الوصائل إلى الرسائل - ج ٧

آية الله السيد محمد الشيرازي

الوصائل إلى الرسائل - ج ٧

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة عاشوراء للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7263-07-4
ISBN الدورة:
964-7263-04-X

الصفحات: ٤٠٠

إلّا أنّها ضعيفة السند : وقد طعن صاحب الحدائق فيها وفي كتاب الغوالي وصاحبه ، فقال : «إنّ الرّواية المذكورة لم نقف عليها في غير كتاب الغوالي ، مع ما هي عليها من الارسال ، وما عليه الكتاب المذكور من نسبة صاحبه إلى التساهل في نقل الأخبار والاهمال وخلط غثّها بسمينها وصحيحها بسقيمها ، كما لا يخفى على من لاحظ الكتاب المذكور» ، انتهى.

______________________________________________________

وكيف كان : فاذا كان هذا الخبر أخصّ كان اللازم انّ يكون العمل بالاحتياط مقدّما على التخيير الذي معناه البراءة ، فيكون ظاهر هذا الخبر مع الأخباريين القائلين بالاحتياط في صورة تعارض النصين اذا أمكن الاحتياط ، لا البراءة الذي يقول به الاصوليون.

هذا (الّا انّها ضعيفة السند) فلا يمكن العمل بها (وقد طعن) المحدّث البحراني (صاحب الحدائق فيها) أي : في هذه الرواية ، فصاحب الحدائق وهو اخباري اذا طعن في رواية ، كان طعن غيره من الاصوليين فيها بطريق أولى ، ممّا يدل على عدم امكان الاعتماد على هذا الخبر.

(و) كما طعن صاحب الحدائق في الرواية طعن (في كتاب الغوالي ، و) في (صاحبه) وهو ابن أبي جمهور الأحسائي (فقال : انّ الرواية المذكورة لم نقف عليها في غير كتاب الغوالي ، مع ما هي عليها من الارسال ، وما عليه الكتاب المذكور من نسبة صاحبه) وهو الأحسائي رحمه‌الله (الى التساهل في نقل الأخبار والاهمال ، وخلط غثّها بسمينها وصحيحها بسقيمها ـ كما لا يخفى على من لاحظ الكتاب المذكور (١) ـ انتهى) كلام البحراني.

__________________

(١) ـ الحدائق الناظرة : ج ١ ص ٩٩ ، مستدرك الوسائل : ج ١٧ ص ٣٠٣.

٣٠١

ثمّ إذا لم نقل بوجوب الاحتياط ، ففي كون أصل البراءة مرجّحا لما يوافقه او كون الحكم الوقف أو التساقط والرجوع إلى الأصل أو التخيير بين الخبرين في أوّل الأمر

______________________________________________________

وعليه : فهذا الخبر لا يصلح ان يكون مستندا للأخباريين القائلين بالاحتياط في مورد تعارض النصين ، لكن التحقيق يدلّ على عدم مثل هذا الضعف الذي ذكره البحراني ، لا في الكتاب ولا في أخباره ، ولا في هذا الخبر بالذات كما يظهر ذلك لمن راجع كتاب المستدرك للحاج نوري وغيره.

(ثمّ اذا لم نقل بوجوب الاحتياط) في الخبرين المتعارضين كما يقوله الأخباريون (ففي) الأمر في باب تعارض الخبرين احتمالات :

الأوّل : (كون أصل البراءة مرجّحا لما يوافقه) فاذا كان هناك خبران أحدهما موافق لأصل البراءة ، والآخر مخالف له ، فالبراءة ترجّح الخبر الموافق لها.

الثاني : (أو كون الحكم : الوقف) فلا نحكم لا بمضمون هذا الخبر ولا بمضمون ذلك الخبر ، وانّما نلتمس دليلا آخر : كالقرعة احيانا ، أو التنصيف للماليات أحيانا ، أو الزام الحاكم بالطلاق ، كما اذا اختلفا في زوجة ، أو اختلف الاختان في انّ أيتهما زوجة هذا الرجل أحيانا ، أو بالصلح الاجباري من الحاكم أحيانا الى غير ذلك من المحتملات الأوّلية.

الثالث : (أو التساقط والرجوع الى الأصل) أي : البراءة ، وذلك بأن يحكم بعدم حجيّة شيء من المتعارضين ، وهذا غير ما ذكرناه : من كون البراءة مرجحا فانّه قد نجعل البراءة مرجحا وقد نجعلها مرجعا.

الرابع : (أو التخيير بين الخبرين في أوّل الأمر) بأن يختار العمل باحدهما ويبقى على ما اختاره أولا ، فاذا كان هناك خبران أحدهما يقول بوجوب الجمعة

٣٠٢

أو دائما وجوه ، ليس هنا محلّ ذكرها ، فانّ المقصود هنا نفي وجوب الاحتياط ، والله العالم.

بقي هنا شيء :

______________________________________________________

ـ مثلا ـ والآخر بحرمتها ، فاذا اخترنا من الأوّل الوجوب نبقى الى الأخير على الوجوب فنؤدّيها ، وإذا اخترنا أولا الحرمة نبقى الى الأخير على الحرمة ، فلا نؤديها اطلاقا.

الخامس : (أو دائما) بمعنى انّه يجوز له أن يختار العمل بأحدهما تارة ، وبالآخر اخرى ، ففي يوم جمعة ـ مثلا ـ يصلي الجمعة وفي يوم جمعة اخرى يصلي الظهر ، وهكذا.

ثم انّ لهذه الاحتمالات (وجوه ليس هنا محلّ ذكرها) وانّما محل ذكرها في باب التعادل والتراجيح (فانّ المقصود هنا نفي وجوب الاحتياط) الذي يقول به الأخباريون واثبات البراءة الذي يقول به الاصوليون ، لا بيان الوجوه المتقدّمة المحتملة ، كما انّه ليس هذا المكان مبحث تفصيل الكلام في خبر الغوالي المتقدّم (والله العالم) بخفايا الامور.

ثمّ انّه (بقي هنا شيء) في مسألة البراءة والاحتياط ، وهذا الشيء مركب من ثلاثة امور :

الأمر الأوّل : انّه لو كان هناك خبران أحدهما موافق للأصل ويسمى بالمقرّر ، والآخر مخالف للأصل ويسمّى بالناقل ، فالمشهور تقديم المخالف ، وسمّي ب «الناقل» ، لأنه ينقل الأمر من الحكم بالأصل ، الى حكم جديد.

الثاني : انّه لو كان احد الخبرين يدل على الاباحة ، والآخر يدل على الحظر ، فالمشهور قالوا بتقديم الحظر على الاباحة ، ومن المعلوم : انّ المسألة الثانية

٣٠٣

وهو أنّ الاصوليين عنونوا في باب التراجيح الخلاف في تقديم الخبر الموافق للأصل على المخالف ، ونسب تقديم المخالف وهو المسمّى بالناقل إلى أكثر الاصوليين ، بل إلى جمهورهم منهم العلامة قدس‌سره ، وعنونوا أيضا مسألة تقديم الخبر الدالّ على الاباحة على الدالّ على الحظر

______________________________________________________

أخصّ من الأولى ، لأن الحظر قد يوافق الأصل وقد لا يوافقه ، فالحظر في المرأة المشكوك جواز وطيها ـ مثلا ـ يوافق الأصل ، حيث انّ الأصل حرمة المرأة الّا ما علم بجواز وطيها بينما قد يكون الحظر ولا يكون الأصل كحظر شرب التتن فانّه لا أصل يوافق هذا الحظر.

الثالث : بيان ما يرد على الجمع بين المسألتين واقوال الاصوليين من اشكالات وردها.

(و) اذا عرفت ذلك قلنا : انّ الشيء الباقي هنا بين مسألة البراءة والاحتياط (هو : ان الاصوليين) القائلين بالبراءة (عنونوا في باب التراجيح) فيما اذا وافق أحد الخبرين اصل البراءة ، وخالفه أحد الخبرين : (الخلاف في تقديم الخبر الموافق للأصل على المخالف) وقد عرفت : انّ الموافق للأصل يسمّى بالمقرر ، لأنّه يثبت حكم العقل للبراءة ، ويقرّره.

(ونسب تقديم المخالف وهو المسمّى بالناقل) لما عرفت : من انّه ينقل الحكم عن الاصل الى غير جهة الاصل بسبب الشرع (الى أكثر الأصوليين ، بل الى جمهورهم) أي : الى الاكثرية القريبة من الاتفاق ، والذي (منهم ، العلامة قدس‌سره) حيث نسب هذا القول الى أكثر الاصوليين.

(وعنونوا أيضا مسألة تقديم الخبر الدال على الاباحة ، على الدّال على الحظر)

٣٠٤

والخلاف فيه ، ونسب تقديم الحاظر على المبيح إلى المشهور ، بل يظهر من المحكيّ عن بعضهم عدم الخلاف في ذلك.

والخلاف في المسألة الاولى ينافي الوفاق في الثانية ،

______________________________________________________

اذا تعارضا ، بأن دلّ أحد الخبرين على الاباحة ، والآخر على الحظر (و) عنونوا (الخلاف فيه) ايضا ، بانّه هل يقدّم الخبر الدال على الاباحة أو يقدم الخبر الدال على الحظر؟.

(ونسب تقديم الحاظر على المبيح الى المشهور ، بل يظهر من المحكي عن بعضهم) ، وهو الفاضل الجواد على ما حكي عنه في بعض الحواشي والشروح (عدم الخلاف في ذلك) وان كل الاصوليين يقولون بتقديم الحاظر على المبيح.

(و) اذا جمعنا بين هاتين المسألتين وأقوال الاصوليين فيها يرد عليهم ثلاثة ايرادات :

الايراد الأوّل : انّ (الخلاف في المسألة الاولى ينافي الوفاق في الثانية) حيث قد عرفت من الفاضل الجواد : عدم الخلاف في المسألة الثانية ، بينما ثبت الخلاف في الاولى ، مع أن المسألة الثانية من مصاديق المسألة الاولى ـ كما عرفت ـ فكيف يمكن الخلاف في مسألة والاتفاق في مسألة؟

ووجه المنافاة : انّ الحاظر فرد من الناقل ، والمبيح فرد من المقرر ، فكيف يمكن أن يكون تقديم الحاظر على المبيح وفاقيا ، وتقديم الناقل على المقرر أكثريا؟ بل لا بدّ أن يكون كل قائل في المسألة الاولى بتقديم الناقل على المقرر ، قائل في المسألة الثانية بتقديم الحاظر على المبيح.

أما الايراد الثاني : فهو أن قول الأكثر في المسألتين المتقدمتين أي : «تقديم الناقل على المقرر» ، و «تقديم الحاظر على المبيح» ينافي عملهم في الفقه ،

٣٠٥

كما أنّ قول الأكثر فيهما مخالف لما يشاهد من عمل علمائنا على عدم تقديم المخالف للأصل ، بل التخيير أو الرجوع إلى الأصل الذي هو وجوب الاحتياط عند الأخباريّين والبراءة عند المجتهدين حتّى العلّامة ، مضافا إلى ذهاب جماعة من أصحابنا في المسألتين إلى التخيير.

ويمكن أن يقال :

______________________________________________________

حيث انهم في مورد دوران الأمر بين الخبرين يقولون بالتخيير أو بالبراءة ، فلم يقدّموا الناقل والحاظر كما قالوا في الاصول.

والى هذا الايراد الثاني أشار المصنّف بقوله : (كما انّ قول الأكثر فيهما) أي : في المسألتين المذكورتين في الاصول (مخالف لما يشاهد من عمل علمائنا على عدم تقديم المخالف للأصل) والمخالف للأصل هو المسمّى بالناقل والحاظر (بل) انّهم يرون في باب التعارض (التخيير أو الرجوع الى الاصل) وفسّر الأصل بقوله : (الذي هو وجوب الاحتياط عند الأخباريين والبراءة عند المجتهدين حتى العلّامة) المشتهر بتقديم الناقل على المقرر ، فكيف يرجعون في الفقه الى الأصل ، وفي الاصول الى خلاف الأصل الذي يسمى بالناقل والحاظر؟.

أما الايراد الثالث : فهو انّ جماعة من الاصحاب لم يقولوا في الاصول بتقديم الناقل والحاظر ، ولا بتقديم المقرر والمبيح ، بل قالوا بالتخيير ، ومن الواضح : انّ هذا مناف ما تقدّم عنهم من الوفاق على تقديم الحاظر.

والى هذا الايراد الثالث أشار بقوله : (مضافا الى ذهاب جماعة من أصحابنا في المسألتين) المتقدمتين (الى التخيير) بين أن يعمل بهذا الخبر أو بذاك الخبر ، لا أنه يقدّم الناقل والحاظر على المقرر والمبيح.

هذا (ويمكن أن يقال) في جواب الاشكال الأوّل : انّه لا منافاة بين المسألتين ،

٣٠٦

إنّ مرادهم من الأصل في مسألة الناقل والمقرّر أصالة البراءة من الوجوب ، لا أصالة الاباحة ، فيفارق مسألة تعارض المبيح والحاضر ، أو إنّ حكم أصحابنا بالتخيير او الاحتياط ، لأجل الأخبار الواردة ، لا لمقتضى نفس مدلولي الخبرين من حيث هما فيفارق المسألتين.

______________________________________________________

وذلك لأن مسألة المقرّر والناقل خاص بالشبهة الوجوبية ، ومسألة المبيح والحاظر خاص بالشبهة التحريمية ، فالمسألة الاولى مختلف فيها ، والمسألة الثانية متفق عليها فلا منافاة بين المسألتين ، وذلك كما قال : (ان مرادهم من الأصل في مسألة الناقل والمقرر : أصالة البراءة من الوجوب ، لا أصالة الاباحة) في مسألة الحاظر والمبيح ، فمسألة الحاظر والمبيح خاصة بالشبهة التحريمية على ما عرفت (فيفارق مسألة تعارض) الناقل والمقرر مسألة تعارض (المبيح والحاظر) فلا يكون بين المسألتين عموم وخصوص مطلق كما ذكره المستشكل.

(أو) يمكن أن يقال في جواب الايراد الثاني : (ان حكم أصحابنا بالتخيير أو الاحتياط لأجل الاخبار الواردة) في مسألة التعارض ، ولهذا قالوا بذلك في الفقه ، وفي الاصول قالوا بتقديم الناقل والحاظر لملاحظة الرّجحان الموجودة في نفس مدلول الدليل ، فمسألة الناقل والحاظر بملاحظة نفس مدلول الدليل ، ومسألة التخيير أو الاحتياط بملاحظة الأخبار الواردة في تعارض الخبرين (لا لمقتضى نفس مدلولي الخبرين من حيث هما).

وعليه : فان لم يكن هناك أخبار بالتخيير أو الاحتياط قلنا : مقتضى نفس مدلول الخبرين من حيث هما تقديم الناقل والحاظر ، فلا منافاة بين قولهم في الاصول وعملهم في الفروع (فيفارق المسألتين) ويرتفع بذلك الايرادات الثلاثة.

٣٠٧

لكن هذا الوجه قد يأباه مقتضى أدلّتهم ، فلاحظ وتأمّل.

المسألة الرابعة :

دوران الحكم بين الحرمة وغير الوجوب ، مع كون الشكّ في

الواقعة الجزئية لأجل الاشتباه في بعض الامور الخارجيّة

كما إذا شكّ في حرمة شرب مائع أو إباحته ، للتردّد في أنّه خلّ أو خمر ،

______________________________________________________

(لكن هذا الوجه قد يأباه مقتضى أدلتهم) فأنهم قد استدلوا لترجيح الناقل على المقرّر : بأن الأصل في الكلام التأسيس والناقل تأسيس بخلاف المقرر فانه تأكيد ، ومن الواضح : انّ هذا الاستدلال يشمل ما كان الناقل وجوبيا أو تحريميا فلا وجه لتخصيص الناقل والمقرر بالشبهة الوجوبية.

كما انهم استدلوا للتخيير : بانّه مقتضى حجيّة الخبرين ، وعدم امكان العمل بهما معا وعدم جواز تركهما معا بمعنى : انّ التخيير هو مقتضى الأصل الأوّلي ، لا انّه بمقتضى الأخبار (فلاحظ ، وتأمل) فانّه لا يبعد أن يقال بوقوع شبه تدافع في كلماتهم.

(المسألة الرابعة) من مسائل البراءة : (دوران الحكم بين الحرمة وغير الوجوب) بأن يدور بين الحرمة وبين واحد من الاستحباب ، أو الكراهة ، أو الاباحة (مع كون الشك في الواقعة الجزئية لأجل الاشتباه في بعض الامور الخارجية) غير المرتبط بالشرع بل مرتبط بالعرف ، حيث يلزم فيه استطراق باب العرف على ما ذكرناه سابقا في مناط الشبهة الموضوعية.

(كما اذا شك في حرمة شرب مائع أو اباحته ، للتردّد في أنّه خلّ أو خمر ،

٣٠٨

وفي حرمة لحم ، لتردّد بين كونه من الشاة أو من الأرنب.

والظاهر عدم الخلاف في أنّ مقتضى الأصل في الاباحة ، للأخبار الكثيرة في ذلك ، مثل قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام ، وكلّ شيء

______________________________________________________

وفي حرمة لحم ، للتردد بين كونه من الشاة أو من الأرنب) فانّه من الواضح انّ الحكم الكليّ بالنسبة الى شرب الخل أو الخمر ، وبالنسبة الى أكل الشاة أو الأرنب معلوم ، وانّما الشك في هذا الجزئي الخارجي الذي هو مصداق لأحد تلك الكليات ، فانه اذا راجع الشرع فيه وسأله : هل هذا خمرا أو خلّ ، شاة أو أرنب؟ أجابه الشارع : انّه لا يرتبط بي وانّما يجب عليك تحقيقه من الخارج ، ولو أجاب الشارع ، فانّما هو تفضل منه ، لا أنه تكليفه الأوّلي كما هو في بيان الأحكام.

ومن الواضح : انّ الشبهة الموضوعية ليست منحصرة باللحم والمائع ، بل هي كذلك بالنسبة الى الأخت من الرّضاعة في انّها هل اكملت الرّضاع حتى تحرم أو لم تكمله؟ وهل هذا ولد زيد أو ولد عمر؟ وما أشبه ذلك من الامور الجزئية المشتبهة التي كلياتها معلومة من الشرع.

(والظاهر عدم الخلاف) بين الاصوليين والأخباريين (في أن مقتضى الأصل فيه : «الاباحة») وان كان يستحسن فيها الاحتياط أيضا اذا لم ينجر الى الوسوسة ، أو يسبب اختلال النظام العام ، أو النظام الخاص ، على ما تقدّمت الاشارة اليه.

وانّما قال الجميع فيه بالاباحة (للأخبار الكثيرة في ذلك) أي : في الشبهة الموضوعية (مثل قوله عليه‌السلام : كلّ شيء لك حلال حتى تعلم انّه حرام (١) ، وكلّ شيء

__________________

(١) ـ الكافي (فروع) : ج ٥ ص ٣١٣ ح ٤٠ ، تهذيب الاحكام : ج ٧ ص ٢٦٦ ب ٢١ ح ٩ ، وسائل الشيعة : ج ١٧ ص ٨٩ ب ٤ ح ٢٢٠٥٣ ، بحار الانوار : ج ٢ ص ٢٧٣ ب ٣٣ ح ١٢.

٣٠٩

فيه حلال وحرام فهو لك حلال».

واستدلّ العلّامة ، في التذكرة على ذلك برواية مسعدة بن صدقة :

«كلّ شيء لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام بعينه فتدعه

______________________________________________________

فيه حلال وحرام فهو لك حلال) (١).

وانّما قلنا بحسن الاحتياط فيه أيضا لاطلاقات جملة من الأدلة المتقدّمة مثل قوله عليه‌السلام : «دع ما يريبك الى ما لا يريبك» (٢).

وقوله عليه‌السلام : «ما اجتمع حلال وحرام ، الا غلّب الله الحرام على الحلال» (٣).

(واستدل العلّامة في التذكرة على ذلك) أي : على البراءة في الشبهة الموضوعية التحريمية (برواية مسعدة بن صدقة) عن الصادق عليه‌السلام : (كلّ شيء لك حلال حتى تعلم انّه حرام بعينه) فلا يفيد علمك بحرمة شيء في الجملة : كما في الشبهة غير المحصورة حيث يعلم الانسان غالبا بأن بعض أشياء السوق سرقة ، أو نجس ، أو ما أشبه ذلك ، فانّ هذا العلم لا يفيد لزوم الاجتناب.

وأما في الشبهة المحصورة فهناك دليل وارد على رواية مسعدة يدل على لزوم الاجتناب عن الطرفين ـ مثلا ـ ، وعليه : فاذا علمت الحرام بعينه (فتدعه) أي :

__________________

(١) ـ المحاسن : ص ٤٩٥ ح ٥٩٦ وقريب منه في تهذيب الاحكام : ج ٩ ص ٧٩ ب ٤ ح ٧٢ ، وسائل الشيعة : ج ١٧ ص ٨٨ ب ٤ ح ٢٢٠٥٠ ، غوالي اللئالي : ج ٣ ص ٤٦٥ ح ١٦.

(٢) ـ وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ١٦٧ ب ١٢ ح ٣٣٥٠٦ وص ١٧٠ ب ١٢ ح ٣٣٥١٧ ، كنز الفوائد : ج ١ ص ٣٥١ ، الذكرى : ص ١٣٨ ، الغارات : ص ١٣٥ ، غوالي اللئالي : ج ١ ص ٣٩٤ ح ٤٠.

(٣) ـ مستدرك الوسائل : ج ١٣ ص ٦٨ ب ٤ ح ١٤٧٦٨ غوالي اللئالي : ج ٢ ص ١٣٢ ح ٣٥٨ وج ٣ ص ٤٦٦ ح ١٧ (بالمعنى).

٣١٠

من قبل نفسك ، وذلك مثل الثوب يكون عليك ولعلّه سرقة والعبد يكون عندك لعلّه حرّ قد باع نفسه ، او قهر فبيع ،

______________________________________________________

تدع ما علمت انّه حرام بعينه (من قبل نفسك) بلا احتياج الى دليل آخر ، فانّ العلم كاف في تنجيز الحكم على الانسان.

نعم ، ربّما يقال في القاضي بأنه لا يتمكن أن يقضي بعلمه ، أما مطلقا في كل الامور أو في الجملة ، كما في حدّ الزنا ونحوه على ما ذكر في موضعه ، ويستدل على ذلك : بان «ما عزّ» لما اعترف عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثلاث مرات بالزّنا وعلم الرّسول ذلك منه ، لم يجر عليه الحدّ انتظارا للاعتراف الرابع ، وكذلك لما اعترفت تلك المرأة عند علي عليه‌السلام بالزّنا ، لم يجر عليها الحد الى ثلاث مرات وانّما اجراه عليها في المرّة الرابعة ، الى غير ذلك ، وهذه المسألة مفصلة في محلها في باب القضاء (١).

(وذلك) أي : الشيء حلال حتى تعلم انّه حرام (مثل الثوب يكون عليك ولعله سرقة) قد سرقه البائع مثلا فباعه عليك أو سرقه الواهب فوهبه اليك ، الى غير ذلك.

(والعبد يكون عندك ولعله حرّ قد باع نفسه) فانّ الأحرار ربّما كانوا يبيعون أنفسهم تخلصا من النفقة التي كانوا يعجزون عنها ، والمسيحيين ربّما كانوا يبيعون أنفسهم ويبذلون ثمنها للكنيسة خدمة لدينهم ، الى غير ذلك ممّا هو مذكور في محله.

(أو قهر فبيع) أي : قهره المولى الظاهري فباعه وهو لم يتمكن من أن يقول

__________________

(١) ـ للمزيد راجع موسوعة الفقه ج ٨٤ ـ ٨٥ كتاب القضاء للشارح.

٣١١

او خدع فبيع ، أو امرأة تحتك وهي أختك او رضيعتك والأشياء كلّها على هذا حتّى يستبين لك غير هذا او تقوم به البيّنة».

وتبعه عليه جماعة من المتأخّرين ، ولا إشكال في ظهور

______________________________________________________

اني لست بعبد أو تمكن من ذلك لكنّه لم يسمع منه ، حيث انّ جمعا من الفقهاء ذهبوا الى انّه لا يقبل قول العبد في انّه حر إذا لم نعلم حريته ورقيته ، وذلك لمثل خبر حمزة بن حمران قال : قلت لابي عبد الله عليه‌السلام : أدخل السوق فأريد أن اشتري الجارية فتقول انّي حرّة؟ فقال : اشترها الّا أن تكون لها بينة ، والمسألة معنونة مفصلا في الفقه.

(أو خدع) بأن قيل له مثلا : نبيعك حتى تنتفع بالثمن ثم اهرب أنت بنفسك ، أو ان هذا الشخص من أهل الخير يعتق العبيد فنبيعك وبعد البيع يعتقك ونستفيد من ثمنك (فبيع) أو وهب أو ما أشبه ذلك.

(أو امرأة تحتك وهي أختك أو رضيعتك) لأنّ أباهما تزوج امرأتين في بلدين فلم يعرف أحدهما الآخر فتزوجا أمّا مثال الرّضاع فواضح.

(والأشياء كلّها على هذا) أي : على الحلّ الظاهري (حتى يستبين لك غير هذا) استبانة علميّة بسبب القرائن ونحوها (أو تقوم به البيّنة) (١) من الشهود العدول بحسب الموازين الشرعية.

(وتبعه) أي : تبع العلامة رحمه‌الله (عليه) أي : على الاستدلال بهذا الحديث للحل الظاهري (جماعة من المتأخرين) عن العلامة. هذا (ولا اشكال في ظهور

__________________

(١) ـ فروع الكافي : ج ٥ ص ٣١٣ ح ٤٠ ، تهذيب الاحكام : ج ٧ ص ٢٢٦ ب ٢١ ح ٩ ، بحار الانوار : ج ٢ ص ٢٧٣ ب ٣٣ ح ١٢ ، وسائل الشيعة : ج ١٧ ص ٨٩ ب ٤ ح ٢٠٢٥٣.

٣١٢

صدرها في المدّعى إلّا أنّ الأمثلة المذكورة فيها ليس الحلّ فيها مستندا إلى أصالة الحلّيّة ، فانّ الثوب والعبد إن لوحظا باعتبار اليد عليهما حكم بحلّ التصرّف فيهما لأجل اليد ، وإن لوحظا مع قطع النظر عن اليد كان الأصل فيهما حرمة التصرّف ، لأصالة بقاء الثوب على ملك الغير وأصالة الحرّيّة في الانسان المشكوك في رقّيّته.

______________________________________________________

صدرها في المدعى) : من حلية ما شك في حليته ، لأنّ الامام عليه‌السلام قال : «كلّ شيء لك حلال حتى تعلم انّه حرام بعينه» ، فان جعل الغاية بقوله «حتى تعلم» ، يدلّ على انّه قبل العلم يكون حلالا ظاهريا (الّا ان الأمثلة المذكورة فيها ليس الحل فيها مستندا الى اصالة الحليّة) بل المنساق من الرواية : ان الحليّة فيها مستندة الى قاعدة اليد ، ولهذا قدّمه المصنّف في شقّي احتمالية بقوله :

(فان الثوب والعبد ، ان لوحظا باعتبار اليد عليهما ، حكم بحل التصرف فيهما لأجل اليد) لا لأجل أصالة الحل في الشبهة الموضوعية التحريمية ، اذ ظاهر يد البائع كونه صحيح التصرف ، وكذلك الحال ان وهبهما ذو اليد ، أو ما أشبه ذلك.

(وان لوحظا مع قطع النظر عن اليد) كما اذا باع الرئيس المتنفذ شخصا أو شيئا ليس تحت يده فتسلّم المشتري ذلك الشخص أو الشيء وهو لا يعلم ان الرئيس باع مال نفسه أو مال غيره (كان الأصل فيهما حرمة التصرف ، لاصالة بقاء الثوب على ملك الغير ، وأصالة الحرّية في الانسان المشكوك في رقيّته) فلا مجرى للأصل الظاهري بالحل حينئذ ، لتقدّم أصل الحرمة على أصل الحلّ ، لأنهما من السببي والمسببي ، وقد تقدّم انّ الأصل السببي مقدّم على الاصل المسببي.

أما كون الأصل في الانسان الحرية ، فلجملة من الروايات ، مثل صحيحة عبد الله بن سنان قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : «كان عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام

٣١٣

وكذا الزوجة إن لوحظ فيها أصل عدم تحقق النسب او الرّضاع. فالحلّيّة مستندة إليه ، وإن قطع النظر عن هذا الأصل فالأصل عدم تأثير العقد فيها ، فيحرم وطيها.

وبالجملة ، فهذه الأمثلة الثلاثة بملاحظة الأصل الأوّليّ محكومة بالحرمة ، والحكم بحلّيّتها إنّما هو من حيث الأصل الموضوعي الثانويّ ،

______________________________________________________

يقول : الناس كلّهم أحرار الّا من أقرّ على نفسه بالعبودية هو مدرك من عبد أو أمة ، ومن شهد عليه بالرّق صغيرا كان أو كبيرا» (١) ، الى غير ذلك.

(وكذا الزوجة) لا مجال لاصالة الحل فيها ، لأنها (ان لوحظ فيها أصل عدم تحقق النسب أو الرضاع) اذ النسب والرضاع أمران حادثان ، فاذا شك فيهما فالأصل عدمهما (فالحليّة مستندة اليه) أي : الى استصحاب عدم النسب والرضاع ، فلا يبقى مجال بعد ذلك لاصل الحل.

(وان قطع النظر عن هذا الأصل) بأن لم يكن اركان الاستصحاب تاما ولم يجر الاستصحاب السببي ، (فالأصل عدم تأثير العقد فيها) أي : في الحليّة (فيحرم وطيها) فلا يكون مجال لأصل الحل الذي هو محل كلامنا.

(وبالجملة فهذه الأمثلة الثلاثة) المذكورة في رواية مسعدة بن صدقة (بملاحظة الأصل الأوّلي) الحاكم على أصالة الحلّ (محكومة بالحرمة) على ما عرفت (والحكم بحليتها انّما هو من حيث الأصل الموضوعي الثّانوي) مثل : «دليل اليد» و «أصالة عدم تحقق مانع من النكاح».

__________________

(١) ـ الكافي (فروع) : ج ٦ ص ١٩٥ ح ٥ ، تهذيب الاحكام : ج ٨ ص ٢٣٥ ب ٣٦ ح ٧٨ ، من لا يحضره الفقيه : ج ٣ ص ١٤١ ب ٢ ح ٣٥١٥.

٣١٤

فالحلّ غير مستند إلى أصالة الاباحة في شيء منها.

هذا ، ولكن في الأخبار المتقدمة بل جميع الأدلّة المتقدّمة من الكتاب والعقل كفاية ، مع أنّ صدرها وذيلها ظاهرة في المدّعي.

______________________________________________________

وعليه : (فالحل غير مستند الى اصالة الاباحة في شيء منها) فلا تكون هذه الأمثلة من صغريات : «كلّ شيء لك حلال حتّى تعلم انّه حرام بعينه» (١) الذي ذكره الامام عليه‌السلام كقاعدة كلّيّة في صدر هذا الحديث ، فاللازم اما أن يصرف الصدر عن ظاهرة وأما أن يصرف الذيل عن ظاهره.

أما صرف الصدر عن ظاهره فهو أن يقال : انّ الصدر ليس في مقام بيان أصالة الحلّ التي هي محل الكلام ، بل لبيان التكليف العملي في أمثال الموارد الثلاثة ، وأما صرف الذيل فهو ان يقال : انّ الأمثلة المذكورة ليست من باب صغريات القاعدة الكلية في الصدر ، والتمثيل لاصالة الحلّ بل انّها من باب التقريب والتنظير فقط.

(هذا ، ولكن في الأخبار المتقدّمة) التي ذكرناها في الشبهة الحكميّة والموضوعيّة (بل جميع الأدلة المتقدّمة من الكتاب والعقل) بل والاجماع على البراءة بالتقرير الذي ذكرناه هناك (كفاية) في الدلالة على البراءة في الشبهة الموضوعية التحريمية ، حتى مع فرض عدم دلالة رواية مسعدة على ذلك. (مع انّ صدرها) أي : صدر هذه الرواية وهو قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء لك حلال ...» (وذيلها) أي : قوله عليه‌السلام : «والأشياء كلّها على ذلك» (ظاهرة في المدعى) أي :

__________________

(١) ـ الكافي (فروع) : ج ٥ ص ٣٣ ح ٤٠ ، تهذيب الاحكام : ج ٧ ص ٢٢٦ ب ٢١ ح ٩ ، بحار الانوار : ج ٢ ص ٢٧٣ ب ٣٣ ح ١٢ ، وسائل الشيعة : ج ١٧ ص ٨٩ ب ٤ ح ٢٢٠٥٣.

٣١٥

وتوهّم : «عدم جريان قبح التكليف بلا بيان هنا ، نظرا إلى أنّ الشارع بيّن حكم الخمر ، مثلا ، فيجب حينئذ اجتناب كلّ ما يحتمل كونه خمرا من باب المقدّمة العلميّة ، فالعقل لا يقبّح العقاب خصوصا على تقدير مصادفة الحرام» ،

______________________________________________________

في دلالة هذه الرواية على أصالة الحل في الشبهات الموضوعية التحريمية ، فتكون الأمثلة المذكورة من باب التقريب والتنظير على ما عرفت.

وقوله : «ظاهرة» بتأنيث الضمير من باب الكسب مثل قول الشاعر : كما شرعت صدر القناة من الدم.

(وتوهم) ان اللازم الاجتناب عن الشبهة الموضوعية التحريمية وان لم يجب الاجتناب عن الشبهة التحريمية الحكمية للأدلة المتقدّمة على البراءة في الشبهة التحريمية الحكمية.

وانّما يجب الاجتناب عن الشبهة الموضوعية التحريمية ، ل (عدم جريان قبح التكليف بلا بيان هنا) في باب الشبهة الموضوعية التحريمية (نظرا الى أنّ الشارع بيّن حكم الخمر مثلا فيجب حينئذ اجتناب) المكلّف عن (كلّ ما يحتمل كونه خمرا من باب المقدمة العلميّة) لامتثال التكليف في جميع الأفراد الواقعية ، فان الخمر لما حرمت بكلّ أفرادها وتردد أمرها بين أن تكون في هذه الأواني العشر أو في الأكثر منها وهو الحادي عشر مثلا كان اللازم بحكم العقل الاجتناب عن هذا الأخير أيضا حتى يعلم بأنّه اجتنب الخمر اطلاقا ، فالخمر المحتمل على تقدير كونه في الواقع خمرا ، قد بيّن وجوب اجتنابه في النص.

وعليه : (فالعقل لا يقبح العقاب) على ارتكاب هذا المشتبه حتى فيما اذا لم يصادف الواقع ، لأنّه تجرأ على المولى ، و (خصوصا على تقدير مصادفة الحرام) ؛

٣١٦

مدفوع

______________________________________________________

فان العبد ارتكب حراما بعد بيان المولى وجوب الاجتناب عليه من كلّ الامور المحتملة ، بل بناء العقلاء على الاجتناب في أمثاله.

فاذا قال الطبيب للمريض مثلا يضرك لحم الإبل فاتركه ، وعلم المريض بأنّ هذه اللحوم الثلاثة لحم الإبل وشك في اللحم الرابع ، فان العقلاء يتجنّبون عنه حذرا من الوقوع في المحذور ، وكذلك فيما إذا علم الانسان بأن هذه الأواني سم وشك في إناء آخر هل انّه سم أم لا؟ فانّه يتجنبه حذرا من الوقوع في محذوره.

هذا التوهم (مدفوع) لأنّ الحكم انّما يتنجّز على الانسان ، ويصح العقاب على مخالفته بأمرين :

الأول : العلم بالحكم علما وجدانيا ، أو ان يكون هناك طريق الى الحكم : من الخبر الصحيح ، وما أشبه ذلك.

الثاني : العلم بالموضوع ، أو أن يكون هناك أمارة على الموضوع : من بيّنة ونحوها.

فحينئذ يقال مثلا هذا خمر وكل خمر حرام ، سواء كان العلم بالحكم وكذلك بالموضوع علما إجماليا أو علما تفصيليا ، وذلك على ما قرّر في باب القطع : من أن العلم الاجمالي أيضا منجّز بشروطه المذكورة ، وبدون هذين العلمين لا يكون الحكم منجزا على الانسان سواء علم بالموضوع دون الحكم ، أو بالحكم دون الموضوع.

وعليه : فمن عرف الخمر لكنّه لا يعلم انّه حرام ، ولم يقم عنده طريق معتبر ، لا يحق للعقلاء عقوبته ، وكذا من عرف الحرمة ، لكنّه لا يعلم ان هذا المائع خمر ، ولم يقم على خمريته أمارة معتبرة ، فالحكم لا يتنجّز على الانسان ولا يصح

٣١٧

بأنّ النهي عن الخمر يوجب حرمة الأفراد المعلومة تفصيلا والمعلومة إجمالا المتردد بين محصور.

والأوّل لا يحتاج إلى مقدّمة علميّة والثاني يتوقف على الاجتناب من أطراف الشبهة لا غير.

______________________________________________________

عقوبته على المخالفة عند ما لم يصله بيان ، سواء في الموضوع أو في الحكم.

نعم ، البيان في الحكم من المولى ، والبيان في الموضوع من الطرق المقرّرة.

وعلى هذا يمكن أن يقال في جواب الاشكال : (بأنّ النهي عن الخمر يوجب حرمة الأفراد المعلومة تفصيلا والمعلومة اجمالا) فيما اذا كان العلم الاجمالي منجّزا ، لا ما اذا كان بعض الأفراد خارجا عن محل الابتلاء ، أو مضطرا اليه ، أو ما أشبه ذلك ، ممّا فصل في العلم الاجمالي.

والعلم الاجمالي انّما يكون منجّزا ومصححا للعقوبة على مخالفته ، اذا كان ذلك الفرد المنهي عنه كالخمر في المثال هو (المتردّد بين محصور ، و) ذلك لصدق وصول البيان المنجّز على الانسان فيه ، فيكون أفراد الخمر المنهي عنه على قسمين :

(الأول :) وهو ما اذا كان معلوما تفصيلا ، فهو (لا يحتاج الى مقدمة علميّة) بل يتجنب عن ذلك الفرد المعلوم.

(والثاني :) وهو ما اذا كان معلوما اجمالا ، فهو (يتوقف على الاجتناب من أطراف الشبهة لا غير) فاذا تردد نجس بين اناءين يجب الاجتناب عن ذينك الإناءين ، لا عن إناء ثالث يحتمل انّه نجس وليس بطرف للعلم الاجمالي ، فان العلم باجتناب النجس الموجود بين الإناءين انّما يتوقف على اجتنابهما فقط دون الإناء الثالث المشكوك في كونه نجسا أم لا؟.

٣١٨

وأمّا ما احتمل كونه خمرا من دون علم إجماليّ ، فلم يعلم من النهي تحريمه وليس مقدّمة للعلم باجتناب فرد محرّم يحسن العقاب عليه ، فلا فرق بعد فرض عدم العلم بحرمته ولا بتحريم خمر يتوقف العلم

______________________________________________________

(و) عليه : فانّ النهي عن الخمر يوجب تنجّز حرمة الخمر المعلوم بأحد الوجهين (أما ما احتمل كونه خمرا من دون علم اجمالي) منجّز في البين وقد عرفت موازين التنجيز (فلم يعلم من النهي تحريمه) حتى على تقدير كونه خمرا في الواقع ، وذلك لعدم حصول البيان المنجّز على المكلّف (وليس مقدمة للعلم باجتناب فرد محرّم يحسن العقاب عليه) أي : انّه لم يعلم بالتفصيل ولا بالاجمال.

وأما مثال لحم الابل والسم ، فليس ممّا نحن فيه ، لأن الكلام في العقاب الاخروي لا في الاضرار الدنيوية المحتملة وإلّا فيلزم الاجتناب حتى في الشبهة البدوية ، وهذا ما لا يقول به أحد.

هذا ، بالاضافة الى ان العقلاء لا يجتنبون عن مثل ذلك ، والّا لزم اجتنابهم عن ركوب البرّ ، والبحر ، والجوّ ، لاحتمال الخطر فيها ، بل الخطر في مثل ركوب الجوّ كثير جدا ، لاحتمال سقوط الطائرة ، ومع ذلك نرى الطائرات وهي مستمرة في حمل المسافرين الى مختلف بلاد العالم ، ولزم اجتنابهم عن كثير من المأكولات لاحتمال الأضرار الجسدية فيها ، واجتنابهم التجارة لاحتمال الأضرار المالية فيها ، والى غير ذلك.

وحيث قد عرفت : انّه لا دليل على الاجتناب اذا لم يكن هناك علم بالموضوع ، أو علم بالحكم تفصيلا أو إجمالا ، أو ما يقوم مقام العلم ، من الخبر الصحيح ، أو البينة ، أو ما أشبه (فلا فرق بعد فرض عدم العلم) تفصيلا (بحرمته) أي : بحرمة محتمل الخمريّة (ولا) أي : عدم العلم اجمالا (بتحريم خمر يتوقف العلم

٣١٩

باجتنابه على اجتنابه بين هذا الفرد المشتبه وبين الموضوع الكلّيّ المشتبه حكمه كشرب التتن في قبح العقاب عليه.

وما ذكر من التوهّم جار فيه أيضا ،

______________________________________________________

باجتنابه) أي : على اجتناب ذلك الخمر (على اجتنابه) أي : على اجتناب محتمل الخمريّة.

وعليه : فانّه لا فرق حينئذ (بين هذا الفرد المشتبه) انّه خمر أو ليس بخمر ولا علم تفصيلي ، ولا اجمالي على انه خمر (وبين الموضوع الكليّ المشتبه حكمه) بأن كان مشكوك الحكم وان كان معلوم الموضوع ، والشك في حكمه انّما هو لفقد النّص أو اجماله أو تعارضه (كشرب التتن في قبح العقاب عليه) فانّه اذا علم انه تتن لكنه لا يعلم حرمته لا علما اجماليّا ولا علما تفصيليا وشربه ، قبح العقاب عليه عند العقلاء ، وقد دلّ على قبح العقاب قوله سبحانه : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (١) ، وقوله عليه‌السلام : «والأشياء كلّها على ذلك حتّى تستبين ، أو تقوم به البيّنة» (٢) بالاضافة الى الاجماع وسائر الادلّة التي تقدمت في الشبهة الحكمية التحريميّة ، فانّه لا فرق في قبح العقاب بين أن لا يعلم الحكم أو أن لا يعلم الموضوع.

(وما ذكر من التوهّم) الّذي تقدّم في قولنا : «وتوهّم عدم جريان قبح التكليف بلا بيان هنا ..» (جار فيه) أي في الموضوع الكليّ المشتبه حكمه كشرب التتن (أيضا) لأن الكلام فيهما واحد ، فكما ان توهم وجوب البيان في الشبهة

__________________

(١) ـ سورة الاسراء : الآية ١٥.

(٢) ـ الكافي (فروع) : ج ٥ ص ٣١٣ ح ٤٠ ، تهذيب الاحكام : ج ٧ ص ٢٢٦ ب ٢١ ح ٩ ، وسائل الشيعة : ج ١٧ ص ٨٩ ب ٤ ح ٢٢٠٥٣ ، بحار الانوار : ج ٢ ص ٢٧٣ ب ٣٣ ح ١٢ (بالمعنى).

٣٢٠