الوصائل الى الرسائل - ج ٨

آية الله السيد محمد الشيرازي

الوصائل الى الرسائل - ج ٨

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة عاشوراء للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7263-08-2
ISBN الدورة:
964-7263-04-X

الصفحات: ٤٠٠

ونجى الباقي» ، وهي حجّة القول بوجوب القرعة ، لكنّها لا تنهض لاثبات حكم مخالف للأصول.

______________________________________________________

المحرّم (ونجى الباقي) (١) بذلك.

مثلا : لو كانت الشياه مائة يقسمها خمسين خمسين ، فيوقف قسما على يمينه وقسما على يساره ؛ ويكتب في رقعة حلال وفي رقعة حرام ، فيخرج احدى الرقعتين بقصد الجانب الأيمن ـ مثلا ـ فان خرج الحلال قسّم اليسار قسمين ، وان خرج الحرام قسّم اليمين قسمين ، وهكذا حتى لا يبقى الّا واحد ، وهذا القسم من القرعة هو أحد اقسام القرعة الممكنة وإلّا أمكن التقسيم بغير هذا النحو كما ذكرناه في الفقه في هذا الباب (وهي) أي : هذه الرواية بالاضافة إلى مطلقات أدلة القرعة ، تكون (حجّة القول بوجوب القرعة) في هذا المورد.

(لكنّها) أي : هذه الرواية (لا تنهض لاثبات) جواز القرعة في كل شبهة محصورة : كاللحمين المشتبهين ، أو الإناءين المشتبهين ، أو المرأتين المشتبهتين ، أو ما أشبه ذلك ممّا هو (حكم مخالف للأصول) مثل قاعدة الاشتغال ، فان اعتراض المشهور عن الرواية وعدم تعميمها لكل مورد من المشتبهين ، يجعل الرواية خاصة بموردها ، أو بالموارد التي هي من امثالها وبها دليل شرعا ، أو التي عمل بالقرعة فيها الفقهاء.

وانّما لم يعملوا برواية القرعة ، لأنّ الأئمة عليهم‌السلام لم يقولوا بها في مثل الإناءين المشتبهين ، والثوب الذي تنجس مقدار مجهول منه ، إلى غيرهما ، كما لم يقولوا بالقرعة في مورد الماليات كإرث الخنثى ، والعين المتنازع فيها كالابل التي قضى

__________________

(١) ـ تحف العقول : ص ٤٨٠ (بالمعنى) ، وسائل الشيعة : ج ٢٤ ص ١٧٠ ب ٣٠ ح ٣٠٢٦٤ ، وفيها عن الإمام الهادي عليهم‌السلام (بالمعنى).

٣٢١

نعم ، هي دالّة على عدم جواز ارتكاب شيء منها قبل القرعة ، فان التكليف بالاجتناب عن الموطوءة الواقعيّة واجب بالاجتناب عن الكلّ حتى يتميّز الحلال ولو بطريق شرعيّ.

هذا ، ولكنّ الانصاف أنّ الرواية أدلّ على مطلب الخصم بناء على حمل القرعة على الاستحباب ، إذ على قول المشهور لا بدّ من طرح الرواية أو العمل بها في خصوص موردها.

______________________________________________________

فيها أمير المؤمنين علي عليه‌السلام ، إلى غير ذلك ممّا يظهر منه : انّ القرعة ليست عامة ، وانّما خاصة بموارد مخصوصة ذكرها الأئمة عليهم‌السلام ، أو استفاد الفقهاء من كلماتهم عليهم‌السلام جريانها في تلك الموارد.

(نعم ، هي دالّة على عدم جواز ارتكاب شيء منها قبل القرعة) فتدل هذه الرواية على عدم جواز ارتكاب جميع الأطراف ، ولا بعضها وجعل البعض الآخر بدلا عن الواقع قبل القرعة (فان) ظاهر هذه الرواية : ان (التكليف بالاجتناب عن الموطوءة الواقعيّة واجب) وذلك (بالاجتناب عن الكلّ حتى يتميّز الحلال ولو بطريق شرعيّ) كالقرعة.

(هذا) غاية ما يستدل بهذه الرواية على عدم جواز ارتكاب جميع الأطراف ولا بعضها في الشبهة المحصورة (ولكنّ الانصاف : انّ الرواية أدلّ على مطلب الخصم) وهو القول بجواز ارتكاب البعض ، من الدلالة على مطلب القائل بعدم الجواز ، وذلك (بناء على حمل القرعة على الاستحباب) كما ذكره بعض ، فانّ رواية القرعة إن حملت على الاستحباب ، دلّت على جواز ارتكاب بعض الأطراف ولو بدون القرعة ، وانّما تكون الرواية أدلّ على الجواز (اذ على قول المشهور لا بدّ من طرح الرواية) لانّها للاستحباب (أو العمل بها في خصوص موردها) وهي افراز

٣٢٢

وينبغي التنبيه على امور

الأوّل :

إنه لا فرق في وجوب الاجتناب عن المشتبه بالحرام بين كون المشتبهين مندرجين تحت حقيقة واحدة وغير ذلك ،

______________________________________________________

الشاة المحرّمة وتعيينها بسبب دليل شرعي خارجي ، فالقرعة في هذا المورد تكون مثل الشاهدين إذا قاما على انّ الشاة الفلانية هي الموطوءة.

ثم لا يخفى : انّ المشتبه من موارد المنازعات المالية يكون المحكم فيها قاعدة العدل ، كما ذكرها صاحب الجواهر في كتاب الخمس ، وقد ذكرنا في الفقه تفصيل الكلام في ذلك (١) ، وامّا ما ظفرنا عليه من الروايات دليلا للقاعدة من الموارد الخاصة في مختلف الأبواب ، فهي أكثر من ثلاث عشرة رواية ، ممّا يستفاد من جميعها قاعدة كلية هي : «قاعدة العدل» في الموارد المالية ، وهذا أيضا خارج عن مقتضى العلم الاجمالي لهذه الأدلة الخاصة.

(وينبغي التنبيه على امور) راجعة الى بحث العلم الاجمالي ، وهي :

(الأوّل : إنه لا فرق في وجوب الاجتناب عن المشتبه بالحرام بين كون المشتبهين مندرجين تحت حقيقة واحدة) كالماءين المعلوم نجاسة أحدهما حيث انهما مندرجان تحت النجاسة ، والمالين المغصوب أحدهما حيث انهما مندرجان تحت الغصب (وغير ذلك) بأن يكونا مندرجين تحت حقيقتين مثل : أن يكون أحدهما غصبا أو نجسا ، حيث انّ النجس والغصب لا يندرجان تحت حقيقة واحدة ، أو تكون المرأة مرددة بين كونها زوجة حائضا أو أجنبية ، فالوطي

__________________

(١) ـ راجع موسوعة الفقه ج ٣٣ كتاب الخمس للشارح.

٣٢٣

لعموم ما تقدّم من الأدلّة.

ويظهر من كلام صاحب الحدائق التفصيل ، فانه ذكر كلام صاحب المدارك في مقام تأييد ما قوّاه من عدم وجوب الاجتناب من المشتبهين.

وهو : «إنّ المستفاد من قواعد الأصحاب أنّه لو تعلق الشك بوقوع النجاسة في الاناء وخارجه لم يمنع من استعماله ، وهو مؤيد لما ذكرناه.

______________________________________________________

في الحيض والزنا حقيقتان لا حقيقة واحدة ، بخلاف ما لو شك في ان احدى زوجتيه حائض ، أو احدى هاتين المرأتين أجنبية ، حيث انّهما داخلتان تحت حقيقة واحدة.

وانّما لا يكون في وجوب الاجتناب عن المشتبه فرق بين الحقيقية الواحدة والأكثر من الحقيقة الواحدة (لعموم ما تقدّم من الأدلّة) كقاعدة الاشتغال وما أشبه الدالة على وجوب الموافقة القطعية في الشبهة المحصورة بلا فرق بين كونها من حقيقة واحدة أو اكثر.

(ويظهر من كلام صاحب الحدائق التفصيل) بين الحقيقة الواحدة والاكثر (فانه) اي صاحب الحدائق (ذكر كلام صاحب المدارك في مقام تأييد ما قوّاه) صاحب المدارك نفسه (: من عدم وجوب الاجتناب من المشتبهين) أي : انّ صاحب المدارك قال بعدم وجوب الاجتناب عن المشتبهين ، ثم ذكر تأييدا لمختاره ، فنقل صاحب الحدائق هذا المؤيد في كتابه (وهو : «انّ المستفاد من قواعد الأصحاب : انّه لو تعلق الشك بوقوع النجاسة في الاناء وخارجه لم يمنع من استعماله) أي : من استعمال ما في داخل الاناء (وهو مؤيد لما ذكرناه) نحن صاحب المدارك : من عدم وجوب الاحتياط في المشتبهين ، إذ لو وجب الاحتياط في المشتبهين كان الواجب الاجتناب عمّا في داخل الاناء.

٣٢٤

قال مجيبا عن ذلك :

أولا : بأنّه من باب الشبهة غير المحصورة.

وثانيا : انّ القاعدة المذكورة انّما يتعلق بالأفراد المندرجة تحت ماهيّة واحدة والجزئيات التي تحويها حقيقة واحدة ، إذا اشتبه طاهرها بنجسها وحلالها بحرامها ، فيفرّق فيها بين المحصور وغير المحصور بما

______________________________________________________

ثمّ (قال) صاحب الحدائق بعد نقله كلام المدارك هذا حال كونه (مجيبا عن ذلك) أي : عن استدلال صاحب المدارك ورادّا له بما يلي :

(أولا : بأنّه من باب الشبهة غير المحصورة) وذلك لأنّ خارج الاناء المحتمل وقوع النجاسة فيه ، نقاط كثيرة من المكان فهو خارج من باب كون الشبهة غير محصورة ، أو من باب الخروج عن محل الابتلاء ، فلا يمكن أن يستدل به على عدم وجوب الاجتناب عن المشتبهين ممّا كان محصورا ومحل الابتلاء.

(وثانيا : انّ) ما ذكره الأصحاب : من عدم وجوب الاحتياط في المثال المذكور وهو : وقوع النجاسة داخل الاناء أو خارجه ، ليس من جهة عدم وجوب الاحتياط في الشبهة المحصورة ، حتى يكون مؤيدا لمختار المدارك ، بل انّما هو من جهة : ان (القاعدة المذكورة) وهي : وجوب الاحتياط في أطراف الشبهة المحصورة (انّما يتعلق بالأفراد المندرجة تحت ماهية واحدة) كالنجاسة في أحد الإناءين أو الغصب في احدهما لا ما كانت من ماهيتين مختلفتين.

(و) عليه : فان (الجزئيات التي تحويها حقيقة واحدة ، إذا اشتبه طاهرها بنجسها وحلالها بحرامها) كالماءين الذين أحدهما طاهر والآخر نجس ، وكاللحمين الذين أحدهما حلال والآخر حرام ، وكالزوجتين اللتين احداهما في حال الحيض والاخرى طاهرة (فيفرّق فيها بين المحصور وغير المحصور بما

٣٢٥

تضمّنه تلك الأخبار ، لا وقوع الاشتباه كيف اتفق» ، انتهى كلامه رفع مقامه.

وفيه : ـ بعد منع كون ما حكاه صاحب المدارك عن الأصحاب مختصّا بغير المحصور ،

______________________________________________________

تضمّنه تلك الأخبار) فالشبهة المحصورة مشمولة لأخبار الاحتياط ، والشبهة غير المحصورة مشمولة لأخبار البراءة (لا وقوع الاشتباه كيف اتفق») (١) بأن لم تكن أطراف الشبهة مندرجة تحت ماهية واحدة ، كما في مثال الاناء وخارجه ، وكالخمر والخل ، وكالمرأة الحائض أو غير الزوجة ، فانه لا يجب الاحتياط في المقام.

ولا يخفى : انّ الأصل في هذه المسألة هي صحيحة علي بن جعفر عن أخيه عليه‌السلام : «عن رجل امتخط فصار الدم قطعا صغارا فأصاب انائه هل يصلح الوضوء منه؟ فقال : ان لم يكن شيء يستبين في الماء فلا بأس» (٢) ، وقد استدل بها الشيخ على طهارة ما لا يدركها الطرف من النجاسة في المبسوط ، ومن الدم خاصة في الاستبصار ، وأجاب المشهور عن الرواية : بعدم دلالتها على اصابة الدم الماء ، اذ يراد بعدم الاستبانة في الرواية عدم العلم باصابته ، لا عدم ادراك الطرف الدم لأنه قد استهلك في الماء (انتهى كلامه) أي : صاحب الحدائق (رفع مقامه) وأعلى الله درجاته.

(وفيه) أولا : (بعد منع كون ما حكاه صاحب المدارك عن الأصحاب مختصّا بغير المحصور) بأن كان الشك في وقوع النجاسة في الماء أو في أطرافه ممّا

__________________

(١) ـ الحدائق الناضرة : ج ١ ص ٥١٧.

(٢) ـ الكافي (فروع) : ج ٣ ص ٧٤ ح ١٦ ، تهذيب الاحكام : ج ١ ص ٤١٢ ب ٢١ ح ١٨ ، الاستبصار : ج ١ ص ٢٣ ب ١٠ ح ١٢ ، غوالي اللئالي : ج ٣ ص ٢٢ ح ٥٧ (وفيه عن الإمام الكاظم عليه‌السلام).

٣٢٦

بل لو شكّ في وقوع النجاسة في الاناء أو ظهر الاناء ، فظاهرهم : الحكم بطهارة الماء أيضا.

كما يدلّ عليه تأويلهم لصحيحة علي بن جعفر الواردة في الدم غير المستبين في الماء بذلك ـ

______________________________________________________

يوجب ان تكون الشبهة غير محصورة كما ذكره الحدائق (بل لو شكّ في وقوع النجاسة في الاناء أو ظهر الاناء ، فظاهرهم : الحكم بطهارة الماء أيضا) مع انّه محصور بين داخل الاناء وخارج الاناء ، فحكمهم بها ليس من جهة عدم جهة عدم انحصار الشبهة ؛ ولا من جهة اختلاف الماهية كما ذكرهما الحدائق ؛ ولا من جهة عدم وجوب الاحتياط في الشبهة المحصورة عند الأصحاب كما ذكره المدارك ، بل من جهة : انّ خارج الاناء خارج عن مورد الابتلاء ، فلا أثر للعلم الاجمالي.

ثم انّ الخارج من محل الابتلاء يتصور تارة بالخروج القطعي ، كما إذا شك في نجاسة انائه أو نجاسة اناء شخص لا يتمكن من الوصول إليه ممّا هو بعيد عنه ألوف الفراسخ ، وأخرى بأن يكون قادرا عليه ، لكنّه لا يصح خطاب الشارع له من جهة انّه لا يستعمله اطلاقا ، كما لو شك في انّ القطرة وقعت في انائه أو على ورقة شجرة في داره ممّا لا يستعمله اطلاقا ، ومثال الاناء وخارجه من قبيل الثاني على ما ذكره بعض.

(كما يدلّ عليه) أي : على حكمهم بالطهارة ولو فرض الانحصار بين داخل الاناء وخارجه (تأويلهم لصحيحة (١) علي بن جعفر) المتقدّمة (الواردة في الدم غير المستبين في الماء) فانهم أوّلوا هذه الصحيحة (بذلك) الذي ذكرناه : من انّ

__________________

(١) ـ الكافي (فروع) : ج ٣ ص ٧٤ ح ١٦ ، تهذيب الاحكام : ج ١ ص ٤١٢ ب ٢١ ح ١٨ ، الاستبصار : ج ١ ص ٢٣ ب ١٠ ح ١٢ ، غوالي اللئالي : ج ٣ ص ٢٢ ح ٥٧ (وفيه عن الإمام الكاظم عليه‌السلام).

٣٢٧

أنّه لا وجه لما ذكره من اختصاص القاعدة.

أمّا أوّلا : فلعموم الأدلّة المذكورة خصوصا عمدتها ، وهي : أدلة الاجتناب من العناوين المحرّمة الواقعيّة ، كالنجس ، والخمر ، ومال الغير ، وغير ذلك بضميمة حكم العقل بوجوب دفع الضّرر المحتمل.

______________________________________________________

ظاهر الصحيحة الذي علق الحكم على الاستبانة : انّه لو لم يستبين لاحتمال أن الدم اصاب ظاهر الاناء ، فلا يجب الاجتناب عن داخل الاناء.

وفيه ثانيا : (انه لا وجه لما ذكره) الحدائق (من اختصاص القاعدة) أي : قاعدة وجوب الاحتياط بالافراد المندرجة تحت ماهية واحدة ، وذلك لما يلي :

(أمّا أوّلا : فلعموم الأدلّة المذكورة) لوجوب الاحتياط من الكتاب ، والسنة ، والاجماع ، والعقل ، وقد ذكرنا : انّ الكتاب يدل أيضا على وجوب الاجتناب في الشبهة المحصورة ، وهو قوله سبحانه : (اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) (١) فانّ هذه الأدلة تشمل الأفراد المندرجة تحت ماهية واحدة ، أو تحت ماهيتين ، أو ماهيات ، كما إذا اشتبه أحد الإناءين بانه نجس ، أو مغصوب ، أو محرّم الشرب ، لأنه ـ مثلا ـ لبن حيوان محرّم اللحم ، وهكذا.

(خصوصا عمدتها) أي : عمدة أدلة وجوب الاحتياط (وهي : أدلة الاجتناب من العناوين المحرّمة الواقعيّة كالنجس ، والخمر ، ومال الغير ، وغير ذلك) كلبن الحيوان المحرّم اللحم (بضميمة حكم العقل بوجوب دفع الضّرر المحتمل) فان قوله عليه‌السلام : و«اجتنب عن النجس» ، و«اجتنب عن الخمر» ، و«اجتنب عن مال الغير» ، و«اجتنب عن لبن حيوان محرّم الأكل وان كان طاهرا» ، يقتضي وجوب الاجتناب عن كل ما احتمل هذه الامور في صورة العلم الاجمالي ، سواء كان

__________________

(١) ـ سورة الحجرات : الآية ١٢.

٣٢٨

وأمّا ثانيا : فلأنّه لا ضابطة لما ذكره من الاندراج تحت ماهيّة واحدة ، ولم يعلم الفرق بين تردّد النّجس بين ظاهر الاناء وباطنه ، أو بين الماء وقطعة من الأرض ، أو بين الماء ومائع آخر أو بين ما يعين مختلفي الحقيقية وبين تردّده ما بين ماءين ، أو ثوبين ، أو ما يعين متّحدي الحقيقة.

نعم ، هنا شيء آخر :

______________________________________________________

الترديد في ماهية واحدة كماءين يعلم بنجاسة أحدهما ، أم ماءين يعلم بأنّ أحدهما إمّا نجس أو مغصوب.

(وأمّا ثانيا : فلأنّه لا ضابطة لما ذكره من الاندراج تحت ماهيّة واحدة) اذا لا دليل على مثل هذه الضابطة ، بالاضافة إلى انّه لم يعلم ان الماهية الواحدة يراد بها : الماهية الصنفية ، أو النوعية ، أو الجنسية القريبة ، أو الجنسية البعيدة؟ (ولم يعلم) وجه (الفرق بين تردّد النّجس بين ظاهر الاناء وباطنه ، أو بين الماء وقطعة من الأرض ، أو بين الماء ومائع آخر) كالخل (أو بين ما يعين مختلفي الحقيقية) كالخل والدبس ، فانّ في كل هذه الامور يجب بحكم العقل والشرع على ما عرفت :

الاجتناب عن جميع الاطراف اذ لا فرق بين ذلك (وبين تردّده) أي : تردد النجس (ما بين ماءين ، أو ثوبين ، أو ما يعين متّحدي الحقيقة) كالخلين ـ مثلا ـ فانّ العقل والنقل دلّا على وجوب الاجتناب عن جميع هذه الشبهات المحصورة.

(نعم ، هنا شيء آخر) وحاصل هذا الشيء هو : انّ الترديد والاشتباه قد يكون تارة في شخص الخطاب ، وأخرى في نوع الخطاب ، وثالثا : في جنس الخطاب ، فالترديد في شخص الخطاب : ما إذا حصل العلم الاجمالي بكون أحد الإناءين خمرا ، فانّ خطاب : «اجتنب عن الخمر» معلوم ، لكن الترديد حاصل في شخصه الخارجي بالنسبة إلى هذا الاناء أو ذاك الاناء.

٣٢٩

وهو : أنّه هل يشترط في العنوان المحرّم الواقعي

______________________________________________________

والترديد في نوع الخطاب : ما إذا كان أحد المشتبهين ثوبا ، والآخر مكان سجود الانسان ، حيث يشترط في ثوب المصلي وكذا محل سجوده ان يكون طاهرا ، فان جنس الخطاب بوجوب الاجتناب عن النجس معلوم ، وانّما الاجمال في نوعه ، حيث لا يعلم ان المحرّم هو اللبس في حال الصلاة ، أو هو السجود على هذا المكان ، فانّه على تقدير نجاسة الثوب يحرم لبسه في حال الصلاة ، وعلى تقدير نجاسة المكان يحرم السجود عليه فليس في المقام خطاب جامع للنجس الواقعي ، إذ لا خطاب يشمل اللبس والسجدة ، بل العلم بالتكليف مستفاد من مجموع قول الشارع : «لا تلبس النجس في الصلاة» ، و«لا تسجد على النجس» ، فانّهما إذا ألقيا إلى المكلّف علم : بأن المحرّم هو الجامع الذي تارة يكون في هذا الفرد ، وتارة في الفرد الآخر.

والترديد في جنس الخطاب : ما إذا دار الأمر بين كون هذه المرأة أجنبية ، أو كون هذا المائع خمرا ، فانّ جنس الخطاب وهو : «لا تزن» أو : «لا تشرب الخمر» غير معلوم ، وان كان المعلوم من الخطابين لدى العقلاء وجوب الاجتناب عن الزنا وعن شرب الخمر.

ولا يخفى : ان هناك ترديدا رابعا وهو : معلومية أصل اللزوم دون معلومية كونه واجبا أو محرما ، كما لو تردد الأمر بين وجوب الجمعة أو حرمة الرضيعة التي رضعت معه عشر رضعات ـ مثلا ـ.

والى هذا المعنى اشار المصنّف عند بيانه الشيء الآخر بقوله : (وهو : انّه هل يشترط في العنوان المحرّم الواقعي) كالخمر مثلا حيث ان الخمر محرم واقعا

٣٣٠

أو النجس الواقعي المردّد بين المشتبهين أن يكون على كلّ تقدير متعلّقا بحكم واحد أم لا؟.

مثلا : إذا كان أحد المشتبهين ثوبا ، والآخر مسجدا ، حيث ان المحرّم في أحدهما اللبس ، وفي الآخر السّجدة ، فليس هنا خطاب جامع للنّجس الواقعي ، بل العلم بالتكليف مستفاد من مجموع قول الشارع : «لا تلبس النّجس في الصلاة ، ولا تسجد على النّجس».

______________________________________________________

(أو النجس الواقعي) كالبول فانّه نجس واقعا (المردّد بين المشتبهين) فيما علم بان أحد الإناءين خمر ، أو علم بأن أحد الإناءين بول (أن يكون على كلّ تقدير متعلّقا بحكم واحد أم لا؟) فانّه قد يكون هناك خطاب واحد متردد بين أن يكون في هذا الاناء أو ذاك الاناء ، كما إذا علمنا بأنّ أحدهما خمر والآخر ماء ، وقد يكون خطابان تردد التكليف بينهما كما قال :

(مثلا : إذا كان أحد المشتبهين ثوبا ، والآخر مسجدا) ـ بفتح الجيم ـ والمراد به : محل السجود (حيث ان المحرّم في أحدهما اللبس ، وفي الآخر السّجدة) فانّه على تقدير نجاسة الثوب يحرم لبسه في الصلاة ، وعلى تقدير نجاسة المكان يحرم السجود عليه (فليس هنا خطاب جامع للنّجس الواقعي) يشمل اللبس والسجود حتى يقبح مخالفة

ذلك الخطاب الجامع (بل العلم بالتكليف مستفاد من مجموع قول الشارع : «لا تلبس النّجس في الصلاة ، ولا تسجد على النّجس») ، فان العرف يستفيد من هذين الخطابين جامعا ، فكلّما خالف المكلّف أحدهما وطابق الواقع رأى العرف صحة عقوبته.

ومن المعلوم : ، انّ من هذا الباب مثال الاناء وخارجه ، لأنّ داخل الاناء يحرم شربه ان كان نجسا في الواقع ، وخارج الاناء يحرم ملامسته برطوبة في حال

٣٣١

وأولى من ذلك بالاشكال ما لو كان المحرّم على كل تقدير عنوانا غيره على التّقدير الآخر ، كما لو دار الأمر بين كون أحد المائعين نجسا وكون الآخر مال الغير لإمكان تكلّف إدراج الفرض الأوّل تحت خطاب الاجتناب عن النجس بخلاف الثاني ، وأولى من ذلك ما لو تردّد الأمر بين كون هذه المرأة أجنبية أو كون هذا المائع خمرا.

وتوهّم إدراج ذلك كلّه

______________________________________________________

الصلاة ان كان هو النجس في الواقع.

(وأولى من ذلك بالاشكال) في تنجّز العلم الاجمالي (ما لو كان المحرّم على كل تقدير عنوانا غيره) أي : غير ذلك العنوان (على التّقدير الآخر) فللحرام عنوانان (كما لو دار الأمر بين كون أحد المائعين نجسا ، وكون الآخر مال الغير) فانّه وان كان يحرم على كل تقدير ، لكن الحرام على تقدير النجاسة هو عنوان النجاسة ، والحرام على تقدير مال الغير هو عنوان الغصبية.

وانّما قلنا : انّ هذه الصورة أولى بالاشكال (لإمكان تكلّف إدراج الفرض الأوّل) وهو تردد الأمر بين اللبس والسجدة (تحت خطاب الاجتناب عن النّجس) الشامل للنجس في الثوب أو في مكان السجود ، فهو عنوان واحد مردد بين الأمرين (بخلاف) الفرض (الثاني) وهو : كون أحد المائعين نجسا وكون الآخر مال الغير ، لأنّه لا عنوان واحد يجمع النجس والغصب فيهما معا.

(وأولى من ذلك) في الاشكال (ما لو تردّد الأمر بين كون هذه المرأة أجنبية) يحرم وطيها (أو كون هذا المائع خمرا) فيحرم شربها ، حيث انّه لا جامع بين الوطي والشرب.

هذا (وتوهّم ادراج ذلك كلّه) أي : كل الفروض المذكورة التي ذكرنا الاشكال

٣٣٢

في وجوب الاجتناب عن الحرام ، مدفوع بأنّ الاجتناب عن الحرام عنوان ينتزع من الأدلّة المتعلقة بالعناوين الواقعيّة ، فالاعتبار بها لا به ،

______________________________________________________

فيها حتى مثال المرأة والمائع (في) الخطاب التفصيلي وهو : (وجوب الاجتناب عن الحرام) فان الارتكاب على كل تقدير حرام ، سواء في المثال الأوّل ، أو الثاني ، أو الثالث ، فيحرم المخالفة عقلا وشرعا ، (مدفوع : بأنّ الاجتناب عن الحرام عنوان ينتزع من الأدلّة المتعلقة بالعناوين الواقعيّة) وليس اجتنب عن الحرام عنوانا مولويا مستقلا يشمل جميع الامثلة.

والحاصل : انّه لم يكن هناك من الشارع خطاب مولوي باجتنب عن الحرام ، حتى تكون هذه الأمثلة من باب الخطاب التفصيلي لذلك الخطاب الاجمالي وانّما ورد خطاب الشارع بعناوين مخصوصة مثل : «اجتنب عن النجس» ، و«اجتنب عن الخمر» ، و«اجتنب عن المرأة» ، وهكذا ، حيث انّه لا خطاب واحد وان كان ينتزع من المجموع خطاب واحد باجتنب عن الحرام ، بل وكذلك المثال الذي ذكرناه : من تردد الأمر بين الواجب والحرام ، فانّ الجامع فيه اعتباري وهو : التزم بالترك أو بالفعل ، وحينئذ (فالاعتبار بها) أي : بتلك الأدلة (لا به) أي : لا بالخطاب المنتزع من المجموع.

اللهم إلّا أن يقال : بأن هناك جوامع أيضا يمكن شمولها لجميع تلك الأمثلة مثل قوله سبحانه : (ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) (١) ، ومثل قوله سبحانه : (ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (٢) ، ومثل قوله سبحانه : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) (٣) حيث الاطاعة شاملة

__________________

(١) ـ سورة الحشر : الآية ٧.

(٢) ـ سورة النساء : الآية ٦٥.

(٣) ـ سورة النساء : الآية ٥٩.

٣٣٣

كما لا يخفى.

والأقوى أنّ المخالفة القطعيّة في جميع ذلك غير جائز ، ولا فرق عقلا وعرفا في مخالفة نواهي الشرع بين العلم التفصيلي بخصوص ما خالفه وبين العلم الاجمالي بمخالفة أحد النهيين. ألا ترى أنّه لو ارتكب مائعا واحدا يعلم أنّه مال الغير أو نجس لم يعذر لجهله التفصيلي بما خالفه ، فكذا حال من ارتكب النظر إلى امرأة وشرب المائع في المثال الأخير.

______________________________________________________

للأوامر والنواهي (كما لا يخفى).

إذن : فالاحوط ، بل (والأقوى انّ المخالفة القطعيّة في جميع ذلك غير جائز) بأن يرتكب الانسان كلا طرفي الحرام ، أو يترك محتمل الوجوب ويأتي بمحتمل الحرمة (ولا فرق عقلا وعرفا) بعد أن كان العرف هم ميزان الاطاعة والمعصية (في مخالفة نواهي الشرع بين العلم التفصيلي بخصوص ما خالفه) مثل ارتكاب الماءين ، أو المائعين ، أو الثوب ومحل السجود ، فانّه مخالفة للخطاب التفصيلي القائل : لا تشرب النجس أو لا تشرب الخمر ، أو اجتنب عن النجس (وبين العلم الاجمالي بمخالفة أحد النهيين) كما في مثال التردّد بين النجاسة والغضبيّة ، وبين الأجنبية والخمرية ، بل وبين العلم الاجمالي بمخالفة نهي أو مخالفة أمر.

(ألا ترى : أنّه لو ارتكب مائعا واحدا يعلم) حرمته ، لكنّه متردّد في (انّه مال الغير أو نجس لم يعذر لجهله التفصيلي بما خالفه) فلو اعتذر عن ارتكابه بأنّه لم يعلم بالخطاب تفصيلا لم يعذره العقلاء والعرف (فكذا حال من ارتكب النظر إلى امرأة وشرب المائع في المثال الأخير) أو ترك الجمعة وتزوج بالرضيعة ، في المثال المتقدّم.

٣٣٤

والحاصل : أنّ النواهي الشرعيّة بعد الاطلاع عليها بمنزلة نهي واحد عن عدّة امور.

فكما تقدّم : أنّه لا يجتمع نهي الشارع عن أمر واقعي واحد ، كالخمر مع الاذن في ارتكاب المائعين المردّد بينهما الخمر ، فكذا لا يجتمع النهي عن عدّة امور مع الاذن فى ارتكاب كلا الأمرين المعلوم وجود أحد تلك الامور فيهما.

وأما الموافقة القطعيّة : فالأقوى أيضا وجوبها ، لعدم جريان أدلة الحليّة ولا أدلة

______________________________________________________

(والحاصل : انّ النواهي الشرعيّة بعد الاطلاع عليها بمنزلة نهي واحد عن عدّة امور) وكذا بالنسبة الى الأوامر المتعددة أو بالنسبة إلى أمر ونهي (فكما تقدّم : انّه لا يجتمع نهي الشارع عن أمر واقعي واحد ، كالخمر مع الاذن في ارتكاب المائعين المردّد بينهما الخمر) لأنّه يستلزم التناقض (فكذا لا يجتمع النهي عن عدّة امور مع الاذن في ارتكاب كلا الأمرين المعلوم وجود أحد تلك الامور فيهما) بأن ينهى عن شرب النجس وعن السجود على النجس ـ مثلا ـ ثم يأذن فيهما لو تردد الأمر بين أحدهما وكذلك الحال بالنسبة الى التردد بين أمر ونهي.

هذا كلّه هو تمام الكلام في حرمة المخالفة القطعية.

(وأما الموافقة القطعيّة : فالأقوى أيضا وجوبها) فلا يجوز له ارتكاب أحدهما (لعدم جريان أدلة الحليّة) مثل قوله عليه‌السلام : «كل شيء لك حلال» (١) (ولا أدلة

__________________

(١) ـ الكافي (فروع) : ج ٥ ص ٣١٣ ح ٤٠ ، تهذيب الاحكام : ج ٧ ص ٢٢٦ ب ٢١ ح ٩ ، وسائل الشيعة : ج ١٧ ص ٨٩ ب ٤ ح ٢٢٠٥٣ ، بحار الانوار : ج ٢ ص ٢٧٣ ب ٣٣ ح ١٢.

٣٣٥

البراءة عقليّها ونقليّها.

وأما النقلية ، فلما تقدّم من استوائها بالنسبة إلى كلّ من المشتبهين ، وابقاؤهما يوجب التنافي مع أدلة تحريم العناوين الواقعيّة ، وابقاء واحد علي سبيل البدل

______________________________________________________

البراءة عقليّها) مثل : قبح العقاب بلا بيان (ونقليّها) مثل : «رفع ما لا يعلمون» (١) ، فانها لا تجري في المقام.

(وأما النقلية فلما تقدّم : من استوائها) اي : الأدلّة النقليّة (بالنسبة إلى كلّ من المشتبهين) فانّ «رفع ما لا يعلمون» يشمل كلا الإناءين ، لأنّ كل واحد منهما لا يعلم انّه حرام ، وكذلك «كلّ شيء لك حلال حتى تعرف انّه حرام بعينه» (٢) يشمل كل واحد منهما حيث لا يعلم الحرام بعينه ، فالدليل يشمل كلا المشتبهين بنسبة متساوية.

(و) عليه : فاذا تساوت نسبة الأدلة من المشتبهين فما هو العلاج؟ هل هو (ابقاؤهما) أي : المشتبهين تحت عموم ادلة الحل والبراءة وجريانها في كلا المشتبهين؟ ان كان ذلك ، فانّه (يوجب التنافي مع أدلة تحريم العناوين الواقعيّة ، و) ذلك لانّ المفروض انّا نعلم بوجود أحد تلك العناوين بين المشتبهين ، فان الشارع حيث قال : اجتنب عن النجس وعلمنا بوجود النجس بين الإناءين لزم الاجتناب عن النجس منهما ، فاذا أجاز ارتكاب كليهما كان ذلك تناقضا ومستحيلا.

أو هل العلاج هو : (ابقاء واحد على سبيل البدل) بأن ياذن له بارتكاب احد

__________________

(١) ـ الاختصاص : ص ٣١ ، الخصال : ص ٤١٧ ح ٢٧ ، تحف العقول : ص ٥٠ ، وسائل الشيعة : ج ١٥ ص ٣٦٩ ب ٥٦ ح ٢٠٧٦٩ ، التوحيد : ص ٣٥٣ ح ٢٤.

(٢) ـ الكافي (فروع) : ج ٥ ص ٣١٣ ح ٤٠ (مع تفاوت) وقريب منه في المحاسن : ص ٤٩٥ ح ٥٩٦ وبحار الانوار : ج ٢ ص ٢٧٤.

٣٣٦

غير جائز ، اذ بعد خروج كلّ منهما بالخصوص ، ليس الواحد لا بعينه فردا ثالثا يبقى تحت أصالة العموم.

وأما العقل ، فلمنع استقلاله في المقام بقبح مؤاخذة من ارتكب الحرام

______________________________________________________

المشتبهين وترك الآخر ، ان كان هذا فهو (غير جائز) أيضا ، لانه يكون في نظر المكلّف محتمل التناقض لاحتمال أن يصادف ما يستعمله للنجس الواقعي ، فيكون معناه : انّه قال تارة : «استعمل» ، واخرى : «اجتنب ولا تستعمل» واحتمال التناقض كالتناقض مستحيل.

وإنّما لا يجوز ابقاء واحد على سبيل البدل (اذ بعد خروج كلّ منهما بالخصوص ، ليس الواحد لا بعينه فردا ثالثا يبقى تحت أصالة العموم) أي : عموم أدلة الحل والبراءة ، مثل : «كلّ شيء لك حلال» (١) فانّ مثل هذا العموم إنّما يشمل الشبهات البدوية أو غير المحصورة ، أو المحصورة إذا كان بعضها خارجا عن محل الابتلاء ، ولا يشمل مثل الشبهات المقرونة بالعلم الاجمالي إذا كان جميع أطرافها محل الابتلاء ، كما سبق الماع المصنّف إلى ذلك من ردّ المحققين القميّ والنّراقي.

إذن : فلا يبقى الّا اخراج المشتبهين من تحت عموم أدلة الحل والبراءة ، والقول بوجوب الموافقة القطعية فيهما.

(وأما العقل) وهو : قبح العقاب بلا بيان (فلمنع استقلاله في المقام) اي : في الشبهة المحصورة عند تردد الخطاب بالاجتناب بين خطابين إمّا للنجاسة وإمّا للغصبية ـ مثلا ـ فالعقل لا يحكم (بقبح مؤاخذة من ارتكب الحرام

__________________

(١) ـ الكافي (فروع) : ج ٥ ص ٣١٣ ح ٤٠ ، تهذيب الاحكام : ج ٧ ص ٢٢٦ ب ٢١ ح ٩ ، وسائل الشيعة : ج ١٧ ص ٨٩ ب ٤ ح ٢٢٠٥٣ ، بحار الانوار : ج ٢ ص ٢٧٣ ب ٣٣ ح ١٢.

٣٣٧

المردد بين الأمرين ، بل الظاهر استقلال العقل في المقام ـ بعد عدم القبح المذكور ـ بوجوب دفع الضرر ، أعني العقاب المحتمل فى ارتكاب أحدهما.

وبالجملة : فالظاهر عدم التفكيك في هذا المقام بين المخالفة القطعيّة والمخالفة الاحتماليّة ، فإمّا ان تجوّز الأولى وإمّا ان تمنع الثانية.

______________________________________________________

المردد بين الأمرين) فانّه إذا ارتكب المكلّف احدهما وصادف الحرام الواقعي لم ير العقل قبحا في عقوبته.

(بل الظاهر : استقلال العقل في المقام ـ بعد عدم القبح المذكور ـ) في الحكم (بوجوب) الموافقة القطعية ، وذلك بالاجتناب عن كليهما ، لانّ العقل يرى لزوم (دفع الضرر ، أعني : العقاب المحتمل في ارتكاب أحدهما) فانّه إذا ارتكب أحدهما احتمل مطابقته للواقع ، وإذا طابق الواقع المحرّم فلا يري العقل قبحا في عقابه ، والعقاب ضرر فيوجب العقل دفعه.

(وبالجملة : فالظاهر عدم التفكيك في هذا المقام) وهو : تردّد الخطاب بين الخطابين في الشبهة المحصورة (بين المخالفة القطعيّة والمخالفة الاحتماليّة ، فامّا ان تجوّز الأولى) فيقال : بجواز المخالفة القطعية ، وذلك بناء على عدم تنجّز التكليف بالعلم الاجمالي في صورة تردد الخطاب بين الخطابين ، فيجوز للمكلّف ارتكاب كليهما.

(وإمّا ان تمنع) بصيغة المجهول (الثانية) فيقال : بعدم جواز المخالفة الاحتمالية أيضا ، وذلك بناء على تنجز العلم الاجمالي في المقام ، حيث ذكرنا : انّ العقل لا يقبّح المؤاخذة على من ارتكب احدهما لو صادف الواقع المحرم ، وعين هذا الكلام يأتي أيضا في مورد دوران الأمر بين الوجوب والتحريم كما لا يخفى.

٣٣٨

الثاني :

انّ وجوب الاجتناب عن كلّ من المشتبهين هل هو بمعنى لزوم الاحتراز عنه حذرا من الوقوع في المؤاخذة بمصادفة ما ارتكبه للحرام الواقعي ، فلا مؤاخذة الّا على تقدير الوقوع في الحرام ، أو هو بمعنى لزوم الاحتراز عنه من حيث أنّه مشتبه ، فيستحقّ المؤاخذة بارتكاب أحدهما ، ولو لم يصادف الحرام.

______________________________________________________

إذن : فلا تفكيك في الشبهة المحصورة بين القول بحرمة المخالفة القطعية وبين القول بوجوب الموافقة القطعية ، وحيث قد عرفت تفصيل ذلك فلا حاجة إلى تكراره.

(الثاني) من التنبيهات : (انّ وجوب الاجتناب عن كلّ من المشتبهين هل هو) ارشادي (بمعنى : لزوم الاحتراز عنه) أي : عن كل من المشتبهين (حذرا من الوقوع في المؤاخذة بمصادفة ما ارتكبه للحرام الواقعي) فانّه إذا ارتكب أحدهما وصادف الواقع كان له عقاب الواقع لا عقاب ترك الاحتياط ، ولو لم يصادف الواقع لم يكن له عقاب بل كان تجريا ، فمن قال بحرمة التجري يقول بانّه حرام من جهة التجري ، ومن لم يقل بحرمة التجري كالمصنف لا يقول بحرمته (فلا مؤاخذة) إذن (الّا على تقدير الوقوع في الحرام) وهذا هو معنى الارشادي.

(أو هو) وجوب مولوي ولكن ثانوي لا وجوب أوّلي (بمعنى : لزوم الاحتراز عنه من حيث انّه مشتبه) ولازمه : حرمة الحلال الواقعي أيضا عند الاشتباه ، لكن لعنوان ثانوي هو : عنوان انّه مشتبه.

وعليه : (فيستحقّ) المرتكب لاحدهما العقاب و(المؤاخذة ب) سبب (بارتكاب أحدهما ، ولو لم يصادف الحرام) الواقعي لانّه قد ارتكب المحرم

٣٣٩

ولو ارتكبهما استحق عقابين ، فيه وجهان ، بل قولان : أقواهما الاول ، لأنّ حكم العقل بوجوب دفع الضرر بمعنى العقاب المحتمل ، بل المقطوع حكم ارشادي.

وكذا لو فرض أمر الشارع بالاجتناب عن عقاب محتمل أو مقطوع بقوله : «تحرّز عن الوقوع في معصية النهي عن الزنا» ، لم يكن إلّا إرشاديّا ،

______________________________________________________

بالعنوان الثانوي وهو المشتبه (ولو ارتكبهما استحق عقابين) : عقاب ارتكاب الحرام الواقعي ، وعقاب ارتكاب المشتبه.

(فيه وجهان ، بل قولان : أقواهما الأوّل) وهو : انّه من باب الارشاد حذرا من الوقوع في الحرام. (لأنّ حكم العقل بوجوب دفع الضرر بمعنى : العقاب المحتمل) أو العقاب المظنون (بل المقطوع ، حكم ارشادي) لا مولوي حتى يكون العقاب على مخالفة ولو لم يصادف الواقع ، بل هو ارشادي ولا عقاب على مخالفته الّا إذا صادف الواقع ، بأن كان ما ارتكبه حراما واقعيا.

وان شئت قلت : إنّ العقل يوجب الاجتناب عن كلا المشتبهين ، فاذا ارتكب الشخص أحدهما باحتمال انّه الحرام ، أو بظن انّه الحرام ، أو بقطع انّه الحرام ، ولكن لم يكن ما ارتكبه مصادفا للحرام الواقعي لم يكن لما ارتكبه عقاب.

(وكذا لو فرض أمر الشارع بالاجتناب عن عقاب محتمل) أو عقاب مظنون (أو) عقاب (مقطوع) أمرا (بقوله : «تحرّز عن الوقوع في معصية النهي عن الزنا» لم يكن) هذا الامر (الّا ارشاديّا) وانّما لم يكن إرشاديا ، لانه لو كان امرا مولويا لزم أن يكون للمصادف عقابان عقاب الحرام ، وعقاب مخالفة النهي عن الوقوع في الحرام بمخالفة أمر الاحتياط ، ومن البديهي : انّه ليس لكلّ حرام عقابان ، بل عقاب واحد بدليل الكتاب والسنة والاجماع والعقل ، قال سبحانه :

٣٤٠