الوصائل الى الرسائل - ج ٩

آية الله السيد محمد الشيرازي

الوصائل الى الرسائل - ج ٩

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة عاشوراء للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7263-09-0
ISBN الدورة:
964-7263-04-X

الصفحات: ٤٠٠

لأن الأمر متعلق بالاجتناب عن مجموع الخمسمائة في المثال ، ومحتملات هذا الحرام المتباينة ثلاثة ، فهو كاشتباه الواحد في الثلاثة.

وأمّا ما عدا هذه الثلاثة من الاحتمالات ، فهي احتمالات لا تنفك عن

______________________________________________________

(لأن الأمر متعلق بالاجتناب عن مجموع الخمسمائة في المثال ، و) نسبته واحد من ثلاثة ، فيكون من المحصور.

أمّا (محتملات هذا الحرام) من المشتبه الكثير في الكثير ، فيكون على قسمين :

الأوّل : محتملاته المتبانية ، وهي التي تحصّص الأطراف الى حصص متناسبة مع مقدار الحرام ومقدار غير الحرام من حيث المجموع ، وهذا لا يكون إلّا بعد محاسبة النسبة بين مجموع الحرام الى مجموع الاطراف ، ثم اخراج العدد حسب تلك النسبة ، ونسبة الخمسمائة فيما نحن فيه الى المجموع وهي : الألف وخمسمائة ، نسبة واحد من ثلاثة ـ بمعنى : الثلث ـ فتكون كما قال المصنّف :

المحتملات (المتباينة ثلاثة) فقط ، لانّ احتمال الحرمة في كل واحد من هذه الشياة ، احتمال من ثلاثة احتمالات ، لا احتمال من ألف وخمسمائة احتمال.

إذن : (فهو كاشتباه الواحد في الثلاثة) فيتعارض احتمال الحرمة في كل منها مع الآخر ، لانّ الحرام هو أحد هذه الثلاثة فقط.

الثاني : محتملاته المتداخلة ، وهي التي يكون التحصيص فيها غير متناسب مع مقدار الحرام وغير الحرام من حيث المجموع ، وذلك بأن لا يلاحظ النسبة بين مجموع الحرام الى مجموع الاطراف ، ولعدم ملاحظة النسبة في التحصيص تصبح المحتملات كثيرة ومشتملة على الحرام ، فاذا اشتملت على الحرام فلا يتعارض احتمال الحرمة في كل منها مع الآخر لوجود الحرام في الآخر أيضا ، كما قال : (وأمّا ما عدا هذه الثلاثة من الاحتمالات ، فهي احتمالات لا تنفك عن

١٠١

الاشتمال على الحرام ، فلا تعارض احتمال الحرمة.

______________________________________________________

الاشتمال على الحرام ، فلا تعارض احتمال الحرمة) في كل منها الاحتمالات الأخر لوجود الحرام فيها ايضا.

والحاصل : ان الواحد في الثلاثة التي هي نسبة المشتبه الى المجموع في المثال ، يكون فيه ثلاثة احتمالات متعارضة ، كل منها خمسمائة ، فخمسمائة بيض ، وخمسمائة سود ، وخمسمائة حمر ـ مثلا ـ فيقع التعارض بينها كما يلي :

الأوّل : أن يكون الأبيض حراما دون الأسود والأحمر ، وهو في مثالنا : الخمسمائة البيض دون السود والحمر.

الثاني : ان يكون الأسود حراما دونهما ، وهو في مثالنا : الخمسمائة السود دون البيض والحمر.

والثالث : ان يكون الأحمر حراما دونهما ، وهو في مثالنا : الخمسمائة الحمر دون البيض والسود.

كما ان الحرام على هذه الاحتمالات الثلاثة يكون أحد الثلاثة مفرزا ، لانّ الحرام في مثالنا ليس اكثر من خمسمائة حتى يختلط بغيره.

بخلاف ما اذا لم نلاحظ هذه النسبة ، فانّ الاحتمالات تكون كثيرة مثل تحصيص المجموع الى خمس حصص كل حصة ثلاثمائة ، أو عشر حصص كل حصة مائة وخمسين ، وهكذا ممّا يكثر فيه الاحتمالات.

كما ان الحرام على هذه الاحتمالات يكون مختلطا ، لانّ الثلاثمائة ، أو المائة وخمسين ، وهكذا ما شابههما ليس مجموع الحرام حتى لا يختلط الحرام بغيره من الحصص ، ولذلك فانّ العقلاء لا يأخذون بهذه الاحتمالات ، بل يأخذون بالاحتمال الأوّل الذي هو احتمال الواحد من الثلاثة ممّا تكون النتيجة : ان

١٠٢

الرابع :

إنّما ذكرنا في «المطلب الأوّل» المتكفل لبيان حكم أقسام الشّك في الحرام مع العلم بالحرمة : «أنّ مسائله أربع :

الأولى منها : الشبهة الموضوعية» ، وأمّا الثلاث الأخر : وهي ما إذا

______________________________________________________

الخمسمائة في الف وخمسمائة من الشبهة المحصورة لا من غير المحصورة.

وبما ذكرناه : من المحصورة وغير المحصورة تبيّن انّ الاقسام في الشبهات المقرونة بالعلم الاجمالي اربعة :

الاوّل : القليل في القليل كواحد في ثلاثة.

الثاني : الكثير في الكثير ، كخمسمائة في الف وخمسمائة.

الثالث : القليل في الكثير ، كثلاثة في ثلاثة آلاف.

الرابع : الكثير في القليل ، مثل : عشرة في احد عشر.

هذا ، ولا مناقشة في التسمية ، فلا يقال ان القسم الرابع لا يسمّى بالكثير في القليل ، لانّ المهم : المحتوى لا اللفظ.

(الرابع :) من الامور الباقية في هذا المبحث والذي به يختم المصنّف البحث في المطلب الأوّل من المطالب الثلاثة التي قسّم الشك في المكلّف به اليها هو ما أشار اليه بقوله : (إنّما ذكرنا في «المطلب الأوّل» المتكفل لبيان حكم أقسام الشّك في الحرام مع العلم بالحرمة : ان مسائله اربع :) وقد تناولت المسألة (الأولى منها : الشبهة الموضوعية») الناشئة عن اشتباه الامور الخارجية ، وذكرنا هناك : بأنّ رفع الشبهة فيها انّما يكون باستطراق باب العرف وهي : امّا محصورة أو غير محصورة ، وقد تقدّم الكلام حولها مفصلا ، وبقي من المطلب الاول مسائل ثلاث اشار اليها بقوله : (وأمّا الثلاث الأخر وهي : ما إذا

١٠٣

اشتبه الحرام بغير الواجب ، لاشتباه الحكم من جهة عدم النص ، أو إجمال النص ، أو تعارض النصّين ، فحكمها يظهر ممّا ذكرنا في الشبهة الموضوعية.

لكن أكثر ما يوجد من هذه الأقسام الثلاثة هو القسم الثاني ، كما إذا تردّد الغناء المحرّم بين مفهومين بينهما عموم من وجه ، فانّ مادّتي الافتراق من هذا القسم.

ومثل ما إذا ثبت بالدليل حرمة الأذان الثالث يوم الجمعة واختلف في

______________________________________________________

اشتبه الحرام بغير الواجب) من المستحب أو المكروه أو المباح (لاشتباه الحكم من جهة عدم النص ، أو إجمال النص ، أو تعارض النصّين ، فحكمها يظهر ممّا ذكرنا في الشبهة الموضوعية) من الاحتياط وعدمه في المحصورة وغير المحصورة.

(لكن أكثر ما يوجد) في الفقه (من هذه الأقسام الثلاثة هو القسم الثاني) وهو إجمال النص (كما اذا تردّد الغناء المحرّم بين مفهومين) فلم نعلم بانّ المحرّم هو الصوت المطرب ، أو الصوت المرجّع فيه؟.

ومن المعلوم : ان النسبة (بينهما عموم من وجه ، فانّ) مادة الاجتماع حرام قطعا وهو الصوت المطرب المرجّع فيه ، فيجب الاجتناب عنه بلا كلام.

وأمّا (مادّتي الافتراق) فيكونان (من هذا القسم) اي : من القسم الثاني وهو :

اجمال النص ، فاذا قلنا بانه يجب الاحتياط في اجمال النص ، لانّ التكليف فيه معلوم ، وانّما الشك في المكلّف به ، فيجب الاحتياط فيهما بتركهما معا ، فيجتنب عن الصوت المطرب وعن الصوت المرجّع فيه ايضا.

(ومثل ما اذا ثبت بالدليل حرمة الأذان الثالث يوم الجمعة ، واختلف في

١٠٤

تعيينه ، ومثل قوله ، صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من جدّد قبرا أو مثّل مثالا فقد خرج عن الاسلام» حيث قرء : جدّد بالجيم ، والحاء المهملة ،

______________________________________________________

تعيينه) فقد ورد في التواريخ : انه اذا كان يوم الجمعة في زمن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان المؤذن يؤذّن أوّلا أذان الاعلام ثم يؤذّن للصلاة والرسول حاضر في المسجد ؛ ثم تقام الصلاة ، كذلك كان في زمن ابي بكر وعمر ، امّا في زمن عثمان فانّ المؤذن كان يؤذّن أوّلا أذان الاعلام ، ثم يؤذّن للصلاة ، لكن عثمان لم يخرج الى المسجد حتى يفرغ المؤذن من اذانه ثم كان عثمان يخرج متى شاء فيأمر بأذان آخر ويصلي بعدها ، وجرت عليه عادته حتى كان ذلك من جملة ما أثار نقمة المسلمين عليه لانّه أبدع الأذان الثالث على خلاف الرسول وخلاف من تقدّمه.

وعليه : فيكون المراد من الأذان الثالث هو : الأذان المتوسّط بين الأذانين ، لكن مع ذلك اختلف في المراد بالأذان الثالث ـ كما يجده المتتبع في كتب الفقه هل هو أذان صلاة العصر ، أو الأذان الثالث ، أو الأذان الثاني؟ وحيث كان من اشتباه الحرام بغير الواجب لأنّ الأذان من المستحبات ـ على المشهور ـ فيكون من مسألة اشتباه الحكم لاجمال النص.

(ومثل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من جدّد قبرا أو مثّل مثالا فقد خرج عن الاسلام» (١) حيث قرء : جدّد بالجيم) ومعناه : تجديد القبر وتعميره بعد الاندراس.

(والحاء المهملة) أي : بالحاء وهو من التحديد ومعناه تسنيم القبر كما كان

__________________

(١) ـ المحاسن : ص ٦١٢ ح ٣٣ ، تهذيب الاحكام : ج ١ ص ٤٥٩ ب ٢٣ ح ١٤٢ ، من لا يحضره الفقيه : ج ١ ص ١٨٩ ح ٥٧٩ ، وسائل الشيعة : ج ٥ ص ٣٠٦ ب ١٧٣ ح ٦٦ وفيهم (من الاسلام).

١٠٥

والخاء المعجمة ، وقرء جدّث بالجيم والثاء المثلّثة.

______________________________________________________

يفعله المسيحيون قبل الاسلام.

(والخاء المعجمة) اي : بالخاء وهو من التخديد ومعناه : خدّ القبر ونبشه.

(وقرء جدّث بالجيم والثاء المثلّثة) ومعناه : احداث جدث جديد اي : قبر جديد ممّا يحتمل أن يراد منه اخراج الميت من قبره الأوّل ودفنه في القبر الثاني ، أو دفن ميت ثان في قبر الاول وجعله قبرا ثانيا ، او ايجاد قبر جديد ، فيكون المقام من إجمال النص.

وكيف كان : فقد روى هذه الرواية الشيخ والبرقي على ما حكي عنهما عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وقال فيه الوحيد البهبهاني : انه بالجيم عند الصفّار ، والحاء المهملة عند سعد بن عبد الله يعني : من سنّم قبرا من التسنيم الذي هو من طريقة العامة ، وبالخاء المعجمة عند المفيد ، وجدّث بالجيم والثاء المثلّثة عند البرقي والصدوق ، وقال : جميع ما ذكر داخل في معنى الحديث سوى قول المفيد.

ومن المحتمل ان يراد به : نبش القبر كما اختاره الصدوق في محكيّ الفقيه قال : «والذي أذهب اليه : ان جدّد بالجيم ، ومعناه : من نبش قبرا فقد جدّده واحوج الى تجديده فقد جعله جدثا محفورا» (١).

وعن التهذيب : انّ المراد : أن يجعل دفعة أخرى قبرا لانسان آخر ، فيكون محرّما لاستلزامه النبش (٢).

__________________

(١) ـ راجع من لا يحضره الفقيه : ج ١ ص ١٩٠ ح ٥٧٩.

(٢) ـ راجع تهذيب الاحكام : ج ١ ص ٤٥٩ ب ٢٣ ح ١٤٢.

١٠٦

المطلب الثاني :

في اشتباه الواجب بغير الحرام

وهو على قسمين : لأنّ الواجب امّا مردّد بين أمرين متنافيين ، كما إذا تردّد الأمر بين وجوب الظهر والجمعة ، في يوم الجمعة ، وبين القصر والاتمام في بعض المسائل.

______________________________________________________

المطلب الثاني :

في اشتباه الواجب بغير الحرام

(المطلب الثاني) من مطالب كتاب البراءة والاشتغال : في الشبهة الوجوبية ، فانّ المصنّف رحمه‌الله ذكر في أوّل أصالة الاشتغال : انّ البحث في الشك في المكلّف به يذكر ضمن مطالب ، ثم أشار الى المطلب الأوّل بانّه في الشبهة التحريمة بمعنى : دوران الأمر بين الحرام وغير الواجب ، ثم عقد للمطلب الأوّل أربع مسائل ، تعرّض في واحدة منها للشبهة الموضوعية التحريمية ، وفي ثلاثة منها للشبهة الحكمية التحريمية.

وأمّا هنا في هذا المطلب فيتعرّض المصنّف لأحكام الشبهة الوجوبية ويجعل الكلام (في اشتباه الواجب بغير الحرام) من الأحكام الثلاثة الأخر ، وهي : المستحب والمكروه والمباح (وهو) اي : الشبهة هذه (على قسمين) وذلك كما يلي :

أوّلا : (لأنّ الواجب إمّا مردّد بين أمرين متنافيين) ومتباينين (كما إذا تردّد الأمر بين وجوب الظّهر والجمعة في يوم الجمعة ، و) كما إذا تردّد الواجب ظهرا أو عصرا أو عشاء (بين القصر والاتمام في بعض المسائل) وذلك كما إذا نوى إقامة عشرة أيام في مكان ؛ ثم خرج الى ما دون المسافة ورجع ؛ فهل يصلي القصر أو التمام؟ فانّ للفقهاء أقوالا في المسألة : من القصر مطلقا ، والاتمام مطلقا ، والجمع

١٠٧

وأمّا مردّد بين الأقل والأكثر ، كما إذا تردّدت الصلاة الواجبة بين ذات السورة وفاقدتها ، للشك في كون السورة جزءا.

وليس المثالان الأوّلان من الأقل والأكثر ، كما لا يخفى.

واعلم أنّا لم نذكر في الشبهة التحريمية من الشك في المكلّف به صور دوران الأمر بين الأقل والأكثر ، لأنّ مرجع الدوران بينهما في تلك الشبهة الى الشك في أصل التكليف ، لأن الأقل حينئذ

______________________________________________________

بين القصر والاتمام احتياطا ، وبعض التفاصيل الأخر.

ثانيا : (وأمّا) انّ الواجب (مردّد بين الأقل والأكثر) الارتباطيين (كما إذا تردّدت الصلاة الواجبة بين ذات السّورة وفاقدتها ، للشك في كون السّورة جزءا) حيث قال بعض الفقهاء باستحباب السورة وعدم وجوبها.

(و) قلت : المثالان الأولان أيضا من الاقل والاكثر ، لانّ الجمعة ركعتان والظهر أربع ركعات وكذا القصر والاتمام.

قلت : (ليس المثالان الأوّلان من الأقل والأكثر كما لا يخفى) لانّه وان كان بين ركعتين وأربع ركعات أقل واكثر ، والّا انّ تقييد الاكثر بالاتصال ، والأقل بالانفصال ، يجعلهما من المتباينين ، لانّهما حينئذ بشرط شيء وبشرط لا.

(واعلم انّا) ذكرنا في هذا المقام من الشبهة الوجوبية صور الدوران بين الأقل والاكثر ، بينهما (لم نذكر في الشبهة التحريمية من الشك في المكلّف به) فيما تعرضنا له سابقا (صور دوران الأمر بين الأقل والأكثر) وذلك كما إذا لم يعلم الجنب بأنّ المحرّم عليه هل هو قراءة آية السجدة فقط ، أو تمام السورة لاختلاف الفقهاء في ذلك.

وانّما لم نذكرها هناك (لأنّ مرجع الدوران بينهما في تلك الشبهة) اي : التحريمية (الى الشك في أصل التكليف) لا في المكلّف به (لأن الأقل حينئذ)

١٠٨

معلوم الحرمة ، والشك في حرمة الاكثر.

أمّا القسم الأوّل :

فالكلام فيه يقع في مسائل ، على ما ذكرنا في أوّل الباب ، لانّه إمّا أن يشتبه الواجب بغير الحرام من جهة : عدم النص المعتبر ، أو إجماله أو تعارض النصّين أو من جهة اشتباه الموضوع.

أمّا الأولى :

فالكلام فيه إمّا في جواز المخالفة القطعيّة في غير ما علم باجماع أو ضرورة

______________________________________________________

أي : في الفرض المذكور (معلوم الحرمة ، والشك في حرمة الاكثر) فيجري في الزائد البراءة ، لانه شك في التكليف بينهما كلامنا في الشك في المكلّف به.

وكيف كان : فلنرجع الى أصل التقسيم ، فنقول : (امّا القسم الأوّل) وهو دوران الأمر بين المتباينين (فالكلام فيه يقع في مسائل) أربع (على ما ذكرنا في أوّل الباب) من الشبهة التحريمية.

وانّما كانت المسائل اربع (لانّه إمّا أن يشتبه الواجب بغير الحرام من جهة : عدم النص المعتبر ، أو إجماله ، أو تعارض النصين) وهذه الثلاث من الشبهة الحكمية والتي تحتاج الى استطراق باب الشرع (أو من جهة اشتباه الموضوع) للامور الخارجية ممّا يحتاج الى استطراق باب العرف.

(أمّا) المسألة (الأولى) وهي : اشتباه الواجب بغير الحرام من جهة عدم النص المعتبر : (فالكلام فيه) يقع في مقامين :

أوّلا : (أمّا في جواز المخالفة القطعيّة في غير ما علم باجماع أو ضرورة

١٠٩

حرمتها ، كما في المثالين السابقين ، فانّ ترك الصلاة رأسا مخالف للإجماع ، بل الضرورة ؛ وإمّا في وجوب الموافقة القطعيّة.

أمّا الأوّل : فالظاهر حرمة المخالفة القطعيّة ، لانّها معصية عند العقلاء ، فانّهم لا يفرّقون بين الخطاب المعلوم تفصيلا أو إجمالا

______________________________________________________

حرمتها ، كما في المثالين السابقين ، فانّ ترك الصلاة رأسا مخالف للإجماع ، بل الضرورة) فانّه لا يجوز للانسان ان يترك القصر والاتمام معا أو يترك الجمعة والظهر معا في مورد الاشتباه بينهما.

وإنّما لا يجوز تركهما معا لقيام الاجماع ، بل لقيام الضرورة على انّه لا يجوز الخلوّ من الصلاتين في ذينك الموردين ، أمّا في سائر الموارد التي لا إجماع ولا ضرورة ، فيمكن القول بجواز المخالفة القطعية ، ولهذا مال الى الجواز بعض ، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

ثانيا : (وامّا) ان يكون الكلام (في وجوب الموافقة القطعيّة) فيكون البحث فيها : بأنّه هل يجب الاتيان بهما معا ، أو يكفي الاتيان بأحدهما فقط؟.

(أمّا الأوّل :) وهو المخالفة القطعية (فالظاهر حرمة المخالفة القطعيّة) لوجود المقتضي وهو : الخطاب بالتكليف المشترك فيه العالم والجاهل عند المخطّئة ، وعدم المانع عقلا ولا شرعا منه ، لانّ الجهل لا يكون مانعا عقلا ، كما انّه لا يكون مانعا شرعا ، اذ لا دليل في الشرع على منع الجهل عن تأثير المقتضي.

وعليه : فالمخالفة القطعيّة بتركهما معا غير جائز (لانّها معصية عند العقلاء) وعند الشارع ايضا ، امّا عند الشارع فواضح ، واما عند العقلاء (فانّهم لا يفرّقون بين الخطاب المعلوم تفصيلا أو إجمالا) في غير المحصورة ، فانهم لا يفرّقون

١١٠

في حرمة مخالفته ، وفي عدّها معصية.

ويظهر من المحقق الخوانساري دوران حرمة المخالفة مدار الاجماع ، وأنّ الحرمة في مثل الظهر والجمعة من جهته. ويظهر من الفاضل القمّي الميل إليه ، والأقوى : ما عرفت.

وأمّا الثّاني : ففيه قولان ، أقواهما الوجوب ، لوجود المقتضي وعدم المانع.

______________________________________________________

(في حرمة مخالفته ، وفي عدّها) اي : عدّ المخالفة (معصية) للمولى.

هذا (ويظهر من المحقق الخوانساري : دوران حرمة المخالفة) وجودا وعدما (مدار الاجماع) فان كان هناك اجماع حرمت المخالفة (و) الّا فلا تحرم المخالفة ، وذلك ل (أنّ الحرمة في مثل الظهر والجمعة من جهته) اي : من جهة الاجماع على انّه لا يجوز تركهما معا في يوم الجمعة ـ مثلا ـ.

(ويظهر من الفاضل القمّي) صاحب القوانين (الميل إليه) اي : الى قول الخوانساري ، ولعل وجهه : انّ التكليف بالمجمل غير صحيح عند العقلاء ، فالمولى هو سيد العقلاء لا يكلّف بالمجمل.

نعم ، اذا قام دليل خارجي على عدم جواز الاهمال رأسا بمعنى : عدم جواز المخالفة القطعية ، قلنا بذلك لأجل الدليل الخارجي ، لا لانّ مقتضي التكليف المجمل : الاتيان بأحدهما أو بهما معا.

هذا (والأقوى : ما عرفت) من : انّه لا دليل على جواز المخالفة القطعية.

(وأمّا الثّاني) وهو : وجوب الاحتياط بالاتيان بهما معا ، بمعنى : وجوب الموافقة القطعية : (ففيه قولان : أقواهما : الوجوب) فانه اذا تردّد الأمر بين شيئين لعدم نص معتبر عليه ، وجب الاحتياط بالاتيان بهما معا ، وذلك (لوجود المقتضي وعدم المانع) كما أوضحناه.

١١١

أمّا الأوّل : فلأنّ وجوب الأمر المردّد ثابت في الواقع ، والأمر به على وجه يعمّ العالم والجاهل ، صادر عن الشّارع واصل الى من علم به تفصيلا ، اذ ليس موضوع الوجوب في الأوامر مختصّا بالعالم بها ، وإلّا لزم الدّور ، كما ذكره العلّامة في التحرير ، لأنّ العلم بالوجوب موقوف على الوجوب فكيف يتوقف الوجوب عليه؟.

______________________________________________________

(امّا الأوّل) اي : وجود المقتضي (فلأنّ وجوب الأمر المردّد ثابت في الواقع) لفرض : انّا نعلم بوجوب أحد الأمرين ، لانّ المولى قال : ائت بالظهر ، أو ائت بالجمعة ـ مثلا ـ (والأمر به) اي : بالوجوب المردّد (على وجه يعمّ العالم والجاهل ، صادر عن الشّارع) فإنّ الأمر لا يخصّ العالم كما انّه (واصل الى من علم به تفصيلا) فانّ الجاهل انّما لا يعلم الخصوصية ، أمّا أصل الأمر فيعلم به تفصيلا فيتنجّز عليه.

وانّما قلنا بأن الأمر يعم العالم والجاهل (اذ ليس موضوع الوجوب في الأوامر مختصّا بالعالم بها) فانّ الأوامر والنواهي ليست مختصة بالعالمين بها ، وإنّما تعمّ العالمين وغير العالمين.

(والّا) بأن كانت مختصّة بالعالمين (لزم الدّور ، كما ذكره العلّامة) رحمه‌الله (في التحرير) وذلك (لأنّ العلم بالوجوب موقوف على الوجوب) نفسه ، اذ العلم بالشيء لا يمكن ان يكون بدون ذلك الشيء ، والّا كان جهلا مركبا ، لوضوح تبعية العلم للمعلوم (فكيف يتوقف الوجوب عليه؟) اي : على العلم به؟.

وإن شئت قلت : العلم بالتكليف متوقف على وجود التكليف ، فلو كان وجود التكليف متوقفا على العلم بالتكليف لزم الدّور.

لكن ربّما يقال : انّ هذا الدليل غير تام ، لأنّه يمكن رفع الدور بواسطة امرين

١١٢

وأمّا المانع ، فلأنّ المتصوّر منه ليس إلّا الجهل التفصيلي بالواجب وهو غير مانع عقلا ولا نقلا.

أمّا العقل ، فلأن حكمه بالعذر إن كان من جهة عجز الجاهل عن الاتيان بالواقع ، حتى يرجع الجهل الى فقد شرط من شروط وجود المأمور به ، فلا استقلال للعقل بذلك ،

______________________________________________________

كما صوّره المتأخرون ، وقد ورد في الشرع موارد يختص التكليف بالعالم ، كما في القصر والاتمام ، والجهر والإخفات ، وجملة من مسائل الحج.

وكيف كان : فالتكليف يعم العالم والجاهل لاطلاق أدلته ، فلا خصوصية للعالم ، خصوصا وان التكاليف تابعة للمصالح والمفاسد الواقعية ، وهما لا يختصان بالعالم ، وان الألفاظ موضوعة للمعاني الواقعية ، فاذا قال المولى : وجبت الصلاة ، كان معنى ذلك : انّ الصلاة ثابتة وجوبها سواء علم المكلّف بوجوب الصلاة أم لا؟ لا أنّ الصلاة المعلومة واجبة ، وقد ألمعنا الى هذا الكلام في أوائل الكتاب.

(وأمّا) الثاني وهو : عدم (المانع ، فلأنّ المتصوّر منه) اي : من المانع (ليس إلّا الجهل التفصيلي بالواجب) بأن يقال : حيث انّه يجهل بخصوصية الواجب فلا تكليف (وهو) اي : الجهل التفصيلي بالواجب (غير مانع عقلا ولا نقلا) في التكليف.

(أمّا العقل : فلأن حكمه بالعذر) اي : بمعذورية الجاهل (إن كان من جهة عجز الجاهل عن الاتيان بالواقع ، حتى يرجع الجهل الى فقد شرط من شروط وجود المأمور به) كالقدرة ـ مثلا ـ لانّ من شرائط التكليف القدرة (ف) نقول في جواب هذا : انّه (لا استقلال للعقل بذلك).

وإنّما لا استقلال للعقل بذلك ، لانّ المكلّف قادر على الامتثال بطريق

١١٣

كما يشهد به جواز التكليف بالمجمل في الجملة ، كما اعترف به غير واحد ممّن قال بالبراءة فيما نحن فيه ، كما سيأتي.

وإن كان من جهة كونه غير قابل لتوجّه التكليف إليه

______________________________________________________

الاحتياط ، وذلك بأن يأتي بكل الأطراف المحصورة ، فالقدرة موجودة مع الجهل التفصيلي أيضا.

(كما يشهد به) اي : بعدم استقلال العقل بمعذورية الجاهل في صورة الجهل التفصيلي بخصوصيات الواجب (جواز التكليف بالمجمل في الجملة) فانّا نرى انّ الشارع قد أمر بالصلاة الوسطى ، وبحرمة الغناء ، مع انّهم اختلفوا في انّ المراد بالصلاة الوسطى : هل هي صلاة الصبح أو الظهر أو العصر أو المغرب أو العشاء؟ وكذلك اختلفوا في ان الغناء هل هو الصوت المرجّع فيه ، أو الصوت المطرب؟.

وانّما قال المصنّف : في الجملة ، لانّه لا يجوز التكليف بالمجمل من جميع الجهات بأن يقول ـ مثلا ـ : ائتني بشيء : ولم يقصد به مطلق الشيء حتى ينطبق على كل ما يسمّى شيئا ، أو يقول : اشتر لي ثوبا ولم يرد به ثوبا مطلقا ، بل يريد ثوبا خاصا لم يعرف المكلّف : هل هو الأبيض أو الأحمر أو الأسود أو الأزرق أو غير ذلك؟.

(كما اعترف به) أي : بجواز التكليف بالمجمل (غير واحد ممّن قال بالبراءة فيما نحن فيه) فانّ جماعة من القائلين بالبراءة في مقامنا هذا ، جوّزوا الأمر بالمجمل في مقام آخر فيسأل منهم : بانّه إذا جاز التكليف بالمجمل هناك ، فلما ذا لا يجوز التكليف بالمجمل هنا (كما سيأتي) الكلام إن شاء الله تعالى في انّ غير واحد ممّن قال بالبراءة فيما نحن فيه ، وقد اعترف بجواز التكليف بالمجمل.

هذا (وان كان) حكم العقل بمعذورية الجاهل لا من جهة عجزه عن الواقع ، بل (من جهة كونه غير قابل لتوجّه التكليف إليه) بمعنى : اشتراط العلم التفصيلي

١١٤

فهو أشدّ منعا ، وإلّا لجاز إهمال المعلوم إجمالا رأسا بالمخالفة القطعيّة ، فلا وجه لالتزام حرمة المخالفة القطعيّة ، ولقبح عقاب الجاهل المقصّر بترك الواجبات الواقعيّة وفعل المحرّمات ، كما هو المشهور.

______________________________________________________

لوجود التكليف كاشتراط البلوغ والعقل والاختيار ـ مثلا ـ (فهو اشدّ منعا) لانّا نرى ان العقلاء لا يشترطون في توجيه التكليف الى المكلّف علم المكلّف تفصيلا.

(وإلّا) بأن كان العلم التفصيلي شرطا لتوجّه التكليف (لجاز إهمال المعلوم إجمالا رأسا بالمخالفة القطعيّة) لفرض انّ التكليف غير موجّه الى الجاهل اطلاقا ، فيكون حال الجاهل حال الصبي والمجنون ، مع انّ القائل بجواز المخالفة القطعيّة لا يقول بأنّ الجاهل حاله حال الصبي والمجنون.

وعلى هذا : فلو جاز اهمال المعلوم بالاجمال رأسا (فلا وجه لالتزام حرمة المخالفة القطعيّة) مع انّ جماعة من الفقهاء يلتزمون بحرمة المخالفة القطعية ولا يقولون بجوازها وان قالوا بجواز المخالفة الاحتمالية.

(ولقبح عقاب الجاهل المقصّر بترك) ذلك الجاهل المقصّر (الواجبات الواقعيّة وفعل المحرّمات كما هو المشهور) بانّه معاقب ، فانه لو كان العلم التفصيلي شرطا لتوجه التكليف ، لزم عدم توجه التكليف الى الجاهل ، ولزم قبح عقابه مطلقا قاصرا كان أو مقصرا ، مع انّا نرى انّ المشهور يقولون بجواز عقاب المقصّر ، ولا يعذرون الّا الجاهل القاصر.

ثم انه اشكل على القائلين : بأنّ الجهل في صورة تردّد المكلّف به ، بين أمرين ينافي التكليف ، لانّه تكليف بما لا يطاق. اشكل عليهم : بأنّ الجاهل المقصّر مكلف قطعا ، فاراد بعض دفع هذا الاشكال ومعالجته : لانّ الجاهل المقصّر ليس مكلفا بالواقع ، بل هو مكلف برفع الجهل وذلك كما قال به :

١١٥

ودعوى : «أنّ مرادهم تكليف الجاهل في حال الجهل برفع الجهل والاتيان بالواقع ، نظير تكليف الجنب بالصّلاة حال الجنابة ، لا التكليف باتيانه مع وصف الجهل ، فلا تنافي بين كون الجهل مانعا والتكليف في حاله ، وانّما الكلام في تكليف الجاهل مع وصف الجهل ، لانّ المفروض فيما نحن فيه عجزه عن تحصيل العلم» ،

______________________________________________________

(ودعوى : «أنّ مرادهم) أي : مراد المشهور من تكليف الجاهل المقصّر باتيان الواقع حال الجهل انّما هو : (تكليف الجاهل في حال الجهل برفع الجهل ، والاتيان بالواقع) لا انّه مكلف بالواقع.

وعليه : فيكون تكليف الجاهل المقصّر (نظير تكليف الجنب بالصّلاة حال الجنابة) فانّه لا تكليف له باتيان الصلاة في هذه الحال ، بل انّما يكلّف برفع الجنابة ، ثم الاتيان بالصلاة ، وكذا الجاهل فان تكليفه برفع الجهل ثم الواقع (لا التكليف باتيانه) اي : الواقع (مع وصف الجهل) حتى يكون تكليفا بما لا يطاق.

وعليه (فلا تنافي بين كون الجهل مانعا) عن تنجز التكليف بالواقع من جهة (والتكليف في حاله) اي : في حال الجهل من جهة اخرى ، وذلك بأن يكون مكلّفا برفع الجهل ثم الاتيان بالواقع ، فان هذا لا كلام فيه.

(وانّما الكلام) فيما نحن فيه : (في تكليف الجاهل مع وصف الجهل) وهذا هو الشيء الذي ندّعي نحن استحالته لانّه تكليف بما لا يطاق.

وإنّما يكون تكليفا بما لا يطاق (لانّ المفروض فيما نحن فيه : عجزه عن تحصيل العلم) التفصيلي بالتكليف ، اذ هو انّما يعلم الشيء المردّد بين أمرين ولا يتمكن من تحصيل العلم التفصيلي بذلك الشيء ، فيكون تنجزّ التكليف بالنسبة اليه تكليفا بما لا يطاق.

١١٦

مدفوعة برجوعها حينئذ الى ما تقدّم من دعوى كون عدم الجهل من شروط وجود المأمور به نظير الجنابة ، وقد تقدّم بطلانها.

وأمّا النقل ، فليس فيه ما يدلّ على العذر ، لأنّ أدلّة البراءة غير جارية في المقام ، لاستلزام إجرائها جواز المخالفة القطعيّة ، والكلام بعد فرض حرمتها.

______________________________________________________

هذه الدعوى (مدفوعة) وذلك (برجوعها) اي : رجوع هذه الدعوى (حينئذ) اي : حين كان الجاهل المقصّر مكلّفا برفع الجهل واتيان الواقع (الى ما تقدّم : من دعوى كون عدم الجهل من شروط وجود المأمور به) وقد أجبنا عنه : بانّ عدم الجهل ليس من شروط وجود المأمور به.

إذن : فليس العلم فيما نحن فيه (نظير) عدم (الجنابة) التي هي من شروط وجود الصلاة (وقد تقدّم بطلانها) اي : بطلان هذه الدعوى حيث قلنا : بان العلم التفصيلي ليس شرطا عقلا لوجود المأمور به ، وذلك لما تقدّم : من تمكن اتيان المكلّف بالواقع بسبب الاحتياط.

هذا تمام الكلام في انتفاء المانع عقلا.

(وأمّا النقل : فليس فيه ما يدلّ على العذر) وعلى انّه اذا جهل تفصيلا يكون معذورا ، ولذلك نقول : بانّه يجب عليه الاحتياط ، انّه ليس بمعذور (لأنّ أدلّة البراءة غير جارية في المقام) اي : فيما إذا كان جاهلا تفصيلا بالحكم مع علمه الاجمالي.

وانّما لا تجري البراءة في المقام (لاستلزام إجرائها) اي : البراءة (جواز المخالفة القطعيّة ، والكلام) إنّما هو (بعد فرض حرمتها) اي : حرمة المخالفة القطعية.

١١٧

بل في بعض الأخبار ما يدل على وجوب الاحتياط.

مثل صحيحة عبد الرّحمن المتقدّمة في جزاء الصيد : «اذا أصبتم مثل هذا ولم تدروا ، فعليكم بالاحتياط حتى تسألوا عنه فتعلموا» وغيرها.

فان قلت :

______________________________________________________

إذن : فالبراءة لو شملت مورد العلم الاجمالي لدلّت على جواز ترك كل الأطراف ، اذ يصدق على كل واحد من الأطراف : انّه شيء لم يعلم وجوبه ، فتدل البراءة على جواز المخالفة القطعية ، وانّما يقول بجواز المخالفة الاحتمالية بترك بعض الاطراف دون بعض.

(بل في بعض الأخبار ما يدل على وجوب الاحتياط) فيما اذا كان هناك علم اجمالي وجهل تفصيلي بالحكم (مثل : صحيحة عبد الرّحمن المتقدّمة) الواردة (في جزاء الصيد) حيث سئل عن صيد أصابه رجلان محرمان ، فشك في انّه هل عليهما جزاء واحد ، أو على كل واحد منهما جزاء مستقل؟ فقال له عليه‌السلام :

(«اذا أصبتم مثل هذا ولم تدروا ، فعليكم بالاحتياط حتى تسألوا عنه فتعلموا» (١) وغيرها) من أخبار الاحتياط ، فانّها تدل على انّ الجهل التفصيلي مع وجود العلم الاجمالي ليس بمجوّز للترك ، بل اللازم الاحتياط بالاتيان بجميع الاطراف.

(فان قلت) : لا ملازمة بين العلم الاجمالي ووجوب الاطاعة ، إذ يجوز

__________________

(١) ـ تهذيب الاحكام : ج ٥ ص ٤٦٦ ب ١٦ ح ٢٧٧ ، الكافي (فروع) : ج ٤ ص ٣٩١ ح ١ ، وسائل الشيعة : ج ١٣ ص ٤٦ ب ١٨ ح ١٧٢٠١ (وفيه عن علي) وج ٢٧ ص ١٥٤ ب ١٢ ح ٣٣٤٦٤.

١١٨

إنّ تجويز الشارع ترك أحد المحتملين والاكتفاء بالآخر يكشف عن عدم كون العلم الاجمالي علّة تامّة لوجوب الاطاعة ، كما أنّ عدم تجويز الشارع للمخالفة مع العلم التفصيلي دليل على كون العلم التفصيليّ علّة تامة لوجوب الاطاعة.

وحينئذ : فلا ملازمة بين العلم الاجمالي ووجوب الاطاعة ، فيحتاج إثبات الوجوب الى دليل آخر غير العلم الاجمالي ، وحيث كان

______________________________________________________

للمكلّف الاتيان بأحد الاطراف فقط ، وجعل الطرف الآخر بدلا عن الواقع ، وهذا يدل على عدم كون العلم الاجمالي علة تامة لتنجز التكليف ، فانه ان كان العلم الاجمالي علة تامة لتنجز التكليف ، لزم الاتيان بكل الاطراف وذلك كما قال :

(إنّ تجويز الشارع ترك أحد المحتملين والاكتفاء بالآخر) كما يذهب اليه من يقول بحرمة المخالفة القطعية ولا يقول بوجوب الموافقة القطعية (يكشف عن عدم كون العلم الاجمالي علّة تامّة) لتنجز التكليف حتى يكون العلم مقتضيا (لوجوب الاطاعة ، كما انّ عدم تجويز الشارع للمخالفة مع العلم التفصيلي دليل على كون العلم التفصيليّ علّة تامة) لتنجّز التكليف ، المقتضي (لوجوب الاطاعة). وعليه : فان هناك فرقا بين العلم الاجمالي والعلم التفصيلي ، حيث يكون العلم التفصيلي علة تامة لتنجّز التكليف ، بينما لم يكن العلم الاجمالي علة تامة له.

(وحينئذ) اي : حين لم يكن العلم الاجمالي علة تامة (فلا ملازمة بين العلم الاجمالي ووجوب الاطاعة) اذ التلازم انّما يكون لو كان العلم الاجمالي علة تامة بوجوب الاطاعة ، وحيث لا يكون العلم الاجمالي علة تامة ، فلا يكون وجوب الاطاعة.

إذن : (فيحتاج إثبات الوجوب) اي : وجوب للاطاعة ، المقتضي للاحتياط باتيان جميع الاطراف (الى دليل آخر غير العلم الاجمالي ، وحيث كان) ذلك

١١٩

مفقودا فاصل البراءة يقتضي عدم وجوب الجمع وقبح العقاب على تركه لعدم البيان.

نعم ، لمّا كان ترك الكلّ معصية عند العقلاء حكم بتحريمها ، ولا تدلّ حرمة المخالفة القطعيّة على وجوب الموافقة القطعيّة.

______________________________________________________

الدليل الآخر (مفقودا) هنا ، والعلم الاجمالي وحده غير كاف ، لم يجب فيه الموافقة القطعية كما قال : ـ

(فاصل البراءة يقتضي عدم وجوب الجمع) بين أطراف العلم الاجمالي (و) يقتضي أيضا (قبح العقاب على تركه) اي : ترك الجمع (لعدم البيان) فانّه حيث لا بيان لا يكون عقاب.

(نعم ، لمّا كان ترك الكلّ معصية عند العقلاء) وهو يكشف عن عليّة العلم الاجمالي لحرمة المخالفة القطعية (حكم بتحريمها) اي : بتحريم المخالفة القطعية بترك الجميع (ولا تدلّ حرمة المخالفة القطعيّة على وجوب الموافقة القطعيّة) إذ حرمة المخالفة القطعية معناه : انّه يحرم ترك كل الاطراف ، وليس معناه : أنه يجب الاتيان بكل الاطراف ، حتى تجب الموافقة القطعية.

والحاصل : انّه لا دليل على وجوب الموافقة القطعية التي اختارها المصنّف ، اذ وجوب الموافقة القطعية إمّا مستفاد من أدلة المحرّمات الواقعية كالخمر المتردد بين اطراف الشبهة ، وإمّا مستفاد من بناء العقلاء على حرمة المخالفة القطعية.

وعليه : فان كان مستفادا من أدلة المحرّمات الواقعية : فانه يستلزم الموافقة القطعية ، والحال انّ الأدلة لا تفيد ذلك ، ولذا ذهب غير واحد الى وجوب الموافقة الاحتمالية فقط.

وان كان مستفادا من بناء العقلاء على حرمة المخالفة القطعية : فانّه لا تلازم

١٢٠