الوصائل إلى الرسائل - ج ١١

آية الله السيد محمد الشيرازي

الوصائل إلى الرسائل - ج ١١

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة عاشوراء للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7263-11-2
ISBN الدورة:
964-7263-04-X

الصفحات: ٤٠٠

فالمتيقّن للحدث إذا التفت الى حاله في اللاحق فشكّ ، جرى الاستصحاب في حقّه ، فلو غفل عن ذلك

______________________________________________________

وعليه : فالشك قد يكون فعليا : كما إذا التفت الى حاله فشك في انه هل تطهّر بعد الحدث أم لا؟ فيستصحب حاله السابقة ، وقد يكون تقديريا : كما إذا غفل عن حاله بعد الحدث لكنه كان بحيث لو التفت لكان شاكّا في بقاء حاله السابقة وعدم بقائها ، فلا يستصحب حاله السابقة.

إذن : فيختص جريان الاستصحاب بالشك الفعلي لأن حرمة النقض في الأخبار موضوعه الشك في بقاء ما كان فما دام لم يكن الموضوع وهو الشك فعليا ، لا يكون حرمة النقض فعليا ، فلا استصحاب.

وإنّما لا ينفع في الاستصحاب الشك الفرضي الذي لا فعلية له ، لأن قوله عليه‌السلام : «لا تنقض اليقين بالشك» (١) ظاهر في الشك الفعلي ، بل هو المتبادر منه ، حتى انه قد جاء لفظ الشك في بعض الروايات بصيغة الماضي الدال على تحقق الوقوع كما في قوله عليه‌السلام في رواية زرارة : «لأنك كنت على يقين من طهارتك فشككت» (٢) فإنه كالصريح في لزوم فعلية الشك ، فلا يكفي شأنية الشك.

وعليه : (فالمتيقّن للحدث إذا التفت الى حاله في اللاحق) قبل أن يصلي (فشكّ) في إنه هل بقي على الحدث أو تطهّر بعده؟ (جرى الاستصحاب في حقّه) فيستصحب الحدث فلا يجوز له الدخول في الصلاة.

(فلو غفل عن ذلك) أي بعد أن جرى استصحاب الحدث في حقه غفل

__________________

(١) ـ الكافي (فروع) : ج ٣ ص ٣٥١ ح ٣ ، تهذيب الاحكام : ج ٢ ص ١٨٦ ب ٢٣ ح ٤١ ، الاستبصار : ج ١ ص ٣٧٣ ب ٢١٦ ح ٣ ، وسائل الشيعة : ج ٨ ص ٢١٧ ب ١٠ ح ١٠٤٦٢.

(٢) ـ تهذيب الاحكام : ج ١ ص ٤٢١ ب ٢١ ح ٨ ، الاستبصار : ج ١ ص ١٨٣ ب ١٠٩ ح ١٣ ، علل الشرائع : ج ٢ ص ٥٩ ح ١ ، وسائل الشيعة : ج ٣ ص ٤٨٢ ب ٢٤ ح ٤٢٣٦.

١٢١

وصلّى ، بطلت صلاته ، لسبق الأمر بالطهارة ، ولا يجري في حقّه حكم الشك في الصحة بعد الفراغ عن العمل ، لأنّ مجراه الشك الحادث بعد الفراغ ، لا الموجود من قبل.

نعم ، لو غفل عن حاله بعد اليقين بالحدث وصلّى ، ثم التفت وشك في كونه محدثا حال الصلاة أو متطهّرا ، جرى في حقّه قاعدة الشكّ بعد الفراغ ،

______________________________________________________

عن ان وظيفته التطهر (وصلّى ، بطلت صلاته ، لسبق الأمر بالطهارة) لأن الشارع قال له بسبب الاستصحاب قبل الصلاة : أنت محدث فيجب عليك التطهّر للصلاة ، وهذا لم يتطهّر للصلاة فلم يصل عن طهارة ، لا طهارة قطعيّة ، ولا طهارة استصحابية.

(و) إن قلت : إن قاعدة الفراغ جارية هنا فنحكم لأجلها بصحة صلاة هذا الشخص.

قلت : (لا يجري في حقّه حكم الشك في الصحة بعد الفراغ عن العمل) وذلك (لأنّ مجراه) أي : مجرى قاعدة الفراغ (الشك الحادث بعد الفراغ) كما إذا شك بعد الفراغ من الصلاة في انه هل كان متطهّرا أو لم يكن متطهّرا؟ (لا الموجود من قبل) كما هو المفروض حيث ان هذا الشك قد حصل له قبل الصلاة وجرى في حقه استصحاب الحدث.

(نعم ، لو غفل عن حاله بعد اليقين بالحدث) بأن لم يعرض له شك قبل الصلاة حتى يكون مستصحبا للحدث ، بل كان غافلا عن حاله (وصلّى ثم التفت وشك في كونه محدثا) كان (حال الصلاة أو متطهّرا) بأن كان شكّه بعد الصلاة (جرى في حقّه قاعدة الشكّ بعد الفراغ).

١٢٢

لحدوث الشك بعد العمل ، وعدم وجوده قبله ، حتى يوجب الأمر بالطهارة والنهي عن الدخول فيه بدونها.

نعم ، هذا الشكّ اللاحق يوجب الاعادة بحكم استصحاب عدم الطهارة لو لا حكومة قاعدة الشك بعد الفراغ عليه ، فافهم.

______________________________________________________

وإنّما تجري القاعدة في حق الغافل عن حاله (لحدوث الشك بعد العمل وعدم وجوده) أي : الشك (قبله) أي : قبل العمل ، فإن عدم وجود الشك قبله يثمر : أنه لم يكن مستصحب الحدث (حتى يوجب الأمر بالطهارة ، و) يوجب (النهي عن الدخول فيه) أي : في الصلاة ـ مثلا ـ (بدونها) أي : بدون الطهارة.

(نعم ، هذا الشكّ اللاحق) بعد الصلاة (يوجب الاعادة بحكم استصحاب عدم الطهارة لو لا حكومة قاعدة الشك بعد الفراغ عليه) أي : على الاستصحاب ، فإن قاعدة الفراغ كقاعدة التجاوز ، وقاعدة الصحة. وما أشبه ، كلّها حاكمة على الاستصحاب لما قرّر في محله : من أنه لو لم تتحكم هذه القواعد على الاستصحاب لزم سقوطها.

وإنّما يلزم سقوطها لأن هذه القواعد مجعولة في موارد الاستصحاب ، مثل استصحاب اشتغال الذمّة ، واستصحاب عدم ملكية هذا البائع للبضاعة التي يبيعها ، وغير ذلك مما لو أردنا العمل بالاستصحاب فيها لما بقي لمثال قاعدة الفراغ مورد ، فيلزم تقديمها على الاستصحاب.

(فافهم) ولعله إشارة الى أن وجوب الإعادة من الأحكام العقلية لاتيان الصلاة فاقدة لبعض شرائطها ، كما لو أتى بها بلا طهارة ، وذلك لأن المشروط عدم عند عدم شرطه ، وهذا الحكم العقلي لا يثبت بالاستصحاب لأنه مثبت ، وقد تقدّم ويأتي أن المثبت في الاصول ليس بحجة.

١٢٣

السادس :

في تقسيم الاستصحاب الى أقسام :

ليعرف : أنّ الخلاف في مسألة الاستصحاب في كلّها أو في بعضها ، فنقول : إنّ له تقسيما باعتبار المستصحب ، وآخر : باعتبار الدليل الدالّ عليه ، وثالثا : باعتبار الشك المأخوذ فيه.

______________________________________________________

(السادس : في تقسيم الاستصحاب الى أقسام) تالية ، وإنّما نقسمه الى هذه الأقسام (ليعرف : أنّ الخلاف في مسألة الاستصحاب) هل هو (في كلّها أو في بعضها)؟ حتى يكون الذي هو محل وفاق الجميع أكثر وثوقا وذلك للاطمئنان بصحة جريان الاستصحاب فيه.

(فنقول : إنّ له) أي : للاستصحاب (تقسيما باعتبار المستصحب ، وآخر : باعتبار الدليل الدالّ عليه ، وثالثا : باعتبار الشك المأخوذ فيه).

أمّا تقسيمه باعتبار المستصحب : فلأن المستصحب قد يكون من قبيل الأحكام ، وقد يكون من قبيل الموضوعات.

وأمّا تقسيمه باعتبار الدليل الدال عليه : فلأن الدليل الدال على الاستصحاب ، امّا العقل ويسمّى باستصحاب حال العقل ، وامّا الشرع ويسمّى باستصحاب حال الشرع.

وأمّا تقسيمه باعتبار الشك المأخوذ فيه : فلأن الشك إمّا أن يكون في المقتضي أو يكون في المانع.

ولا يخفى : أنه قد يكون الشك في الملفق من المقتضي والمانع ، ومرادهم بذلك : ما كان الشك في البقاء فيه مرددا بين انقضاء استعداده

١٢٤

أمّا بالاعتبار الأوّل فمن وجوه :

الوجه الأوّل

أحدها : من حيث أنّ المستصحب قد يكون أمرا وجوديا ، كوجوب شيء ، أو طهارته أو رطوبته أو نحو ذلك.

______________________________________________________

أو عروض المانع عليه ، كما سيأتي تفاصيل كل ذلك في كلام المصنّف قدس‌سره.

(أمّا) تقسيم الاستصحاب ، (بالاعتبار الأوّل :) أي : باعتبار المستصحب (فمن وجوه) تالية :

(أحدها : من حيث أنّ المستصحب قد يكون أمرا وجوديا) بأن كان حكما تكليفيا اعتباريا (كوجوب شيء ، أو) وضعيا مثل : (طهارته) فإن الأحكام الخمسة تسمّى بالأحكام التكليفية ، وما عداها كالجزئية والشرطية ، والطهارة والنجاسة ، والملكية والزوجية ، والرقّية والحرية ، تسمّى بالأحكام الوضعية.

(أو) موضوعا خارجيا مثل : (رطوبته أو نحو ذلك).

هذا ، وقد سبق أن قلنا : أن الحكم الشرعي هو الذي يستطرق فيه باب الشرع ، فكون هذا الشيء واجبا أو ليس بواجب ، طاهرا أو ليس بطاهر ـ مثلا ـ يحتاج الى بيان من الشرع.

وأمّا الموضوع الخارجي فإنه يستطرق فيه باب العرف فكون هذا الشيء رطبا أو ليس برطب ، وإن زيدا ميت أو حي ، ـ مثلا ـ لا يرتبط بالشارع ، وإنّما يلزم أن نستطرق فيه باب العرف ، لنعرف هل إنه كان رطبا حتى يتنجّس بالملاقاة؟ وإنه هل بقي حيا حتى تجب نفقة زوجته ـ مثلا ـ؟ وهكذا.

١٢٥

وقد يكون عدميّا ، وهو على قسمين :

أحدهما عدم اشتغال الذمة بتكليف شرعي ، ويسمّى عند بعضهم : بالبراءة الأصليّة وأصالة النفي.

والثاني : غيره ، كعدم نقل اللفظ عن معناه وعدم القرينة

______________________________________________________

(وقد يكون) المستصحب أمرا (عدميّا) بمعنى : استصحاب العدم (وهو على قسمين) كما يلي :

(أحدهما) : ما يرتبط بالشارع مثل : (عدم اشتغال الذمة بتكليف شرعي) كما إذا شككنا في أنّ التتن ـ مثلا ـ حرام أم لا؟ فنستصحب عدم الحرمة (ويسمّى عند بعضهم : بالبراءة الأصليّة) لأنّ الأصل براءة الانسان من كل تكليف حتى يثبت ذلك التكليف عليه (و) يسمّى أيضا : (أصالة النفي) لأنّ الأصل نفي التكليف عن الانسان حتى يثبت عليه التكليف.

مثلا : ان التتن قبل الشرع لم يكن حراما فنستصحب عدم حرمته الى ما بعد الشرع ، أو انه حال الصغر أو الجنون لم يكن عليه حراما فنستصحب عدم حرمته بعد البلوغ والعقل ، أو إنه قبل دخول الوقت لم يكن واجبا عليه ، فنستصحب عدم وجوبه بعد الوقت ، أو إن المرأة حالة الحيض لم يجب عليها صلاة الآيات ، فنستصحب عدم الوجوب عليها بعد الحيض ، وهكذا.

(والثاني : غيره) مما لا يرتبط بالشارع وإنّما يرتبط بالأمور الخارجية ، بلا فرق بين أن يكون راجعا الى الألفاظ (كعدم نقل اللفظ عن معناه) الى معنى آخر (وعدم القرينة) فيكون الكلام حقيقة في معناه اللغوي

١٢٦

وعدم موت زيد ورطوبة الثوب ، وحدوث موجب الوضوء أو الغسل ونحو ذلك.

ولا خلاف في كون الوجودي محل النزاع.

وأمّا العدميّ فقد مال الاستاذ قدّس الله سرّه ، الى عدم الخلاف فيه ، تبعا لما حكاه عن استاذه : السيّد صاحب الرياض : من دعوى الاجماع على اعتباره في العدميات.

______________________________________________________

(و) عدم التخصيص ، وعدم التقييد ، وعدم الاضمار ، وعدم الاشتراك ، وما أشبه ذلك.

أو يكون راجعا الى غير الألفاظ مثل : (عدم موت زيد) فيما إذا شككنا في حياته (و) عدم (رطوبة الثوب) فيما إذا شككنا في رطوبته حين وقوعه على الأرض النجسة ـ مثلا ـ (و) عدم (حدوث موجب الوضوء أو الغسل) من الأحداث التي توجبهما فيما إذا شككنا في شيء منها.

(ونحو ذلك) مثل : عدم حليّة هذه المرأة لهذا الرجل بهذا العقد المشكوك صحته وغيرها.

هذا (ولا خلاف في كون) الاستصحاب (الوجودي محل النزاع) بين العلماء في انه هل هو حجة أو ليس بحجة؟.

(وأمّا) الاستصحاب (العدميّ فقد مال الاستاذ) شريف العلماء (قدس الله سره ، الى عدم الخلاف فيه) وانه حجة قطعا ، وذلك (تبعا لما حكاه عن استاذه : السيّد صاحب الرياض : من دعوى الاجماع على اعتباره) أي : على اعتبار الاستصحاب (في العدميات) فقط.

١٢٧

واستشهد على ذلك ، بعد نقل الاجماع المذكور ، باستقرار

سيرة العلماء على التمسك بالاصول العدمية ، مثل : أصالة عدم القرينة ، والنقل ، والاشتراك ، وغير ذلك ، وببنائهم هذه المسألة على كفاية العلّة المحدثة للابقاء.

أقول : ما استظهره قدس‌سره

______________________________________________________

(واستشهد) الاستاذ (على ذلك) أي : على عدم الخلاف في حجية الاستصحاب في العدميات (بعد نقل الاجماع المذكور) عن استاذه : (باستقرار سيرة العلماء على التمسك بالاصول العدمية ، مثل : أصالة عدم القرينة ، و) عدم (النقل ، و) عدم (الاشتراك ، وغير ذلك) فإن سيرتهم على التمسك بهذه الاصول العدمية تدل على عدم الخلاف في جريان الاستصحاب في العدميات.

(و) استشهد الاستاذ أيضا (ببنائهم هذه المسألة على كفاية العلّة المحدثة للابقاء) أي : إنهم اختلفوا في ان العلّة المحدثة كافية في الابقاء أو ليست بكافية ، فإذا تنجس الماء ـ مثلا ـ بسبب التغيّر ثم زال تغيّره من نفسه ، فهل تبقى النجاسة لأن العلّة المحدثة للنجاسة وهي التغيّر كافية في ابقاء النجاسة ولو زال التغيّر؟ قال بعض : نعم ، لأن العلة المحدثة كافية للبقاء ، وقال بعض : لا ، لأن العلة المحدثة ليست كافية للبقاء.

هذا ، ومن المعلوم : ان هذا الكلام مختص بالوجوديات ، لأنّ العدم كما عرفت : لا يحتاج الى علّة حتى يبحث : في كون علّة العدم المحدثة للعدم هل هي مبقية للعدم أو ليست بمبقية؟ فإن العدم ليس بشيء حتى يكون علة أو معلولا ، أو وصفا أو موصوفا ، أو ما أشبه ذلك من أوصاف الوجوديات.

(أقول : ما استظهره) الاستاذ (قدس‌سره) من عدم الخلاف في العدميات

١٢٨

لا يخلو عن خفاء.

أما دعوى الاجماع فلا مسرح لها في المقام ،

مع ما سيمرّ بك من تصريحات كثيرة بخلافها ، وإن كان يشهد لها ظاهر التفتازاني في شرح الشرح ، حيث قال : «إنّ خلاف الحنفية المنكرين للاستصحاب إنّما هو في الاثبات دون النفي الأصلي».

______________________________________________________

(لا يخلو عن خفاء ، أما دعوى الاجماع فلا مسرح لها) أي : لهذه الدعوى (في المقام).

وإنّما لا مسرح لها هنا لوضوح : أن الاجماع إنّما هو حجة في الشرعيات لا في العقليات وجريان الاستصحاب في العدم أو عدم جريانه فيه من باب العقل لا من باب الشرع (مع ما سيمرّ بك من تصريحات كثيرة بخلافها) أي : بخلاف هذه الدعوى ، فأين الاجماع في المسألة؟.

والحاصل : ان الاجماع مخدوش صغرى : بوجود المخالف ، وكبرى : بأن المسألة ليست من المسائل التي يكون الاجماع فيها حجة (وإن كان يشهد لها) أي : لهذه الدعوى أيضا (ظاهر التفتازاني في شرح الشرح) فإن ابن الحاجب كتب كتابا في الاصول وشرحه العضدي ، وشرح التفتازاني شرح العضدي.

وكيف كان : فإن ظاهر التفتازاني يشهد لدعوى الاجماع (حيث قال : «إنّ خلاف الحنفية المنكرين للاستصحاب إنّما هو في الاثبات دون النفي الأصلي» (١)) أي : إنهم مختلفون في الاستصحاب في الوجوديات ، أمّا الاستصحاب في العدميات فلا خلاف منهم فيه.

هذا ، ولعل مراده بالنفي الأصلي ما أشرنا اليه : من أصالة النفي ، فإن الأصل نفي

__________________

(١) ـ تعليقة شرح مختصر الاصول : ص ٢٨٤.

١٢٩

وأمّا سيرة العلماء : فقد استقرّت في باب الألفاظ على التمسك بالاصول الوجودية والعدمية كلتيهما.

قال الوحيد البهبهاني في رسالته الاستصحابية ، بعد نقل القول بانكار اعتبار الاستصحاب مطلقا عن بعض وإثباته عن بعض ، والتفصيل عن بعض آخر ،

______________________________________________________

التكليف عن الانسان حتى يثبت عليه التكليف ، كما ان الأصل في الأشياء العدم والنفي أيضا.

(وأمّا سيرة العلماء : فقد استقرّت في باب الألفاظ على التمسك بالاصول الوجودية والعدمية كلتيهما) معا ، ومن المعلوم : ان الأصل في باب الألفاظ ، يراد به : الظهور لا الاستصحاب الاصطلاحي.

وإنّما يراد به الظهور لأن العلماء في باب الألفاظ يقولون : الأصل بقاء المعنى الأوّل وهو من الاصول الوجودية ، فإذا كان للفظ معنى ثم شككنا في أنه هل تغيّر عن ذلك المعنى أو لم يتغيّر؟ فالظاهر أنه باق على ذلك المعنى ، وهكذا بالنسبة الى الاصول العدمية مثل : أصالة عدم القرينة ، وعدم المخصّص ، وعدم الناسخ ، وما أشبه ذلك.

والحاصل : إن حجية الاصول اللفظية ليست مبتنية على حجية الاستصحاب ، بل من باب الظهور النوعي الذي يعتمده أهل اللسان ، بلا فرق بين الاصول الوجودية والاصول العدمية ، ويشهد لذلك كلام المحقق البهبهاني كما نقله المصنّف بقوله : (قال الوحيد البهبهاني في رسالته الاستصحابية) التي كتبها في الاستصحاب (بعد نقل القول بانكار اعتبار الاستصحاب مطلقا عن بعض) حيث قال بعدم حجيته مطلقا (وإثباته عن بعض) حيث قال بحجيته مطلقا (والتفصيل عن بعض آخر) حيث قال

١٣٠

ما هذا لفظه :

«لكنّ الذي نجد من الجميع حتى من المنكر مطلقا ، أنّهم يستدلّون بأصالة عدم النقل ، فيقولون : الأمر حقيقة في الوجوب عرفا ، فكذا لغة ، لأصالة عدم النقل. ويستدلّون بأصالة بقاء المعنى اللغوي ، فينكرون الحقيقة الشرعية الى غير ذلك ، كما لا يخفى على المتتبع» ، انتهى.

وحينئذ : فلا شهادة

______________________________________________________

بحجيّة بعض الاستصحاب دون بعض.

قال الوحيد (ما هذا لفظه : «لكنّ الذي نجد من الجميع حتى من المنكر مطلقا) أي : القائل بأن الاستصحاب ليس بحجة اطلاقا نرى (أنّهم يستدلّون بأصالة عدم النقل) ـ مثلا ـ بالنسبة الى الاصول العدمية (فيقولون : الأمر حقيقة في الوجوب عرفا ، فكذا لغة لأصالة عدم النقل) لأنه لو نقل اللفظ من معناه السابق الى معنى جديد لكان على هذا النقل دليل.

(ويستدلّون بأصالة بقاء المعنى اللغوي) ـ مثلا ـ بالنسبة الى الاصول الوجودية ، وذلك فيما إذا شك في بقاء المعنى اللغوي للفظ وعدم بقائه (فينكرون الحقيقة الشرعية) لأن الأصل بقاء المعنى اللغوي للصلاة ـ مثلا ـ وبقاؤه يقتضي عدم وجود حقيقة شرعية.

(الى غير ذلك ، كما لا يخفى على المتتبع» (١) ، انتهى) كلام الوحيد البهبهاني.

(وحينئذ) أي : حين ظهر من كلام الوحيد : أن الاصول اللفظية وجودية كانت أو عدمية منوطة بالظهور حتى من المنكر للاستصحاب مطلقا (فلا شهادة

__________________

(١) ـ الرسالة الاستصحابية : مخطوط.

١٣١

في السيرة الجارية في باب الألفاظ على خروج العدميات.

وأمّا استدلالهم على إثبات الاستصحاب باستغناء الباقي عن المؤثر الظاهر الاختصاص بالوجودي ـ فمع أنّه معارض باختصاص بعض أدلّتهم الآتي بالعدمي ،

______________________________________________________

في السيرة الجارية في باب الألفاظ على خروج العدميات) عن محل الخلاف في باب الاستصحاب ، فإن العدميّات في باب الاستصحاب لا تزال محل خلاف وإن كانت العدميّات في باب الألفاظ محل وفاق.

وإنّما لا شهادة للسيرة الجارية هناك على ما نحن فيه ، لأن هنا بابين لا باب واحد : باب مرتبط بالألفاظ وجرت عليه السيرة ، وهو الظهورات ، وباب مرتبط بالاستصحاب ولم تجر عليه السيرة وهو الاستصحاب.

(وأمّا استدلالهم على إثبات الاستصحاب باستغناء الباقي عن المؤثر الظاهر الاختصاص بالوجودي) على ما عرفت : من إن ظهور هذا الكلام إنّما هو في الأمر الوجودي ، فلا يشمل الأمر العدمي ، لأن الوجود هو المحتاج الى المؤثر دون العدم ، لكنه لا يكون دليلا أيضا على خروج العدميات عن محل الخلاف وذلك لما يلي :

أولا : (فمع أنّه معارض باختصاص بعض أدلّتهم الآتي) ذكرها (بالعدمي) مثل قولهم : إن الاستصحاب لو كان حجة لوجب ترجيح بيّنة المنكر لكونها مؤيدة بأصالة العدم ، فإنه لو كان اختصاص بعض أدلتهم بالوجوديات ، لتعارض هذا الاستدلال مع اختصاص بعض أدلتهم الاخرى بالعدميات ، فيتساقطان ، فلا يكون الدليل الوجودي سببا لا خراج الاستصحاب العدمي عن محل الخلاف.

١٣٢

وبأنّه يقتضي أن يكون النزاع مختصا بالشك من حيث المقتضي لا من حيث الرافع ـ

______________________________________________________

ثانيا : (وبأنّه يقتضي أن يكون النزاع مختصا بالشك من حيث المقتضي) وذلك كالشك في بقاء النجاسة للماء الذي زال تغيّره من نفسه ، فإن القائل باستغناء الباقي عن المؤثر يرى وجود المقتضي للنجاسة فيستصحب النجاسة ، بينما القائل بعدم استغناء الباقي عن المؤثر وإنه لا بد من العلة المبقية ، يرى عدم وجود المقتضي للنجاسة فلا يستصحب النجاسة.

إذن : فيكون النزاع على هذا مختصا بصورة الشك في المقتضي و (لا) يشمل صورة الشك (من حيث الرافع) وذلك كالشك في بقاء الطهارة ، فإن الطهارة مما إذا وجدت اقتضت البقاء إلّا أن يزيلها رافع ، فلا شك فيه حينئذ من حيث المقتضي حتى يكون مشمولا للنزاع.

وعليه : فإن الشك قد يكون في المقتضي ، وقد يكون في الرافع ، فإذا أوقدنا السراج ـ مثلا ـ أول الليل ، وشككنا في بقاء إنارته منتصف الليل ، فإن الشك المذكور قد يكون من باب الشك في المقتضي : بأن لا نعلم هل إن زيته كان بمقدار يبقى الى الصباح أم لا؟ وقد يكون من باب الشك في الرافع : بأن نعلم أن زيته كان بمقدار يبقى الى الصباح ، لكن لا نعلم هل ان ريحا هبّت فأطفأته أم لا؟ وهذا بالنسبة الى العرفيات.

أما بالنسبة الى الشرعيات فكذلك ، فإنه قد يكون الشك ، فيها من باب الشك في المقتضي ، كما مثّلنا له بالماء المتغيّر الذي زال تغيّره من نفسه ، حيث لا نعلم هل إن التغيّر يقتضي بقاء النجاسة حتى بعد زواله أم لا؟ وقد يكون من باب الشك في الرافع ، كما مثلنا له بالشك في بقاء الطهارة ، حيث نعلم أن الطهارة إذا ثبتت

١٣٣

يمكن توجيهه أيضا بأنّ الغرض الأصلي هنا لمّا كان هو التكلّم في الاستصحاب الذي هو من أدلّة الأحكام الشرعيّة ، اكتفوا بذكر ما يثبت الاستصحاب الوجودي ،

______________________________________________________

دامت ، لكن نشك في بقائها من جهة إنّا نشك في أنه هل حدث رافع أم لم يحدث؟.

وكيف كان : فإن الدليل المذكور لو تم كان سببا لاختصاص النزاع بالشك في المقتضي لا في الشك في الرافع ، لأنّ في مورد الشك في الرافع لا معنى للبحث في أن الباقي مستغن في بقائه عن المؤثّر أم لا ، إذ وجود المؤثّر مقطوع البقاء فيه فإن الوضوء والغسل يؤثّران في الطهارة ما لم يعرض رافع ، فيكون الاستصحاب فيه متفقا عليه ، والحال أنه ليس الاستصحاب فيه متفقا عليه عند الجميع.

وإن شئت قلت : أن وجه اختصاص النزاع على هذا في الشك في المقتضي دون الشك في الرافع هو : انه مع الشك في الرافع لا يتفاوت الحال بين القول باحتياج الباقي الى المؤثر وبين القول بعدمه ، إذ الشك في الرافع إنّما هو بعد القطع بوجود المقتضي ، فالقول باحتياج الباقي الى المؤثر لا يمنع من اعتبار الاستصحاب فيه.

ثالثا : أنه بالاضافة الى ذلك (يمكن توجيهه أيضا بأنّ الغرض الأصلي هنا) في باب الاستصحاب (لمّا كان هو التكلّم في الاستصحاب الذي هو من أدلّة الأحكام الشرعيّة ، اكتفوا بذكر ما يثبت الاستصحاب الوجودي) أي : اكتفى الاصوليون بذكر ما يثبت الاستصحاب الوجودي بسبب استغناء الباقي عن المؤثّر ، وإلّا فكلامهم في الأعم من الاستصحاب الوجودي والاستصحاب العدمي ، ومن المعلوم : ان الغالب في الأحكام الشرعية هي الوجودات لا الأعدام.

١٣٤

مع أنّه يمكن أن يكون الغرض : تتميم المطلب في العدمي بالاجماع المركب ، بل الأولويّة ، لأنّ الموجود إذا لم يحتج في بقائه الى المؤثّر ، فالمعدوم كذلك بالطريق الأولى.

______________________________________________________

رابعا : (مع أنّه يمكن أن يكون الغرض : تتميم المطلب في العدمي بالاجماع المركب) إذ بعضهم قال بحجية الاستصحاب في الوجودي والعدمي مطلقا ، وبعضهم قال بعدم حجية الاستصحاب في الوجودي والعدمي مطلقا ، فإذا ثبت لدينا حجية الوجودي يلزم أن نقول بحجية العدمي أيضا ، وإلّا لزم التفصيل بين حجية الوجودي وعدم حجية العدمي ، وهذا خرق للاجماع المركب.

خامسا : (بل) يمكن تتميم المطلب في العدمي بدليل (الأولويّة ، لأنّ الموجود إذا لم يحتج في بقائه الى المؤثّر) لأن المفروض : كفاية العلة المحدثة في بقاء المعلول وإن انتفت العلة ، كالماء المتغيّر إذا زال تغيّره (فالمعدوم كذلك) لم يحتج في بقائه على حالة العدم الى المؤثر ، وذلك (بالطريق الأولى) لأن العدم خفيف المئونة بخلاف الوجود.

وبهذا ظهر : أن المصنّف قد أجاب عن استدلالهم لاثبات الاستصحاب باستغناء الباقي عن المؤثر بخمسة أجوبة أثبت من خلالها عدم إفادة استدلالهم خروج العدميات عن محل النزاع والأجوبة هي كالتالي :

الأوّل : بقوله : فمع إنه معارض.

الثاني : بقوله : وبأنه يقتضي أن يكون.

الثالث : بقوله : يمكن توجيهه.

الرابع : بقوله : مع إنه يمكن أن يكون.

الخامس : بقوله : بل الأولوية.

١٣٥

نعم ، ظاهر عنوانهم للمسألة باستصحاب الحال وتعريفهم له ظاهر الاختصاص بالوجودي ، إلّا أنّ الوجه فيه بيان الاستصحاب الذي هو من الأدلّة الشرعية للأحكام.

ولذا عنونه بعضهم بل الأكثر : باستصحاب حال الشرع.

وممّا ذكرنا

______________________________________________________

الى هنا ثبت أن عنوانهم الاستصحاب أعم من الوجودي والعدمي.

(نعم ، ظاهر عنوانهم للمسألة باستصحاب الحال وتعريفهم له) بأنه إبقاء ما كان ونحوه انّه (ظاهر الاختصاص بالوجودي) لأن «الحال» لا يكون للعدم وإنّما يكون للموجود ، كما إن «ما كان» ظاهر في ما وجد سابقا ، وإلّا فإن العدم لا يسمّى «ما كان».

(إلّا أنّ) هذا أيضا لا يكون دليلا على إرادتهم استصحاب الوجود فقط ، وخروج العدميات عن محل الخلاف ، وذلك لأن (الوجه فيه) أي : في عنوانهم الاستصحاب بلفظ الحال ، وتعريفه بأنه «ابقاء ما كان» إنّما هو لأجل (بيان الاستصحاب الذي هو من الأدلّة الشرعية للأحكام) وقد عرفت : أن الأحكام الشرعية على الأغلب وجوديات وإن كان قسم منها عدميات مثل عدم الأكل ، وعدم الشرب ، وعدم الجماع ، بالنسبة الى الصوم والصلاة ، والاعتكاف ، والإحرام.

(ولذا عنونه بعضهم بل الأكثر : باستصحاب حال الشرع) مما يظهر منه : أن مقصودهم الاستصحاب الذي هو من أدلة الأحكام الشرعية.

(وممّا ذكرنا) : من أنهم لا يريدون نفي الاستصحاب العدمي ، بل يريدون اثبات الاستصحاب الذي هو دليل للأحكام الشرعية الغالب كونها وجوديات

١٣٦

يظهر عدم جواز الاستشهاد على اختصاص محل النزاع بظاهر قولهم في عنوان المسألة ب «استصحاب الحال» في الوجودي ، وإلّا لدلّ تقييد كثير منهم العنوان ب «استصحاب حال الشرع» على اختصاص النزاع بغير الامور الخارجيّة.

وممّن يظهر منه : دخول العدميّات في محلّ الخلاف

______________________________________________________

(يظهر عدم جواز الاستشهاد على اختصاص محل النزاع) بالأمور الوجودية دون العدمية ، وذلك استشهادا (بظاهر قولهم في عنوان المسألة ب «استصحاب الحال») فإن هذا العنوان لا يدل على اختصاص الخلاف (في الوجودي) فقط.

(وإلّا) بأن كان ذكرهم استصحاب الحال في العنوان ظاهرا في قصدهم الوجودي في قبال العدمي (لدلّ تقييد كثير منهم العنوان ب «استصحاب حال الشرع» على اختصاص النزاع بغير الامور الخارجيّة) من الشك في الموضوعات ، فإن الموضوعات ليست من حال الشرع.

والحاصل : إن محل النزاع أعمّ من الاستصحاب الوجودي والعدمي ، والحكمي والموضوعي ، وعنوانهم استصحاب الحال إنّما هو من جهة أن العمدة بيان الاستصحاب الوجودي المثبت للحكم الشرعي الكلّي ، لا أن مرادهم اخراج الاستصحاب العدمي عن محل النزاع.

كما إن عنوانهم حال الشرع في باب الاستصحاب أيضا من جهة أن قصدهم غالبا هو استصحاب الأحكام ، لا أنهم يريدون إخراج الاستصحاب الموضوعي عن محل النزاع ، فيكون قد روعي بذلك الغلبة في التعريفين ، تعريف الاستصحاب بالوجودي ، وتعريف الاستصحاب بحال الشرع.

هذا (وممّن يظهر منه : دخول العدميّات في محلّ الخلاف) وأنه هل يجري

١٣٧

الوحيد البهبهاني فيما تقدّم منه ، بل لعله صرّح في ذلك ، بملاحظة ما ذكره قبل ذلك في تقسيم الاستصحاب.

وأصرح من ذلك في عموم محل النزاع استدلال النافين في كتب الخاصة والعامة : بأنّه لو كان الاستصحاب معتبرا لزم ترجيح

______________________________________________________

فيها الاستصحاب أم لا ، كما اختلفوا في أنه هل يجري الاستصحاب في الوجوديات أم لا؟ هو : (الوحيد البهبهاني فيما تقدّم منه) أي : من الوحيد حيث إنه نقل إنكار بعضهم للاستصحاب مطلقا ، وإثبات بعضهم للاستصحاب مطلقا ، وتفصيل بعضهم.

وإنّما يظهر من هذا الكلام ذلك ، لأن مثبت الاستصحاب مطلقا يثبته في الوجودي والعدمي والحكمي والموضوعي ، كما إن المنكر له مطلقا ينكره في جميع هذه الامور الأربعة ، والمفصّل يفصّل باثبات الاستصحاب في بعض الأربعة دون بعض.

(بل لعله صرّح في ذلك) أي : في دخول العدميات في محل الخلاف أيضا ، وذلك (بملاحظة ما ذكره قبل ذلك في تقسيم الاستصحاب) فإنه رحمه‌الله قسّمه أولا الى العدمي والوجودي والحكمي والخارجي. مما يظهر منه أن قوله : مطلقا في الاثبات ، ومطلقا في النفي ، شامل للوجودي والعدمي والحكمي والموضوعي.

(وأصرح من ذلك) أي : من كلام الوحيد (في عموم محل النزاع) وشموله للاستصحاب الوجودي والعدمي معا (استدلال النافين) للاستصحاب مطلقا (في كتب الخاصة والعامة : بأنّه لو كان الاستصحاب معتبرا لزم) عند تعارض البيّنتين : بيّنة تقول بأن الدار لزيد ، وأخرى تقول بأن الدار ليست لزيد (ترجيح

١٣٨

بيّنة النافي ، لاعتضاده بالاستصحاب ؛ واستدلال المثبتين ـ كما في المنية ـ بأنّه لو لم يعتبر الاستصحاب لانسدّ باب استنباط الأحكام من الأدلة ، لتطرّق احتمالات فيها لا يندفع إلّا بالاستصحاب.

وممّن أنكر الاستصحاب في العدميات : صاحب المدارك ، حيث أنكر اعتبار استصحاب عدم التذكية الذي تمسّك به الأكثر لنجاسة الجلد

______________________________________________________

بيّنة النافي ، لاعتضاده بالاستصحاب) الذي هو أصالة العدم ، فإن الاستصحاب في العدميات لو كان خارجا عن محل الخلاف لما استطاع هؤلاء نفيه والاستدلال على ذلك.

(واستدلال المثبتين) للاستصحاب مطلقا (كما في المنية) تأليف عميد الدين : (بأنّه لو لم يعتبر الاستصحاب) مطلقا حتى في العدميات (لانسدّ باب استنباط الأحكام من الأدلة).

وإنّما ينسد باب استنباط الأحكام (لتطرّق احتمالات فيها) أي : في تلك الأحكام : من وجود التخصيص ، أو التقييد ، أو النسخ ، أو النقل ، أو الإضمار ، أو الاشتراك ، أو غير ذلك مما (لا يندفع) شيء منها (إلّا بالاستصحاب) أي :

باستصحاب العدم فيها ، كاستصحاب عدم التخصيص ، وعدم التقييد ـ مثلا ـ فإن الاستصحاب في العدميات لو كان محل وفاق لما احتاج هؤلاء الى اثباته والاستدلال على ذلك.

والحاصل : انه ظهر من استدلال المثبتين للاستصحاب ، وكذا من استدلال النافين للاستصحاب : أن الاستصحاب العدمي هو محل البحث والنزاع أيضا.

هذا (وممّن أنكر الاستصحاب في العدميات : صاحب المدارك ، حيث أنكر اعتبار استصحاب عدم التذكية الذي تمسّك به الأكثر لنجاسة الجلد

١٣٩

المطروح.

وبالجملة : فالظاهر : أنّ المتتبّع يشهد بأنّ العدميات ليست خارجة عن محل النزاع ، بل سيجيء ـ عند بيان أدلة الأقوال ـ

______________________________________________________

المطروح) وكذا في اللحم المطروح بلا عامة التذكية ، فإن الأكثر عند الشك في التذكية وعدمها يتمسكون بأصالة عدم التذكية ويرتبون على ذلك : عدم حلّ شيء مما تحلّه الحياة من ذلك الحيوان ، لأن الحيوان إنّما يكون محلّلا إذا ذكّي ، فإذا أجرينا استصحاب عدم التذكية يكون الحيوان محرّما ، فأنكر المدارك هذا الاستصحاب معلّلا له بأمرين :

أولا بعمد اعتبار الاستصحاب في العدميات ولذا لا نتمكن من استصحاب عدم التذكية.

ثانيا : بأن هذا الاستصحاب معارض باستصحاب عدم الموت حتف أنفه ، حيث جعل التذكية والموت حتف الأنف ضدّين ، ومن المعلوم : أن عدم أحد الضدّين لا يثبت الضدّ الآخر ، فإن أصل العدم يجري في هذا ويجري في ذاك ، فيتساقطان بالتعارض.

والحاصل : أن إنكار المدارك للاستصحاب العدمي من جهة ، واثبات غيره للاستصحاب العدمي من جهة أخرى ، يدل على أن الاستصحاب العدمي أيضا محل نزاع بين الاصوليين إثباتا ونفيا ، كما أن الاستصحاب الوجودي أيضا كذلك.

(وبالجملة : فالظاهر : أنّ المتتبّع) لكلام الفقهاء والاصوليين (يشهد بأنّ العدميات ليست خارجة عن محل النزاع) في باب الاستصحاب.

(بل سيجيء ـ عند بيان أدلة الأقوال ـ) المختلفة في باب الاستصحاب

١٤٠