الوصائل إلى الرسائل - ج ٢

آية الله السيد محمد الشيرازي

الوصائل إلى الرسائل - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة عاشوراء للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7263-01-5
ISBN الدورة:
964-7263-04-X

الصفحات: ٤٠٠

١
٢

٣

٤

الوصائل

الى

الرسائل

المقصد الثاني

في الظنّ

٥
٦

مباحث الظن

والكلام فيه يقع في مقامين :

أحدهما في إمكان التعبّد به عقلا ، والثاني في وقوعه

______________________________________________________

مباحث الظنّ

(المقصد الثاني) من مقاصد الكتاب (في الظن) وهو : الطرف الراجح من الاحتمال قبل الوصول الى القطع ، ويكون ارفع من الشك ، لان الشك : تساوي الطرفين ـ كما تقدّم في اوّل البحث ـ (والكلام فيه يقع في مقامين) كالكلام في كثير من المباحث المختلف فيها ، اذ هناك ثلاثة امور :

الاول : الواجب ، وهو الذي لا يمكن عدم وجوده.

الثاني المحال ، وهو الذي لا يمكن وجوده.

الثالث : الممكن ، وهو الذي يمكن وجوده كما يمكن عدمه.

والامكان في الثالث على قسمين :

الاول : الامكان بالنظر الى ذات الشيء سواء وجد ، او لم يوجد الى الابد ، مثل ان يملك انسان عادي كل الارض.

الثاني : الامكان بمعنى انه هل وقع ام لا؟.

ومرحلة هذا الثاني يكون بعد مرحلة الاولى ـ كما هو واضح ـ اذ ما لا امكان ذاتي له ، لا امكان وقوعي له بطريق اولى.

وعليه : فيكون (احدهما : في امكان التعبد به) اي بالظن ، فهل يمكن للشارع (عقلا) ان يقول للناس : اعملوا بالظن ، او لا يمكن ذلك؟

(والثاني) بعد الفراغ من النزاع في الامكان ، يكون البحث (في وقوعه) اي

٧

عقلا او شرعا.

المقام الأول :

أمّا الأوّل فاعلم أنّ المعروف هو إمكانه ، ويظهر من الدليل المحكيّ عن ابن قبة ، في استحالة العمل بالخبر الواحد ، عموم المنع لمطلق الظنّ ، فانّه استدلّ على مذهبه بوجهين : «الأوّل : أنّه لو جاز التعبّد بخبر الواحد في الاخبار عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لجاز التعبّد به في الاخبار عن الله تعالى ،

______________________________________________________

هل عبّدنا الشارع بالظن (عقلا) كما قال بعضهم في دليل الانسداد ـ بناء على الحكومة ـ (او شرعا) كما في الظنون الخاصة : كخبر الواحد ، ونحوه ، وكما في دليل الانسداد على الكشف ـ كما يأتي تفصيله ان شاء الله تعالى في مباحث الانسداد.

(اما) البحث (الاول :) وهو هل يمكن التعبد بالظن؟ (فأعلم ان المعروف) بين العلماء(هو امكانه) اي امكان التعبد بالظن (و) لكن (يظهر من الدليل المحكي عن ابن قبة : في استحالة) تجويز الشارع (العمل بالخبر الواحد) انه يرى (عموم المنع ، لمطلق الظن) بما يشمل الخبر الواحد ، وغيره ، مما يفيد انه يرى استحالة التعبد بالظن وانه لا امكان له (فانه استدل على مذهبه بوجهين) هما كالتالي : (الاول : انه لو جاز التعبد بخبر الواحد في الاخبار عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بان قال الشارع ـ مثلا ـ : اذا جاءكم خبر عادل يقول : ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال كذا ، فخذوا بذلك الخبر(لجاز التعبد به) اي بالخبر الواحد(في الاخبار عن الله تعالى) والملازمة واضحة ، لانهما اخبار عن الشريعة ، واطاعة الرسول كاطاعة الله تعالى ، قال سبحانه : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ)(١).

__________________

(١) ـ سورة النساء : الآية ٨٠.

٨

والتالي باطل اجماعا فالمقدم مثله.

والثاني : إن العمل به موجب لتحليل الحرام وتحريم الحلال ، إذ لا يؤمن أن يكون ما أخبر بحلّيّته حراما وبالعكس».

______________________________________________________

(والتالي) وهو : صحة الاخبار عن الله تعالى (باطل اجماعا) لان الخبر عن الله انّما يثبت اذا قطع الانسان بقول المخبر ، وبكونه رسولا من عند الله سبحانه ، او منصوصا عليه بالعصمة من الزلل ، كأئمة أهل البيت عليهم‌السلام في نقلهم الاحاديث القدسية ، حيث قال سبحانه :

(إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)(١).

(فالمقدم) وهو : الاخبار عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالخبر الواحد الظني (مثله) في البطلان.

والحاصل : انه كلما كان امكان التعبد بالخبر عن الله تعالى ـ بدون حصول القطع ـ غير معقول ، كذلك امكان التعبد بالخبر عن المعصوم غير معقول ، والنبي في كلام ابن قبة من باب المثال ، وانّما كان الاخبار عن المعصوم مساويا للاخبار عن الله لاستواء كل منهما في كونه خبر عادل ضابط لا يفيد إلّا الظن النوعي.

(والثاني) من دليلي ابن قبة(: ان) تجويز الشارع (العمل به) اي بالخبر الواحد(موجب لتحليل الحرام وتحريم الحلال اذ) قد يخالف الواقع في اخباره ، فان العادل مهما كان ، فانه لا يكون معصوما عن الخطأ ، والنسيان ، والسهو ، والغلط ، و (لا يؤمن ان يكون ما اخبر بحليته حراما) في الواقع (وبالعكس) بان يكون ما اخبر بحرمته حلالا في الواقع ، ومن المعلوم : ان مثل ذلك ، يوجب تفويت المصلحة الملزمة والالقاء في المفسدة ، وهو من الحكيم سبحانه قبيح ،

__________________

(١) ـ سورة الاحزاب : الآية ٣٣.

٩

وهذا الوجه ـ كما ترى ـ جار في مطلق الظنّ ، بل في مطلق الامارة الغير العلميّة وإن لم يفد الظنّ.

واستدلّ المشهور على الامكان : بأنّا نقطع بأنّه لا يلزم من التعبّد به

______________________________________________________

ومثله لا يصدر منه تعالى ، اذ فاعل القبيح اما يفعله لجهله بقبحه ، أو لاحتياجه اليه ، او لخبث فيه ، وكل ذلك محال عليه سبحانه ، فانه عالم غني منزه.

(وهذا الوجه) وهو لزوم تحليل الحرام وعكسه (كما ترى) غير مختص بالخبر بل (جار في مطلق الظنّ) من اي طريق حصل من الغير ، او الشهرة ، والاجماع المنقول ، أو الاستصحاب ، وغيرها ، (بل) هو جار(في مطلق الامارة غير العلمية) التي لا تفيد العلم (وان لم يفد الظن) فان كلامنا ليس فيما يفيد الظن ، بل في الاعم مما يفيده او لا يفيده ، فالبراءة وأصل الطهارة ، والحل ، وحمل فعل الشخص على الصحيح ، والسوق ، وأرض الاسلام ، وغيرها من امثال القرعة : وقاعدة العدل ، كلها مما لا يؤمن تحليلها الحرام ، وبالعكس.

ولا يخفى : ان المحذور في جعل الحكم الظاهري : امور متعددة ـ لم يذكر منها الّا ما تقدّم ـ مثل ـ انه يستلزم جمع المثلين ، والضدين ، والمصلحة والمفسدة ، والارادة والكراهة ، والمحبوبية والمبغوضية ، كما سيأتي بعض الكلام فيها ان شاء الله تعالى.

(واستدل المشهور على الامكان) في قبال ابن قبة بامور :

الأول : الوقوع خارجا ، فان ادل دليل على الشيء ، وقوعه في الخارج ، فاذا علمنا ان الشارع حكيم ، ورأينا انه جعل الخبر الواحد وغيره طريقا إلى احكامه ، فانه يدل ذلك على امكان التعبد من الحكيم بالظن.

الثاني : (بانا نقطع) قطعا وجدانيا(بانه لا يلزم من التعبد به) اي بالظن

١٠

محال.

وفي هذا التقرير نظر ، إذ القطع بعدم لزوم المحال في الواقع موقوف على إحاطة العقل بجميع الجهات المحسّنة والمقبّحة ، وعلمه بانتفائها ، وهو غير حاصل فيما نحن فيه.

فالأولى أن يقرّر هكذا : إنّا لا نجد في عقولنا بعد التأمّل ما يوجب الاستحالة ، وهذا طريق يسلكه العقلاء في الحكم بالامكان.

______________________________________________________

(محال) لأنه قد يكون الشيء بالنظر إلى ذاته محالا ، كالجمع بين النقيضين ، وقد يكون مستلزما للمحال ، كالتعبد بالظن ، فانه ـ على قول ابن قبة ـ مستلزم للمحال ، وان لم يكن بنفسه محالا.

(و) لا يخفى ما(في هذا التقرير) الّذي أقامه المشهور دليلا على الامكان من (نظر) واضح (اذ القطع بعدم لزوم المحال) من التعبد بالظن (في الواقع) الّذي محل البحث (موقوف على احاطة العقل بجميع الجهات المحسّنة والمقبّحة ، وعلمه) اي العقل (بانتفائها) اي بانتفاء الجهات المقبّحة(وهو) اي العلم بالانتفاء بعد الاحاطة ممّا لا يتسنى لغير المعصوم ، فهو لنا(غير حاصل فيما نحن فيه) لاحتمال ان يكون هناك جهة للقبح ، لم نحط بها علما.

وعلى هذا(فالأولى) اولويّة لزومية ، من قبيل قوله تعالى : (أَوْلى لَكَ فَأَوْلى)(١) فان معنى التفضيل منسلخ منه ، كما في قول الفقهاء : الاحوط والأقوى وما اشبه (ان يقرر) الامكان (هكذا) وهو : (انا لا نجد في عقولنا ـ بعد التأمل ـ) في الاسباب والمسبّبات (ما يوجب الاستحالة) للتعبد بالظن (وهذا) اي عدم وجداننا ما يوجب الاستحالة(طريق يسلكه العقلاء في) باب (الحكم بالامكان)

__________________

(١) ـ سورة القيامة : الآية ٣٤.

١١

والجواب عن دليله الأوّل :

______________________________________________________

فان العقلاء ـ مثلا ـ يحكمون بعدم استحالة ان يوجد حيوان له اربعة رءوس ، وان يكون جبل من ذهب ، وان يطول عمر انسان إلى ملايين السنوات ، وذلك لانهم لا يجدون في عقولهم ما يوجب الاستحالة ، فالحكم بالامكان ، لا يحتاج إلى القطع بعدم الاستحالة ، بل إلى عدم وجدان ما يوجب الاستحالة ، والّا فلو كان الامر بحاجة إلى القطع لما امكن للعقلاء ان يحكموا بالامثلة الثلاثة المذكورة وغيرها ، مع ان العقل لا يحيط باسباب الامكان والاستحالة الوقوعية ، وان احاط باسباب الامكان والاستحالة الذاتية؟.

وقول ابن سينا : «ما قرع سمعك من غرائب الزمان ، فذره في بقعة الامكان ، ما لم يذدك عنه واضح البرهان» اشارة إلى ما ذكرناه من انه اذا لم يكن عندك دليل واضح على الاستحالة ، فقل : انه ممكن.

واذا تحققت الكبرى الكلية ، نقول فيما نحن فيه من الصغرى : أن لا نجد على امتناع التعبد بالظن دليلا ، فهو اذا ممكن.

لا يقال : ما ذا تصنعون بدليلي ابن قبة ، الّذين أقامهما على الاستحالة؟.

لانه يقال : (والجواب عن دليله الاول) ـ القائل : بأنه لو جاز التعبد بالاخبار عن المعصوم ، لجاز التعبد بالاخبار عن الله ، والثاني باطل ، فالاول مثله ـ :

إن القياس غير تام ، حيث ان الاخبار عن الله ، يحتاج إلى شهادة الله تعالى للمخبر ، باجراء المعجزة على يديه والّا فكلّ شخص يتمكن ان يدعي : انه نبي من قبله سبحانه ويخبر عنه ، ولذا قال تعالى لرسوله : (قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ)(١).

__________________

(١) ـ سورة الرعد : الآية ٤٣.

١٢

انّ الاجماع إنّما قام على عدم الوقوع ، لا على الامتناع ، مع انّ عدم الجواز قياسا على الاخبار عن الله تعالى ، بعد تسليم صحّة الملازمة ،

______________________________________________________

وليس كذلك نقل الخبر عن المعصوم ، حيث ان كل عادل سمع منهم عليهم‌السلام ، يمكنه ان ينقل الخبر عنهم.

ثم انه لو سلمنا وتنازلنا عن هذا الجواب لكن لنا ان نقول : قياس ابن قبة ليس في محلّه ، وذلك لانه قاس استحالة التعبد بالخبر عن المعصوم ، باستحالة الاخبار عن الله تعالى ، والحال ان الاخبار عن الله ليس مستحيلا ، بل غير واقع ـ وفرق بين ما يكون محالا كالجمع بين النقيضين ، وبين ما يكون ممكنا ، لكنه غير واقع ، كجبل من ذهب ـ فكيف يقول ابن قبة باستحالة التعبّد بالظنّ قياسا على استحالة الاخبار عن الله؟ مع (ان الاجماع) من العقلاء(انّما قام على عدم الوقوع) اي ان الاخبار عن الله غير واقع ـ الّا للانبياء ونحوهم (لا على الامتناع) وان الاخبار عنه تعالى محال.

(مع) ان هناك جوابا آخر عن ابن قبة وهو : انه لو أريد اثبات اصول الدّين وفروعه بالخبر الواحد ، كان الاخبار عن النبي كالاخبار عن الله تعالى ، اما اذا اريد اثبات بعض الفروع بالخبر الواحد ، لم يكن وجه للقياس ، فان الدّين لم يبن على الخبر الواحد ، وانّما بني عليه بعض الفروع فقط.

ومثاله في الماديات ـ حيث ان الامور الاعتبارية تقاس بالامور العينية : انه لو كان هناك خشب لم يتحمل كل البناء فانه لا يلازم عدم تحمله بعض البناء ، ف(ان عدم الجواز) اي امتناع التعبد بالخبر الواحد في الاخبار عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (قياسا على) امتناع (الاخبار عن الله تعالى ، بعد تسليم صحة الملازمة) حيث قد عرفت في الجواب الاول : عدم الملازمة ، وان بينهما فرقا ، اذ الاخبار عن الله غير

١٣

إنّما هو فيما إذا بني تأسيس الشريعة اصولا وفروعا على العمل بخبر الواحد ، لا مثل ما نحن فيه ، ممّا ثبت أصل الدين وجميع فروعه بالأدلّة القطعيّة ، لكن عرض اختفاؤها من جهة العوارض وإخفاء الظالمين للحقّ.

وأمّا دليله الثاني : فقد اجيب عنه تارة بالنقض

______________________________________________________

واقع ، لا انه ممتنع.

وعليه : فعدم الجواز(انّما هو فيما اذا بني تأسيس الشريعة اصولا وفروعا على العمل بخبر الواحد) بأن يقال في القياس : كما لا تبنى الشريعة في الاخبار عن الله اصولا وفروعا على الخبر الواحد ، كذلك لا تبنى الشريعة اصولا وفروعا في الاخبار عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليه (لا في مثل ما نحن فيه ، ممّا ثبت اصل الدّين وجميع فروعه بالادلة القطعية) فان الاصول الخمسة قطعيات عقلا ونقلا ، واصل الصلاة ، والصيام ، والحج ، والخمس ، والزكاة ، والجهاد ، وسائر المعاملات ، والاحكام ، ايضا قطعيات.

نعم (لكن) بعض الفروع غير قطعيّة فيرجع فيها إلى اخبار الآحاد حيث (عرض اختفائها) اي اختفاء تلك الفروع (من جهة العوارض) ككثرة الوسائط بيننا وبين المعصومين عليهم الصلاة والسلام ، وعدم معرفتنا بالرواة وانهم عدول ام لا؟ وما اشبه ذلك مثل (واخفاء الظالمين) والحكام الغاصبين (للحق) حيث احرقوا المكتبات وسعوا في اطفاء نور الحق ، ففي هذا المقدار نحتاج إلى الخبر غير القطعي ، فيكف يقاس هذا ، بالاخبار عن الله تعالى ، الّذي يبنى اصول الدّين وفروعه عليه؟.

(واما دليله الثاني) القائل : بانه لا يمكن التعبد بخبر الواحد ، لان التعبد مستلزم لتحليل الحرام وتحريم الحلال (فقد اجيب عنه تارة : بالنقض) واخرى : بالحل.

١٤

بالامور الكثيرة الغير المفيدة للعلم ، كالفتوى والبيّنة واليد ، بل القطع أيضا ، لأنّه قد يكون جهلا مركّبا ، واخرى بالحلّ بأنّه إن اريد تحريم الحلال الظاهريّ او عكسه فلا نسلّم لزومه ،

______________________________________________________

امّا الاول : فبالنقض (بالامور الكثيرة ، غير المفيدة للعلم) مع ان ابن قبة يلتزم بتلك الامور ، فيقال له : ما هو الفرق بينهما؟ مع ان كليهما مستلزم لتحليل الحرام وتحريم الحلال (كالفتوى ، والبينة ، واليد) فان كلّها حجّة عند ابن قبة ، مع انها قد تخالف الواقع ، فتستلزم التحليل والتحريم (بل) ما ذا يقول ابن قبة في (القطع ايضا) والحال ان العقل يقول بحجيته مع انه قد يخالف الواقع (لانه قد يكون جهلا مركبا) والجهل المركب عبارة : عن الجهل والجهل بالجهل ، فيكون الانسان مشتملا على جهلين ، ولذا يسمّى جهلا مركبا ، وفي قباله : العلم المركب ، كما اذا علم بانه يعلم ـ في قبال غفلته عن علمه ـ.

(واخرى : بالحل ، بانه ان اريد) من تحريم الحلال (تحريم الحلال الظاهري ، او عكسه) أي تحليل الحرام الظاهري (فلا نسلم لزومه) اذ اللازم : ان الحرام الواقعي يكون حلالا ظاهريا ، والحلال الواقعي يكون حراما ظاهريا ، لا ان الحرام والحلال يجتمعان في مرتبة واحدة.

وتوضيحه : ان الشارع حسب المفسدة والمصلحة يقرر المحرمات والواجبات ، ثم لمصلحة التسهيل ، يضع احكاما ثانوية قد تتنافى مع الاحكام الأوليّة ، ففي شرب التتن ـ مثلا ـ مفسدة فيحرمه الشارع اولا حسب الواقع ، لكن يقول ثانيا : اذا لم تعلم بحرمة شيء فهو لك حلال ، والمكلّف حيث لم تصل اليه حرمة التتن يجري الحليّة ، فالتتن حرام واقعي ، وحلال ظاهري ، وفي مثل ذلك لم يجتمع الحرام والحلال في مرتبة واحدة ، بل الحرام في مرتبة الواقع ، والحلال

١٥

وإن اريد تحريم الحلال الواقعيّ ظاهرا ، فلا نسلّم امتناعه.

والأولى أن يقال : إنّه إن أراد امتناع التعبّد بالخبر في المسألة التي انسدّ فيها باب العلم بالواقع ،

______________________________________________________

في مرتبة الظاهر ، ومثل هذين الحكمين لا يتنافيان ، اذ يشترط في التناقض وحدة الموضوع ، فاذا قال الشارع : ان الحرام الواقعي حلال واقعا ، او قال : الحرام الظاهري حلال ظاهرا ، لزم التناقض ، اما اذا جعل لكل منها مرتبة ، فلا تناقض ، كما اذا قال : هذا الشيء في مرتبة بيض ، وفي مرتبة دجاجة.

(وان اريد) ان التعبد بالظن يستلزم (تحريم الحلال الواقعي ظاهرا) وتحليل الحرام الواقعي ظاهرا ، او في مرتبة حلال وفي مرتبة حرام (ف) لزومه وان كان مسلّما ، لكنا(لا نسلّم امتناعه) اذ قد عرفت : انه لا مانع من كون الشيء ، حلالا في مرتبة وحراما في مرتبة اخرى ، فانه لا يستلزم التناقض ولا المحال.

(و) حيث كان هذا الجواب الحلّي عن صاحب الفصول قدس‌سره غير مرضيّ عند المصنّف قدس‌سره قال : (الاولى ان يقال :) في جواب ابن قبة ما سيأتي ، علما بان المصنّف قدس‌سره انّما لم يرتضه لوجوه ممكنة ، كما ان الاقرب ان نقول في جواب الفصول : انه ليس هناك حكمان اصلا ، بل التتن حرام مطلقا ، وانّما المدخن معذور حيث لم يصل الحكم اليه ، فليس هناك حكمان : ظاهري ، وواقعي ، وانّما حكم واقعي فقط ، وقد اجاز الشارع خلافه لمصلحة التسهيل ، قال سبحانه : ـ (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ ، وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)(١) إلى غير ذلك من الآيات والاخبار.

وعليه : فالأولى ان يقال : (انه ان اراد : امتناع التعبد بالخبر) الظنّي (في المسألة ، الّتي انسدّ فيها باب العلم بالواقع) والعلمي ، والمراد : حصول الانسداد

__________________

(١) ـ سورة البقرة : الآية ١٨٥.

١٦

فلا يعقل المنع عن العمل به فضلا عن امتناعه ، إذ مع فرض عدم التمكّن من العلم بالواقع ، إمّا أن يكون للمكلّف حكم في تلك الواقعة ، وإمّا أن لا يكون له فيها حكم ، كالبهائم والمجانين.

فعلى الأوّل : فلا مناص عن إرجاعه إلى ما لا يفيد العلم

______________________________________________________

النوعي الّذي سيأتي البحث فيه ، لا الانسداد الشخصي في مسألة او مسألتين ، وقد نقل ان أول زمان ادّعي فيه الانسداد هو زمان العلامة قدس‌سره ، والانسداد اذا حصل ، دار الامر بين ان يعمل الانسان بالظن ، او الوهم ، او الشك ، ومن المعلوم : لزوم العمل بالاول ، لانه ارجح منهما ، على التفصيل الّذي سوف يأتي ان شاء الله تعالى (فلا يعقل المنع عن العمل به) اي بالظن (فضلا عن امتناعه) كما ادّعاه ابن قبة ، لان الشارع اذا اراد من المكلفين العمل بالتكاليف ، ولم يمكن الاحتياط ، او لم يرده الشارع لانه عسر ، ولم يكن طريق آخر ، انحصر الأمر في ان يعمل المكلّف بالظن ، فان اصاب الواقع فهو مراد الشارع ، وان اخطأ الواقع لا يكون في الخطأ ضرر ، اذ المفروض ان المكلّف في حال الانسداد لا يقدر على اكثر من اتباع الظن ، وتوضيح ان المنع «لا يعقل» ما ذكره بقوله :

(اذ مع فرض عدم التمكن) اي عدم تمكن المكلّف (من العلم) والعلمي (بالواقع) فلا يخلو الامر من انه (اما ان يكون للمكلف حكم) يريده الشارع منه الآن (في تلك الواقعة ، واما ان لا يكون له فيها حكم) فيكون (كالبهائم والمجانين) لكن الثاني مقطوع العدم ، وقد دلّت الادلة الاربعة على عدم رفع التكليف (ف) يبقى الاول.

و (على الأوّل) بان يكون للمكلف حكم (فلا مناص عن ارجاعه) اي لا طريق للشارع اذا اراد احكامه وتكاليفه إلّا بارجاع المكلّف (إلى ما لا يفيد العلم)

١٧

من الاصول والأمارات الظنّيّة التي منها الخبر الواحد.

وعلى الثاني يلزم ترخيص فعل الحرام الواقعيّ وترك الواجب الواقعيّ ، وقد فرّ المستدلّ منهما.

فان التزم أنّ مع عدم التمكّن من العلم لا وجوب ولا تحريم ، لأنّ الواجب والحرام ما علم بطلب فعله او تركه.

______________________________________________________

والقطع (من الاصول) العملية كالاستصحاب ، والبراءة ، والتخيير ، والاحتياط(والامارات الظنية الّتي منها الخبر الواحد) والشهرة والاجماع المنقول وما اشبه ذلك.

(وعلى الثاني) بان لا يكون للمكلف في حال الانسداد حكم ، وقد قلنا : انه خلاف الضرورة ، لكن على فرض التسليم نقول : (يلزم) من ذلك وقوع ابن قبة فيما فرّ منه ، من : (ترخيص فعل الحرام الواقعي ، وترك الواجب الواقعي) وايهما افضل : ترك المكلّف كل واجب وفعل كل حرام ، أو العمل بالظن ممّا قد يؤدّي إلى ترك بعض الواجب وفعل بعض الحرام؟ (وقد فرّ المستدل) ابن قبة(منهما) اي من تحريم الحلال وتحليل الحرام.

وعليه : (فان) قال ابن قبة : بانه لا تشريع في حال الانسداد للواجب والحرام اصلا وذلك بان (التزم) المستدل (ان مع عدم التمكن من العلم ، لا وجوب ولا تحريم) أصلا ، فلا احكام فعلية ولا احكام غير فعلية ، بان كان في الواقع حكم لكنّه في مرحلة الشأنية فقط.

وانّما نقول بشيء ثالث وهو : لا حكم اصلا(لان الواجب والحرام : ما علم بطلب فعله ، او تركه) فالاحكام مختصة بالعالمين ، اما الجاهلون فلا حكم لهم

١٨

قلنا : فلا يلزم من التعبّد بالخبر تحليل حرام او عكسه.

وكيف كان : فلا نظنّ بالمستدلّ إرادة الامتناع في هذا الفرض ، بل الظاهر

______________________________________________________

اصلا كما هو ظاهر : «رفع ما لا يعلمون» (١) ونحوه.

وقد قال بذلك بعض المصوّبة من العامة(قلنا : فلا يلزم من التعبد بالخبر ، تحليل حرام او عكسه).

ولا يخفى ان ما اشتهر في السنتهم : من تحليل الحرام او تحريم الحلال ، مأخوذ من الخبر المشهور : «حلال محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حلال إلى يوم القيامة ، وحرام محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حرام إلى يوم القيامة» (٢) ، والمراد بالحلال : الاحكام الثلاثة : من الاباحة ، والكراهة ، والاستحباب.

والمراد بالحرام : الحكمان الآخران : وهما الواجب ، حيث ان تركه حرام ، والحرام ، حيث ان فعله حرام.

وانّما سمّي احدهما واجبا مع ان تركه حرام ، والآخر محرما مع ان تركه واجب ، لانه ان كانت المصلحة في الفعل سمّي واجبا ، وان كانت المفسدة في الفعل سمّي حراما ، وقد ذكرنا في بعض مباحث الفقه : انه ليس هناك حكمان في طرفي شيء واحد ، بأن ينشئ الشارع وجوبا في الفعل وحرمة في الترك ، او وجوبا في الترك وحرمة في الفعل.

(وكيف كان : فلا نظن بالمستدل) وهو ابن قبة(ارادة الامتناع) للتعبد بالخبر(في هذا الفرض) فرض الانسداد(بل الظاهر) من كلامه ، وعصره

__________________

(١) ـ تحف العقول : ص ٥٠ ، الخصال : ص ٤١٧ ، التوحيد : ص ٣٥٣ ح ٢٤ ، وسائل الشيعة : ج ١٥ ص ٣٦٩ ب ٥٦ ح ٢٠٧٦٩.

(٢) ـ بصائر الدرجات : ص ١٤٨ ، الكافي (اصول) : ج ١ ص ٥٨ ح ١٩ (بالمعنى).

١٩

أنّه يدّعي الانفتاح ، لأنّه أسبق من السيّد وأتباعه الذين ادّعوا انفتاح باب العلم.

وممّا ذكرنا : ظهر أنّه لا مجال للنقض عليه بمثل الفتوى ، لأنّ المفروض انسداد باب العلم على المستفتي ، وليس له شيء أبعد من تحريم الحلال وتحليل الحرام من العمل بقول المفتي ؛

______________________________________________________

(انه) قدس‌سره (يدعي الانفتاح) لباب العلم والعلمي ، وان مراده عدم جواز التعبد بالظن في حال الانفتاح ، وانّما كان الظاهر ذلك (لانّه اسبق) زمانا(من السيد) المرتضى قدس‌سره (واتباعه الذين ادعوا انفتاح باب العلم) بل هم ادعوا : ان الاخبار قطعية الصدور ، وقولهم هذا ليس ببعيد ، لانهم كانوا في عصر الغيبة الصغرى ، واوائل الغيبة الكبرى حيث الاختلاط بالنواب الاربعة ، الذين كانوا يتشرفون بلقاء الامام عليه‌السلام ويأخذون منه معظم الاحكام.

(و) على ايّ حال : فانه (ممّا ذكرنا) : من ان مراد ابن قبة هو حال الانفتاح ، لا الانسداد(ظهر : انه لا مجال للنقض عليه) بما ذكره الفصول (بمثل : الفتوى) ونحوه ممّا تقدّم الكلام فيه (لان المفروض : انسداد باب العلم على المستفتي) وانه لا طريق له إلى احكام الله سبحانه ، الّا فتوى المجتهد ، فلا يقاس المستفتي المنسدّ عليه باب العلم ، بالمفتي المنفتح عليه باب العلم ، بان يقال : كما يجوّز ابن قبة الرجوع إلى الفتوى كذلك ان يجوّز الرجوع إلى الظن.

(و) ذلك لانه (ليس له) اي للمستفتي (شيء) من الطرق (ابعد من تحريم الحلال وتحليل الحرام ، من العمل بقول المفتي) اذ الطرق امامه : اما القياس ، او الاستحسان ، او المصالح المرسلة ، او الحدس او ما اشبه ذلك ، وكلها اقرب إلى التحليل والتحريم من قول المفتي الّذي اخذ فتواه من الادلة الاربعة.

٢٠