائه زوجته ، وكانت النتيجة هي : أن يشتهر ذلك بين الناس كلهم ، ويصبح حديث كل الندوات والمحافل أن سبب عدم تسليمه زوجته هو جهله وعيّه ..
لكن الامام الجواد كان كأبيه قد أعاد على المأمون كيده ومكره ، ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله .. ولقد سبقه إلى ذلك المنصور مع الامام الصادق (ع) ؛ حيث أمر أبا حنيفة بتهيئة مسائل صعبة يلقيها على الامام ؛ لأنه رأى أن الناس قد فتنوا به (١) .. وجرى على منواله في ذلك المعتصم مع الجواد أيضا ، وغيره مع غيره .. وكان الله هو المؤيد والناصر والمسدد ..
ملاحظة لا بد منها :
ومما يلاحظ هنا : أننا لا نجد أثرا لهذه المجالس العلمية والمناظرات ، الكلامية للمأمون!! بعد موت الإمام (ع) ، فبعد أن مات (ع) بسم المأمون ، وهدأت ثائرة العلويين والشيعة ، أو صد الباب كليا تقريبا ،
__________________
(١) راجع : البحار ج ٤٧ ص ٢١٧.
وانصرف عن ذلك نهائيا .. اللهم إلا بعض مناظرات نادرة ومحدودة جدا في بغداد ، لا تقاس بتلك التي كانت تجري في مرو على الاطلاق ..
الإمام يقول : المأمون سوف يندم :
هذا .. ولم يكن من الغريب : أن يعلم الرضا (ع) بمقاصد المأمون ، وحقيقة نواياه من مثل هذه التصرفات ، وكان (ع) يقول : « .. إذا سمع احتجاجي على أهل التوراة بتوراتهم ، وعلى أهل الانجيل بإنجيلهم ، وعلى أهل الزبور بزبورهم ، وعلى الصابئين بعبرانيتهم ، وعلى أهل الهرابدة بفارسيتهم ، وعلى أهل الروم بروميتهم ، وعلى أصحاب المقالات بلغاتهم ؛ فإذا قطعت كل صنف ، ودحضت حجته ، وترك مقالته ، ورجع إلى قولي ، علم المأمون أن الموضع الذي هو بسبيله ليس بمستحق له ؛ فعند ذلك تكون الندامة منه .. » (١).
نعم .. إنه سوف يندم كثيرا عند ما يرى : أن كل ما كان يدبره ينقلب عليه ، ويؤدي إلى عكس النتيجة التي كان يرجوها منه .. حتى إن الناس كانوا يقولون : « والله ، إنه أولى بالخلافة من المأمون. فكان أصحاب الأخبار يرفعون ذلك إليه ؛ فيغتاظ ويشتد حسده .. » (٢) .. وهكذا .. فإن هذا القول يعتبر تحقيقا لنبوءة الإمام : من أن المأمون سوف يندم ، إذا علم أن الموضع الذي هو بسبيله ليس بمستحق له ..
ولقد علم المأمون ، ولكن بعد فوات الأوان بذلك ، وبأنه قد ساعد بأعماله تلك على اتساع القاعدة الشعبية للإمام (ع) ، وإظهار مزاياه
__________________
(١) مسند الامام الرضا ج ٢ ص ٧٥ ، والبحار ج ٤٩ ص ١٧٥ ، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٥٦.
(٢) كشف الغمة ج ٣ ص ٨٧ ، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ٢٣٩.