الوصائل الى الرسائل - ج ٩

آية الله السيد محمد الشيرازي

الوصائل الى الرسائل - ج ٩

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة عاشوراء للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7263-09-0
ISBN الدورة:
964-7263-04-X

الصفحات: ٤٠٠

المتعبّد بها عند الشكّ في المقيّد.

والفرق بين هذا الأصل وبين تلك الاصول الممنوع في هذه الأخبار عن الرجوع إليها وترك المتكافئين ، هو أنّ تلك الاصول عمليّة فرعيّة مقرّرة لبيان العمل في المسألة الفرعيّة عند فقد الدليل الشرعي فيها ، وهذا الأصل مقرّر لاثبات كون الشيء وهو المطلق دليلا وحجّة عند فقد ما يدلّ على عدم ذلك.

______________________________________________________

المتعبّد بها) أي : بهذه الأصالة (عند الشك في المقيّد) حيث قد تقدّم : من التعبد العقلائي في حجية أصالة الاطلاق.

(و) لا يقال : انكم تقدّمون أخبار التخيير على الاصول العملية فيما إذا دار الأمر بينهما ، مع انكم إذا دار الأمر بين أخبار التخيير وبين الاصول اللفظية ، تقدّمون الاصول اللفظية كأصالة الاطلاق على أخبار التخيير ، فهذا الفرق لما ذا؟

لانه يقال : (الفرق بين هذا الأصل) اللفظي (وبين تلك الاصول) العملية (الممنوع في هذه الأخبار عن الرجوع اليها وترك المتكافئين) حيث انه لا نعتمد على الاصول العملية ونقول بتساقط الخبرين المتكافئين (هو) ما أشار اليه بقوله :

(أنّ تلك الاصول) العملية كالبراءة والاحتياط والاستصحاب وما أشبه (عمليّة فرعيّة مقرّرة لبيان العمل في المسألة الفرعيّة عند فقد الدليل الشرعي فيها) فاذا لم يكن هناك دليل شرعي في مسألة عملية كانت الاصول العملية هي المرجع (و) ليس الأمر مع وجود (هذا الأصل) اللفظي كذلك ، فانه (مقرّر لاثبات كون الشيء وهو المطلق دليلا وحجّة) شرعية (عند فقد ما يدلّ على عدم ذلك) الاطلاق من الأدلة المقيدة.

والحاصل : ان الاصول العملية لا تجري إلّا مع فقد الدليل الاجتهادي ، وأخبار

٣٦١

فالتخيير مع جريان هذا الأصل تخيير مع وجود الدليل الشرعي المعيّن لحكم المسألة المتعارض فيها النصّان. بخلاف التخيير مع جريان تلك الاصول ، فانّه تخيير بين المتكافئين عند فقد دليل ثالث في موردهما.

هذا ، ولكن الانصاف : إنّ أخبار التخيير حاكمة على هذا الأصل وإن كان جاريا في المسألة الاصولية ،

______________________________________________________

التخيير تجعل أحد الخبرين المتعارضين دليلا اجتهاديا ، ومعلوم انه لا يبقى مع الدليل الاجتهادي مسرح للاصول العملية ، بينما الاطلاق اللفظي هو بنفسه دليل اجتهادي ، فلا يبقى معه مسرح لأخبار التخيير ، لأنّ أخبار التخيير إنما هي حكم المتحير والاطلاق بنفسه يزيل التحيّر.

إذن : (فالتخيير مع جريان هذا الأصل) اللفظي وهو الاطلاق (تخيير مع وجود الدليل الشرعي) المخرج عن التحيّر ، وحيث لا تحيّر لم يكن التخيير مرجعا ، بل المرجع هو الاطلاق (المعيّن لحكم المسألة المتعارض فيها النصان) فيلزم اسقاط النصين والرجوع إلى المطلق.

(بخلاف التخيير مع جريان تلك الاصول) العملية (فانّه تخيير بين المتكافئين عند فقد دليل ثالث) كالاطلاق ـ مثلا ـ (في موردهما) فيلزم فيه تقديم التخيير على تلك الاصول العملية.

وان شئت قلت : ان الاصول العملية ليست في مرتبة الخبرين المتكافئين ، فلا بد من العمل بأحدهما الذي هو التخيير.

(هذا) تمام الكلام في وجه تقديم المطلق على الخبرين المتكافئين.

(ولكن الانصاف : أنّ أخبار التخيير حاكمة على هذا الأصل) أيضا وهو أصالة الاطلاق (وإن كان) هذا الأصل اللفظي (جاريا في المسألة الاصولية) لا الفرعية.

٣٦٢

كما أنّها حاكمة على تلك الاصول الجارية في المسألة الفرعية ؛ لأنّ مؤداها بيان حجية أحد المتعارضين كمؤدّى أدلة حجّية الاخبار ، فهي دلالة على مسألة اصولية ، وليس مضمونها حكما عمليّا صرفا ، ومن المعلوم حكومتها

______________________________________________________

وإنّما يجري هذا الأصل اللفظي في الاصول لانه يثبت كون المطلق دليلا وحجة ، ومسألة الحجية وعدم الحجية من المسائل الاصولية لا الفرعية ، ومع ذلك فان أخبار التخيير تكون حاكمة عليه (كما أنّها) أي : اخبار التخيير كانت (حاكمة على تلك الاصول) العملية (الجارية في المسألة الفرعية) فان الاصول العملية تجري عند الشك في الفروع كحلية وحرمة شرب التتن ـ مثلا ـ ووجوب وعدم وجوب الدعاء عند رؤية الهلال ، وما أشبه ذلك من المسائل الفرعية التي لا دليل عليها.

والحاصل : إنّ أخبار التخيير حاكمة على الاصول العملية والاصول اللفظية معا ، فتكون أخبار التخيير مقدّمة على المطلقات ، لا ان المطلقات مقدّمة على أخبار التخيير.

وإنما تكون أخبار التخيير مقدمة على المطلقات (لأنّ مؤداها) أي : مؤدى أخبار التخيير (بيان حجية أحد المتعارضين) فيكون مؤدّاها (كمؤدّى أدلة حجّية الاخبار) وكما ان ما دلّ على حجية الخبر الواحد يكون مقدّما على المطلق ، ولذا يقيّدون المطلق بالخبر الواحد ، كذلك ما دل على التخيير يكون مقدّما على المطلق ، فاذا كان مطلق وكان خبران متعارضان يقدّمون التخيير بين الخبرين على ذلك المطلق.

إذن : (فهي) أي : اخبار التخيير يكون لمؤدّاها (دلالة على مسألة اصولية) لانها تثبت حجية أحد الخبرين ، واثبات الحجية وعدم الحجية مسألة اصولية ، فليست أخبار التخيير مسألة فرعية بحتة (وليس مضمونها حكما عمليّا صرفا) حتى يقدّم المطلق عليها (ومن المعلوم : حكومتها) أي : حكومة أخبار التخيير

٣٦٣

على مثل هذا الأصل.

فلا فرق بين أن يرد في مورد هذا الدليل المطلق : «اعمل بالخبر الفلاني المقيّد لهذا المطلق» وبين قوله : «اعمل بأحد هذين المقيّد أحدهما له».

فالظاهر : أنّ حكم المشهور في المقام بالرجوع إلى المطلق ، وعدم التخيير

______________________________________________________

حينئذ (على مثل هذا الأصل) اللفظي وهو الاطلاق.

وعليه : فان أصالة الاطلاق وان كانت تثبت حجية المطلق إلّا انها مشروطة بعدم وجود المقيّد ، فاذا كان هناك خبر يقيّد المطلق قدّم على المطلق ، كذلك أخبار التخيير إذا تعارض خبران وكان هناك مطلق ، قدمت على المطلق.

إذن : (فلا فرق بين أن يرد في مورد هذا الدليل المطلق) مثل : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) (١) دليل يقول : («اعمل بالخبر الفلاني المقيّد لهذا المطلق») مثل : خبر زرارة الدالّ على وجوب جلسة الاستراحة المقيّد لاطلاق الصلاة (وبين قوله : «اعمل بأحد هذين) الخبرين (المقيّد أحدهما له») أي : لاطلاق الصلاة ، وذلك بأن يقول : اعمل بأحد هذين الخبرين المتكافئين الدال أحدهما على وجوب السورة والآخر على عدم وجوب السورة.

(ف) ان قلت : إذن يلزم على قولكم هذا تقديم المتعارضين على المطلق ، فكيف يقول المشهور بسقوط المتعارضين والأخذ بالاطلاق؟.

قلت : (الظاهر : أنّ حكم المشهور في المقام) أي : فيما إذا كان في مسألة خبران متكافئان وكان هناك مطلق أيضا ، فان حكمهم (بالرجوع إلى المطلق وعدم التخيير) بين الخبرين المتكافئين ، لم يكن من باب سقوط المتعارضين

__________________

(١) ـ سورة البقرة : الآية ٤٣.

٣٦٤

مبنيّ على ما هو المشهور فتوى ونصّا من ترجيح أحد المتعارضين بالمطلق ، أو العام ، الموجود في تلك المسألة ، كما يظهر من ملاحظة النصوص والفتاوى.

وسيأتي توضيح ما هو الحقّ من المسلكين في باب التعادل والترجيح إنشاء الله تعالى.

______________________________________________________

والأخذ بالاطلاق ، بل انه (مبنيّ على ما هو المشهور فتوى ونصّا : من ترجيح أحد المتعارضين ب) سبب (المطلق ، أو العام ، الموجود في تلك المسألة) فيكون المطلق ، أو العام ، مرجحا لا مرجعا (كما يظهر من ملاحظة النصوص والفتاوى).

والحاصل من الاشكال والجواب هو : ان أخبار التخيير حاكمة على اصالة الاطلاق وبعد حكومتها عليها لا وجه لحكم المشهور في المقام بالرجوع إلى المطلق ، فانه لا مسرح لأصل الاطلاق بعد وجود أخبار التخيير.

والجواب : ان حكم المشهور في المقام بالرجوع إلى المطلق وعدم عملهم بأخبار التخيير ، مبني على ما هو مشهور بينهم : من ترجيح أحد المتعارضين بسبب مطلق أو عام موجود في تلك المسألة ، فيكون الخبر الموافق للمطلق أو العام راجحا على الخبر المخالف لهما ، فيؤخذ به لارجحيته على المخالف ، فيكون الرجوع إلى المطلق ، أو العام من باب المرجحية ، فلا يبقى معهما مورد لأخبار التخيير ، لأن أخبار التخيير إنما تكون حاكمة في مورد عدم المرجح والمفروض وجود المرجح في المقام.

(وسيأتي توضيح ما هو الحق من المسلكين) أي : كون المطلق هل هو مرجع عند تعارض الخبرين ، أو مرجّح لأحدهما على الآخر ، وذلك (في باب التعادل والترجيح ان شاء الله تعالى) وهو البحث الأخير من الكتاب.

٣٦٥

المسألة الرابعة :

فيما إذا شك في جزئيّة شيء للمأمور به من جهة الشبهة في الموضوع الخارجي ، كما إذا أمر بمفهوم مبيّن مردّد مصداقه بين الأقل والأكثر ، ومنه ما إذا وجب صوم شهر هلالي ـ وهو ما بين الهلالين ـ فشك في أنّه ثلاثون أو ناقص ، ومثل ما أمر بالطهور لأجل الصلاة ، أعني الفعل الرافع للحدث أو المبيح للصلاة ، فشكّ في جزئية شيء للوضوء أو الغسل الرافعين.

______________________________________________________

(المسألة الرابعة) من مسائل دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين : (فيما إذا شك في جزئيّة شيء للمأمور به من جهة الشبهة في الموضوع الخارجي) الذي يلزم فيه استطراق باب العرف ، لا باب الشرع كالذي كان في المسائل الثلاث المتقدمة : من فقدان النص أو اجماله أو تعارضه ، وذلك (كما إذا أمر بمفهوم مبيّن مردّد مصداقه بين الأقل والأكثر) الارتباطيين.

(ومنه) أي : من هذا القسم من الشك (ما إذا وجب صوم شهر هلالي) بسبب النذر ـ مثلا ـ (وهو) أي : الشهر الهلالي مفهوم مبيّن لانه (ما بين الهلالين ، فشك في) مصداقه الخارجي لوجود السحاب في السماء (انّه ثلاثون أو ناقص) فلم يعلم انتهاء الشهر بتسعة وعشرين يوما حتى يفطر غدا ، أو بثلاثين حتى يصوم غدا ، والمفروض : ان الواجب ارتباطي لانّ نذره وحدة واحدة بحيث إذا لم يصم آخر الشهر على تقدير كون الشهر ثلاثين يوما ، لم يف بنذره ويلزمه الحنث والكفارة.

(ومثل : ما أمر بالطهور لأجل الصلاة) فانه مفهوم مبيّن (أعني : الفعل الرافع للحدث ، أو المبيح للصلاة ، فشكّ) في مصداقه الخارجي هل هو الأقل أو الأكثر؟

لانه اشتبه (في جزئية شيء للوضوء أو الغسل الرافعين) بالشبهة الموضوعية ،

٣٦٦

واللازم في المقام الاحتياط ، لأنّ المفروض تنجّز التكليف بمفهوم مبيّن معلوم تفصيلا ، وإنّما الشك في تحقّقه بالأقلّ ، فمقتضى أصالة عدم تحققه وبقاء الاشتغال عدم الاكتفاء به ولزوم الاتيان بالأكثر.

ولا يجري هنا ما تقدّم من الدليل العقلي والنقلي

______________________________________________________

كما إذا شك في اصبعه الزائدة جزء من اليد أم لا؟ أو ان جلدة متدلية في بدنه جزء من البدن أم لا؟.

أمّا من استشكل على المصنّف : بأنّ ما ذكره من مثال الطهور لأجل الصلاة إنما هو مثال للشبهة الحكمية ، فانه مستبعد جدا ان يذكر المصنّف مثالا للشبهة الحكمية في محل الشبهة الموضوعية.

(و) كيف كان : فان (اللازم في المقام الاحتياط) والاتيان بالأكثر (لانّ المفروض : تنجّز التكليف بمفهوم مبيّن معلوم تفصيلا ، وإنّما الشك في تحققه بالأقلّ) فان مفهوم الشهر في المثال الأوّل مبيّن ، كما ان مفهوم الطهور في المثال الثاني مبيّن أيضا ، وإنما الشك في الامور الخارجية الطارئة التي يستطرق فيها باب العرف.

وعليه : (فمقتضى أصالة عدم تحققه) أي : تحقق ذلك المفهوم المبيّن (وبقاء الاشتغال) إذا لم يصم اليوم المشكوك ولم يغسل الجلدة الزائدة بعد تنجّز التكليف هو : (عدم الاكتفاء به ولزوم الاتيان بالأكثر) لانه يكون نظير كما تقدّم : من أمر الطبيب بشرب مسهل الصفراء ، فشك المريض في ان المسهل مركب من خمسة أجزاء أو ستة؟ حيث يرى العقل والعقلاء لزوم الاحتياط بالاتيان بالسادس ، لانه بدون السادس لم يعلم انه أتى بمسهل الصفراء.

هذا (ولا يجري هنا ما تقدّم) في الشبهة الحكمية (من الدليل العقلي والنقلي

٣٦٧

الدالّ على البراءة ، لانّ البيان الذي لا بدّ منه في التكليف قد وصل من الشارع ، فلا يقبح المؤاخذة على ترك ما بيّنه تفصيلا ، فاذا شك في تحققه في الخارج فالأصل عدمه ، والعقل أيضا يحكم بوجوب القطع باحراز ما علم وجوبه تفصيلا ، أعني : المفهوم المعيّن المأمور به ، ألا ترى أنّه لو شك في وجود باقي الأجزاء المعلومة ، كأن لم يعلم أنّه أتى بها أم لا ، كان مقتضى العقل والاستصحاب وجوب الاتيان بها.

______________________________________________________

الدالّ على البراءة).

وإنما لا يجري دليل البراءة هنا (لانّ البيان الذي لا بدّ منه في التكليف قد وصل من الشارع) فالمفهوم حسب الفرض مبيّن ، وإنّما الاشتباه في بعض الامور الخارجية (فلا يقبح المؤاخذة على ترك ما بيّنه تفصيلا) إذا لم يأت بالأكثر.

وعليه : (فاذا شك في تحققه في الخارج فالأصل عدمه) أي : عدم تحقق ذلك المفهوم المبيّن خارجا لو أتى بالأقل.

هذا (والعقل أيضا) أي : كالاستصحاب وقاعدة الاشتغال (يحكم) حكما بالاستقلال (بوجوب القطع باحراز ما علم وجوبه تفصيلا) وما علم وجوبه هو ما فسره المصنّف بقوله : (أعني : المفهوم المعيّن المأمور به) فيلزم حينئذ الاحتياط والاتيان بالأكثر لاحراز ما علم وجوبه.

(ألا ترى : انّه لو شك في وجود باقي الأجزاء المعلومة كأن لم يعلم انّه أتى بها أم لا ، كان مقتضى العقل والاستصحاب : وجوب الاتيان بها) أي : بتلك الأجزاء المعلومة ، فكذا الأجزاء المشكوكة.

وعليه : فاذا لم يعلم انه صام تسعة وعشرين يوما أو أقل ، أو شك في انه مسح رأسه أم لا ، فانه كما يجب الاتيان بالتاسع والعشرين ، وبمسح الرأس الذين هما

٣٦٨

والفارق بين ما نحن فيه وبين الشبهة الحكميّة من المسائل المتقدّمة التي حكمنا فيها بالبراءة ، هو أنّ نفس التكليف فيها مردّد بين اختصاصه بالمعلوم وجوبه تفصيلا وبين تعلقه بالمشكوك.

وهذا الترديد لا حكم له بمقتضى العقل ، لانّ مرجعه إلى المؤاخذة على ترك المشكوك ، وهي قبيحة بحكم العقل.

فالعقل والنقل الدالّان على البراءة ، مبيّنان لتعلّق التكليف لما عداه من أول الأمر في مرحلة الظاهر.

______________________________________________________

من الأجزاء المعلومة كذلك يجب الاتيان بما إذا شك في الثلاثين وفي غسل الجلدة الزائدة الذين هما من الأجزاء المشكوكة.

(والفارق بين ما نحن فيه) من الشبهة الموضوعية حيث قلنا بوجوب الاحتياط والاتيان بالأكثر فيها (وبين الشبهة الحكميّة) حيث قلنا بعدم وجوب الاحتياط والاتيان بالأقل فيها ، وذلك فيما مرّ (من المسائل المتقدّمة التي حكمنا فيها بالبراءة) من فقد النص أو اجماله أو تعارض النصين (هو) ما يلي :

(أنّ نفس التكليف فيها) أي : في الشبهة الحكمية (مردّد بين اختصاصه بالمعلوم وجوبه تفصيلا وبين تعلقه بالمشكوك ، وهذا الترديد لا حكم له بمقتضى العقل ، لانّ مرجعه) إذا قيل بوجوب الاحتياط فيه (إلى المؤاخذة على ترك المشكوك ، وهي) أي : المؤاخذة هنا (قبيحة بحكم العقل) والنقل.

وإنما تقبح المؤاخذة لانه كما قال : (فالعقل والنقل الدالان على البراءة ، مبيّنان لتعلق التكليف لما عداه) أي : لما عدا المشكوك في باب الشبهة الحكمية (من أول الأمر) وذلك (في مرحلة الظاهر) لانّه لما كان نفس المكلّف به من أول الأمر مرددا بين الأقل والأكثر ، حكم العقل والنقل بتعيّن الأقل من الأوّل تعيّنا ظاهريا ،

٣٦٩

وأمّا ما نحن فيه فمتعلّق التكليف فيه مبيّن معلوم تفصيلا ، لا تصرّف للعقل والنقل فيه ، وإنّما الشك في تحققه في الخارج باتيان الأجزاء المعلومة ، والعقل والنقل المذكوران لا يثبتان تحققه في الخارج ، بل الأصل عدم تحققه ، والعقل أيضا مستقلّ بوجوب الاحتياط مع الشك في التحقّق.

______________________________________________________

والتكليف هو العمل بهذا الظاهر فيأتي في الشبهة الحكمية بالأقل ويجري البراءة عن الزائد المشكوك فيه.

(وأمّا ما نحن فيه) من الشبهة الموضوعية : (فمتعلّق التكليف فيه مبيّن) من أول الأمر (معلوم تفصيلا ، لا تصرّف للعقل والنقل فيه) فلا موضع للأصل العقلي أو النقلي بالبراءة عن الزائد في باب الشبهة الموضوعية (وإنما الشك في تحققه في الخارج باتيان الأجزاء المعلومة) إذ بعد الاتيان بالأجزاء المعلومة من دون ذلك الجزء المشكوك فيه يشك انه هل تحقق المكلّف به أم لم يتحقق؟.

هذا (والعقل والنقل المذكوران) الدالان على البراءة (لا يثبتان تحققه) أي : المكلّف به (في الخارج) لانه مثبت.

وعليه : فنفي المؤاخذة على ترك المشكوك فيما نحن فيه لا يثبت تحقق المأمور به بالأقل إلّا على القول بالأصل المثبت لعدم كونه من الآثار الشرعية له ، وذلك لما قد عرفت : من انه من الشك في المكلّف به لا الشك في التكليف.

(بل الأصل عدم تحققه) أي : المكلّف به عند الاتيان بالأقل (والعقل أيضا مستقلّ بوجوب الاحتياط مع الشك في التحقّق) في باب المكلّف به ، فيلزم فيه الاتيان بالأكثر.

ثم ان المصنّف جعل الشك في الأقل والأكثر على قسمين : الشك في الجزء ، والشك في القيد ، فقال في صدر المسألة ما لفظه : الثاني : فيما إذا دار الأمر

٣٧٠

وأمّا القسم الثاني :

وهو الشك في كون الشيء قيداً للمأمور به

فقد عرفت أنّه على قسمين ، لأن القيد قد يكون منشؤه فعلا خارجيا مغايرا للمقيّد في الوجود الخارجيّ ، كالطهارة الناشئة من الوضوء ، وقد يكون قيدا متحدا معه في الوجود الخارجيّ.

______________________________________________________

في الواجب بين الأقل والأكثر ، ومرجعه إلى الشك في جزئية شيء للمأمور به وعدمها ، وهو على قسمين : لان جزء المشكوك إمّا جزء خارجي ، أو جزء ذهني وهو القيد ، وهو على قسمين لانّ القيد إمّا منتزع من أمر خارجي مغاير للمأمور به في الوجود الخارجي ، فمرجع اعتبار ذلك القيد إلى ايجاب ذلك الأمر الخارجي ، كالوضوء الذي يصير منشئا للطهارة المقيّد بها الصلاة ، وامّا خصوصية متحدة في الوجود مع المأمور به ، كما إذا دار الأمر بين وجوب مطلق الرقبة أو رقبة خاصة ، وحيث فرغ عن القسم الأوّل قال : (وأمّا القسم الثاني : وهو الشك في) الجزء الذهني ، ولا يراد به كون الجزء في الذهن فقط بلا انطباق على الخارج ، بل المراد : (كون الشيء قيدا للمأمور به ، فقد عرفت : أنّه على قسمين) :

الأوّل : (لأن القيد قد يكون منشؤه فعلا خارجيا مغايرا للمقيّد في الوجود الخارجيّ ، كالطهارة الناشئة من الوضوء) فان الوضوء أمر خارجي وتشترط الصلاة بهذه الطهارة الناتجة من هذا الوضوء.

الثاني : (وقد يكون قيدا متحدا معه) أي : مع المقيّد (في الوجود الخارجيّ) كالإيمان في الرقبة ، حيث ان الايمان في الرقبة ليس شيئا خارجيا ، وإنما هو صفة من صفات الرقبة.

٣٧١

أمّا الأوّل : فالكلام فيه هو الكلام فيما تقدّم ، فلا نطيل بالاعادة.

وأمّا الثاني فالظاهر اتحاد حكمهما.

______________________________________________________

هذا ، ولا يخفى : ان الأوثق قال : ان الشروط على أقسام ، ثم ذكر القسمين المذكورين في المتن إلى أن قال : «وثالثها : ما كان خصوصية متحدة مع المأمور به كما في القسم الثاني ، إلّا ان الخصوصية هناك مذكورة في ذاتها ، وهنا ناشئة من تضادّ المأمور به لتكليف نفسي ، كحرمة لبس الحرير للرجال ، لأنّ شرطية عدم كون اللباس حرير في الصلاة ناشئة من عدم جواز اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد ولو مع تعدد الجهة ، وهذا القسم خارج عن محل النزاع كما سيصرّح به» (١).

(امّا الأوّل) وهو : ما كان منشأ القيد فعلا خارجيا مغايرا للمقيّد خارجا ، كالطهارة في الصلاة (فالكلام فيه هو الكلام فيما تقدّم) لانه من الأقل والأكثر ، فيكون حاله حال الجزء الخارجي في جريان البراءة من الأكثر ، لانحلال العلم الاجمالي إلى أقل متيقن وأكثر مشكوك فيه ، ولذلك (فلا نطيل بالاعادة) فيه لعدم وجود شيء جديد هنا خارجا عن المبحث المتقدم في الأقل والأكثر.

(وامّا الثاني) وهو : ما كان القيد متحدا مع المقيّد خارجا كالايمان في الرقبة ، وفيه قولان ، المصنّف على انه كالقسم الأوّل في جريان البراءة ، ولذا قال : (فالظاهر اتحاد حكمهما) فحكم الثاني في البراءة عند المصنّف يكون كالأوّل ، لأن الشك في القيد بكلا قسميه داخل في الأقل والأكثر ، فيكون حاله حال الجزء الخارجي في جريان البراءة.

__________________

(١) ـ أوثق الوسائل : ص ٣٧٤ الشك في كون الشيء قيدا للمأمور به على قسمين (بتصرف).

٣٧٢

وقد يفرّق بينهما بإلحاق الأوّل بالشك في الجزئية دون الثاني ، نظرا إلى جريان العقل والنقل الدالّين على عدم المؤاخذة على ما لم يعلم من الشارع المؤاخذة عليه في الأوّل ، فانّ وجوب الوضوء إذا لم يعلم المؤاخذة عليه كان التكليف به ولو مقدمة منفيّا بحكم العقل والنقل ، والمفروض أنّ الشرط الشرعي إنّما انتزع من الأمر بالوضوء في الشريعة ،

______________________________________________________

لكن المحكي عن العلامة وتبعه المحقق القمي هو التفصيل بينهما ، وذلك بإلحاق الأوّل بالأقل والأكثر حيث يجري فيه البراءة عن الأكثر ، وإلحاق الثاني بالمتباينين حيث يجب فيه الاتيان بالأكثر.

وإلى هذا أشار المصنّف بقوله : (وقد يفرّق بينهما بإلحاق الأوّل) كالطهارة في الصلاة إذا شككنا في انها واجبة أم لا (بالشك في الجزئية) حيث تجري البراءة فيه (دون الثاني) كالايمان في الرقبة حيث يجري فيه الاشتغال.

ثم استدل لهذا التفصيل بما ذكره المصنّف بقوله : (نظرا إلى جريان العقل والنقل الدالّين على عدم المؤاخذة على ما لم يعلم من الشارع المؤاخذة عليه في الأوّل) كالطهارة في الصلاة (فانّ وجوب الوضوء إذا لم يعلم المؤاخذة عليه كان التكليف به ولو مقدمة) للطهارة الواقعية التي يحتمل أن يكون شرطا للصلاة (منفيّا بحكم العقل والنقل) لقبح العقاب بلا بيان ، ولجريان أدلة البراءة ، فان المتيقن وهو الصلاة يجب الاتيان بها وامّا المشكوك وهو الوضوء فتجري فيه البراءة.

هذا (والمفروض : أنّ الشرط الشرعي) هنا وهو الطهارة في الصلاة (إنّما انتزع من الأمر بالوضوء في الشريعة) حيث قال سبحانه : (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ

٣٧٣

فينتفي بانتفاء منشأ انتزاعه في الظاهر.

وأمّا ما كان متحدا مع المقيّد في الوجود الخارجيّ كالايمان في الرقبة المؤمنة ، فليس مما يتعلّق به وجوب وإلزام مغاير لوجوب أصل الفعل ولو مقدمة ، فلا يندرج فيما حجب الله علمه عن العباد.

______________________________________________________

وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ) (١) فالطهارة في الصلاة منتزعة من هذا الشرط (فينتفي بانتفاء منشأ انتزاعه في الظاهر) فاذا أجرينا البراءة عن الوضوء وسقط الوضوء عن الوجوب لا تكون الطهارة شرطا في الصلاة.

(وأمّا ما كان متحدا مع المقيّد في الوجود الخارجيّ كالايمان في الرقبة المؤمنة) وذلك كما إذا شككنا في ان الرقبة الواجب عتقها هل يشترط أن تكون مؤمنة أم لا؟ (فليس مما يتعلّق به وجوب وإلزام مغاير لوجوب أصل الفعل) الذي هو العتق.

وإنما لا يتعلق به وجوب مغاير للأصل لأنّ الايمان ليس شيئا مغايرا للرقبة خارجا ، بل هو صفة من صفات الرقبة متحد معها ، فيكون الحكم متعلقا بنفس المقيّد دون القيد ، أما القيد وهو الايمان فلا يتعلق به وجوب مغاير لوجوب العتق (ولو مقدمة) أي : ان الايمان لا يتعلق به وجوب مقدمي ، كما لا يتعلق به وجوب ذاتي أيضا.

وعليه : (فلا يندرج) القيد المذكور عند الشك في وجوب المطلق من عتق الرقبة أو المقيّد بكونها مؤمنة (فيما حجب الله علمه عن العباد) (٢) حتى يقال :

__________________

(١) ـ سورة المائدة : الآية ٦.

(٢) ـ الكافي (اصول) : ج ١ ص ١٦٤ ح ٣ ، التوحيد : ص ٤١٣ ح ٩ وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ١٦٣ ب ١٢ ح ٣٣٤٩٦ ، بحار الانوار : ج ٢ ص ٢٨٠ ب ٣٣ ح ٤٨.

٣٧٤

والحاصل : إنّ أدلة البراءة من العقل والنقل إنما ينفي الكلفة الزائدة الحاصلة من فعل المشكوك والعقاب المترتب على تركه ، مع اتيان ما هو معلوم الوجوب تفصيلا ، فان الآتي بالصلاة بدون التسليم المشكوك وجوبه ، معذور في ترك التسليم لجهله. وأمّا الآتي بالرقبة الكافرة فلم يأت في الخارج بما هو معلوم له تفصيلا حتى

______________________________________________________

باجراء البراءة عن القيد ولزوم المقيّد ، وذلك لما عرفت : من ان الواجب هو نفس المقيد بما هو هو لا مع قيده حتى يتصور هنا متيقن هو المقيّد ، ومشكوك هو القيد ، فيقال : بأن القيد مندرج فيما «حجب عمله» و «فيما لا يعلمون» وما أشبه ذلك من أدلة ، البراءة فينفى بها.

(والحاصل : انّ أدلة البراءة من العقل والنقل إنما ينفي الكلفة الزائدة الحاصلة من فعل المشكوك) كالوضوء بالنسبة إلى الصلاة إذا شككنا في وجوبه وعدم وجوبه (و) ينفي (العقاب المترتب على تركه مع اتيان ما هو معلوم الوجوب تفصيلا) فيما إذا كان له وجود منحاز عن وجود المتيقن (فان الآتي بالصلاة بدون التسليم المشكوك وجوبه ، معذور في ترك التسليم لجهله) لان هناك أمرين : الصلاة بدون التسليم ، والتسليم ، أمّا الصلاة فهي متيقنة بخلاف التسليم فانه مشكوك ، فيأتي بما علم وجوبه تفصيلا ويترك مشكوك الوجوب.

وهكذا حال الوضوء والصلاة ، وما أشبه ذلك.

(وأمّا الآتي بالرقبة الكافرة فلم يأت في الخارج بما هو معلوم له تفصيلا حتى

٣٧٥

يكون معذورا في الزائد المجهول ، بل هو تارك للمأمور به رأسا.

وبالجملة : فالمطلق والمقيّد من قبيل المتباينين ، لا الأقل والأكثر.

وكان هذا هو السرّ فيما ذكره بعض القائلين بالبراءة عند الشك في الشرطية والجزئية ، كالمحقق القمّي قدس‌سره في باب المطلق والمقيّد ، من تأييد استدلال العلامة قدس‌سره في النهاية ـ على وجوب حمل المطلق على المقيّد

______________________________________________________

يكون معذورا في الزائد المجهول ، بل هو تارك للمأمور به رأسا) إذ على تقدير وجوب المقيّد ليس الواجب مركبا من قدر متيقن هو الرقبة وشرط مشكوك هو الايمان حتى يكون الآتي بالرقبة الكافرة آتيا بالمتيقن وتاركا للمشكوك بل الواجب هو نفس الرقبة المقيدة بالايمان ، فاذا أتى بالرقبة الكافرة لم يأت بشيء أصلا ، لا انه أتى بالمتيقن وترك المشكوك.

(وبالجملة : فالمطلق والمقيّد من قبيل المتباينين) حيث لا قدر مشترك بينهما ، فاذا أتى بالرقبة الكافرة لم يأت بشيء ، واذا أتى بالرقبة المؤمنة أتى بكل شيء ، فاذا شككنا في انه هل يشترط الايمان أم لا؟ يلزم ان نأتي بالرقبة المؤمنة حتى نتيقن باتيان التكليف (لا) انه من قبيل (الأقل والأكثر) الارتباطيين حتى يكون الواجب فيه مركبا من متيقن ومشكوك.

(وكان هذا) أي : كون المطلق والمقيد من قبيل المتباينين لا الأقل والأكثر (هو السرّ فيما ذكره بعض القائلين بالبراءة عند الشك في الشرطية والجزئية) علما بأن المراد من الشرط هو الشرط الخارج ، كالوضوء الخارج عن حقيقة الصلاة ، فلا يشمل كلام ذلك البعض مثل شرط الايمان لأنّ هذا يسمّى قيدا.

وعليه : فما ذكره ذلك البعض (كالمحقق القمّي قدس‌سره في باب المطلق والمقيّد : من تأييد استدلال العلامة قدس‌سره في النهاية ـ على وجوب حمل المطلق على المقيّد

٣٧٦

بقاعدة الاشتغال ، وردّ ما اعترض عليه بعدم العلم بالشغل حتى يستدعي العلم بالبراءة بقوله :

«وفيه : أنّ المكلّف به حينئذ هو المردّد بين كونه نفس المقيد أو المطلق ،

______________________________________________________

بقاعدة الاشتغال ، و) القول بتماميته ، فهو لأجل جعله من المتباينين لا من الأقل والأكثر.

والحاصل : قال العلامة في باب المطلق والمقيّد عند الشك في انه هل يكفي الاتيان بالمطلق ، أو يلزم الاتيان بالمقيّد؟ انه يلزم الاتيان بالمقيد لوجوب الاحتياط بحمل المطلق على المقيّد ، مستدلا لذلك : بأنّ الاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينية ، فانه إذا أتى بالمطلق لم يعلم بالبراءة اليقينية ، بخلاف ما إذا أتى بالمقيّد ، فوافقه المحقق القمي رحمه‌الله في قوله ذلك في باب المطلق والمقيد ، مع انه يقول بالبراءة في باب الجزء والشرط.

ثم (ردّ ما اعترض عليه) أي : على استدلال العلامة من الاشكال : (بعدم العلم بالشغل حتى يستدعي العلم بالبراءة) فان بعض المعترضين على العلامة قال مستشكلا : بأن اليقين بالاشتغال إنما هو بالنسبة إلى المطلق وهو الرقبة في المثال ، لا الايمان حتى يجب العلم بالبراءة عنه ، فرده المحقق القمي (بقوله : «وفيه) ما يلي :

(ان المكلّف به حينئذ) أي : حين دار الأمر بين المطلق والمقيد (هو المردد بين كونه نفس المقيد أو المطلق) بمعنى : انه على تقدير كون الواجب هو المقيد ، فالواجب : نفس الرقبة المقيدة بالايمان ، لا الرقبة والايمان حتى يكون حالهما حال الصلاة والوضوء ، بأن يكون هناك متيقن ومشكوك ويكون الآتي بالرقبة

٣٧٧

ونعلم أنّا مكلفون بأحدهما ، لاشتغال الذمة بالمجمل ، ولا يحصل البراءة إلّا بالمقيد ـ إلى أن قال : ـ وليس هنا قدر مشترك يقينيّ يحكم بنفي الزائد عنه بالأصل ، لانّ الجنس الموجود في ضمن المقيّد لا ينفك عن الفصل ، ولا تفارق لهما ، فليتأمل» انتهى.

______________________________________________________

الكافرة آت بالمتيقن ، بل هو على تقدير لزوم الايمان آت بالمباين (و) ذلك لانّا (نعلم انا مكلفون بأحدهما) إمّا المطلق المباين ، أو المقيّد المباين (لاشتغال الذمة بالمجمل ، ولا يحصل البراءة إلّا بالمقيد) فاذا أعتقنا رقبة كافرة لم نعلم بأنّا أتينا بشيء من الواجب (إلى أن قال : وليس هنا) فيما فرضناه من المطلق والمقيد (قدر مشترك) بين المطلق والمقيد (يقينيّ) حتى (يحكم بنفي الزائد عنه بالأصل) فانه ليس الواجب هو الرقبة والايمان ، حتى يكون الرقبة كالصلاة والايمان كالوضوء ، فيكون الرقبة المشتركة بين المؤمنة والكافرة متيقنة ، والايمان مشكوكا ، فيلزم الاتيان بالقدر المتيقن ، وينفى المشكوك بالأصل.

وإنما لا يكون هنا قدرا مشتركا (لانّ الجنس) وهو الرقبة (الموجود في ضمن المقيّد) أي : في ضمن الرقبة المؤمنة (لا ينفك عن الفصل) الذي هو الايمان (ولا تفارق لهما) حتى يجعل ذلك قدرا مشتركا متيقنا.

(فليتأمل» (١)) حتى لا يتوهم ان الرقبة المؤمنة حالها حال الصلاة مع الطهارة ، فينحل العلم الاجمالي فيها إلى يقين تفصيلي وشك بدوي.

(انتهى) كلام المحقق القمي في تأييد العلامة الحلي قدس‌سرهما.

__________________

(١) ـ القوانين المحكمة : ص ١٧٥.

٣٧٨

هذا ، ولكن الانصاف : عدم خلوّ المذكور عن النظر ، فانه لا بأس بنفي القيود المشكوكة للمأمور به بأدلة البراءة من العقل والنقل ، لأن المنفيّ فيها الالزام بما لا يعلم ورفع كلفته.

ولا ريب أنّ التكليف بالمقيّد مشتمل على كلفة زائدة وإلزام زائد على ما في التكليف بالمطلق ، وإن لم يزد المقيّد الموجود في الخارج على المطلق الموجود في الخارج ،

______________________________________________________

(هذا) تمام الكلام من المحقق القمي في تقريب وجوب الاتيان بالأكثر في مثل الرقبة المؤمنة.

(ولكن الانصاف عدم خلوّ المذكور) في كلامه رحمه‌الله (عن النظر ، فانه لا بأس بنفي القيود المشكوكة للمأمور به بأدلة البراءة من العقل والنقل) فالذي يعتق رقبة كافرة يحق له ان يقول للمولى : انك لم تبيّن لزوم كون الرقبة مؤمنة ، ولذا لا أستحق العقاب ، لأنه من العقاب بلا بيان ، ويشملني أيضا أدلة البراءة : من «رفع ما لا يعلمون» و «ما حجب الله» بالنسبة إلى ايمان الرقبة (لأن المنفيّ فيها) أي : في أدلة البراءة هو : (الالزام بما لا يعلم ورفع كلفته) أي : كلفة المشكوك ومشقته.

هذا (ولا ريب : إنّ التكليف بالمقيّد مشتمل على كلفة زائدة والزام زائد على ما في التكليف بالمطلق) لوضوح : ان القيد كلفة زائدة حتى (وإن لم يزد المقيّد الموجود في الخارج على المطلق الموجود في الخارج) شيئا ، لأنّ المطلق متحقق في ضمن الرقبة ، كما ان المقيد متحقق في ضمن الرقبة ، فليس هناك أقل وأكثر كمي وإنما أقل وأكثر كيفي ولكن حتى هذا المقدار من وجوب المقيد فيه ضيق وكلفة ولو من باب كل ما كثر قيوده قلّ وجوده ، فيرفعها أدلة البراءة.

ولهذا نرى ان العرف يحكم في المقيد بوجوب شيئين : الرقبة ، والايمان ،

٣٧٩

ولا فرق عند التأمل بين اتيان الرقبة الكافرة واتيان الصلاة بدون الوضوء.

مع أنّ ما ذكره ـ من تغاير وجود منشأ حصول الشرط مع وجود المشروط في الوضوء ، واتحادهما في الرقبة المؤمنة ـ كلام ظاهريّ ، فان الصلاة حال الطهارة بمنزلة الرقبة المؤمنة في كون كلّ منهما أمرا واحدا في مقابل الفرد الفاقد للشرط.

______________________________________________________

بينما في المطلق يحكم بوجوب شيء واحد ، ومن المعلوم : ان العرف هو المعيار في فهم هذه الامور ، لا الدقة الفلسفية.

(و) حينئذ : (لا فرق عند التأمل بين اتيان الرقبة الكافرة واتيان الصلاة بدون الوضوء) فكما ان الطهارة زيادة في الصلاة ومع ذلك قال المحقق القمي بنفيها عند الشك فيها ، فكذلك الايمان زيادة في الرقبة ، فاللازم ان يقول بنفيها عند الشك فيها أيضا.

وان شئت قلت : انه ان كان مناط الأقل والأكثر هو الكم ، فالمثالان كلاهما من المتباينين لا الأقل والأكثر ، وان كان هو الأعم من الكم والكيف فهما معا من الأقل والأكثر الكيفي ، فلا فرق بين الطهارة والايمان فيما ذكره.

وإلى هذا أشار المصنّف بقوله : (مع أنّ ما ذكره) المحقق القمي (: من تغاير وجود منشأ حصول الشرط مع وجود المشروط في الوضوء ، واتحادهما في الرقبة المؤمنة ، كلام ظاهريّ) لا حقيقة له (فان الصلاة حال الطهارة بمنزلة الرقبة المؤمنة في كون كلّ منهما أمرا واحدا) خارجا بمعنى : انهما (في مقابل الفرد الفاقد للشرط) من الصلاة بلا وضوء أو الرقبة بلا ايمان.

بل يمكن أن يقال : إنّ الطهارة منشؤها الوضوء الخارجي ، والايمان منشؤه

٣٨٠