الوصائل الى الرسائل - ج ٨

آية الله السيد محمد الشيرازي

الوصائل الى الرسائل - ج ٨

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة عاشوراء للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7263-08-2
ISBN الدورة:
964-7263-04-X

الصفحات: ٤٠٠

المطلب الأوّل

دوران الأمر بين الحرام وغير الواجب ، ومسائله أربع :

المسألة الأولى

لو علم التحريم وشك في الحرام من جهة اشتباه الموضوع الخارجي.

وانّما قدّمنا الشّبهة الموضوعيّة هنا ، لاشتهار عنوانها في كلام العلماء ، بخلاف عنوان الشبهة الحكميّة.

______________________________________________________

كذلك تكون مطالب الشك في المكلّف به وهي عبارة عن : الشك بين الحرام وغير الواجب ، والشك بين الواجب وغير الحرام ، والشك بين الواجب والحرام.

(المطلب الأوّل) في (دوران الأمر بين الحرام وغير الواجب ، ومسائله أربع) لأنّ منشأ الشك قد يكون فقد النصّ ، وقد يكون إجماله ، وقد يكون تعارضه ، وقد يكون اشتباهه للأمور الخارجية.

(المسألة الاولى : لو علم التّحريم وشكّ في الحرام من جهة اشتباه الموضوع الخارجي) كما اذا علم انّ احدى هاتين المرأتين اخته من الرضاعة حيث يحرم عليه نكاحها ، وسبب الاشتباه ليس اجمال النصّ ، أو فقده ، أو تعارض النصين ، وانّما سببه الامور الخارجية ، لأنّه لا يعلم انّ أمه أرضعت هذه أو تلك.

(وانّما قدّمنا الشّبهة الموضوعيّة هنا) في الشك في المكلّف به ، بخلاف الشك في التكليف حيث قدّمنا فيه الشبهة الحكمية (لاشتهار عنوانها) أي : عنوان الشبهة الموضوعية (في كلام العلماء ، بخلاف عنوان الشبهة الحكميّة) حيث انها في الشبهة في المكلّف به ليست مشهورة عندهم ، وقد ذكرها المصنّف في آخر هذا المبحث مجملا.

٢٢١

ثم الحرام المشتبه بغيره ، إما مشتبه في أمور محصورة ، كما لو دار بين أمرين ، أو أمور محصورة ، ويسمى بالشبهة المحصورة وإمّا مشتبه في أمور غير محصورة.

أما الأوّل : فالكلام فيه يقع في مقامين :

أحدهما : جواز ارتكاب كلا الامرين أو الأمور ، وطرح العلم الاجمالي وعدمه ، وبعبارة أخرى : حرمة المخالفة القطعية للتكليف المعلوم وعدمها.

______________________________________________________

(ثم الحرام المشتبه بغيره ، إما مشتبه في أمور محصورة ، كما لو دار بين أمرين ، أو أمور محصورة) كما لو دار أمر الرضيعة بين امرأتين أو بين عشرين امرأة ـ مثلا ـ (ويسمّى بالشبهة المحصورة) اصطلاحا.

(وإمّا مشتبه في أمور غير محصورة) لكثرة الأطراف ، كما اذا علم بأن احدى بنات هذا البلد الكبير رضعت معه من أمه فصارت أخته من الرضاعة ، لكنّها غير محصورة لانتشار الاحتمال في مئات النساء.

(أما الأوّل) : وهو الشبهة المحصورة (فالكلام فيه يقع في مقامين) على ما يلي :

(أحدهما : جواز ارتكاب كلا الامرين أو الأمور وطرح العلم الاجمالي) رأسا ، فكأنّه لا علم اجمالي له أصلا ، كما اذا انحصرت الرضيعة بين اربع ، فانّه يتمكن من التزويج بكل الأربع (وعدمه) اي : انّه لا يجوز له طرح العلم الاجمالي رأسا (وبعبارة أخرى : حرمة المخالفة القطعية للتكليف المعلوم) اجمالا (وعدمها) بمعنى عدم حرمة المخالفة القطعية ، فيجوز له المخالفة القطعية.

٢٢٢

الثاني :

وجوب اجتناب الكلّ وعدمه ، وبعبارة اخرى : وجوب الموافقة القطعية للتكليف المعلوم وعدمه.

أمّا المقام الأوّل :

فالحق فيه عدم الجواز وحرمة المخالفة القطعية ، وحكي عن ظاهر بعض جوازها.

______________________________________________________

(الثاني : وجوب اجتناب الكلّ وعدمه) فاذا قلنا بوجوب اجتناب الكل لا يجوز له التزويج بأي من الأربع ، وإذا قلنا بعدم وجوب اجتناب الكل جاز له التزويج ببعض الأربع لا بكلهنّ (وبعبارة اخرى : وجوب الموافقة القطعية للتكليف المعلوم وعدمه) أي : عدم وجوب الموافقة القطعية.

والحاصل : هل يجب الاحتياط في جميع الاطراف ، أو يكفي الموافقة الاحتمالية بالاجتناب عن بعض الاطراف ، وقد تبين أن النتيجة لهذين المقامين ثلاثة أمور :

الأوّل : جواز التزويج بالكل.

الثاني : عدم جواز التزويج بأي من الأربع.

الثالث : جواز التزويج بالبعض دون البعض.

(أما المقام الأوّل) وهو : جواز ارتكاب أطراف المحصورة وعدمه (فالحق فيه عدم الجواز) اي : عدم جواز ارتكاب كلا الأمرين أو الأمور في الشبهة المحصورة (وحرمة المخالفة القطعية ، وحكي عن ظاهر بعض جوازها) قال الأوثق : انّ الأقوال في المقامين أربعة :

أحدها : ما اختاره المصنّف ، وهو المشهور بين الأصحاب.

وثانيها : جواز ارتكاب الكل ، نقله المحقق القمي رحمه‌الله عن العلامة المجلسي

٢٢٣

لنا على ذلك : وجود المقتضي للحرمة وعدم المانع عنها.

أما ثبوت المقتضي : فلعموم دليل تحريم ذلك العنوان المشتبه ، فانّ قول الشارع : «اجتنب عن الخمر» ، يشمل الخمر الموجود المعلوم المشتبه بين الإناءين أو أزيد.

______________________________________________________

في أربعينه.

وثالثها : التخيير وإبقاء ما يتحقق به ارتكاب الحرام ، ومال إليه المقدّس الأردبيلي ، واختاره جماعة ممّن تأخر عنه ، كصاحب المدارك والذخيرة ، والرّياض ، والقوانين ، والمناهج ، ونسب أيضا الى الوحيد البهبهاني قدس‌سرهم.

ورابعها : القرعة واختاره ابن طاوس» (١).

(لنا على ذلك :) أي : عدم جواز ارتكاب كلا الأمرين أو الامور المحصورة (وجود المقتضي للحرمة وعدم المانع عنها) وحيث كان المقتضي موجودا بدون مانع أدّى أثره في عدم جواز الارتكاب.

(أما ثبوت المقتضي : فلعموم دليل تحريم ذلك العنوان المشتبه) فانّ عمومه يشمل اطراف العلم الاجمالي ، كما يشمل المعلوم الخارجي (فانّ قول الشارع : «اجتنب عن الخمر» ، يشمل الخمر الموجود المعلوم) تفصيلا ، او (المشتبه بين الإناءين أو أزيد) فيما كانت الاطراف محصورة ، كما يشمل الخمر المجهول أيضا ، إلّا انّ الجهل فيه عذر ، وذلك لأنّ الالفاظ موضوعة للمعاني الواقعية كما سيأتي ، والمعاني الواقعية لا فرق فيها من جهة علم الانسان بها اجمالا أو تفصيلا أو جهل الانسان بها ، لكنّه إذا كان جاهلا بحيث ليس له حتى العلم الاجمالي يكون معذورا لرفع الجهل وعدم البيان.

__________________

(١) ـ أوثق الوسائل : ص ٣٢٣ الشك في المكلّف به وأقسامه.

٢٢٤

ولا وجه لتخصيصه بالخمر المعلوم تفصيلا ، مع أنّه لو اختص الدّليل بالمعلوم تفصيلا ، خرج الفرد المعلوم اجمالا عن كونه حراما واقعيا ، ولا أظنّ أحدا يلتزم بذلك ، حتى من يقول بكون الألفاظ أسامي للأمور المعلومة ، فانّ الظاهر إرادتهم : الأعم من المعلوم اجمالا.

وأمّا عدم المانع ، فلأنّ العقل لا يمنع من

______________________________________________________

(ولا وجه لتخصيصه) أي تخصيص دليل «اجتنب عن الخمر» (بالخمر المعلوم تفصيلا) فإنّ العلم والجهل لا مدخلية لهما في معاني الواقعية للألفاظ.

(مع) أي : مضافا الى (أنّه لو اختص الدّليل بالمعلوم تفصيلا) بأنّ سلّمنا وقلنا : أنّ الألفاظ موضوعة للمعاني المعلومة تفصيلا (خرج الفرد المعلوم اجمالا عن كونه حراما واقعيا) لأنه يلزم حينئذ أن يكون المعلوم الاجمالي حلالا واقعيا لخروجه عن الموضوع ، لفرض انّ الخمر موضوع للفرد المعلوم تفصيلا (ولا أظنّ أحدا يلتزم بذلك) فيقول أنّ الخمر المشتبه بين طرفين أو أطراف محصورة ممّا يكون فيه العلم الاجمالي لا يكون حراما (حتى من يقول بكون الألفاظ أسامي للأمور المعلومة) وضعا ، أو انصرافا (فإنّ الظاهر إرادتهم :) أي : إرادة من يقول بكون الألفاظ أسامي للأمور المعلومة ، هو (الأعم من المعلوم اجمالا) أو تفصيلا.

وعلى أيّ حال : فالقائل بجواز المخالفة القطعيّة إنّما يقول بالحليّة الظاهرية من جهة توهم المانع عن الحرمة عقلا أو نقلا ، لا أنّه يقول بذلك من جهة عدم المقتضي ، فاللازم أن نتكلّم حول أنّه هل هناك مانع عن اقتضاء المقتضي أو ليس هناك مانع عن ذلك؟.

(وأمّا عدم المانع) فهو أمّا عقلا أو شرعا ، أمّا عقلا (فلأنّ العقل لا يمنع من)

٢٢٥

التكليف عموما أو خصوصا بالاجتناب عن عنوان الحرام المشتبه في أمرين أو أمور ، والعقاب على مخالفة هذا التكليف.

وأمّا الشرع فلم يرد فيه ما يصلح للمنع عدا ما ورد من قولهم عليهم‌السلام «كلّ شيء حلال حتّى تعرف أنّه حرام بعينه» و

______________________________________________________

تحريم الشارع المعلوم اجمالا بسبب (التكليف عموما) مثل : قوله عليه‌السلام «ومن أخذ بالشبهات وقع في المحرّمات وهلك من حيث لا يعلم» (١) وغير ذلك من الأدلّة العامة الدالة على الاجتناب في الشبهات ، فتشمل ما نحن فيه (أو خصوصا) مثل قول الشارع : «اجتنب عن الخمر» المعلوم تفصيلا أو اجمالا ـ مثلا ـ فالعقل لا يرى مانعا من أن يكلف الشارع (بالاجتناب عن عنوان الحرام) كالخمر ـ مثلا ـ (المشتبه في أمرين أو أمور) محصورة (والعقاب على مخالفة هذا التكليف).

والحاصل : انّ قاعدة «قبح العقاب بلا بيان» ، لا تجري في مورد العلم الاجمالي في الشبهة المحصورة لوجود البيان الاجمالي عند العقل والعقلاء.

(وأمّا الشرع فلم يرد فيه ما يصلح للمنع) فانه ليس لنا دليل شرعي على حليّة كلا المشتبهين ، أو المشتبهات في الشبهة المحصورة ، حتى يقال باعتبار العلم التفصيلي في موضوع الحرمة (عدا) أخبار البراءة المتقدّمة مثل : (ما ورد من قولهم عليهم‌السلام «كلّ شيء حلال حتّى تعرف أنّه حرام بعينه (٢)» و) قولهم عليهم‌السلام :

__________________

(١) ـ الكافي (اصول) : ج ١ ص ٦٨ ح ١٠ ، تهذيب الأحكام : ج ٦ ص ٣٠٢ ب ٢٢ ح ٥٢ ، من لا يحضره الفقيه : ج ٣ ص ٨ ب ٢ ح ٣٢٣٣ ، وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ١٠٦ ب ٩ ح ٣٣٣٣٤.

(٢) ـ الكافي (فروع) : ج ٥ ص ٣١٣ ح ٤٠ وقريب منه في نفس المصدر ح ٣٩ والمحاسن : ص ٤٩٥ ح ٥٩٦.

٢٢٦

«كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتّى تعرف الحرام منه بعينه» ، وغير ذلك.

بناء على أنّ هذه الأخبار ،

______________________________________________________

(كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتّى تعرف الحرام منه بعينه (١)).

ولا يخفى : انّ قول المصنّف «قولهم» انّما يراد الأعم من الفرد أو المجموع ، لانّه قد يطلق الفرد على المجموع وذلك باعتبار كل واحد واحد ، مثل : (فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ) (٢) أي : كل واحد منهما ، وقد يطلق المجموع على الفرد ، وذلك باعتبار ان هذه الجماعة كلامهم ، مثل كلام هذا الفرد ، أو عمل هذا الفرد وكلامه كلام الجماعة وعملهم ، مثل قوله سبحانه : (الَّذِينَ) وهو النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (قالَ لَهُمُ النَّاسُ) ـ وهو نعيم بن مسعود الاشجعي ـ (: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ ...) (٣) (٤) ومثل قول أحدنا : الأطباء نصحوني بترك كذا ، أو بفعل كذا ، أو المفسرون يقولون : كذا ، ويراد به فرد واحد من الأطباء ومن المفسرين.

(وغير ذلك) من الأخبار التي تدل على حلية ما لم يعرف انه حرام ، مثل قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي» (٥) فان مانعيّة هذه الاخبار عن حرمة المعلوم اجمالا في الشبهة المحصورة انّما هو (بناء على انّ هذه الأخبار ،

__________________

(١) ـ الكافي : ج ٥ ص ٣١٣ ح ٣٩ ، تهذيب الأحكام : ج ٩ ص ٧٩ ب ٤ ح ٧٢ ، وسائل الشيعة : ج ١٧ ص ٨٨ ب ٤ ح ٢٢٠٥٠ ، من لا يحضره الفقيه : ج ٣ ص ٣٤١ ب ٢ ح ٤٢٠٨.

(٢) ـ سورة البقرة : الآية ٢٥٩.

(٣) ـ سورة آل عمران : الآية ١٧٣.

(٤) ـ التذكرة باصول الفقه : ص ٣٣ ، كنز الفوائد : ج ٢ ص ١٩ ، المناقب : ج ٣ ص ٥ ، تفسير القمّي : ج ١ ص ١٢٦.

(٥) ـ غوالي اللئالي : ج ٣ ص ٤٦٢ ح ١ ، من لا يحضره الفقيه : ج ١ ص ٣١٧ ح ٩٣٧ ، وسائل الشيعة : ج ٦ ص ٢٨٩ ب ١٩ ح ٧٩٩٧ ، ج ٢٧ ص ١٧٤ ب ١٢ ح ٣٣٥٣٠.

٢٢٧

كما دلّت على حلّية المشتبه مع عدم العلم الاجمالي وان كان محرّما في علم الله سبحانه ، كذلك دلّت على حلية المشتبه مع العلم الاجمالي.

ويؤيّده اطلاق الأمثلة المذكورة في بعض هذه الرّوايات ، مثل : الثوب المحتمل للسّرقة ، والمملوك المحتمل للحريّة ، والمرأة المحتملة للرضيعة ، فإنّ إطلاقها

______________________________________________________

كما دلّت على حلّية المشتبه مع عدم العلم الاجمالي) كما في الشبهة البدوية ، والشبهة غير المحصورة ـ على ما هو المشهور بين العلماء ـ (وان كان) ذلك المشتبه (محرّما في علم الله سبحانه) واقعا ، لكن الأخبار كما دلّت على الحلية هناك (كذلك دلّت على حلية المشتبه مع العلم الاجمالي) هناك أيضا ، لأن هذه الأخبار تدل على اشتراط العلم التفصيلي في تنجيز التكليف ، والاقسام الثلاثة الأخر : من المحصورة ، وغير المحصورة ، والبدوية ، حيث لا علم تفصيلي فيها ، فلا يتنجّز فيها التكليف حسب هذه الاخبار.

(ويؤيّده) أي : يؤيد لزوم العلم التفصيلي في التحريم وأن العلم الاجمالي ليس موجبا للتحريم (اطلاق الامثلة المذكورة في بعض هذه الرّوايات) الدالة على الحلية مثل : رواية مسعدة بن صدقة ، فانّ الإمام عليه‌السلام ذكر بعد قوله : «كلّ شيء هو لك حلال حتى تعلم أنّه حرام بعينه» (١) أمثلة لهذه الكبرى الكلية فقال :

(مثل : الثوب المحتمل للسّرقة ، والمملوك المحتمل للحريّة ، والمرأة المحتملة للرضيعة) فانّ هذه الامثلة التي ذكرها الإمام عليه‌السلام دليل على انّ الاحتمال لا فرق فيه بين كونه بدويا أو مقرونا بالعلم الاجمالي (فانّ اطلاقها) أي : اطلاق هذه الامثلة

__________________

(١) ـ الكافي (فروع) : ج ٥ ص ٣١٣ ح ٤٠ ، تهذيب الاحكام : ج ٧ ص ٢٢٦ ب ٢١ ح ٩ ، وسائل الشيعة : ج ١٧ ص ٨٩ ب ٤ ح ٢٢٠٥٣ ، بحار الانوار : ج ٢ ص ٢٧٣ ب ٣٣ ح ١٢.

٢٢٨

يشمل الاشتباه مع العلم الاجمالي بل الغالب ثبوت العلم الاجمالي ، لكن مع كون الشبهة غير محصورة.

ولكن هذه الاخبار وأمثالها لا يصلح للمنع ، لأنها كما تدل على حليّة كلّ واحد من المشتبهين ، كذلك تدلّ على حرمة ذلك المعلوم إجمالا ، لأنّه شيء علم حرمته.

______________________________________________________

التي ذكرها الإمام (يشمل الاشتباه) البدوي والاشتباه (مع العلم الاجمالي) سواء كان العلم الاجمالي محصورا ، أو غير محصور.

(بل الغالب ثبوت العلم الاجمالي) بوجود سرقة تباع في السوق ، أو مملوك يباع في السوق وهو حر واقعا ، أو امرأة رضيعة للانسان في ضمن نساء الجيران والاقرباء ، وما اشبه ذلك (لكن مع كون الشبهة غير محصورة) ثم اذا شملت المعلوم الاجمالي غير المحصور شملت المعلوم الاجمالي المحصور أيضا ، فانه لو كان العلم لا يؤثر في غير المحصور لا يؤثر في المحصور أيضا.

(و) الجواب عن هذا ما أشار اليه المصنّف بقوله : (لكن هذه الاخبار وامثالها) من أخبار البراءة (لا يصلح للمنع) عن مقتضى العلم الاجمالي (لأنها كما تدل) بمنطوقها (على حلية كل واحد من المشتبهين) اذ كل واحد من المشتبهين لم يعلم حرمته ، فيكون كالمشكوك بالشبهة البدوية (كذلك تدلّ) بمفهومها (على حرمة ذلك المعلوم اجمالا) المردد بين الأمرين ، أو الامور المحصورة (لأنّه شيء علم حرمته).

وعليه : فاذا قلنا بشمول أخبار البراءة للشبهة المحصورة ليجوز ارتكاب كلا المشتبهين ، لزم التعارض بين منطوق هذه الاخبار مع مفهومها ، فمنطوقها يقول : لا بأس بالارتكاب لأنك لا تعلم خمرية كل واحد واحد ، ومفهومها يقول :

٢٢٩

فان قلت : انّ غاية الحل معرفة الحرام بشخصه ولم يتحقّق في المعلوم الاجمالي.

قلت : أما قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام بعينه» ، فلا يدل على ما ذكرت ،

______________________________________________________

عليك بأس لأنك تعلم خمرا بينهما ، ولأجل أن لا يقع تعارض ، يلزم تخصيص هذه الأخبار بالشبهة البدوية ، فلا تشمل الشبهة المحصورة.

(فإن قلت) لا تعارض بين المنطوق والمفهوم في أخبار البراءة ، لأن المنطوق يقول : لا بأس بارتكاب المشتبه ، والمفهوم يقول : الّا اذا علمت به تفصيلا ، ومن المعلوم : انه لا علم تفصيلي في مورد العلم الاجمالي ، فلا تناقض ، إذ يكون المفهوم خاصا بالعلم التفصيلي دون العلم الاجمالي ، وذلك كما قال : (انّ غاية الحل) في هذه الاخبار (معرفة الحرام بشخصه) أي : بعينه ، لقوله عليه‌السلام : «حتى تعلم انه حرام بعينه» (و) العلم بشخص الحرام وعينه (لم يتحقّق في المعلوم الاجمالي).

وعليه : فمنطوق هذه الأخبار يدل على حلية المشكوك في الشبهة البدوية ، وحلية المشكوك في الشبهة المحصورة ، المقرونة بالعلم الاجمالي ، لوضوح :

انتفاء العلم التفصيلي في كلا المشتبهين ، أما شمول هذه الأخبار للشبهة غير المحصورة فلا إشكال فيه ، بل ربّما يقال : انه من الشبهة البدوية على ما سيأتي تفصيل الكلام فيه.

(قلت : أما قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام بعينه» (١) فلا يدل على ما ذكرت) : من انّ غاية الحل معرفة الحرام تفصيلا ، حتى يكون

__________________

(١) ـ الكافي (فروع) : ج ٥ ص ٣١٣ ح ٤٠ ، بحار الانوار : ج ٢ ص ٢٧٣ ب ٣٣ ح ١٢ ، تهذيب الاحكام : ج ٧ ص ٢٢٦ ب ٢١ ح ٩ ، وسائل الشيعة : ج ١٧ ص ٨٩ ب ٤ ح ٢٢٠٥٣.

٢٣٠

لانّ قوله عليه‌السلام : «بعينه» تأكيد للضمير جىء به للاهتمام في اعتبار العلم. كما يقال : «رأيت زيدا بعينه» ، لدفع توهم وقوع الاشتباه في الرؤية. وإلّا فكل شيء علم حرمته فقد علم حرمة نفسه.

______________________________________________________

الحرام المشتبه بين اناءين حلالا (لانّ قوله عليه‌السلام : «بعينه» تأكيد للضمير) في قوله : «انه» ، وقد (جيء به) أي : بهذا التأكيد هنا (للاهتمام في اعتبار العلم) فيكون قوله : «حتى تعلم انه حرام بعينه» بمنزلة قوله : أحدهما المعين حرام ، لا بمنزلة : احدهما حرام عين الحرام.

وعليه : فهذه الجملة تكون : (كما يقال : رأيت زيدا بعينه) حيث انّ قيد «بعينه» لتأكيد أنّه رأى زيدا بنفس زيد (لدفع توهم وقوع الاشتباه في الرؤية) حتى لا يتوهم السامع انّ المتكلم رأى شخصا آخر واشتبه في انه زيد ، أو رأى ابن زيد وسمّاه زيدا من باب المبالغة لأنّهما بمنزلة شخص واحد ، إذ ربما يقول الانسان : شربت عسلا ويريد الماء ، لأنّ الماء الحلو بمنزلة العسل فيسميه عسلا ، لكن اذا قال : شربت عسلا بعينه ، أفاد انّه لم يشرب الماء ويسميه عسلا مبالغة ، وانّما شرب عسل النحل.

(وإلّا) بأن لم يكن المعنى ما ذكرناه : من أن قوله : «بعينه» ، بمنزلة قوله : أحدهما المعين حرام ، بل قلنا : انه بمنزلة أحدهما حرام عين الحرام ، كان الكلام بعيدا عن البلاغة (فكل شيء علم حرمته فقد علم حرمة) الشيء (نفسه) فانّ كل شيء كان حراما فهو حرام بنفسه ، فما فائدة قوله : «بعينه» في هذه الحال؟.

وإن شئت قلت : لو قال أحدهما المعين حرام كان له معنى ، أما لو قال : أحدهما حرام عين الحرام ، فلا يكون له معنى.

ثم إنّ المصنّف لتوضيح ان «بعينه» في الرواية ليس قيدا للحرام ، بل هو قيد

٢٣١

فاذا علم نجاسة إناء زيد وطهارة اناء عمرو ، فاشتبه الإناءان ، فاناء زيد شيء علم حرمته بعينه.

نعم ، يتصف هذا المعلوم المعيّن بكونه لا بعينه إذا أطلق عليه عنوان أحدهما ، فيقال : أحدهما لا بعينه ، في مقابل أحدهما المعين عند القائل.

وأما قوله عليه‌السلام : «فهو لك حلال حتّى تعرف الحرام منه بعينه» فله ظهور

______________________________________________________

للضمير في قوله : «انه» قال : (فاذا علم نجاسة اناء زيد وطهارة اناء عمرو ، فاشتبه الإناءان ، فاناء زيد) الذي علم حرمته (شيء علم حرمته بعينه) فلا حاجة الى أن يأتي بلفظ «بعينه» ، اذ بعد الاشتباه يعلم انّ اناء زيد بعينه حرام لكنّه لا يعلم انّ أيهما الخارجي حرام ، فاذا كان لفظ «بعينه» لتقييد إناء زيد كان لغوا ، بخلاف ما إذا كان بمنزلة قولنا : أحدهما المعين ، إذ بعد الاشتباه لا يعلم حرمة أحدهما المعين.

(نعم ، يتصف هذا المعلوم المعيّن) اجمالا ، لفرض انه يعلم بأن اناء زيد نجس ، يتّصف (بكونه لا بعينه) فكونه لا بعينه وصف (إذا أطلق عليه عنوان أحدهما) قلنا : أحدهما لا بعينه حرام ، فانّه قد يكون أحدهما بعينه حراما ، وقد يكون أحدهما لا بعينه حراما ، فاذا كان ـ مثلا ـ اناء أحمر واناء أبيض ، والأحمر حرام ولم يعلم به بخصوصه (فيقال : أحدهما) حرام (لا بعينه) أي : لا على التعيين ، ويقال (في مقابل) ذلك بأن علم به بخصوصه : (أحدهما المعين عند القائل) حرام ، فلا يكون المقصود من الاتصاف بهذا المعنى : انّ الحرمة قسمان : قسم بعينه وقسم لا بعينه ، بل المقصود : قسم متعين وقسم غير متعين.

(وأما قوله عليه‌السلام : «فهو لك حلال حتّى تعرف الحرام منه بعينه») (١) فله ظهور

__________________

(١) ـ الكافي (فروع) : ج ٥ ص ٣١٣ ح ٣٩ ، من لا يحضره الفقيه : ج ٣ ص ٣٤١ ب ٢ ح ٤٢٠٨ ، وسائل الشيعة : ج ١٧ ص ٨٨ ب ٤ ح ٢٢٠٥٠ (بالمعنى) وقريب منه في المحاسن : ص ٤٩٥ ح ٥٩٦.

٢٣٢

فيما ذكر ، حيث انّ قوله «بعينه» قيد للمعرفة ، فمؤدّاه اعتبار معرفة الحرام بشخصه ، ولا يتحقق ذلك إلّا إذا أمكنت الاشارة الحسّية إليه.

وأمّا إناء زيد المشتبه بإناء عمرو في المثال وإن كان معلوما بهذا العنوان ، إلا انّه مجهول باعتبار الامور المميّزة له في الخارج عن إناء عمرو ، فليس معروفا بشخصه.

______________________________________________________

فيما ذكر) من اشتراط العلم التفصيلي في وجوب الاجتناب ، فاذا لم يكن علم تفصيلي لم يجب الاجتناب حتى وان كان المشتبه محصورا في طرفين ، وهذا الظهور في الحديث الثاني من (حيث انّ قوله) عليه‌السلام («بعينه» ، قيد للمعرفة) فيكون بمنزلة قوله : حتى تعرف الحرام بعين المعرفة ، ومن الواضح : انّ المعرفة بعينها لا تكون الّا في العلم التفصيلي ، إذ في العلم الاجمالي لا تكون المعرفة بعينها.

وعليه : (فمؤداه) أي : مؤدى هذا الحديث (اعتبار معرفة الحرام بشخصه ، ولا يتحقق ذلك إلّا إذا أمكنت الاشارة الحسّية إليه) أي : إلى الحرام ، كما في موارد العلم التفصيلي ، حيث يتمكّن الانسان من الاشارة إلى الحرام بشخص الحرام.

(وأمّا إناء زيد المشتبه بإناء عمرو) في كون أحدهما نجسا ، كما (في المثال) فانه (وإن كان معلوما بهذا العنوان) أي : بعنوان اناء زيد أو اناء عمرو (إلا انّه مجهول باعتبار الامور المميّزة له في الخارج عن اناء عمرو ، فليس معروفا بشخصه) فيكون ما ذكره المصنّف من الفرق بين قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام بعينه» (١) ، وبين قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو

__________________

(١) ـ الكافي (فروع) : ج ٥ ص ٣١٣ ح ٤٠ ، تهذيب الاحكام : ج ٧ ص ٢٢٦ ب ٢١ ح ٩ ، وسائل الشيعة : ج ١٧ ص ٨٩ ب ٤ ح ٢٢٠٥٣ ، بحار الانوار : ج ٢ ص ٢٧٣ ب ٣٣ ح ١٢.

٢٣٣

إلّا انّ ابقاء الصحيحة على هذا الظهور يوجب المنافاة لما دلّ على حرمة ذلك العنوان المشتبه ، ومثل : قوله : «اجتنب عن الخمر» ، لأنّ الاذن في كلا المشتبهين ينافي

______________________________________________________

لك حلال حتّى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه» (١) هو على ما يلي :

ان لفظ «بعينه» في الرواية الأولى تأكيد للضمير في : «انه» الراجع إلى «الشيء» وقد جيء به للاهتمام في اعتبار العلم ، فلا يدل على اعتبار العلم التفصيلي في تنجيز الحرمة ، لانه بمنزلة قوله : كل شيء لك حلال حتى تعلم انه بعينه حرام ، بينما لفظ «بعينه» في الرواية الثانية قيد «للمعرفة» ، فيكون بمنزلة «كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتّى تعرف الحرام بشخصه» ، ولا تتحقق المعرفة بشخص الحرام إلّا اذا امكنت الاشارة الحسّية اليه.

ومن المعلوم : انّ في المشتبهين لا يمكن الاشارة الحسّية إلى الحرام منهما ، فتدل الرواية بظاهرها على جواز ارتكاب كلا المشتبهين.

وان شئت قلت : إنّ الغاية في الرواية الأولى : معرفة حرمة الشيء وحرمته دائما تكون بعينه حتى المعلوم اجمالا ، فلا معنى للاحتراز فلا يكون القيد «بعينه» احترازيا ، وأمّا في الرواية الثانية : فان معرفة الحرام قد تكون بعينه وشخصه ، وقد تكون لا بعينه وشخصه ، فيصح ان يكون قيد «بعينه» في الرواية احترازيا.

(إلّا انّ ابقاء الصحيحة على هذا الظهور) بمعنى : اشتراط العلم التفصيلي في الحرمة (يوجب المنافاة لما دلّ على حرمة ذلك العنوان المشتبه) بين الإناءين (ومثل : قوله) عليه‌السلام : («اجتنب عن الخمر» ، لأنّ الاذن في كلا المشتبهين ينافي

__________________

(١) ـ الكافي (فروع) : ج ٥ ص ٣١٣ ح ٣٩ ، من لا يحضره الفقيه : ج ٣ ص ٣٤١ ب ٢ ح ٤٢٠٨ ، تهذيب الاحكام : ج ٧ ص ٢٢٦ ب ٢١ ح ٨ وج ٩ ص ٧٩ ب ٤ ح ٧٢ ، وسائل الشيعة : ح ١٧ ص ٨٨ ب ٤ ح ٢٢٠٥٠.

٢٣٤

المنع عن عنوان مردّد بينهما ويوجب الحكم بعدم حرمة الخمر المعلوم إجمالا في متن الواقع ، وهو ممّا يشهد الاتفاق والنص على خلافه حتى نفس هذه الاخبار ، حيث انّ مؤدّاها ثبوت الحرمة الواقعية للأمر المشتبه.

______________________________________________________

المنع عن عنوان مردّد بينهما) فانّ دليل حرمة الخمر شامل لما إذا كان الخمر معلوما لدى الشخص ، أو مجهولا في محصور لديه.

(و) ان قلت : ما هو المانع من ان يكون الخمر المعلوم تفصيلا حراما ، والخمر المجهول كونه في هذا الاناء أو ذلك الاناء حلالا؟.

قلت : لا مانع عقلي من ذلك ، وانّما المانع الشرعي وقف دون ذلك ، لأنّه (يوجب الحكم بعدم حرمة الخمر المعلوم اجمالا) فيكون الخمر بين الإناءين حلالا (في متن الواقع ، وهو ممّا يشهد الاتفاق) من العلماء (والنص على خلافه) فإنّ العلماء كافة حتى من يقول بحلية الإناءين انّما يقول بحليتها ظاهرا لا واقعا ، مع انه لو كان الحرام هو الخمر المقيد بالعلم لوجب أن يقول بالحلية الواقعية.

وأمّا النص فهو قوله عليه‌السلام : «يهريقهما ويتيمم» (١) فانه إذا كان الحكم مقيّدا بالعلم لم يكن وجه لاراقتهما (حتى نفس هذه الاخبار) الدالة على البراءة المقيدة بالعلم تدل على انّ الخمر الواقعي حرام ، لا انّ الخمر المعلوم بقيد العلم حرام (حيث انّ مؤدّاها) أي : مؤدّى هذه الأخبار الدالة على البراءة (ثبوت الحرمة الواقعية للأمر المشتبه) فإنّ «الخمر» اسم للخمر الواقعي كسائر الالفاظ الموضوعة للمعاني الواقعية ، فلا بدّ من كون الخمر الواقعي حراما مع قطع النظر عن العلم والجهل.

بل ظاهر هذه الرواية نفسها مع قطع النظر عن الجهة التي ذكرناها تدل على انّ

__________________

(١) ـ تهذيب الاحكام : ج ١ ص ٢٢٩ ب ١٠ ح ٤٥ ، الاستبصار : ج ١ ص ٢١ ب ١٠ ح ٣.

٢٣٥

فإن قلت : مخالفة الحكم الظّاهري للحكم الواقعي لا يوجب ارتفاع الواقعي ، كما في الشبهة

______________________________________________________

الخمر بما هو خمر حرام ، سواء علم بكونه خمرا أم لا ، لأنّ قوله عليه‌السلام «حتّى تعرف الحرام منه» (١) ظاهر في انّ الأشياء بعضها حلال في الواقع وبعضها حرام في الواقع ، فالمشتبه يكون حلالا ظاهرا لا واقعا حتى يعلم المكلّف الحرمة ، فيتنجز الواقع عليه.

والحاصل : هنا دليلان على حرمة الخمر المردد بين الإناءين :

أولا : انّ قوله : «الخمر حرام» (٢) ظاهر في الحرمة ، سواء علمه تفصيلا أم اجمالا.

ثانيا : ان قوله : «حتّى تعرف الحرام منه» ظاهر في وجود الحرام والحلال في الواقع مع قطع النظر عن العلم والجهل ، فلا يكون الخمر المردد حلالا ، وإذا كان الخمر المردد حراما وجب الاجتناب عن الإناءين

(فان قلت :) انّا نسلّم انّ الخمر الواقعي المردد بين الإناءين حرام ، لكن نقول : انه حرام واقعا وحلال ظاهرا ، ولا منافاة بين الحكمين : الواقعي والظاهري ، اذ (مخالفة الحكم الظّاهري للحكم الواقعي لا يوجب ارتفاع الواقعي) فنبقي «الصحيحة» على ظاهرها ، ونقول : انّ الشارع حكم بحلية كلا المشتبهين ظاهرا وان حكم بحرمة الخمر المردد بينهما واقعا.

وعليه : فيكون الأمر في مورد العلم الاجمالي المحصور (كما في الشبهة

__________________

(١) ـ الكافي (فروع) : ج ٥ ص ٣١٣ ح ٣٩ ، من لا يحضره الفقيه : ج ٣ ص ٣٤١ ب ٢ ح ٤٢٠٨ ، تهذيب الاحكام : ج ٧ ص ٢٢٦ ب ٢١ ح ٨ وج ٩ ص ٧٩ ب ٤ ح ٧٢ ، وسائل الشيعة : ج ١٧ ص ٨٨ ب ٤ ح ٢٢٠٥٠.

(٢) ـ دعائم الاسلام : ج ٢ ص ١٣١ ح ٤٥٨ ، فقه الرضا : ص ٢٨٠.

٢٣٦

المجرّدة عن العلم الاجمالي ، مثلا : قول الشارع : «اجتنب عن الخمر» شامل للخمر الواقعي الذي لم يعلم به المكلّف ولو إجمالا ، وحليته في الظاهر لا يوجب خروجه عن المعلوم المذكور حتى لا يكون حراما واقعيا ، فلا ضير في التزام ذلك في الخمر الواقعي المعلوم اجمالا.

قلت : الحكم الظاهري لا يقدح مخالفته للحكم الواقعي في نظر الحاكم

______________________________________________________

المجرّدة عن العلم الاجمالي) حيث يجتمع الحكمان : الواقعي بالحرمة ، والظاهري بالحلية ، فكما اذا لم يعلم المكلّف في الشبهة البدوية خمرية هذا الاناء شمله : «كلّ شيء لك حلال» ، فهو حلال ظاهرا مع انه حرام واقعا ، لكونه خمرا حسب الفرض ، فكذلك يكون اذا لم يعلم المكلّف خمرية هذا الاناء في الشبهة المقرونة بالعلم الاجمالي في الشبهة المحصورة.

(مثلا : قول الشارع : «اجتنب عن الخمر» شامل للخمر الواقعي الذي لم يعلم به المكلّف ولو إجمالا) بأن شك فيه شكا بدويا (و) مع ذلك فهو محكوم بالحلية ظاهرا باتفاق الاصوليين والأخباريين ، لأنّ (حليته في الظاهر لا يوجب خروجه عن العموم المذكور حتى لا يكون حراما واقعيا) فيجتمع في الشبهة البدوية الحرمة الواقعية والحليّة الظاهرية (فلا ضير) أي : فلا مانع (في التزام ذلك في الخمر الواقعي المعلوم اجمالا) بين اناءين أيضا ، فيكون الخمر الذي هو بينهما حرام واقعا وحلال ظاهرا.

(قلت : الحكم الظاهري لا يقدح مخالفته) عملا مقابل المخالفة الالتزامية (للحكم الواقعي في نظر الحاكم) فانه لا يقبح عقلا جعل حكمين مختلفين : ظاهري وواقعي بملاكين ، فالحكم الواقعي بملاك المصلحة الواقعية ، والحكم الظاهري بمعنى مجرد المعذورية عن التكليف واقعا ، ذكرناه في أوّل الكتاب :

٢٣٧

مع جهل المحكوم بالمخالفة ، لرجوع ذلك إلى معذورية المحكوم الجاهل ، كما في أصالة البراءة ، وإلى بدلية الحكم الظاهري عن الواقع أو كونه طريقا مجعولا إليه على الوجهين في الطّرق الظاهرية المجعولة.

______________________________________________________

من انّ التكاليف الظاهرية انّما : هي تنجيز واعذار ، لا أنّها احكام كالأحكام الواقعية ، للتهافت بينهما ، أو بملاك جعل المصلحة السلوكية في الأحكام الظاهرية ليتدارك بها المصالح الواقعية ، كما ذكره المصنّف في أوّل الكتاب.

وعليه : فلا منافاة بين جعل حكمين من الحاكم (مع جهل المحكوم بالمخالفة) أي : بمخالفة الحكم الظاهري للحكم الواقعي ، والّا لرأى ذلك تناقضا ، ولهذا يجعل الحاكم في موارد الشك البدوي أحكاما تخالف الواقع (لرجوع ذلك) الحكم الظاهري المخالف للحكم الواقعي (إلى معذورية المحكوم الجاهل ، كما في أصالة البراءة) في الشبهات البدوية ، وكما في موارد الاستصحاب ، بل في كل موارد مخالفة الاصول والأمارات للواقع.

ولهذا قال المصنّف : (وإلى بدلية الحكم الظاهري عن الواقع) كما في موارد الأمارات الظنية المعتبرة ، سواء كان في الموضوعات كجعل الشاهدين حجّة ، أو في الأحكام كالأمارات المعتبرة شرعا ، مثل خبر الواحد ، والاجماع المنقول ، والشهرة ، وما أشبه ذلك (أو كونه) أي : الحكم الظاهري (طريقا مجعولا إليه) أي : إلى الواقع (على الوجهين في الطّرق الظاهرية المجعولة).

والوجهان عبارة عن انّه : هل الحكم الظاهري بدلا عن الحكم الواقعي في مورد المخالفة لأنّ الشارع يعطي لسلوك الطريق الظاهري مصلحة يتدارك بها مصلحة الواقع أو انه لا يعطي مصلحة للسلوك ، بل يكون السالك معذورا عن مخالفة الواقع ، لأنّ الشارع جعل الحكم الظاهري المخالف لمصلحة الواقع مع انه

٢٣٨

وأمّا مع علم المحكوم بالمخالفة فيقبح من الجاهل جعل كلا الحكمين ، لأنّ العلم بالتحريم يقتضي وجوب الامتثال بالاجتناب عن ذلك المحرّم فاذن الشارع في فعله ينافي حكم العقل بوجوب الاطاعة.

______________________________________________________

مفوّت لمصلحة الواقع لأجل التسهيل ونحوه؟.

ولا يخفى انّ الوجهين جاريان في الاصول أيضا من غير فرق بين البراءة ، والاستصحاب ، والاحتياط ، والتخيير ، فتفكيك المصنّف بينهما ، بقوله في مورد البراءة : «لرجوع ذلك الى معذورية المحكوم ...» وفي غير مورد البراءة بقوله : «الى بدلية الحكم الظاهري ...» محل تأمّل.

هذا كله في موارد عدم علم المحكوم بالمخالفة ، كما في الشبهات البدوية ونحوها.

(وأمّا مع علم المحكوم بالمخالفة) كما في موارد العلم الاجمالي المحصور ، لانّ العلم الاجمالي غير المحصور أيضا ملحق بالشبهات البدوية على ما أشرنا إليه سابقا ، فانّ المكلّف يعلم في هذه الموارد المحصورة انّ الحلية تكون مخالفة للواقع (فيقبح) عقلا (من الجاهل جعل كلا الحكمين) فمرة يقول : بأنّ أحد هذين اللحمين حرام مثلا ، ومرة يقول : انّ كليهما حلال ، وكذلك بالنسبة إلى الطهارة والنجاسة ، وغير ذلك من موارد الشبهة المحصورة المقرونة بالعلم الاجمالي.

وانّما يقبح عقلا (لأنّ العلم بالتحريم يقتضي) عقلا (وجوب الامتثال بالاجتناب عن ذلك المحرّم فاذن الشارع في فعله) بأن يقول للمكلّف : لا بأس عليك ان ترتكب كلا المشتبهين ـ مثلا ـ (ينافي حكم العقل بوجوب الاطاعة) لأنّه يكون اذنا في المعصية وتناقضا من المولى الحكيم.

٢٣٩

فان قلت : اذن الشارع في فعل المحرّم مع علم المكلّف بتحريمه إنّما ينافي حكم العقل من حيث أنه اذن في المعصية والمخالفة ، وهو إنّما يقبح مع علم المكلّف بتحقيق المعصية حين ارتكابها.

والاذن في ارتكاب المشتبهين ليس كذلك

______________________________________________________

لكن ربّما يقال : إنّ العمدة في الفرق بين مورد العلم الاجمالي ومورد الشبهة البدوية : هو ظواهر الأدلة ، والّا فما تقدّم في مورد الشبهة البدوية من المصلحة السلوكية ـ مثلا ـ يأتي في مورد العلم الاجمالي أيضا ، وهل هناك مانع من أن يقول الشارع في مورد العلم الاجمالي : لا تجتنب لأني أتدارك مصلحة الواقع ، كما قال الشارع بمثل ذلك في مورد درهمي الودعي ، وتقسيم الابل بين المدعيين في قصة علي أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وارث الخنثى ، وغير ذلك من موارد قاعدة العدل ونحوها؟.

(فان قلت :) أنكم قلتم : الاذن في الحرام مع علم المكلّف بالحرمة حين الارتكاب ، فيه محذور عقلي ، مع انه من الواضح : انّ المكلّف في الشبهة المقرونة بالعلم الاجمالي إذا ارتكبها تدريجا لا يعلم بفعله للحرام حال ارتكاب كل واحد واحد ، فلا محذور في اذن الشارع ، لأنه حينئذ يكون كالاذن في الشبهة البدوية ، كما قال : (إذن الشارع في فعل المحرّم مع علم المكلّف بتحريمه إنّما ينافي حكم العقل من حيث انه إذن في المعصية والمخالفة) وقد تقدّم : انه لا يتمكن الشارع من الاذن في المعصية والمخالفة ، لأنّه تناقض (وهو) أي إذن الشارع في فعل الحرام (إنّما يقبح مع علم المكلّف بتحقيق المعصية حين ارتكابها) أي : حين ارتكاب المعصية ، ومع ذلك يجوّز الشارع ارتكابها.

هذا (و) الحال ان (الاذن في ارتكاب المشتبهين ليس كذلك) أي : إذن بما

٢٤٠