الوصائل الى الرسائل - ج ٨

آية الله السيد محمد الشيرازي

الوصائل الى الرسائل - ج ٨

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة عاشوراء للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7263-08-2
ISBN الدورة:
964-7263-04-X

الصفحات: ٤٠٠

ويستدلّ للأوّل بقاعدة الاحتياط ، واستصحاب الحكم المختار ،

______________________________________________________

ـ مثلا ـ اذا دار أمره بين الحرمة أو الوجوب ، لاحتمال انّه دوائه الذي يموت بدونه ، ثلاثة اقوال :

الأوّل : انّه إذا اختار الترك أوّل يوم ، لزم عليه الترك إلى الأخير ، وإذا اختار الشرب أوّل يوم لزم عليه الشرب كل يوم إلى الأخير.

الثاني : انّه مخير في كل يوم بأن يترك أو يشرب.

الثالث : انّه إذا فعل أو ترك في أول يوم ، فان كان بانيا على الاستمرار في ذلك الترك أو الفعل الذي اختاره أوّلا ، أو لم يبن على شيء جاز له العدول ، لانه لم يتعمّد المخالفة القطعية من الأوّل ، ولا مؤاخذة على المخالفة القطعية الحاصلة فيما بعد ، وان كان بانيا على العدول من الأوّل ، لم يجز له العدول ، لانه قد تعمّد المخالفة القطعية من الأوّل وهو غير جائز ، فعليه الاستمرار على ما بدء به أوّلا من فعل أو ترك.

(ويستدل للأوّل) : وهو كون التخيير ابتدائيا ، فلا يجوز له العدول بامور :

أولا : (بقاعدة الاحتياط) في باب الشك في المكلّف به ، وذلك لدوران الأمر بين التعيين والتخيير ، لأنّه يحتمل أن يكون اللازم عليه أن يستمر فيما اختاره أولا ، ويحتمل أن يكون مخيرا بين الفعل والترك ، فاذا دار الأمر بين التعيين والتخيير كانت قاعدة الاحتياط مع التعيين.

(و) ثانيا : (استصحاب الحكم المختار) فانّه لما اختار أحد الأمرين وشك في المرة الثانية : بانّه هل يجوز له خلاف ما اختاره أوّلا أم لا؟ كان مقتضى

٢٠١

واستلزام العدول للمخالفة القطعيّة المانعة عن الرجوع الى الاباحة من أوّل الأمر.

ويضعّف الأخير بأنّ المخالفة القطعيّة في مثل ذلك لا دليل على حرمتها ،

______________________________________________________

القاعدة : استصحاب ما اختاره أولا فلا يجوز له العدول.

(و) ثالثا : (استلزام العدول للمخالفة القطعيّة) العملية ، لوضوح : انّه إذا شرب مرة وترك مرة علم بأنه قد خالف الواقع ، بينما إذا استمر على حالة واحدة لم يعلم بانّه خالف الواقع ، والعقلاء يرون انّ المخالفة الاحتمالية مقدّمة على المخالفة القطعية (المانعة) تلك المخالفة القطعية (عن الرّجوع إلى الاباحة من أوّل الأمر) فانّه لما كان في التخيير مخالفة قطعية لم نقل بالاباحة من أوّل الأمر ، ولو لا هذا المحذور وهو المخالفة القطعية لقلنا بالاباحة من أوّل الأمر ، بمعنى : انّه مخير بين هذا وذاك فيما دار الأمر فيه بين المحذورين.

وعليه : فكما ان محذور المخالفة القطعية يمنع من الرجوع الى الاباحة من أوّل الأمر ، كذلك يمنع هذا المحذور عن استمرار التخيير فيما بعد ، اذ نتيجة الاباحة واستمرار التخيير واحدة ، وذلك لانّ استمرار التخيير هو عبارة أخرى عن الاباحة.

(ويضعّف الأخير) وهو الذي ذكرناه بقولنا : وثالثا استلزام العدول للمخالفة القطعية (بأنّ المخالفة القطعيّة) العملية (في مثل ذلك) من الأمور التدريجية (لا دليل على حرمتها) لانّ حرمة المخالفة العملية انّما هي في الامور الدفعية ، كما إذا علم بأن أحد الإناءين نجس وفي دفعة واحدة شرب أحدهما ، وأراق الثاني.

وأمّا في الامور التدريجية التي للمكلّف مناص عن اطراف الشبهة فيها ، كما إذا

٢٠٢

كما لو بدا للمجتهد في رأيه أو عدل المقلّد عن مجتهده بعذر من موت أو جنون أو فسق أو اختيار على القول بجوازه.

______________________________________________________

علم ان زوجته حائض أول شهر أو وسطه فانّه يتجنبها في كلا الوقتين أما ما ليس كذلك ، مثل : ما نحن فيه من الدوران بين الفعل والترك حيث لا مناص من احدهما فلا دليل على الحرمة من عقل أو نقل ، بل ربّما كانت المخالفة القطعية أولى ، لأنّ فيها موافقة قطعية أيضا ، بخلاف المخالفة الاحتمالية ، ولذا ينصّف درهم الودعي المحتمل كونه لزيد أو لعمرو ، مع انّه مخالفة قطعية في نصف الدرهم ، وهذا يقدمه الشرع والعقل على اعطاء الدرهم لأحدهما مع انّ فيه موافقة احتمالية.

إذن : فالمقام هو (كما لو بدا) أي : ظهر الخلاف (للمجتهد في رأيه) السابق ، فعدل عنه إلى حكم جديد ، كما اذا كان يرى سابقا وجوب الجمعة ثم رأى حرمتها (أو عدل المقلّد عن مجتهده بعذر : من موت ، أو جنون ، أو فسق ، أو اختيار) فيما إذا قلنا بأنّ عدول المقلد عن مجتهد إلى مجتهد آخر اختيارا جائز شرعا ، ولهذا قال المصنّف : (على القول بجوازه) اي : جواز العدول اختيارا.

وعليه : فان في هاتين الصورتين يحصل للمجتهد في تبدل رأيه ، وللمقلّد في تبدل مجتهده ، أو تبدل رأي مجتهده مخالفة قطعية ، لأنّ صلاة الجمعة اما واجبة واقعا ، أو محرمة واقعا ، فاذا عمل مدة بالوجوب ومدة بالحرمة ، فقد علم بالنتيجة انّه خالف الواقع قطعا ، لكن مع ذلك افتى الفقهاء بوجوب العمل بالرأي الجديد وان لزم منه المخالفة القطعية ولا يجوّزون له ان يبقى على الرأي الأوّل ، فما يقال في الجواب عن هاتين الصورتين نقوله في الجواب عمّا نحن فيه من دوران الأمر بين المحذورين إذا قلنا فيه بالتخيير الاستمراري.

٢٠٣

ويضعّف الاستصحاب بمعارضة استصحاب التخيير الحاكم عليه.

ويضعّف قاعدة الاحتياط بما تقدّم من أنّ حكم العقل بالتخيير عقليّ لا احتمال فيه حتّى يجري فيه الاحتياط.

______________________________________________________

(ويضعّف) دليلهم الثاني وهو : (الاستصحاب) أي : استصحاب الحكم الذي اختاره أوّلا وعمل به (بمعارضة استصحاب التخيير الحاكم عليه) فانّ الاستصحاب الثاني لحكومته على الاستصحاب الأوّل يقدّم على الاستصحاب الأوّل ، كما قرر في كل استصحابين أحدهما حاكم والآخر محكوم ، وذلك لأنّ الشك في وجوب البقاء على الحكم الذي اختاره أولا وعدم وجوب البقاء عليه مسبب عن الشك في استمرار التخيير وعدمه ، فاذا جرى استصحاب استمرار التخيير ، لم يبق شك في وجوب البقاء على الحكم الذي اختاره أولا وعدم وجوبه ، لأنّ استصحاب التخيير سببي واستصحاب البقاء على الحكم الأوّل مسببي ، والاستصحاب السببي مقدّم على الاستصحاب المسببي.

(ويضعّف) دليلهم الأوّل وهو : (قاعدة الاحتياط) حيث ذكرنا : ان مقتضى الاحتياط في دوران الأمر بين التعيين والتخيير هو التعيين ، فاذا بقي على الحكم الأوّل كان عاملا بالتعيين ، وإذا رجع إلى حكم ثان كان عاملا بالتخيير ، وكلّما دار الأمر بين التعيين والتخيير يقدّم التعيين على التخيير ، فانه يضعّف (بما تقدّم : من انّ حكم العقل بالتخيير) انّما هو (عقليّ) لا شرعي ، والحكم العقلي (لا احتمال فيه) بين التعيين والتخيير (حتى يجري فيه الاحتياط) فانّ دوران الأمر بين التعيين والتخيير انّما يكون في الأحكام الشرعية التوقيفية لا في الأحكام

٢٠٤

ومن ذلك يظهر عدم جريان استصحاب التخيير ، إذ لا إهمال في حكم العقل حتّى يشكّ في بقائه في الزمان الثاني.

فالأقوى هو التخيير الاستمراريّ ، لا للاستصحاب ، بل لحكم العقل في الزمان الثاني كما حكم به في الزّمان الأوّل.

______________________________________________________

العقلية ، لأنّ العقل لا يتردد بين التعيين والتخيير ، وانّما يحكم جزما بالتعيين أو بالتخيير. (و) بعد الذي ذكرناه : من انّ العقل يرى التخيير في أمثال المقام ، لا حاجة إلى أن يقال باجراء استصحاب التخيير ، لأنّه انّما يجري استصحاب التخيير فيما إذا شك في التخيير وعدمه في الآن الثاني ، ونحن لا نشك في التخيير بعد أن العقل قاطع بالتخيير في أمثال المقام.

وإلى هذا أشار المصنّف بقوله : (من ذلك) أي : من عدم الترديد في حكم العقل حتى يحتاج الرجوع فيه إلى الاستصحاب أو نحوه (يظهر عدم جريان استصحاب التخيير) لاثبات استمرار التخيير في الآن الثاني والثالث وهكذا (إذ لا إهمال في حكم العقل حتى يشك في بقائه في الزّمان الثاني) والثالث ونحوه فنحتاج إلى استصحاب التخيير.

نعم ، لو قلنا بأنّ التخيير مستفاد من الأخبار وشككنا في الآن الثاني في انّ الاخبار هل تفيد التخيير ام لا؟ نستصحب التخيير.

إذن : (فالأقوى) في صورة دوران الأمر بين المحذورين وتعدد الواقعة في الأزمنة المختلفة (هو التخيير) العقلي (الاستمراري) وقلنا انّه استمراري (لا للاستصحاب) أي : استصحاب التخيير على ما عرفت من انّه ليس هنا مجال الاستصحاب (بل لحكم العقل في الزّمان الثاني) والثالث والرابع وهكذا (كما حكم به في الزّمان الأوّل) لأنّه لا دليل على انّه إذا أخذ بأحد الحكمين

٢٠٥

المسألة الثانية

إذا دار الأمر بين الوجوب والحرمة من جهة إجمال الدليل ، أمّا حكما ، كالأمر المردّد بين الايجاب والتهديد ،

______________________________________________________

في الآن الأوّل أن يكون ملزما بالأخذ به في الآن الثاني والثالث وهكذا.

هذا تمام الكلام فيمن قال بالتعيين وفيمن قال بالتخيير مطلقا ، أما من قال بالتفصيل الذي أشار إليه المصنّف سابقا بقوله : أو بشرط البناء على الاستمرار ، فقد استدل له ـ كما عرفت ـ بدليل ضعيف ، ولذا لم يتعرّض له ولجوابه المصنّف ، اذ في دليلهم ذلك ما لا يخفى ، فانّ المخالفة التدريجية مع الالتزام في كل واقعة بأحد الحكمين الذي هو الحكم الواقعي عند الله لا دليل على حرمتها ، تعمّد بها من الأوّل أو لم يتعمدها ، بل قد عرفت : انّ المخالفة القطعية عند العقلاء أولى من المخالفة الاحتمالية كما في مسألة «درهمي الودعي» وغيرها ممّا ذكر في الفقه.

(المسألة الثانية) من مسائل دوران الأمر بين المحذورين ، فقد كانت المسألة الأولى في دوران الأمر بين المحذورين من جهة فقد النص ، وهذه المسألة فيما (إذا دار الأمر بين الوجوب والحرمة من جهة إجمال الدليل) بأن كان الحكم مجملا ، أو الموضوع مجملا ، بحيث يسري إلى الحكم ؛ لوضوح : انّه إذا كان الموضوع مجملا سرى إجماله إلى الحكم ، ولذا قال المصنّف :

(أمّا حكما : كالأمر المردّد بين الايجاب والتهديد) كما في قوله سبحانه : (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) (١) فهل هو أمر بالسعة وانّ لكل انسان أن يعمل ما يشاء ، أو تهديد بانّه لا يجوز له أن يعمل ما يشاء وانّما عليه ان يتقيّد بحدود الشرع؟.

__________________

(١) ـ سورة فصلت : الآية ٤٠.

٢٠٦

أو موضوعا ، كما لو أمر بالتحرّز عن أمر مردّد بين فعل الشيء وتركه ، فالحكم فيه كما في المسألة السابقة.

المسألة الثالثة

لو دار الأمر بين الوجوب والتحريم من جهة تعارض الأدلّة ، فالحكم هنا التخيير ،

______________________________________________________

(أو موضوعا كما لو أمر بالتحرّز عن أمر مردّد بين فعل الشيء وتركه) بأن قال ـ مثلا ـ : تحرّز من رغبة النكاح ، فانّ الرغبة اذا عدّيت بكلمة «في» كان معناها ان ينكح ويفيد الوجوب ، وإذا عدّيت بكلمة «عن» كان معناها أن لا ينكح ويفيد التحريم ، وكما إذا قال : «لا تطلّق في القرء» ، ولم يعلم هل المراد : الحيض أو الطهر ، لأنّ اللفظ مشترك بينهما؟ (فالحكم فيه كما في المسألة السابقة) أي : مسألة دوران الأمر بين المحذورين من الوجوب والحرمة لفقد النص ، حيث ذكرنا هناك : انّ الحكم هو : التخيير ابتداء واستمرارا ، وهنا أيضا كذلك ، لأنّ الأدلة التي ذكرناها هناك تجري هنا أيضا.

(المسألة الثالثة) من مسائل دوران الأمر بين المحذورين : (لو دار الأمر بين الوجوب والتحريم من جهة تعارض الأدلّة) كما إذا وردت رواية تقول : «ثمن العذرة سحت» (١) ورواية تقول : «لا بأس ببيع العذرة» (٢) (فالحكم هنا التخيير) إذا لم يكن هناك مرجح لأحد الطرفين.

__________________

(١) ـ وسائل الشيعة : ج ١٧ ص ١٧٥ ب ٤٠ ح ٢٢٢٨٤ ، تهذيب الاحكام : ج ٦ ص ٣٧٢ ب ٢٢ ح ٢٠١ ، الاستبصار : ج ٣ ص ٥٦ ب ٣١ ح ٢.

(٢) ـ الكافي (فروع) : ج ٥ ص ٢٢٦ ح ٣ ، تهذيب الأحكام : ج ٦ ص ٣٧٢ ب ٢٢ ح ٢٠٢ ، الاستبصار : ج ٣ ص ٥٦ ب ٣١ ح ١ وح ٣ ، وسائل الشيعة : ج ١٧ ص ١٧٥ ب ٤٠ ح ٢٢٢٨٥.

٢٠٧

لاطلاق أدلته وخصوص بعض منها الوارد في خبرين ، أحدهما أمر ، والآخر نهي ، خلافا للعلّامة رحمه‌الله ،

______________________________________________________

وإنّما يكون الحكم هو التخيير هنا (لاطلاق أدلته) أي : أدلة التخيير ، مثل قوله عليه‌السلام : «إذن فتخيّر» (١) فانّ هذا الدليل يشمل صورة تعارض الخبرين ممّا يدل أحدهما على الوجوب والآخر على الاستحباب ، أو يدل أحدهما على التحريم والآخر على الكراهة ، أو يدل أحدهما على الوجوب والآخر على الحرمة.

(وخصوص بعض منها) أي : من تلك الأدلة العلاجية (الوارد) ذلك البعض (في خبرين أحدهما أمر والآخر نهي) أي : ورد فيما نحن فيه من دوران الأمر بين المحذورين ، كما في خبر سماعة بن مهران حيث قال : «قلت لابي عبد الله عليه‌السلام : يرد علينا حديثان : واحد يأمرنا بالأخذ به ، والآخر ينهانا عنه ...» (٢) فانّ هذا صريح وظاهر في كون احد المحتملين هو الوجوب ، والمحتمل الآخر هو الحرمة.

وعليه : فيدل هذا البعض على ما نحن فيه بالظهور ، لا بالاطلاق الذي ذكرناه في بعض آخر من الاخبار العلاجية كما في خبر زرارة ، فانّ من الاخبار العلاجية المطلقة ، ما رواه زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام : حيث قال : «فقلت له جعلت فداك يأتي عنكم الخبران والحديثان المتعارضان فبأيّهما آخذ؟ الى ان يقول في آخره : فكيف أصنع؟ فقال عليه‌السلام : إذن فتخيّر أحدهما ...» (٣).

وعليه : فانّا نقول : بأنّ الحكم هنا هو التخيير وذلك (خلافا للعلّامة رحمه‌الله

__________________

(١) ـ بحار الانوار : ج ٢ ص ٢٤٥ ب ٢٩ ح ٥٧ ، غوالي اللئالي : ج ٤ ص ١٣٣ ح ٢٢٩ ، جامع أحاديث الشيعة : ج ١ ص ٢٥٥.

(٢) ـ وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ١٢٢ ب ٩ ح ٣٣٣٧٥.

(٣) ـ غوالي اللئالي : ج ٤ ص ١٣٣ ح ٢٢٩ ، جامع أحاديث الشيعة : ج ١ ص ٢٥٥ ، بحار الانوار : ج ٢ ص ٢٤٥ ب ٢٩ ح ٥٧.

٢٠٨

في النهاية وشارح المختصر والآمديّ ، مرجحا لما ذكرنا سابقا ولما هو أضعف منه.

وفي كون التخيير هنا بدويا أو استمراريّا ، مطلقا أو

______________________________________________________

في النهاية ، وشارح المختصر ، والآمديّ ، مرجّحا) كل واحد من هؤلاء (ما دل على النهي) على غيره ، فلم يقولوا بالتخيير ـ كما قلنا به ـ وانّما قالوا بالتعيين لجانب الترك ، ولا يخفى : انّه بلاغيا يجوز ارجاع المفرد إلى الجمع وذلك باعتبار كل واحد ، مثل قوله سبحانه : (وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ) (١).

وانّما رجح هؤلاء جانب الترك (لما ذكرنا سابقا) من الوجوه الخمسة التي استدل بها جمع لترجيح جانب النهي على جانب الأمر (ولما هو أضعف منه) أي : ممّا ذكرناه من الوجوه المتقدّمة وذلك باقامة دليل سادس على ترجيح النهي على الأمر ، وهو : انّ دلالة النهي أقوى من دلالة الأمر ، لأنّ النهي دال على انتفاء جميع الأفراد ، بينما الأمر يقتضي إيجاد فرد واحد ، فيكون النهي في مدلوله أقوى من الأمر في مدلوله فيقدّم.

لكنّك قد عرفت سابقا : ضعف الوجوه الخمسة ، وأمّا الوجه السادس هذا ، فهو أضعف من تلك الوجوه ، وذلك لأنّ كلا من الأمر والنهي يمكن أن يكون متعلقه فردا ، ويمكن أن يكون متعلقة أفرادا ، وانّما يعرف خلاف ذلك بالقرائن فلا يكون هذا وجه اقوائية النهي.

(و) لكن بناء على ما اخترناه من التخيير هنا في باب دوران الأمر بين المحذورين لتعارض النصين ـ كما اخترناه في فقد النص واجماله ـ فالكلام (في كون التخيير هنا) هل يكون كما كان هناك (بدويا ، أو استمراريّا مطلقا ، أو)

__________________

(١) ـ سورة التحريم : الآية ٤.

٢٠٩

مع البناء من أوّل الأمر على الاستمرار ، وجوه تقدّمت ، إلّا أنه قد يتمسّك هنا للاستمرار بإطلاق الأخبار.

ويشكل بأنها مسوقة لبيان حكم المتحيّر في اوّل الأمر ، فلا تعرّض لها لحكمه بعد الأخذ بأحدهما.

نعم ، يمكن هنا استصحاب التخيير ، حيث أنه

______________________________________________________

استمراريا (مع البناء من أول الأمر على الاستمرار ، وجوه) ثلاثة قد (تقدّمت) ومقتضى القاعدة فيها : استمرارية التخيير.

(الّا انّه قد يتمسّك هنا) في باب دوران الأمر بين المحذورين من جهة تعارض النصين (للاستمرار) أي : استمرار التخيير (باطلاق الأخبار) العلاجية ، بينما في السابق استدللنا على استمرار التخيير بحكم العقل.

(ويشكل) هذا التمسك للاستمرار (بأنّها) أي : الاخبار العلاجية مجملة من هذه الجهة فليست مطلقة حتى تشمل الابتداء والاستمرار ، وحيث كانت مجملة فانّ القدر المتيقن منها هو : التخيير الابتدائي لا الاستمراري ، لأنها (مسوقة لبيان حكم المتحيّر في أول الأمر) فاذا أخذ المتحير بأحد الطرفين زال تحيره ، فلا يبقى موضوع للأخبار العلاجية في الآن الثاني حتى يتمسك بها.

وعليه : (فلا تعرّض لها) أي : لهذه الأخبار العلاجية (لحكمه) أي : لحكم المتحير من جهة تعارض النصين (بعد الأخذ بأحدهما) أي : بعد ان اختار احد الطرفين من الوجوب أو الحرمة.

(نعم ، يمكن هنا) في باب الدوران بين المحذورين لتعارض الادلة (استصحاب التخيير) فقد كان في أوّل الأمر مخيرا بين الأمر والنهي ، فاذا شك في الآن الثاني هل انّه باق على تخييره ام لا؟ يستصحب التخيير (حيث انّه) أي :

٢١٠

ثبت بحكم الشرع القابل للاستمرار ، إلّا أن يدّعى انّ موضوع المستصحب أو المتيقّن من موضوعه هو : المتحيّر ، وبعد الأخذ بأحدهما لا تحيّر ، فتأمل.

______________________________________________________

التخيير قد (ثبت بحكم الشرع القابل) ذلك التخيير (للاستمرار) في الآنات الأخر.

(إلّا أن يدّعى انّ موضوع المستصحب) اي التخيير ، اذ الاستصحاب يحتاج إلى موضوع وهو الشاك فيقال : الشاك في بقاء التخيير ، يستصحب التخيير ، فالشاك هو موضوع الاستصحاب (أو) يدّعى انّ (المتيقّن من موضوعه) اي : موضوع المستصحب هنا (هو : المتحيّر ، وبعد الأخذ بأحدهما) أي : أحد الطرفين من الوجوب أو التحريم (لا تحيّر) فينتفي الاستصحاب لانتفاء موضوعه ، اذ من الواضح ان بقاء الموضوع شرط لجريان الاستصحاب ، وموضوع التخيير في الأخبار : اما هو الشاك ، أو المتحيّر ، والمتيقن منه هنا هو المتحير ، وبعد اختيار أحد الحكمين من الوجوب أو التحريم ينتفي التحير ، فاذا انتفى التحيّر فلا موضوع للاستصحاب فلا يمكن الاستصحاب.

(فتأمّل) فانّه لا معنى لعدم جريان الاستصحاب في المقام ، إذ التحير ليس الّا عدم العلم بالحكم فهو عبارة اخرى عن الشك ، فالشاك هو المتحير ، ومن المعلوم : إنّ عدم العلم بالحكم باق حتى بعد الأخذ بأحد الطرفين ، فلا وجه لعدم جريان الاستصحاب ، خصوصا مع قوله عليه‌السلام : «بأيهما أخذت من باب التسليم وسعك» (١) فانّه بعد الآن الأوّل يكون الأخذ بهذا أو بذاك من باب التسليم فكأنّه علّة للأخذ ؛ وهذه العلة كما هي موجودة في أوّل الأزمنة ، موجودة ايضا في

__________________

(١) ـ الكافي (اصول) : ج ١ ص ٦٦ ح ٧ ، وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ١٠٨ ب ٩ ح ٣٣٣٣٩.

٢١١

وسيتضح هذا في بحث الاستصحاب ، وعليه فاللازم الاستمرار على ما اختار ، لعدم ثبوت التخيير في الزمان الثاني.

المسألة الرابعة

لو دار الامر بين الوجوب والحرمة من جهة اشتباه الموضوع ، وقد مثّل بعضهم له باشتباه الحليلة الواجب وطيها بالأصالة

______________________________________________________

الأزمنة المتأخرة (وسيتضح هذا) البحث من ان التخيير ابتدائي أو استمراري (في بحث الاستصحاب) إن شاء الله تعالى.

(وعليه :) أي : بناء على عدم بقاء موضوع التخيير وهو المتحير (فاللّازم الاستمرار على ما اختار) من الفعل أو الترك اولا ، فاذا اختار الوجوب بقي على الوجوب والفعل ، واذا اختار الحرمة بقي على الحرمة والترك (لعدم ثبوت التخيير في الزّمان الثاني) بل لا موضوع للتخيير ـ حسب الفرض ـ حتى يستصحب التخيير.

لا من جهة اشتباه الحكم ، لأنّه يعلم الحكم ـ مثلا ـ لكنّه لا يعلم بأن هذا الموضوع داخل في هذا الحكم أو في ذاك الحكم.

(وقد مثّل بعضهم له : باشتباه الحليلة الواجب وطيها بالأصالة) لأنّ المشهور بين الفقهاء انّه يجب وطي الزوجة في كل أربعة أشهر مرة ، لكنّا أشكلنا في ذلك وقلنا : انّ مقتضى القاعدة : وجوب الوطي حسب ما تقتضيه المعاشرة بالمعروف ، لقوله سبحانه : (وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) (١) وقوله سبحانه : (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ

__________________

(١) ـ سورة النساء : الآية ١٩.

٢١٢

أو لعارض من نذر أو غيره بالأجنبيّة ، وبالخلّ المحلوف على شربه المشتبه بالخمر.

ويرد على الأوّل : انّ الحكم في ذلك هو تحريم الوطي ، لاصالة عدم الزوجيّة بينهما وأصالة عدم وجوب الوطي.

______________________________________________________

أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) (١) على تفصيل ذكرناه في الفقه (٢) (أو) الواجب وطيها (لعارض من نذر أو غيره) كالعهد واليمين ، فاذا اشتبهت (بالأجنبيّة) فانّه يدور الأمر في وطي هذه المرأة بين الوجوب والتحريم.

(و) مثّل له (بالخلّ المحلوف على شربه المشتبه بالخمر) حيث لا يعلم انّه خلّ محلوف على شربه فيجب شربه ، أو خمر فيحرم شربه.

(ويرد على الأوّل : انّ الحكم في ذلك هو : تحريم الوطي) وذلك للأصل الموضوعي هنا المقدّم على الحكمي ، وهو ما ذكره المصنّف بقوله (لاصالة عدم الزوجيّة بينهما) فانها لم تكن في الأوّل زوجة قطعا ، والآن نشك في أنها صارت زوجة ام لا ، نستصحب عدم الزوجية فينتفي موضوع الزوجية ، وإذا انتفى الموضوع انتفى الحكم.

(وأصالة عدم وجوب الوطي) أي نجري الاستصحاب الحكمي لو فرضنا عدم جريان الاستصحاب الموضوعي ، وذلك لتوارد الحالات المختلفة ـ مثلا ـ على الموضوع ، بأن كانت أجنبية ، ثم صارت زوجة ، ثم خرجت عن الزوجية وهكذا ، حيث لا يعلم الآن الحالة السابقة وانّها هل هي الزوجية حتى يستصحبها ، أو عدمها حتى يستصحبه ، كما ذكروا مثل ذلك في باب توارد حالات الطهارة

__________________

(١) ـ سورة البقرة : الآية ٢٢٩.

(٢) ـ للمزيد راجع موسوعة الفقه : ح ٦٢ ـ ٦٨ كتاب النكاح للشارح.

٢١٣

وعلى الثاني : انّ الحكم عدم وجوب الشرب وعدم حرمته ، جمعا بين أصالتي : الاباحة وعدم الحلف على شربه.

والأولى فرض المثال فيما إذا وجب إكرام العدول وحرم إكرام الفسّاق ، واشتبه حال زيد من حيث الفسق والعدالة

______________________________________________________

والحدث لمن شك فيهما وهو لا يعلم السابق على الشك ، فانّه لا يتمكن أن يستصحب الطهارة ولا الحدث.

(و) يرد (على الثاني : انّ الحكم عدم وجوب الشرب وعدم حرمته) أيضا ، (جمعا بين أصالتي : الاباحة) الدالة على عدم حرمة الشرب وهو أصل حكمي (وعدم الحلف على شربه) الدال على عدم وجوب الشرب وهو اصل موضوعي ، فانّ الجمع بين هذين الأصلين ينتج : الحكم بعدم وجوب الشرب وعدم حرمته ، لانّ الاصل الموضوعي ينفي الوجوب ، والأصل الحكمي ينفي الحرمة.

هذا ، لكن لا يخفى : انّه يمكن تصحيح المثالين على ما ذكره ذلك البعض حتى لا يرد عليهما ايراد المصنّف غير أن المثال ليس بمهم ، ولذا قال المصنّف : (والأولى :) وهذه الكلمة قد تأتي بمعنى الأفضل وقد تأتي بمعنى التعيّن مثل قوله سبحانه : (أَوْلى لَكَ فَأَوْلى * ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى) (١) حيث المراد منه : التعين هنا.

إذن : فالاولى : (فرض المثال فيما إذا وجب اكرام العدول وحرم اكرام الفساق ، واشتبه حال زيد من حيث الفسق والعدالة) ولم يكن له علم بحالته السابقة حتى يجري الاستصحاب ، كما اذا قال المولى : اكرم العدول من العلماء ، وقال ايضا لا تكرم الفساق من العلماء ، وكان هناك عالم لا نعلم هل انّه من العدول حتى يجب

__________________

(١) ـ سورة القيامة : الآيات ٣٤ ـ ٣٥.

٢١٤

والحكم فيه ، كما في المسألة الأولى من عدم وجوب الاخذ بأحدهما في الظاهر ، بل هنا أولى ، إذ ليس فيه اطّراح لقول الإمام عليه‌السلام ، اذ ليس الاشتباه في الحكم الشرعي الكلّي الذي بيّنه الإمام عليه‌السلام.

______________________________________________________

اكرامه ، أو من الفساق حتى يحرم اكرامه؟ فانّ في المقام شبهة موضوعية مرددة بين محذورين.

(والحكم) هنا (فيه) أي : فيما دار أمره بين الوجوب والحرمة لاجل اشتباه الموضوع هو (كما في المسألة الاولى : من عدم وجوب الأخذ بأحدهما) على التعيين بل الحكم فيه هو التخيير (في الظاهر) إذ لا دليل على هذا معيّنا ولا على ذاك.

هذا ، مع وحدة الواقعة ، أما لو كانت الواقعة متعددة. كما لو نذر بالنسبة الى زوجته نذرا لم يعلم انّه هل نذر وطيها كل ليلة جمعة ، أو نذر عدم وطيها كل ليلة جمعة؟ فانّ الواقعة متعددة ، وهنا يأتي ما كان هناك من الاحتمالات السابقة من كون التخيير ابتدائيا ، أو استمراريا ، أو يلزم التفصيل مما قد تقدّم بيانه في المسألة السابقة.

(بل هنا) في المسألة الرابعة التخيير وعدم الأخذ بأحد الطرفين من الوجوب والتحريم على التعيين (أولى) من التخيير في مسألة دوران الأمر بين الوجوب والحرمة لتعارض الأدلة (إذ ليس فيه اطّراح لقول الإمام عليه‌السلام) كما كان هناك (إذ) الاشتباه هنا انّما هو في الامور الخارجية ، و(ليس الاشتباه في الحكم الشرعي الكلّي الذي بيّنه الإمام عليه‌السلام) فلا يلزم من عدم الالتزام بوجوب اكرام زيد ، أو حرمة اكرام زيد ، طرح وجوب اكرام العدول أو طرح تحريم اكرام الفساق الذي أمر به المولى في قوله : «أكرم العدول من العلماء» وقوله : «لا تكرم الفساق منهم».

٢١٥

وليس فيه أيضا مخالفة عمليّة معلومة اجمالا ، مع انّ مخالفة المعلوم اجمالا في العمل فوق حدّ الاحصاء في الشبهات الموضوعية.

______________________________________________________

وعليه : فاذا جاز التخيير في تعارض الأدلة والحال انّ في التخيير هناك طرح لقول الإمام عليه‌السلام ، جاز التخيير في الشبهات الموضوعية التي ليس فيها طرح لقول الإمام بطريق أولى.

هذا (وليس فيه أيضا مخالفة عمليّة معلومة اجمالا) اذ المخالفة احتمالية لفرض وحدة الواقعة (مع انّ مخالفة المعلوم اجمالا في العمل فوق حدّ الاحصاء في الشبهات الموضوعية) وهي جائزة ، فكيف بما لم يكن فيه الّا مخالفة احتمالية؟ فجوازه بطريق أولى.

والحاصل : انّه لو اكرمنا زيدا أو لم نكرمه في مثال : اكرم العلماء ولا تكرم الفساق منهم لا يكون في عملنا هذا الّا مخالفة احتمالية ، والحال انّ المخالفة القطعية للعلم الاجمالي في الشبهات الموضوعية كثيرة وجائزة ، فالمخالفة الاحتمالية تكون جائزة بطريق أولى ، وذلك مثل : الوصية حين الاختلاف عليها ، فانها تنفد بمقدار الربع مع شهادة امرأة واحدة ، وبمقدار النصف مع شهادة امرأتين ، وهكذا ، مع العلم بأنّ في هذه مخالفة عملية قطعيّة ، فانّ الوصية اذا ثبتت ، فاللازم تنفيذ الكل ، وإذا لم تثبت ، فاللازم عدم تنفيذ شيء منها.

ومثل : جواز الاقتداء لكل من واجدي المني بصلاة الآخر حيث يعلم المأموم اجمالا ببطلان صلاته أو بطلان صلاة إمامه.

ومثل : اعتراف الشخص بالسرقة مرة واحدة حيث لا تقطع يده مع انّه يؤخذ منه المال ، فهو مخالفة قطعية ، إذ لو كان سارقا لزم قطع يده وأخذ المال منه ، ولو لم يكن سارقا لزم عدم قطع يده وعدم أخذ المال منه.

٢١٦

هذا تمام الكلام في المقامات الثلاثة أعني : دوران الأمر بين الوجوب وغير

______________________________________________________

ومثل : طهارة البدن وبقاء الحدث عند التوضؤ غفلة بأحد الإناءين المشتبه بالنجس ، حيث انّه ان كان بالنجس فقد تنجس بدنه ولا وضوء عنده ، وان كان بالطاهر فقد أصبح على وضوء ، وبدنه طاهر أيضا.

ومثل الاقرار بالعين مرة لهذا ومرة لذاك ، حيث يقول الفقهاء : بانّه يجب عليه أن يعطي العين للأول والقيمة للثاني ، مع انّه خلاف المعلوم اجمالا ، اذ لو كان اقراره الثاني صحيحا وجب اعطائه العين لا القيمة ، وإن كان باطلا فلا وجه لاعطائه القيمة.

ومثل وجوب النفقة وحرمة الوطي لمن ادعى زوجية امرأة وانكرت هي ، وكذا اذا ادعت امرأة زوجيتها لرجل وأنكر هو ، فانّه يحرم عليها التزوج لمكان اقرارها ولا نفقة لها عليه ، لأنّ اقرار العقلاء على أنفسهم جائز ، لا لأنفسهم مع انه نعلم اجمالا ببطلان أحد الأمرين.

ومثل ان يدّعي أحد السيادة مع عدم الثبوت شرعا ، حيث لا يعطى من سهم السادة ولا من الزّكاة.

ومثل درهمي الودعي حيث ينصّف الدرهم الباقي بينهما ، مع انّه إما لهذا أو لذاك.

ومثل : ادعاء شخصين شيئا واحدا حيث ينصّف في صورة اقامة كل منهما البينة على مدّعاه ، أو الحلف منهما على مدّعاهما مع انّ التنصيف مقطوع العدم ، حيث انّ الشيء المدعى إمّا هو لهذا أو لذاك ، إلى غيرها من الأمثلة الكثيرة.

(هذا تمام الكلام في المقامات الثلاثة ، أعني : دوران الأمر بين الوجوب وغير

٢١٧

الحرمة ، وعكسه ، ودوران الأمر بينهما.

وأما دوران الأمر بين ما عدا الوجوب والحرمة من الأحكام ، فيعلم بملاحظة ما ذكرنا.

وملخّصه : إنّ دوران الأمر بين طلب الفعل والتّرك وبين الاباحة نظير المقامين الأوّلين ، ودوران الأمر بين الاستحباب والكراهة نظير المقام الثالث.

______________________________________________________

الحرمة ، وعكسه) وهو : دوران الأمر بين الحرمة وغير الوجوب (ودوران الأمر بينهما) أي بين الحرمة والوجوب. (وأما دوران الأمر بين ما عدا الوجوب والحرمة من الأحكام ، فيعلم بملاحظة ما ذكرنا) في دوران الأمر بين الوجوب وغير الحرمة ، أو بين الحرمة وغير الوجوب ، أو بين الحرمة والوجوب ، لأن الأدلة هنا كالأدلة هناك.

(وملخّصه : أنّ دوران الأمر بين طلب الفعل والتّرك وبين الاباحة نظير المقامين الأوّلين) فانّ الدوران بين الاستحباب والاباحة هو نظير الشبهة الوجوبية ، والدوران بين الكراهة والاباحة هو نظير الشبهة التحريمية (ودوران الأمر بين الاستحباب والكراهة نظير المقام الثالث) من دوران الأمر بين الوجوب والحرمة.

وعليه : فلو دار الأمر بين الاستحباب والاباحة نقول بالاستحباب رجاء ، وبالاباحة بمعنى : عدم الدليل على الاستحباب ، كما كنا نقول في الدوران بين الوجوب والاباحة بعدم الدليل على الوجوب وان كنا نقول بالاحتياط الاستحبابي هناك.

ولو دار الأمر بين الكراهة والاباحة نقول بالترك رجاء ، وبالاباحة بمعنى : عدم الدليل على الكراهة ، كما كنا نقوله في دوران الأمر بين الحرمة والكراهة.

٢١٨

ولا إشكال في أصل هذا الحكم ، إلّا أنّ أجراء أدلة البراءة في صورة الشك في الطّلب غير الالزامي فعلا وتركا ، قد يستشكل فيه ، لأنّ ظاهر تلك الادلة نفي المؤاخذة والعقاب والمفروض انتفاؤهما في غير الواجب والحرام ، فتدبّر.

______________________________________________________

ولو دار الامر بين الاستحباب والكراهة نقول بالتخيير كما كنا نقول به في دوران الأمر بين الوجوب والحرمة وان كان لقائل أن يقول هنا بتقديم الكراهة ، كما كان يقول بعض هناك بتقديم التحريم ، وقد كنّا أشرنا إلى هذا المبحث في باب التسامح في أدلة السنن أيضا.

هذا ، (ولا إشكال في أصل هذا الحكم) بمعنى : انّه لا حرج في نفي الاستحباب والكراهة بأدلة البراءة للشاك بين الاستحباب والاباحة ، أو بين الكراهة والاباحة ، أو بين الاستحباب والكراهة أو التخيير فيها ، كما قلنا سابقا : انّه لا حرج في ذلك على الشاك بين الوجوب وعدمه ، وبين الحرمة وعدمها ، وبين الوجوب والحرمة.

(إلّا أنّ إجراء أدلة البراءة في صورة الشك في الطّلب غير الالزامي فعلا وتركا ، قد يستشكل فيه) فلا يصح أن يكون دليل اللاحرج الذي ذكرناه هناك وهو أدلة البراءة ان يكون هنا دليل اللاحرج أيضا ، بل اللاحرج هنا انّما هو من جهة عدم الالزام في الاستحباب أو في الكراهة ، وذلك : (لأنّ ظاهر تلك الادلة) اي : أدلة البراءة هي : (نفي المؤاخذة والعقاب ، والمفروض انتفاؤهما) اي : انتفاء المؤاخذة والعقاب هنا (في غير الواجب والحرام).

(فتدبّر) ولعله اشارة الى انّ أدلة البراءة شاملة هنا للاستحباب والكراهة أيضا

٢١٩

الموضع الثاني

في الشك في المكلّف به مع العلم بنوع التكليف بان يعلم

الحرمة أو الوجوب ، ويشتبه الحرام أو الواجب

ومطالبه أيضا ثلاثة :

______________________________________________________

مثل قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي» (١) حيث انّ النهي التنزيهي كالنهي التحريمي مرفوع ، فلا كراهة كما لا حرمة ، وهكذا أدلة البراءة بالنسبة إلى رفع الاستحباب كأدلة البراءة بالنسبة إلى رفع الوجوب.

هذا تمام الكلام في الموضع الأوّل من مباحث البراءة وهو الشك في التكليف.

الموضع الثاني

في الشك في المكلّف به مع العلم بنوع التكليف بأن يعلم

الحرمة أو الوجوب ، ويشتبه الحرام أو الواجب

(الموضع الثاني في الشك فى المكلّف به مع العلم بنوع التكليف) فانّ الانسان قد يشك في انّه هل عليه تكليف من وجوب أو حرمة أم لا؟ كما لو شك بانّ شرب التتن حرام أم لا؟ أو الدعاء عند رؤية الهلال واجب أم لا؟.

وقد يعلم بالحرمة والوجوب وانّما يشك في المكلّف به كما قال : (بأن يعلم الحرمة أو الوجوب ويشتبه الحرام أو الواجب) وذلك كما اذا علمنا بوجود الخمر في أحد الإناءين ولم نعلم بأنّ الخمر في هذا الاناء أو في ذاك الاناء ، أو علم بوجوب وطي احدى زوجتيه هند أو دعد ، لكن لم يعلم بأنّ هند على رأس أربعة أشهر أو دعد؟.

(ومطالبه أيضا ثلاثة) : أي : كما أنّ الشك في التكليف كانت مطالبه ثلاثة ،

__________________

(١) ـ من لا يحضره الفقيه : ج ١ ص ٣١٧ ح ٩٣٧ ، غوالي اللئالي : ج ٣ ص ٤٦٢ ح ١ ، وسائل الشيعة : ج ٦ ص ٢٨٩ ب ١٩ ح ٧٩٩٧ وج ٢٧ ص ١٧٤ ب ٢٢ ح ٣٣٥٣٠.

٢٢٠