الوصائل الى الرسائل - ج ٨

آية الله السيد محمد الشيرازي

الوصائل الى الرسائل - ج ٨

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة عاشوراء للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7263-08-2
ISBN الدورة:
964-7263-04-X

الصفحات: ٤٠٠

أنّ مقصود الشارع من هذه الأخبار ان يلغى ـ من طرفي الشك في حرمة الشيء وحليته ـ احتمال الحرمة ، ويجعل محتمل الحليّة في حكم متيقّنها. ولما كان في المشتبهين بالشبهة المحصورة شكّ واحد ، ولم يكن فيه الّا احتمال كون هذا حلالا وذاك حراما واحتمال العكس ، كان الغاء احتمال الحرمة في أحدهما اعمالا له في الآخر وبالعكس ، وكان الحكم الظّاهري في أحدهما بالحل : حكما ظاهريا بالحرمة في الآخر ، وليس معنى حلية كل

______________________________________________________

الجميع لما عرفت : من عدم المنافاة ، وفي المقرون بالعلم الاجمالي : حل بعض الاطراف للتنافي ، كما قال : (: أنّ مقصود الشارع من هذه الأخبار) الدالة على الحلية هو (ان يلغى ـ من طرفي الشك في حرمة الشيء وحليته ـ احتمال الحرمة ويجعل محتمل الحليّة في حكم متيقّنها) أي متيقن الحلية ، فيكون حاصل هذه الأخبار : ألغ احتمال الحرمة.

(و) عليه : فانّه (لما كان في المشتبهين) أو المشتبهات بالشبهة البدوية شك متعدد ، لأنّ كل واحد من أفراد تلك الشبهات البدوية مشكوك الحل والحرمة ، لكن بحيث لا يكون البناء على حليّة أحدها منافيا للبناء على حلية الآخر : جرى الحل في جميعها.

بخلاف المشكوك (بالشبهة المحصورة) فانّه (شك واحد ولم يكن فيه الّا احتمال كون هذا حلالا وذاك حراما ، واحتمال العكس) بأن يكون ذاك حلالا وهذا حراما (كان الغاء احتمال الحرمة في أحدهما اعمالا له) أي : لاحتمال الحرمة (في الآخر ، وبالعكس) بأن كان اعمال احتمال الحرمة في أحدهما إلغاء لاحتمال الحرمة في الآخر (وكان) معنى ذلك : ان (الحكم الظّاهري في أحدهما بالحل : حكما ظاهريا بالحرمة في الآخر ، و) بعبارة اخرى : (ليس معنى حلية كل

٢٨١

منهما الّا الاذن في ارتكابه والغاء احتمال الحرمة فيه المستلزم لاعماله في الآخر.

فتأمل حتى لا يتوهم أنّ استعمال قوله «كلّ شيء لك حلال» بالنسبة إلى الشبهات المقرونة بالعلم الاجمالي ، والشبهات المجرّدة ، استعمال في معنيين.

______________________________________________________

منهما) أي : من المشتبهين في المقرون بالعلم الاجمالي المحصور (الّا الاذن في ارتكابه) أي : ارتكاب أحدهما (والغاء احتمال الحرمة فيه ، المستلزم لاعماله) أي : اعمال الحرمة (في الآخر) على ان يكون بدلا عن الحرام الواقعي.

(فتأمل) في الجواب الذي ذكرناه بقولنا : «والحاصل» (حتى لا يتوهم ان استعمال قوله) عليه‌السلام : («كل شيء لك حلال» (١) بالنسبة إلى الشبهات المقرونة بالعلم الاجمالي ، والشبهات المجرّدة ، استعمال في معنيين) وهو لا يجوز ، اذ قد عرفت : إنّ اللفظ قد استعمل في معنى واحد كلي ، وهو : البناء على ان كل مشتبه موضوعا محلل ، وانّما التخييرية والتعيينية من لوازم خصوص المورد ، فان كان المورد شبهة بدوية ، كان كل واحد واحد حلالا وإن كان المورد شبهة محصورة بالعلم الاجمالي كان المحلل بعضها دون بعض ، فدلالة الحديث على الحلية في الشبهة البدوية والمقرونة بالعلم الاجمالي على نسق واحد ، وانّما فهم التخيير في الشبهة المقرونة بالعلم الاجمالي للعلم الخارجي بأن أحدهما حرام ، فيكون لازم الحكم بحلية أحد المشتبهين : الحكم بحرمة الآخر.

__________________

(١) ـ الكافي (فروع) : ج ٥ ص ٣١٣ ح ٤٠ ، تهذيب الاحكام : ج ٧ ص ٢٢٦ ب ٢١ ج ٩ ، وسائل الشيعة : ج ١٧ ص ٨٩ ب ٤ ح ٢٢٠٥٣ ، بحار الانوار : ج ٢ ص ٢٧٣ ب ٣٣ ح ١٢.

٢٨٢

قلت : الظاهر من الأخبار المذكورة : البناء على حلّية محتمل التحريم والرّخصة فيه ، لا وجوب البناء على كونه هو الموضوع المحلّل ، و

______________________________________________________

(قلت) إنّ الاشكال كان مبنيا على مقدمتين :

الأولى : كون مقتضى الأخبار المذكورة هو : البناء على كون محتمل الحرمة هو الموضوع المحلل الواقعي.

الثانية : كون مقتضى البناء المذكور في أحد المشتبهين هو : البناء على كون المشتبه الآخر هو الموضوع المحرّم الواقعي ، والمصنّف منع كلتا المقدمتين.

أمّا منع المقدمة الأولى : فلانّ مقتضى الأخبار المذكورة هو : مجرد الرخصة في الارتكاب بمعنى عدم الحرمة في الظاهر ، فكأنه قال : محتمل التحريم حلال ، لا انه قال : لا تبن على كون أحد المشتبهين هو الموضوع المحلل حتى يستلزم كون الآخر هو الموضوع المحرم ، فكلام الشارع انّما هو في الحكم لا في الموضوع ، بينما المستشكل جعل كلام الشارع في الموضوع ، واليه أشار المصنّف بقوله : (الظاهر من الأخبار المذكورة) أي : أخبار الحل (: البناء على حلّية محتمل التحريم والرّخصة فيه) أي : في محتمل التحريم (لا وجوب البناء على كونه) أي : محتمل التحريم (هو الموضوع المحلّل) فالمستشكل حمل أدلة الحل على التصرّف في الموضوع ، وفرّع على ذلك : شمولها لمورد العلم الاجمالي وحكومتها على قاعدة الاشتغال كما بيناه ، ولكن ليس الأمر كذلك ، بل ظاهر هذه الأخبار الدالة على الحل : مجرد الحكم بحلية المشتبه ظاهرا من دون وجوب البناء على كونه هو الموضوع المحلل.

(و) أمّا منع المقدمة الثانية ، فانّه لو سلمنا المقدمة الأولى فلا نسلم المقدمة الثانية ، وذلك لأنّ البناء على كون أحدهما هو الموضوع المحلل انّما يستلزم البناء

٢٨٣

لو سلم فظاهرها البناء على كون كل مشتبه كذلك.

وليس الأمر بالبناء على كون الآخر هو الخمر ، فليس في الروايات من البدليّة عين ولا أثر ، فتدبّر.

______________________________________________________

على كون الآخر هو الموضوع المحرم ، من باب حكم العقل لأجل وحدة الشك ، والعلم اجمالا بكون أحدهما حلالا في الواقع والآخر حراما في الواقع ، لكن سيجيء في مبحث الاستصحاب ـ إن شاء الله تعالى ـ عدم اثبات الاصول اللوازم العقلية لمؤدياتها نظير اثبات أحد الضدين بنفي الآخر.

وعليه : فاللازم في المقام إمّا إلغاء العلم الاجمالي إطلاقا والحكم بحلية كلا المشتبهين لأجل الأخبار المذكورة الدالّة على الحل ، وأمّا القول بحرمة كل منهما لأجل ما ذكرناه من حكومة قاعدة الاشتغال على أصالة الحل في المشتبهين ، فليس في الروايات التي ذهب إليها المستشكل ما يدل على البدل شيء ، كما قال :

انه (لو سلم) كلام المستشكل في المقدمة الاولى (فظاهرها البناء على كون كل مشتبه كذلك) حلالا.

(و) من المعلوم : انه (ليس الأمر بالبناء على كون) أحد المشتبهين في الشبهة المقرونة بالعلم الاجمالي خلا ، أمرا بالبناء على كون المشتبه (الآخر هو الخمر) لوضوح : انّ الملازمة بين حليّة أحدهما وخمرية الآخر عقلية لا شرعية ، وأدلة الحل لا تثبت اللوازم العقلية ، فلا تدل هذه الروايات على انه إذا بنينا على خلية أحدهما يلزم ان نبني على خمرية الآخر بدلا (فليس في الروايات من البدليّة عين ولا أثر) على ما عرفت ، فأين ما ذكرتم من أنّه يجوز ارتكاب أحد المشتبهين وترك الآخر بدلا؟.

(فتدبّر) ولعل وجهه : إنّ الأخبار تدل على حلية كلا المشتبهين في المقرونة

٢٨٤

احتجّ من جوّز ارتكاب ما عدا مقدار الحرام والمنع عنه

بوجهين :

الأوّل :

الأخبار الدالّة على حلّ ما لم يعلم حرمته التي تقدّم بعضها.

وإنّما منع من ارتكاب مقدار الحرام إمّا لاستلزامه للعلم بارتكاب الحرام وهو

______________________________________________________

بالعلم الاجمالي ، لكنّا نخصص هذه الأخبار بالدليل العقلي هو : استحالة ان يقول الشارع التناقض ، فاللازم أن يكون أحد المشتبهين حراما جمعا بين الدليل الشرعي بالحل ، والدليل العقلي بأنّ الشارع لم يلغ الحرام في البين ، وحيث انه لم يخصص الأحمر للحل والأبيض للحرمة أو بالعكس ، نقول بالبدلية.

(احتجّ من جوّز ارتكاب ما عدا مقدار الحرام والمنع عنه) أي : عن ذلك المقدار المحرم كما إذا كانت خمس أواني اثنان منها حرام ، ترك الاثنين وارتكب ثلاثة منها ، وإذا كانت الأواني عشرة وأربعة منها محرمة ، ارتكب ستة وترك منها أربعة ، وهكذا ، فقد احتج له (بوجهين) على ما يلي :

(الأوّل : الأخبار الدالة على حلّ ما لم يعلم حرمته التي تقدّم بعضها) مثل قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال» (١) فهي تدل على حل الجميع (وانّما منع من ارتكاب مقدار الحرام : إمّا لاستلزامه للعلم بارتكاب الحرام) كما ذكره المحقق القمي رحمه‌الله حيث انّه لو ارتكب الاثنين فيما إذا كان أحدهما حراما ، علم بأنه ارتكب الحرام (وهو) أي : العلم بارتكاب الحرام

__________________

(١) ـ من لا يحضره الفقيه : ج ٣ ص ٣٤١ ب ٢ ح ٤٢٠٨ ، غوالي اللئالي : ج ٣ ص ٤٦٥ ح ١٦ ، تهذيب الاحكام : ج ٧ ص ٢٢٦ ب ٢١ ح ٨ وج ٩ ص ٧٩ ب ٤ ح ٧٢ ، وسائل الشيعة : ج ١٧ ص ٨٨ ب ٤ ح ٢٢٠٥٠.

٢٨٥

حرام ، وإمّا لما ذكره بعضهم من أنّ ارتكاب مجموع المشتبهين حرام لاشتماله على الحرام.

قال في توضيح ذلك : «انّ الشارع منع عن استعمال الحرام المعلوم ، وجوّز استعمال ما لم يعلم حرمته ، والمجموع من حيث المجموع معلوم الحرمة ولو باعتبار جزئه ، وكذا كل منهما بشرط الاجتماع مع الآخر فيجب اجتنابه ، وكلّ منهما بشرط الانفراد

______________________________________________________

(حرام) فانه لا يجوز للانسان أن يفعل شيئا يعلم بأنّه ارتكب بذلك الشيء الحرام ، سواء كان بالعلم التفصيلي أو بالعلم الاجمالي ، لأنه خلاف طريقة العقلاء في الطاعة.

(وإمّا لما ذكره بعضهم) وهو المحقق النراقي (: من أنّ ارتكاب مجموع المشتبهين حرام لاشتماله على الحرام) ومعناه : إنّ المجموع المشتمل على جزء محرم يكون محرما ، فقد (قال) المحقق النراقي (في توضيح ذلك : «انّ الشارع منع عن استعمال الحرام المعلوم ، وجوّز استعمال ما لم يعلم حرمته) فالخل حلال والخمر حرام في الإناءين المشتبهين (والمجموع من حيث المجموع معلوم الحرمة ولو باعتبار جزئه) الذي هو الخمر (وكذا كل منهما بشرط الاجتماع مع الآخر) يكون معلوم الحرمة (فيجب اجتنابه).

ولا يخفى : ان الفرق بين قوله «المجموع من حيث المجموع» ، وبين قوله : «كل منهما بشرط الاجتماع» هو : انّ أطراف الشبهة ان لوحظت مجتمعة ، فتكون مركبا وحراما باعتبار جزئه ، وان لوحظت منفردة لكن بشرط انضمام الآخر ، فتكون مشروطا وحراما باعتبار حرمة واحد من الشرط أو المشروط ، فسواء كان الجزء حراما أم كان الشرط أو المشروط حراما يلزم الاجتناب عن المجموع من حيث المجموع.

(و) أمّا ان كان (كل منهما) أي : من المشتبهين (بشرط الانفراد) أي :

٢٨٦

مجهول الحرمة فيكون حلالا».

والجواب عن ذلك : انّ الأخبار المتقدمة على ما عرفت إمّا ان لا تشمل شيئا من المشتبهين ، وإمّا ان تشملهما جميعا.

______________________________________________________

ارتكاب أحدهما دون الآخر ، وليس المراد بالشرط هنا : الشرط الاصطلاحي بل معناه : ان يعمل أحدهما منفردا ، وهو منفردا (مجهول الحرمة) لأنّه لا يعلم ان هذا الشيء الذي ارتكبه حرام (فيكون حلالا»).

وعلى هذا ، يتم ما ذكروه : من أن أحد المشتبهين حرام ارتكابه وأحد المشتبهين حلال ارتكابه ، فاذا اشتبه في اثنين يجوز ارتكاب أحدهما.

(والجواب عن ذلك : انّ الأخبار المتقدمة) مثل : «كل شيء فيه حلال وحرام» (١) وما أشبه ، فهو (على ما عرفت) في المقام الاوّل : من ان تلك الاخبار اما لا تشمل كلا المشتبهين فكلاهما حلال ، واما لا تشمل المشتبهين أصلا فكلاهما واجب الاجتناب بمقتضى العلم الاجمالي ، أمّا انه يحل احدهما ويحرم الآخر فلا دليل عليه.

والحاصل : إنّ الاخبار (إمّا ان لا تشمل شيئا من المشتبهين) لأن التكليف بالحرام المردد بينهما منجّز ، فاللازم اجتنابهما معا : اما الحرام فلأنه حرام ، واما الآخر فلأنه مقدمة علمية لاجتناب الحرام (وإمّا أن تشملهما جميعا) بناء على اعتبار العلم التفصيلي في موضوع التكليف شرعا ، أو اشتراط العلم التفصيلي في تنجز التكليف عقلا ، فتشمل تلك الاخبار كلا طرفي الشبهة ، فالتفصيل بين أحدهما بالحرمة ، وبين الآخر بالحلية ، لا دليل عليه.

__________________

(١) ـ تهذيب الاحكام : ج ٧ ص ٢٢٦ ب ٢١ ح ٨ ، ج ٩ ص ٧٩ ب ٤ ح ٧٢ ، الكافي (فروع) : ج ٥ ص ٣١٣ ح ٣٩ ، غوالي اللئالي : ج ٣ ص ٤٦٥ ح ١٦ ، وسائل الشيعة : ج ١٧ ص ٨٨ ب ٤ ح ٢٢٠٥٠.

٢٨٧

وما ذكر من الوجهين لعدم جواز ارتكاب الأخير بعد ارتكاب الأوّل ، فغير صالح للمنع.

أمّا «الأوّل» : فلأنه إن أريد : أنّ مجرّد تحصيل العلم بارتكاب الحرام حرام ، فلم يدلّ عليه.

نعم ، تحصيل العلم بارتكاب الغير للحرام حرام

______________________________________________________

(و) ان قلت : انّ الوجهين المذكورين عن الميرزا القمي ، والمحقق النراقي يوجبان تخصيص شمول الاخبار لكلا الطرفين.

قلت : (ما ذكر من الوجهين لعدم جواز ارتكاب الأخير بعد ارتكاب الأوّل فغير صالح للمنع) عن ارتكاب أحدهما.

(أمّا «الأوّل») الذي ذكره المحقق القمي (فلأنه) غير تام ، إذ مراد المحقق القمي لا يخلو من أحد وجوه ثلاثة : امّا حرمة تحصيل العلم بالمخالفة ، وامّا حرمة المخالفة المعلومة تفصيلا ، وامّا حرمة المخالفة المعلومة مطلقا سواء كانت معلومة تفصيلا أم اجمالا ، وكل هذه الوجوه الثلاثة غير صالحة للمنع عن ارتكاب أحد المشتبهين.

والى هذه الوجوه وعدم صلاحيتها للمنع اشار المصنّف بقوله : (إن أريد : أنّ مجرّد تحصيل العلم بارتكاب الحرام حرام ، فلم يدلّ عليه) دليل ، فإنّ الانسان اذا راجع ما سبق من أعماله ووجد حراما في تلك الاعمال ، فهل تحرم هذه المراجعة المنتهية إلى علمه بأنه فعل حراما؟ لم يقل أحد بذلك ، لانه لم يدل على حرمته دليل من عقل ولا نقل.

(نعم ، تحصيل العلم بارتكاب الغير للحرام حرام) وذلك بأن يفتّش الانسان في أحوال الآخرين حتى يطّلع على ما فعلوه من الحرام ، فتحصيل العلم بذلك

٢٨٨

من حيث التجسس المنهي عنه وإن لم يحصل له العلم.

وإن أريد أنّ الممنوع عنه عقلا من مخالفة احكام الشرع ، بل مطلق الموالي ، هي المخالفة العلمية ، دون الاحتمالية فانّها لا تعدّ عصيانا في العرف ، فعصيان الخطاب باجتناب الخمر المشتبه هو : ارتكاب المجموع دون المحرّم الواقعي وإن لم يعرف حين الارتكاب ، وحاصله منع وجوب المقدّمة العلمية.

______________________________________________________

الحرام (من حيث التجسس المنهي عنه) فقد قال سبحانه : (وَلا تَجَسَّسُوا ...) (١) فان التجسّس حرام حتى (وإن لم يحصل له العلم) بأنه فعل حراما.

(وان اريد) من منع ارتكاب أحدهما فقط : حرمة المخالفة المعلومة تفصيلا لا اجمالا بتقريب : (أنّ الممنوع عنه عقلا من مخالفة احكام الشرع بل مطلق الموالي هي : المخالفة العلمية ، دون الاحتمالية) وان كانت مقرونة بالعلم الاجمالي (فانّها لا تعدّ عصيانا في العرف) بمعنى : ان العرف يرون : ان الواجب على العبد عدم مخالفة الأحكام المعلومة تفصيلا ، امّا مخالفة الأحكام المعلومة اجمالا ، فلا يرون بأسا بها.

وعليه : (فعصيان الخطاب باجتناب الخمر المشتبه هو : ارتكاب المجموع) فانه إذا ارتكب كلا الإناءين علم بأنه خالف ، امّا اذا ارتكب أحدهما فلا يعلم بأنه ارتكب المحرّم ، فالحرام على هذا هو الحرام العلمي (دون المحرّم الواقعي وان لم يعرف حين الارتكاب) فانّ ما لم يعرف حرمته لا يكون محرما لأنه مخالفة احتمالية ، وقد ذكرنا : انّ المحرم هو المخالفة المعلومة لا المخالفة الاحتمالية.

(وحاصله : منع وجوب المقدّمة العلمية) فلا تجري قاعدة الاشتغال

__________________

(١) ـ سورة الحجرات : الآية ١٢.

٢٨٩

ففيه ، مع إطباق العقلاء بل العلماء ـ كما حكي ـ على وجوب المقدّمة العلمية ، أنّه إن أريد من حرمة المخالفة العلمية حرمة المخالفة المعلومة حين المخالفة ، فهذا اعتراف بجواز ارتكاب المجموع تدريجا ، إذ لا يحصل معه مخالفة معلومة تفصيلا ،

______________________________________________________

في وجوب الاجتناب عن الطرفين ، بل يحرم عليه أن يأتي بهما معا ، أما انه يأتي بأحدهما ولا يأتي بالآخر فلا بأس به.

(ففيه :) أوّلا : (مع اطباق العقلاء بل العلماء ـ كما حكي ـ على وجوب المقدّمة العلمية) لأنّ العقلاء والعلماء متفقون على تنجّز التكليف بالعلم الاجمالي بحيث يحرم مخالفته ، ويجب موافقته باجتناب كل الأطراف في الشبهة التحريمية ، وبالاتيان بكل الأطراف في الشبهة الوجوبية إذا لم يكن هناك محذور خارجي ، ألا ترى انه لو قال المولى لعبده : لا يدخل في مزرعتي ذئب وكان هناك ذئب وكلب ، رأى العقلاء وجوب طردهما على العبد إذا لم يشخص الكلب عن الذئب ، ولو ترك أحدهما يدخل بستانه وكان في الواقع هو الذئب استحق العقاب ، ولا يصح له ان يعتذر بعدم علمه بأنه ذئب بعد علمه الاجمالي بأن أحدهما ذئب.

ثانيا : (أنّه إن أريد من حرمة المخالفة العلمية : حرمة المخالفة المعلومة حين المخالفة) بمعنى : إنّ العلم الاجمالي يوجب تنجّز التكليف بحيث يحرم مخالفته تفصيلا ، وذلك بأن يشرب أحد الإناءين ويريق الآخر في المسجد دفعة واحدة ، لا ما اذا ارتكبهما تدريجا ، فان كان هذا المعنى مراد المحقق القمي (فهذا اعتراف) منه (بجواز ارتكاب المجموع تدريجا ، إذ لا يحصل معه مخالفة معلومة تفصيلا) لأن المفروض انه عند ما يشرب هذا الاناء لا يعلم انه محرم تفصيلا ، كما انه عند ما يشرب ذاك الاناء لا يعلم أيضا انه محرّم تفصيلا ، والحال ان المحقق القمّي

٢٩٠

وان اريد منهما : حرمة المخالفة التي تعلّق العلم بها ولو بعدها فمرجعها إلى حرمة تحصيل العلم الذي يصير به المخالفة معلومة ، وقد عرفت منع حرمتها جدّا.

وممّا ذكرنا يظهر فساد «الوجه الثاني».

فانّ حرمة المجموع إذا كان باعتبار جزئه غير المعيّن فضمّ الجزء الآخر إليه لا دخل له في حرمته.

______________________________________________________

لا يقول بجواز ارتكابهما تدريجا.

ثالثا : (وان اريد منهما : حرمة المخالفة التي تعلّق العلم بها ولو بعدها) يعني : انه يحرم على الانسان ان يعمل عملا يعلم بحرمته ، سواء كان علمه بالحرمة في وقت العمل أو بعد العمل ، فان كان هذا المعنى مراد المحقق القمي (فمرجعها) أي : مرجع هذه الارادة (إلى حرمة تحصيل العلم الذي يصير به المخالفة معلومة) لأن هذا الكلام معناه : ان العلم الاجمالي لا يوجب تنجز التكليف بالحرمة فلا يحرم مخالفته ، الّا اذا حصل منه العلم بالمخالفة فهو حرام (وقد عرفت منع حرمتها) أي : حرمة المخالفة بهذا المعنى (جدّا) لما تقدّم : من انه لا دليل على ان حصول العلم بفعل الحرام من المحرمات.

(وممّا ذكرنا) في رد الوجه الاول : من انه لا دليل على حرمة تحصيل العلم بالمخالفة (يظهر : فساد «الوجه الثاني») الذي ذكره النراقي (فانّ حرمة المجموع إذا كان باعتبار جزئه غير المعيّن) كما صرح به النراقي فيما تقدّم (فضمّ الجزء الآخر إليه) أي : إلى الجزء الأول (لا دخل له في حرمته) أي : في حرمة المجموع ، اذ لا دخل للاجتماع في الحرمة وإنّما الجزء غير المعين المطابق للواقع محرّم سواء علم أو لم يعلم ، والجزء الآخر الذي هو محلل في الواقع يبقى محللا

٢٩١

نعم ، له دخل في كون الحرام معلوم التحقّق ، فهي مقدّمة للعلم بارتكاب الحرام لا لنفسه ، فلا وجه لحرمتها بعد عدم حرمة العلم بارتكاب الحرام.

ومن ذلك يظهر فساد جعل الحرام كلّا منهما بشرط الاجتماع مع الآخر ،

______________________________________________________

سواء علم به أو لم يعلم به.

(نعم ، له) أي : للجزء الآخر غير المحرم المنضم إلى المحرم (دخل في كون الحرام معلوم التّحقّق ، فهي مقدّمة للعلم بارتكاب الحرام لا) ان الضم حرام (لنفسه) إذ ليس نفسه حراما حسب الفرض ، فانه لو استعمل كليهما علم بأنه عمل الحرام ، لا ان نفس الضم يكون حراما ، فالضم مقدمة للعلم بالحرام ، لا نفس الحرام.

والحاصل : انّ حكم النراقي بحرمة المجموع غير صحيح ، لوضوح : ان انضمام الجزء الآخر لا دخل له في حرمة الحرام ، وإنّما له دخل في تحقق الحرام خارجا (فلا وجه لحرمتها) أي : حرمة المقدمة (بعد عدم حرمة العلم بارتكاب الحرام) فانه قد تقدّم : ان مجرد حصول العلم بارتكاب الحرام ليس بمحرم ، فلا يكون المجموع حراما من جهة انه محصّل للعلم بارتكاب الحرام ، وحينئذ فليس له الحق ان يستعمل أحدهما ويترك الآخر ، بل يلزم الحكم : امّا بوجوب الموافقة القطعية بتركهما ، أو بجواز المخالفة القطعية بارتكابهما.

(ومن ذلك) أي : من ان ضم الجزء الآخر لا دخل له في حرمة المجموع ، بل الضم له دخل في كون الحرام معلوم التحقق في الخارج ، وهذا كما عرفت : لا دليل على حرمته (يظهر فساد جعل الحرام كلّا منهما بشرط الاجتماع مع الآخر) الذي هو ثاني الاحتمالين في كلام النراقي ، فان حرمة المجموع إذا كان باعتبار حرمة احدهما ، فاشتراط الاجتماع لا دخل له في حرمته وان كان له دخل في كون الحرام

٢٩٢

فانّ حرمته وإن كانت معلومة إلّا أنّ الشرط شرط لوصف كونه معلوم التحقق لا لذات الحرام ، فلا يحرم ايجاد الاجتماع إلّا إذا حرم جعل ذات الحرام معلومة التحقق ومرجعه إلى حرمة تحصيل العلم بالحرام.

______________________________________________________

معلوم التحقق في الخارج.

والحاصل : إنّ الحلال لا يكون سببا لحرمة المجموع ولا شرطا أو مشروطا لحرمة المجموع (فان حرمته) أي : حرمة كل منهما بشرط الاجتماع مع الآخر (وان كانت معلومة) فان الانسان اذا جمع بين المشتبهين علم بأنه ارتكب حراما قطعا (إلّا انّ الشرط) بالاجتماع (شرط لوصف كونه) أي : كون الحرام (معلوم التحقق) عند المرتكب (لا لذات الحرام) فانّ ذات الحرام إنّما تتحقق بارتكاب المحرم في الواقع ، لا بارتكاب المجتمع من الحرام والحلال ، سواء كان الاجتماع على نحو الجزء أو على نحو الشرط.

وعليه : (فلا يحرم ايجاد الاجتماع إلّا إذا حرم جعل ذات الحرام معلومة التحقق) حتى يكون العلم بتحقق الحرام حراما ، لا ان ذات الحرام محرمة.

والحاصل : انّ حرمة كل منهما بشرط الاجتماع مع الآخر ، يرجع الى حرمة جعل الحرام معلوم التحقق ، وقد عرفت : انّ ذات الحرام حرام ، لا ان العلم بتحقيق الحرام حرام ، كما قال : (ومرجعه إلى حرمة تحصيل العلم بالحرام) الذي قد عرفت : انه غير ثابت.

نعم ، قد تقدّم : انه لا يجوز تحصيل العلم بارتكاب الغير للحرام ، لأنه داخل في التجسس المنهي عنه في الآية ، وكذلك في الروايات ، مثل : ما رواه زرارة عن أبي جعفر ، وعن أبي عبد الله عليهما‌السلام قال : «أقرب ما يكون العبد إلى الكفر

٢٩٣

الثاني :

ما دلّ على جواز تناول الشبهة المحصورة ، فيجمع بينها على

______________________________________________________

أن يواخي الرجل على الدّين فيحصي عليه عثراته وزلاته ليعنّفه بها يوما ما» (١).

وما رواه اسحاق بن عمار قال : «سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا معشر من اسلم بلسانه ولم يخلص الايمان إلى قلبه ، لا تذمّوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم ، فانّه من تتبّع عوراتهم تتبّع الله عورته ، ومن تتبّع الله تعالى عورته يفضحه ولو في بيته» (٢).

وما رواه زرارة عن ابي جعفر عليه‌السلام قال : «أقرب ما يكون العبد إلى الكفر : أن يواخي الرجل الرجل على الدين فيحصي عليه زلاته ليعيّره بها يوما ما» (٣) ، إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة التي ذكروها في باب حرمة التجسس (٤) ، لكن ذلك لا يرتبط بكلامنا الذي هو جواز أو عدم جواز ارتكاب بعض أطراف الشبهة المحصورة.

(الثاني) ممّا استدل به القائل بجواز ارتكاب أحد المشتبهين دون الآخر هو :

الجمع بين طائفتين من الاخبار ، احدى الطائفتين ظاهرة في جواز ارتكاب جميع اطراف الشبهة المحصورة ، والطائفة الثانية تقول باجتناب الحرام الواقعي سواء علم تفصيلا أو اجمالا ، فتخصص الطائفة الاولى ، فتكون النتيجة : جواز ارتكاب البعض وترك البعض الآخر بدلا عن الحرام الواقعي المردد بينهما ، وذلك بأن ينظر الى (ما دلّ على جواز تناول الشبهة المحصورة ، فيجمع بينها على

__________________

(١) ـ الاختصاص : ص ٢٢٧ ، المحاسن : ص ١٠٤ ، مجموعة ورام : ج ٢ ص ٢٠٨.

(٢) ـ مجموعة ورام : ج ٢ ص ٢٠٨ وفيه (فمن يتبع عورة مؤمن).

(٣) ـ منية المريد : ص ٣٣١.

(٤) ـ وقد المع الشارح الى بعض تلك الروايات في طيات كتبه التالية : لما ذا تأخر المسلمون؟ ، الفقه الدولة الاسلامية ، الفقه المستقبل.

٢٩٤

تقدير ظهوره في جواز تناول الجميع وبين ما دلّ على تحريم العنوان الواقعي ، بأنّ الشارع جعل بعض المحتملات بدلا عن الحرام الواقعي ، فيكفي تركه في الامتثال الظاهري ، كما لو اكتفى بفعل الصلاة إلى بعض الجهات المشتبهة ورخّص في ترك الصلاة إلى بعضها.

وهذه الاخبار كثيرة :

منها : موثّقة سماعة : «قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام ، عن رجل أصاب مالا من عمّال بني امية ،

______________________________________________________

تقدير ظهوره في جواز تناول الجميع) ولم نقل انها ظاهرة في تناول وارتكاب البعض بل في ارتكاب الجميع ، ليصح التعارض ، فيجمع بينهما (وبين ما دلّ على تحريم العنوان الواقعي) جمعا (بأنّ الشارع جعل بعض المحتملات بدلا عن الحرام الواقعي ، فيكفي تركه في الامتثال الظاهري) فاذا ترك البعض فقد امتثل ظاهرا الأمر بالاجتناب عن الحرام الواقعي.

(كما لو اكتفى) الشارع في الشبهة المحصورة الوجوبية (بفعل الصلاة إلى بعض الجهات المشتبهة) بين الأربع (ورخّص في ترك الصلاة إلى بعضها) الآخر ، فانّ معنى الترخيص : جعل البدل عن الواقع ، فيكون المكلّف مخيرا في أن يصلي صلاة واحدة الى احدى الجهات الأربع كما ذهب إلى ذلك بعض العلماء ، خلافا للمشهور الذين ذهبوا إلى وجوب صلوات أربع إلى الجهات الأربع (وهذه الأخبار كثيرة) في الطائفة الاولى نذكر بعضها :

(منها : موثّقة سماعة : «قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام : عن رجل أصاب مالا من عمّال بني امية) فالذين كانوا في جهاز بني أمية من ولاة وقضاة وجباة ومن اشبههم كانوا يأخذون المال من الناس بالظلم لعدم مشروعية حكومة بني أمية ،

٢٩٥

وهو يتصدق منه ، ويصل قرابته ، ويحج ، ليغفر له ما اكتسب ، ويقول : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) فقال عليه‌السلام : إنّ الخطيئة لا تكفّر الخطيئة ، وإنّ الحسنة تحبط الخطيئة ، ثم قال : ان كان خلط الحرام حلالا فاختلطا جميعا فلم يعرف الحرام من الحلال ، فلا بأس».

______________________________________________________

وقد حصل هذا الرجل على بعض تلك الاموال (وهو يتصدق منه ، ويصل قرابته ، ويحج ، ليغفر له ما اكتسب) من تلك الأموال (ويقول : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ)) (١) كما في الآية الكريمة ، فانّه حيث حصل على اموال حصلت عن طريق غير مشروع فهي سيئة بل سيئات ، والتصدق ، وصلة الرحم ، والحج ، حسنات ، فهذه الحسنات تسبب ذهاب تلك السيئات ، فهل هذا صحيح يا بن رسول الله؟ (فقال عليه‌السلام : إنّ) التصرف في هذا المال بنفسه أيضا حرام ، فقد عمل هذا الرجل حرامين : حرام الاكتساب ، وحرام الانفاق ، لأنه لا يجوز للإنسان أن ينفق ما اكتسبه من الباطل ، فان (الخطيئة لا تكفّر الخطيئة) أي : ان الخطيئة لا تسبب ذهاب الخطيئة (وانّ الحسنة تحبط الخطيئة) فالصلاة ، والصوم والحج ، والانفاق من مال الحلال ، يسبب ذهاب سيئات الانسان حسب هذه الآية المباركة وغيرها من الروايات ، اما انه يرتكب خطيئة ليكفّر بها خطيئة أخرى فذلك غير تام ، بل يكون عليه خطئيتان : خطيئة الأخذ وخطيئة العطاء.

(ثم قال) عليه‌السلام (: ان كان) هذا الرجل (خلط الحرام حلالا فاختلطا جميعا فلم يعرف الحرام من الحلال ، فلا بأس») (٢) بتصرفه في بعض تلك الأموال ، كما إذا

__________________

(١) ـ سورة هود : الآية ١١٤.

(٢) ـ وسائل الشيعة : ج ١٧ ص ٨٨ ب ٤ ح ٢٢٠٥١ ، الكافي (فروع) : ج ٥ ص ١٢٦ ح ٩ (بالمعنى) ، تهذيب الاحكام : ج ٦ ص ٣٦٩ ب ٢٢ ح ١٨٩ (بالمعنى) ، مستطرفات السرائر : ص ٥٨٩ (بالمعنى).

٢٩٦

فان ظاهره : نفي البأس عن التصدّق ، والصّلة ، والحجّ ، من المال المختلط بالحرام وحصول الأجر في ذلك ، وليس فيه دلالة على جواز التصرف في الجميع.

ولو فرض ظهوره فيه صرف عنه بما دلّ على وجوب الاجتناب عن الحرام الواقعي ، وهو مقتضي بنفسه

______________________________________________________

كانت له اموال محللة من نفسه وأموال محرمة من عمله للظلمة واختلطا ، فانّه إذا تصرف في بعض تلك الأموال بقدر الحلال صدقة ، وصلة ، وحجا ، وما أشبه ذلك ، كان هذا التصرف منه جائزا.

ومحل الشاهد في هذا الخبر للمستدلين بجواز ارتكاب بعض المشتبهات دون بعض : الجملة الأخيرة منه ، وهو قوله عليه‌السلام : «ان كان خلط الحرام حلالا ...».

(فان ظاهره : نفي البأس عن التصدّق ، والصّلة ، والحجّ ، من المال المختلط بالحرام وحصول الأجر في ذلك) أي : في هذه النفقات.

هذا (و) لكن الحديث (ليس فيه دلالة على جواز التصرف في الجميع) حتى يقال بأن هذه الرواية دليل من يقول بجواز ارتكاب جميع اطراف الشبهة المحصورة (ولو فرض ظهوره) أي : ظهور هذا الحديث (فيه) أي : في التصرف في جميع الأطراف المحرمة والمحللة (صرف عنه) أي : عن ظاهره والتصرف في الجميع (بما دلّ) من اخبار الطائفة الثانية (على وجوب الاجتناب عن الحرام الواقعي) لما تقدّم : من ان الحرام الواقعي لا يصير حلالا بالاختلاط سواء كان الاختلاط عمديا أو من غير عمد فيكون الجمع بين الطائفتين : جواز ارتكاب البعض.

(وهو) أي : ما دل على وجوب الاجتناب عن الحرام الواقعي (مقتضي بنفسه)

٢٩٧

لحرمة التصرف في الكلّ ، فلا يجوز ورود الدليل على خلافها ومن جهة حكم العقل بلزوم الاحتياط لحرمة التصرّف في البعض المحتمل أيضا.

لكن عرفت : أنّه يجوز الاذن في ترك بعض المقدمات العلمية بجعل بعضها الآخر بدلا ظاهريا عن ذي المقدمة.

______________________________________________________

أي : مع قطع النظر عن ايجاب العقل الاحتياط في أطرف العلم الاجمالي (لحرمة التصرف في الكلّ) المختلط من الحرام والحلال (فلا يجوز ورود الدليل على خلافها) أي : خلاف ما تقتضيه من الحرمة (و) خلاف ما يقتضيه (من جهة حكم العقل بلزوم الاحتياط لحرمة التصرف في البعض المحتمل أيضا) فلا يجوز التصرف إذن لا في الكل ولا في البعض.

(لكن عرفت : انّه يجوز الاذن في ترك بعض المقدمات العلمية) بأن يأذن الشارع بارتكاب البعض دون البعض ، وذلك (بجعل) الشارع (بعضها الآخر بدلا ظاهريا عن ذي المقدمة) الذي هو الحرام الواقعي ، فيجمع بين الرواية المتقدمة ، وبين دليل حرمة العنوان المحرم بحملها على البعض وجعل البدل للحرام الواقعي.

ثم إنّ المصنّف ذكر رواية واحدة في هذا الباب ، وهناك روايات أخر في باب الرّبا نظير هذه الرواية في جواز التصرف في بعض اطراف الشبهة المحصورة دون بعض ، ففي الصحيح أو الحسن ما رواه في الفقيه مرسلا أيضا : «قال أبو عبد الله عليه‌السلام : كلّ ربا أكله الناس بجهالة ثمّ تابوا فانه يقبل منهم إذا عرف منهم التوبة» (١).

__________________

(١) ـ الكافي (فروع) : ج ٥ ص ١٤٥ ح ٤ ، الفقيه : ج ٣ ص ٢٧٥ ب ٢ ح ٣٩٩٧ ، تهذيب الاحكام : ج ٧ ص ١٦ ب ٢٢ ح ٦٩ ، وسائل الشيعة : ج ١٨ ص ١٢٨ ب ٥ ح ٢٣٣٠٢.

٢٩٨

.................................................................................................

______________________________________________________

وقال عليه‌السلام : لو ان رجلا ورث من أبيه مالا وقد عرف انّ في ذلك المال ربا ولكن قد اختلط في التجارة بغيره فانه له حلال طيب فياكله فان عرف منه شيئا معزولا أنه ربا فليأخذ رأس ماله وليردّ الرّبا» (١) وزاد في الكافي والفقيه : «وايّما رجل أفاد مالا كثيرا قد أكثر فيه من الرّبا فجهل ذلك ثمّ عرفه بعد ، فأراد أن ينزعه ، فيما مضى فله ، ويدعه فيما يستأنف» (٢).

وعن الكافي والتهذيب في الصحيح أو الحسن عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «أتى رجل أبي ، فقال : إنّي ورثت مالا وقد علمت انّ صاحبه الذي ورثته منه قد كان يربي وقد اعترف انه فيه ربا فاستيقنت ذلك وليس يطيب لي حلاله لحال علمي فيه ؛ وقد سألت الفقهاء من أهل العراق وأهل الحجاز فقالوا : لا يحلّ من أجل ما فيه؟ فقال أبو جعفر عليه‌السلام : إن كنت تعلم ان فيه مالا معروفا للربا وتعرف أهله فخذ رأس مالك وردّ ما سوى ذلك ؛ وان كان مختلفا فكله هنيئا مريئا ، فانّ المال مالك ، واجتنب ما كان يصنع صاحبه ، وانّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد وضع ما مضى من الربا وحرّم عليهم ما بقي ، فمن جهله وسع له جهله حتى يعرفه ، فإذا عرف تجريمه حرم عليه ووجبت عليه فيه العقوبة إذا ارتكبه ، كما يجب على من يأكل الرّبا» (٣).

إلى غير ذلك من الروايات التي بهذه المضامين ممّا جعلت جماعة من الفقهاء يذهبون الى حلية التصرف في الجميع : من المختلط بالربا وغيره ، وجماعة

__________________

(١) ـ تهذيب الاحكام : ج ٧ ص ١٦ ب ٢٢ ح ٦٩ وفيه (فليرد الريادة).

(٢) ـ الكافي (فروع) : ج ٥ ص ١٤٥ ح ٤ ، من لا يحضره الفقيه : ج ٣ ص ٢٧٥ ب ٢ ح ٣٩٩٧ (بالمعنى) ، وسائل الشيعة : ج ١٨ ص ١٢٨ ب ٥ ح ٢٣٣٠٢ (بالمعنى).

(٣) ـ الكافي (فروع) : ج ٥ ص ١٤٥ ح ٥ ، من لا يحضره الفقيه : ج ٣ ص ٢٧٦ ب ٢ ح ٣٩٩٨ (بالمعنى) ، وسائل الشيعة : ج ١٨ ص ١٢٨ ب ٥ ح ٢٣٣٠٢ (بالمعنى).

٢٩٩

والجواب عن هذا الخبر : انّ ظاهره جواز التصرّف في الجميع ، لأنه يتصدق ، ويصل ، ويحج بالبعض ، ويمسك بالباقي ، فقد تصرّف في الجميع بصرف البعض وإمساك الباقي ، فلا بد إمّا من الأخذ به وتجويز المخالفة القطعيّة ، وإما من صرفه عن ظاهره ، وحينئذ فحمله على إرادة نفي البأس عن التصرّف في البعض وإن حرم

______________________________________________________

من الفقهاء يذهبون إلى جواز التصرف في البعض دون البعض ، فقول الجماعة الاولى هو : دليل لمن أجاز المخالفة القطعية في أطراف الشبهة ، وقول الجماعة الثانية هو : دليل المقام ممّن يقولون بجواز ارتكاب البعض دون البعض.

(والجواب عن هذا الخبر) أي : عن الموثّقة (١) المتقدّمة : هو انه كيف استدللتم بها على جواز التصرف في البعض دون الجميع؟ مع (انّ ظاهره : جواز التصرّف في الجميع ، لأنه يتصدق ، ويصل ، ويحج بالبعض ، ويمسك بالباقي ، فقد تصرّف في الجميع بصرف البعض وإمساك الباقي) فان تم ظاهر هذه الرواية فهو دليل لمن يقول بجواز ارتكاب جميع الأطراف ، وليس دليلا لمن يقول بجواز ارتكاب البعض دون البعض كما تقدّم في كلام النراقي والمحقق القمي.

وعليه : (فلا بد إمّا من الأخذ به) أي بهذا الحديث (وتجويز المخالفة القطعيّة) في الشبهة المحصورة ، والفرض ان المحقق القمي والنراقي لا يقولان بجواز المخالفة القطعيّة (وإما من صرفه) أي صرف هذا الحديث (عن ظاهره ، وحينئذ) أي : بعد صرفه عن ظاهره يكون فيه احتمالان : (فحمله على) الاحتمال الاول وهو : (ارادة نفي البأس عن التصرّف في البعض وان حرم

__________________

(١) ـ الكافي (فروع) : ج ٥ ص ١٢٦ ح ٩ ، تهذيب الاحكام : ج ٦ ص ٣٦٩ ب ٢٢ ح ١٨٩ ، مستطرفات السرائر : ص ٥٨٩ ، وسائل الشيعة : ج ١٧ ص ٨٨ ب ٤ ح ٢٢٠٥١.

٣٠٠