شرح القصيدة النونيّة - ج ٢

ابن القيّم الجوزيّة

شرح القصيدة النونيّة - ج ٢

المؤلف:

ابن القيّم الجوزيّة


المحقق: الدكتور محمّد خليل هراس
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٧٢
الجزء ١ الجزء ٢

واعلم أن المؤلف رحمه‌الله قد تساهل في قبوله هذه الآثار ، وكان الأولى به أن ينبه على ضعفها وأنها لا يمكن أن تقوم بها حجة ، لا سيما في هذه المسائل التي يجب الاحتياط فيها حتى لا يفتح الباب للدعاوى العريضة والاختلاقات الباطلة ، كما فعل المتصوفة بالنسبة إلى مشايخهم المقبورين ، فقد رووا عنهم بعد الموت ما لا يصدقه عقل ، والسبب في ذلك طبعا هو التساهل في قبول مثل هذه الآثار من غير روية ولا تمحيص ، والله سبحانه وتعالى أعلم.

* * *

هذي نهايات لأقدام الورى

في ذا المقام الضنك صعب الشأن

والحق فيه ليس تحمله عقو

ل بني الزمان لغلظة الأذهان

ولجهلهم بالروح مع أحكامها

وصفاتها للألف بالأبدان

فارض الذي رضي الإله لهم به

أتريد تنقض حكمة الديان

هل في عقولهم بأن الروح في

أعلى الرفيق مقيمة بجنان

وترد أوقات السلام عليه من

أتباعه في سائر الأزمان

وكذاك إن زرت القبور مسلما

ردت لهم أرواحهم للآن

فهم يردّون السلام عليك ل

كن لست تسمعه بذي الأذنان

هذا وأجواف الطيور الخضر

مسكنها لدى الجنات والرضوان

من ليس يحمل عقله هذا فلا

تظلمه واعذره على النكران

للروح شأن غير ذي الأجسام لا

تهمله شأن الروح أعجب شان

وهو الذي حار الورى فيه فلم

يعرفه غير الفرد في الأزمان

هذا وأمر فوق ذا لو قلته

بادرت بالإنكار والعدوان

فلذاك أمسكت العنان ولو أرى

ذاك الرفيق جريت في الميدان

هذا وقولي أنها مخلوقة

وحدوثها المعلوم بالبرهان

هذا وقولي أنها ليست كما

قد قال أهل الإفك والبهتان

لا داخل فينا ولا هي خارج

عنا كما قالوه في الديان

٢١

والله لا الرحمن أثبتم ولا

أرواحكم يا مدعي العرفان

عطلتم الأبدان من أرواحها

والعرش عطلتم من الرحمن

الشرح : بعد أن ذكر المؤلف رحمه‌الله بعض ما تضمنته هذه الآثار من شئون الروح وأحوالها ، قال إن هذا هو نهاية ما بلغته مدارك البشر في هذا المقام الخطر والأمر الجليل. ولكن الحق الكامل فيه لا تطيق حمله عقول بني العصر لغلظ أذهانهم وشدة جهلهم بأحكام الروح وصفاتها لقوة الألف بالأبدان والتعلق بالمحسوسات. فيجب أن نقنع منهم بهذا الذي رضيه الله لهم من يسير العلم بهذه الشئون حيث أجاب سبحانه السائلين عن الروح بقوله : (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) [الإسراء : ٨٥] وتلك حكمته سبحانه أن لا يخاطب عباده إلا بمقدار ما تحتمله عقولهم. وليس في عقول الناس أن الروح إذا كانت في الرفيق الأعلى مقيمة في روضات الجنات ترد إلى البدن لرد السلام كلما سلم عليه أحد من أمته في جميع الأوقات.

وليس في العقول كذلك أننا إذا زرنا القبور مسلمين على من بها من إخواننا وأقاربنا ترد إليهم أرواحهم لرد السلام علينا ، وإن كنا لا نسمع ذلك بآذاننا. مع وجود أرواحهم في حواصل الطير الخضر تسرح في بحبوحة الجنان. فمن لا يحمل عقله مثل هذه المعاني فيجب أن نعذره ولا نكلفه ما لا يطيقه من ذلك. فإن للروح نواميسها العجيبة وشئونها الغريبة التي تخالف قوانين الأجسام فلا تهمل هذه الشئون التي حار الورى في فهمها ، فلم يعرفه منهم إلا الفرد بعد الفرد في الأزمان المتطاولة. هذا وأن للروح من العجائب والأسرار ما لو أبديته لبادر الجهلاء إلى إنكاره ومقابلته بالعدوان فلهذا كبحت جماح القلم ، ولو وجدت من يفهم ذلك لأطلقت له العنان وجريت في الميدان.

وخلاصة القول في الروح أنها مخلوقة وحادثة ، وذلك ثابت بالبراهين القاطعة وليست قديمة كما يقول الفلاسفة المارقون. وأنها كذلك قابلة للحلول في البدن والانفصال عنه وللصعود والنزول ، وليست كما يقول الفلاسفة المارقون. وأنها

٢٢

كذلك قابلة للحلول في البدن والانفصال عنه وللصعود والنزول ، وليست كما يقول الفلاسفة الضلال ليست بداخلة فينا ولا خارجة عنا. كما قالوا ذلك في حق الرب جل شأنه ، فلا هم أثبتوا ربهم ولا أثبتوا أرواحهم ، بل عطلوا أبدانهم عن أرواحها حين قالوا أن الروح ليست حالة في البدن ، كما عطلوا العرش عن وجود الرحمن فوقه حين أنكروا استواءه عليه.

* * *

فصل

في كسر المنجنيق الذي نصبه أهل التعطيل

على معاقل الإيمان وحصونه جيلا بعد جيل

لا يفزعنك قعاقع وفراقع

وجعاجع عريت عن البرهان

ما عندهم شيء يهولك غير ذا

ك المنجنيق مقطع الأفخاذ والأركان

وهو الذي يدعونه التركيب من

صوبا على الأثبات منذ زمان

أرأيت هذا المنجنيق فإنهم

نصبوه تحت معاقل الإيمان

بلغت حجارته الحصون فهدت الش

رفات واستولت على الجدران

لله كم حصن عليه استولت ال

كفار من ذا المنجنيق الجاني

والله ما نصبوه حتى عبروا

قصدا على الحصن العظيم الشأن

ومن البلية أن قوما بين أه

ل الحصن واطوهم على العدوان

ورموا به معهم وكان مصاب أه

ل الحصن منهم فوق ذي الكفران

فتركبت من كفرهم ووفاق من

في الحصن أنواع من الطغيان

وجرت على الإسلام أعظم محنة

من ذين تقديرا من الرحمن

والله لو لا أن تدارك دينه

الرحمن كان كسائر الأديان

لكن أقام له الإله بفضله

يزكا من الأنصار والأعوان

فرموا على ذا المنجنيق صواعقا

وحجارة هدته للأركان

تفسير المفردات : القعاقع : جمع قعقعة وهي صوت الطبل. والفراقع : جمع

٢٣

فرقعة وهي صوت السياط ، والجعاجع : جمع جعجعة وهي صوت الرحا. عريت : تجردت ، يهولك : يفزعك ، المنجنيق : آلة توضع فيها الحجارة لترمى بها الحصون ، والينزك : الشهب التي ترمي بها الشياطين.

الشرح : لا يجد أهل التعطيل حجة يشغبون بها على أهل الاثبات ويغيرون بها في وجه الحق إلا حجة التركيب ، والأصل في هذه الحجة هم الفلاسفة فإن مذهبهم أن واجب الوجود واحد من كل وجه بسيط لا تكثر فيه لا ذهنا ولا خارجا ، ولهذا نفوا جميع الصفات الثبوتية من العلم والقدرة والإرادة ونحوها ، ولم يثبتوا إلا السلوب والإضافات ، ولكن فريقا من المتكلمين جاروهم في هذه الفرية وواطئوهم عليها وصاروا إلبا واحدا على أهل الإثبات ، ونصبوا من هذا التركيب منجنيقا يرمون منه معاقل الإثبات من زمان بعيد.

والمؤلف رحمه‌الله يحذر من الاغترار بما يجعجع به هؤلاء من سفسطات ليس لها سنة من دليل ، ويخبر أنه ليس عندهم ما يهولون به غير هذا المنجنيق المتداعي الأركان الذي يسمونه التركيب ، ناصبين له تحت معاقل الإيمان ، وأخذوا يرمونها به حتى بلغت حجارته لقوة رميها مواقع الحصون ، فأسقطت شرفاتها واستولت على الجدران ، فكم من حصن استولوا عليه بواسطة هذا المنجنيق وهم ما نصبوه إلا ليعبروا من خلال هذه الحصون إلى الحصن الأكبر الذي هو حصن الإيمان. ومما زاد الأمر سوءا والبلاء شدة أن جماعة من أهل الحصن قد انضموا إلى هؤلاء الأعداء ووافقوهم على العدوان ، ورموا معهم بالمنجنيق حصن الايمان ، وكان ما لقيه أهل الحصن من هؤلاء المنافقين أشد مما لقوه من أهل الكفران ، وتركب من كفر هؤلاء وموافقة بعض أهل الحصن لهم طغيان شديد على أهل الحق وجرت منهما على الإسلام محنة قاسية ، وكان ذلك بتقدير الله جل شأنه ، ولو لا أنه سبحانه تدارك دينه بلطفه ورحمته لجرى عليه ما جرى على الأديان قبله من الفساد والضياع ، ولكنه أقام له بفضله جندا من أهل الحق ينصرونه ويحمونه ويرمون منجنيق أهل التعطيل بصواعق محرقة من أدلة الإثبات حتى أتوا

٢٤

عليه من القواعد وجعلوا أركانه كثيبا مهيلا.

* * *

فاسألهم ما ذا الذي يعنون

بالتركيب فالتركيب ست معان

إحدى معانيه هو التركيب من

متباين كتركب الحيوان

من هذه الأعضاء كذا أعضاؤه

قد ركبت من أربع الأركان

أفلازم ذا للصفات لربنا

وعلوه من فوق كل مكان

ولعل جاهلكم يقول مباهتا

ذا لازم الاثبات بالبرهان

فالبهت عندكم رخيص سعره

حثوا بلا كيل ولا ميزان

هذا وثانيها فتركيب الجوا

ر وذاك بين اثنين يفترقان

كالجسر والباب الذي تركيبه

بجواره لمحلة من بان

والأول المدعو تركيب امتزا

ج واختلاط وهو ذو تبيان

أفلازم ذا من ثبوت صفاته

أيضا تعالى الله ذو السلطان

الشرح : فاسأل هؤلاء الذين يتعللون بحجة التركيب ويرونها مانعة من إثبات الصفات ، ما ذا تقصدون بالتركيب؟ فإنه لفظ مجمل يقع في الاصطلاح على ست معان ، إحداها التركب من أمور متباينة ، كتركب الحيوان من أعضائه المختلفة وأجهزته المتعددة ، وكتركب أعضاء الحيوان من الاسطقسات الأربعة التي هي الماء والهواء والتراب والنار ، وكان قدماء الطبيعيين يعتقدون أن كل واحد من هذه الأربعة عنصر بسيط حتى كشف العلم الحديث عن تركبها من عناصر أبسط منها كالأوكسجين والأيدروجين والآزوت وغيرها ، وقد بلغ ما اكتشف منها حتى الآن نحوا من مائة عنصر.

فهل هذا النوع من التركيب لازم على القول بثبوت الصفات لله وعلوه فوق جميع خلقه؟ لعل جاهلا منكم يقول على سبيل البهت والمكابرة أن ذلك التركيب من أمور متغايرة لازمة على إثبات الصفات بالبرهان ، فإنها غير الذات قطعا ، لأن الصفة لا تكون عين الموصوف وكذلك هي متغايرة فيما بينها ، فإذا فرض

٢٥

أنها أمور موجودة لزم التركب من أمور متغايرة. وهذا محض مكابرة. فإن الموصوف بصفات الكمال اللازمة لذاته لا يكون مركبا من أشياء متباينة ، كتركب الحيوان من أجزائه ، فإن صفاته ليست غيره ، إذ ليس لها وجود خاص بها ، بل هي تابعة له في وجوده وقدمه وبقائه ، فهي لازمة له لا يعقل وجوده بدونها ولا يوجد إلا وهو متصف بها من غير افتقار منه إليها ، بل هي المفتقرة إليه لكونها قائمة به. وأما الثاني من أنواع التركيب فهو التركب من متجاورين يمكن افتراق احدهما عن الآخر ، وضرب المؤلف لذلك مثلا بتركب المحلة من الجسر والباب المجاور له ، والأمثلة عليه كثيرة ، فهل يمكن أن يقال أيضا أن هذا النوع من التركيب لازم على ثبوت الصفات ، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.

* * *

والثالث التركيب من متماثل

يدعى الجواهر فردة الأكوان

والرابع الجسم المركب من هيو

لاه وصورته لذي اليونان

والجسم فهو مركب من ذين عن

د الفيلسوف وذاك ذو بطلان

ومن الجواهر عند أرباب الكلا

م وذاك أيضا واضح البطلان

فالمثبتون الجوهر الفرد الذي

زعموه أصل الدين والإيمان

قالوا بأن الجسم منه مركب

ولهم خلاف وهو ذو ألوان

هل يمكن التركيب من جزءين أو

من أربع أو ستة وثمان

أو ست عشرة قد حكاه الأش

عري لذي مقالات على التبيان

أفلازم ذا من ثبوت صفاته

وعلوه سبحان ذي السبحان

الشرح : والثالث من أنواع التركيب هو التركب من أجزاء صغيرة غير قابلة القسمة تسمى بالجواهر الفردة ، وهذا مذهب سائر المتكلمين ، فإن الأجسام عندهم مركبة من هذه الجواهر المتماثلة ، وإنما تتمايز الأجسام بما يخلقه الله فيها من الأعراض ، وقد غلا المتكلمون من المعتزلة والأشاعرة في التعويل على نظرية

٢٦

الجواهر الفردة ، وهي في الأصل نظرية يونانية قديمة ، قال بها ديموكريتس : الفيلسوف الطبيعي اليوناني ، وقد بنوا عليها كثيرا من الأصول الإيمانية ، فجعلوها عمدتهم في الاستدلال على حدوث العالم ووجود المحدث له ، حتى أن أحد كبار الأشاعرة ، وهو القاضي أبو بكر الباقلاني قد أوجب الإيمان بوجود الجوهر الفرد ، بناء على أن الإيمان بوجود الله متوقف على ثبوته ، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، كما بنوا على تلك النظرية ما يترتب على حدوث العالم من أن الله فاعل بالاختيار لا موجب بالذات كما يقوله الفلاسفة ، وأنه لا تأثير لشيء من الأسباب في مسبباتها ، بل يخلق الله الأشياء عند وجود أسبابها لا بها.

وهكذا انحرف المتكلمون عن الجادة واعتمدوا في استدلالهم على وهم كاذب وربطوا به مصير العقائد الإيمانية كلها ، مما جعل السلف الصالح المتمسكين بالكتاب والسنة يذمون الكلام وأهله ويرمونهم بالفسوق والابتداع والمروق عن الملة ، ومما جعل أعداءهم من الفلاسفة ينتصرون عليهم ويتمكنون من مقاتلهم ، فلا هم للإسلام نصروا ولا للفلاسفة كسروا ، وهكذا يفعل الصديق الجاهل من الأذى والضرر ما لا يفعله العدو العاقل ، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

وبعد أن اتفق المتكلمون على تركب الأجسام من تلك الجواهر الفردة اختلفوا في أقل ما يتركب منه الجسم ، فقال الأشاعرة أقله جوهران ، فإذا انضم جوهر فرد إلى آخر حصل من مجموعهما الجسم عندهم ، وحدوا الجسم بأنه الجوهر القابل للقسمة ولو في جهة واحدة فقط.

وأما المعتزلة فاعتبروا في الجسم أن يكون قابلا للقسمة في الجهات الثلاث ، وعرفوه بأنه الطويل العريض العميق ، ولكنهم اختلفوا في أقل ما يتركب منه الجسم ، فقال النظام : يتركب من أجزاء غير متناهية بالفعل ، وقال الجبائي من ثمانية أجزاء ، وقال أبو الهذيل العلاف من ستة أجزاء إلى آخر ما حكاه عنهم الإمام الأشعري في كتابه (مقالات الإسلاميين).

٢٧

والرابع من أنواع التركيب هو تركب الجسم من هيولى هي محل وصورة حالة فيها ، ويعرفون الهيولي بأنها جوهر في الجسم قابل لما يعرض له من الاتصال والانفصال ومحل للصور الجسمية والنوعية. وأما الصورة فهي ما به يكون الشيء بالفعل أو بعبارة أخرى هي جوهر في الجسم مقوم لمادته ومخرج لها من القوة إلى الفعل.

وهذا مذهب أرسطو الفيلسوف اليوناني وتبعه عليه الفارابي وابن سينا وغيرهما من فلاسفة المسلمين ، وهو مذهب أشد بطلانا من مذهب المتكلمين ، فهل يلزم واحد من هذين النوعين من التركيب على القول بثبوت الصفات لله وعلوه على خلقه؟ سبحانه وحاشاه ، فهو المنزه عن كل هذه الأنواع من التركيبات التي لا تليق بذاته المقدسة ، وإنما تتصف بها المحدثات الناقصة.

* * *

والحق أن الجسم ليس مركبا

من ذا ولا هذا هما عدمان

والجوهر الفرد الذي قد أثبتو

ه في الحقيقة ليس ذا إمكان

لو كان ذلك ثابتا لزم المحا

ل لواضح البطلان والبهتان

من أوجه شتى ويعسر نظمها

جدا لأجل صعوبة الأوزان

أتكون خردلة تساوي الطود في الأ

جزاء في شيء من الأذهان

إذ كان كل منهما اجزاؤه

لا تنتهي بالعد والحسبان

وإذا وضعت الجوهرين وثالثا

في الوسط وهو الحاجز الوسطاني

فلأجله افترقا فلا يتلاقيا

حتى يزول إذا فيلتقيان

ما مسه إحداهما منه هو المم

سوس للثاني بلا فرقان

هذا محال أو تقول بغيره

فهو انقسام واضح التبيان

الشرح : والحق أن الجسم ليس مركبا لا من الجواهر الفردة كما يقول المتكلمون ، ولا من الهيولي والصورة كما يقول الفلاسفة ، بل لا وجود لشيء من

٢٨

ذلك في واقع الأمر ، وإنما هي فروض وتخمينات لم تثبتها تجربة ولم يقم عليها دليل.

والجوهر الفرد الذي زعمه أهل الكلام ونصبوه صنما لهم تدور حوله كل أفكارهم ومذاهبهم قامت أدلة كثيرة على بطلانه. وكان الذي قام بإبطاله هم الفلاسفة انتصارا لمذهبهم الهيولي والصورة ، وقد قام المتكلمون من جانبهم بإبطال نظرية الفلاسفة ، وهكذا ضرب الله بعض المبطلين ببعض ، وبقي أهل الحق والإيمان بمنجى من هذا الإفك والبهتان ، فما أورد على نظرية الجوهر الفرد أنه يلزم عليه أن تكون الخردلة مركبة من عدد من الجواهر الفردة يساوي ما تركب منه الجبل الضخم ، إذ كان كل منهما مركبا من أجزاء غير متناهية العدد.

وهذا الإيراد إنما يتوجه على مذهب النظام الذي يقول بتركيب الجسم ، أي جسم من أجزاء غير متناهية ، فلزمه أن تكون الخردلة مساوية للجبل. وقد أورد عليه أيضا أن النملة إذا مشت بين نقطتين على جسم فإنها لا تستطيع قطع المسافة بينهما لعدم تناهيها إذ كانت مركبة من أجزاء غير متناهية ، وقد أجاب بأنها تمشي بعضا وتطفر بعضا ، فذهبت طفرة النظام مثلا ، وما أحسن قول الشاعر :

مما يقال ولا حقيقة عنده

معقولة تدنو الى الأفهام

الكسب عند الأشعري والحال عن

د الهاشمي وطفرة النظام

ومما أورد على الجوهر الفرد أيضا أنك اذا وضعت جوهرا فردا بين جوهرين فردين وجعلته وسطا بينهما ، فانهما لا يتلاقيان ما دام هذا الوسط قائما ، وحينئذ يقال : اما أن يكون ما مسه أحدهما من هذا الوسط هو عين ما مسه الآخر بلا فارق أصلا ، وهذا محال لأنه يؤدي الى انعدام الوسط نفسه ويقتضي تلاقيهما حال وجوده بينهما ، وأما أن يكون ما مسه أحدهما منه غير ما مسه الآخر ، وهذا يقتضي قبوله للانقسام ، فيبطل ما زعموه من عدم هذه الجواهر الفردة للقسمة أصلا ، وهذا دليل بين على فساد هذه الخرافة التي نسجتها أوهام

٢٩

المتكلمين ومن العجيب أنهم تلقوها عبر الأعصار والقرون جيلا بعد جيل وكلهم مصر عليها محافظ على قدسيتها وجلالها لأنهم يعلمون أنها اذا انهارت زال بنيانهم كله من القواعد وطار كل ما بنوه عليها من خرافات وأوهام.

* * *

والخامس التركيب من ذات ال

أوصاف هذا باصطلاح ثان

سموه تركيبا وذلك وضعهم

ما ذاك في عرف ولا قرآن

لسنا نقر بلفظة موضوعة

في الاصطلاح لشيعة اليونان

أو من تلقى عنهم من فرقة

جهمية ليست بذي عرفان

من وصفه سبحانه بصفاته العلي

ا ويترك مقتضى القرآن

والعقل والفطرة أيضا كلها

قبل الفساد ومقتضى البرهان

سموه ما شئتم فليس الشأن في الاس

ماء بالالقاب ذات الشأن

هل من دليل يقتضي ابطال ذا الترك

يب من عقل ومن فرقان

والله لو نشرت شيوخكم لما

قدروا عليه لو أتى الثقلان

الشرح : والخامس من أنواع التركيب عندهم هو التركيب من الذات مع صفاتها وهذا اصطلاح ثان للفلاسفة في مفهوم التركيب حملهم على نفي الصفات الوجودية فكما يستحيل عندهم تركب ذاته تعالى من هيولى وصورة ، كذلك يستحيل تركبه من ذات وصفات زائدة عليها لأن ذلك في زعمهم يؤدي الى الكثرة في الذات ، وينافي ما يجب لواجب الوجود من البساطة والوحدة المطلقة.

ولكننا ننازعهم في تسمية هذا تركيبا ، فإنه اصطلاح لهم لا سند له من عرف ولا نقل ، فقد جرى العرف على ان الشيء قد يطلق عليه اسم الواحد مع وجود صفات كثيرة له. والقرآن الكريم يقول في شأن الوليد بن المغيرة (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً) [المدثر : ١١] فسماه وحيدا مع أنه موصوف بأنه له سمعا وبصرا وعلما وقدرة وإرادة الى غير ذلك من الصفات.

فاذا كنتم معشر الفلاسفة قد اصطلحتم على تسمية هذا تركيبا ، فلسنا نقر

٣٠

اصطلاحكم هذا ولا نوافقكم عليه ولا من تلقى عنكم هذه الاصطلاحات من الجهمية الجهلة الضلال الذين عطلوا الذات عن صفاتها العليا جريا وراء هذه الاصطلاحات الكاذبة تاركين ما دل عليه القرآن من ثبوت هذه الصفات لله. ودل عليه كذلك العقل والفطرة الانسانية السليمة والبراهين القاطعة. فلسنا نترك ذلك كله من أجل تسميتكم اياه تركيبا ، فسموه ما شئتم فليست العبرة بالأسماء والألقاب ، فانكم لا تستطيعون ان تقيموا دليلا واحدا على بطلان هذا التركيب لا عقليا ولا قرآنيا حتى ولو بعث شيوخكم وطولبوا بذلك ما قدروا عليه. بل ولن يستطيع الانس والجن جميعا أن يأتوا بدليل واحد على بطلان ذلك ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا.

* * *

والسادس التركيب من ماهية

ووجودها ما هاهنا شيئان

الا اذا اختلف اعتبارهما فذا

في الذهن والثاني ففي الأعيان

فهناك يعقل كون ذا غيرا لذا

فعلى اعتبارهما هما غيران

أما اذا اتحدا اعتبارا كل نفس وج

ودها هو ذاتها لا ثان

من قال شيء غير ذا كان الذي

قد قاله ضرب من الفعلان

* * *

هذا وكم خبط هنا قد زال بالتفص

يل وهو الأصل في العرفان

وابن الخطيب وحزبه من بعده

لم يهتدوا لمواقع الفرقان

بل خبطوا نقلا وبحثا أوجبا

شكا لكل ملدد حيران

هل ذات رب العالمين وجوده

أم غيره فهما اذا شيئان

فيكون تركيبا محالا ذاك أن

قلنا به فيصير ذا امكان

واذا نفينا ذاك صار وجوده

كالمطلق الموجود في الأذهان

وحكوا أقاويلا ثلاثا زين

ك القولين اطلاقا بلا فرقان

الثالث التفريق بين الواجب الأ

على وبين وجود ذي الامكان

 

٣١

وسطوا عليها كلها بالنقض والا

بطال والتشكيك للانسان

حتى أتى من أرض آمد آخرا

ثور كبير بل حقير الشأن

قال الصواب الوقف في ذا كله

والشك فيه ظاهر التبيان

هذا قصارى بحثه وعلومه

أن شك في الله العظيم الشأن

الشرح : والسادس من أنواع التركيب التركب من الماهية التي هي بالذات ووجودها ، فان لكل شيء ذاتا أي ماهية هو بها هو ، وهذه الماهية يعرض لها الوجود في الخارج فيكون الشخص في الخارج مركبا من الماهية ومن التشخص هكذا قالوا والحق أنه ليس هناك في الخارج شيئان ماهية ووجودها ، بل ليس هناك الا الشخص الموجود في الخارج. وانما تعرض زيادة الوجود للماهية في الذهن ، وذلك لأن الذهن يستطيع تصور الماهية معراة من الوجود ، ثم يضيف إليها الوجود ، وأما في الخارج فلا مغايرة بين الماهية ووجودها. فالماهية المطلقة معنى كلي لا وجود له الا في الاذهان ، وما يوجد في الخارج لا يكون الا جزئيا متعينا. فإذا اعتبر الذهن ماهية من حيث هي بقطع النظر عن الوجود ، واعتبر الوجود عارضا لها حكم مغايرة كل منهما للآخر ضرورة مغايرة العارض للمعروض أما في الخارج فليس هناك عارض ولا معروض بل الذات ووجودها شيء واحد فالفصل بين الماهية ووجودها هو من عمل الذهن وحده.

وبهذا يتضح أن ما يدعيه هؤلاء من تركب الأشخاص من الماهية والوجود في الخارج باطل ، وزال بهذا التفصيل الذي قدمناه كثير مما تخبط فيه القوم في هذه المسألة والتفصيل دائما هو الاساس الذي تبنى عليه كل معرفة صحيحة. ولهذا ترى ابن الخطيب المعروف بالفخر الرازي هو وحزبه من المتفلسفين لما لم يهتدوا لمواقع الفرق بين الوجود في الذهن والوجود في الخارج أخذوا يخبطون خبط عشواء حتى بلبلوا الافكار وأثاروا الشكوك حين أخذوا يتساءلون : هل ذات الباري جل وعلا عين وجوده أم غيره؟

فان قلنا أنها غيره كان هناك شيئان متغايران فيكون الباري مركبا منهما

٣٢

فيكون مفتقرا الى كل واحد منهما والمفتقر الى غيره ممكن فيلزم أن يكون الباري ممكنا. وان قلنا أن ذاته عين وجوده ، ومعلوم أن الذات أي الماهية أمر كلي صار وجوده وجودا مطلقا لا تحقق له الا في الاذهان ، ثم أضافوا الى هذين القولين قولا ثالثا وهو التفريق بين الواجب جل وعلا وبين الممكن ، فالواجب لا تركب فيه بل وجوده عين ماهيته ، وأما الممكن فوجوده زائدة على ماهيته ، ثم سطوا على كل هذه الأقوال بالنقد والتفنيد والابطال ، وبذلك حكموا على وجود ربهم بأنه عين المحال حتى جاء أحد المتأخرين من الاشاعرة وهو المعروف بالآمدي صاحب كتاب (أبكار الافكار) في علم الكلام وما هو الا أبعار الافكار ، فاختار الوقف في هذه المسألة لأن الأقوال فيها متضاربة محيرة فصار قصارى بحثه وعلمه أن شك في وجود ربه فبئس ما سولت لهؤلاء شياطينهم أن يفترقوا على الله الكذب ويقولون عليه ما لا يعلمون.

* * *

فصل

في أحكام هذه التراكيب الستة

فالأولان حقيقة التركيب لا

تعدوهما في اللفظ والاذهان

وكذلك الاعيان أيضا انما الترك

يب فيها ذلك النوعان

والاوسطان هما اللذان تنازعا العق

لاء في تركيب ذي الجثمان

ولهم أقاويل ثلاث قد حكين

اها وبينا أتم بيان

والآخران هما اللذان عليهما

دارت رحى الحرب التي تريان

أنتم جعلتم وصفه سبحانه

بعلوه من فوق ذي الأكوان

وصفاته العليا التي ثبتت له

بالعقل والمنقول ذي البرهان

من جملة التركيب ثم نفيتم

مضمونها من غير ما برهان

فجعلتم المرقاة للتعطيل ه

ذا الاصطلاح وذا من العدوان

٣٣

الشرح : يناقش المؤلف رحمه‌الله هؤلاء النافين للصفات بحجة التركيب في معاني التركيب الستة السابقة ، وأيها يصح أن يسمى تركيبا وأيها لا يصح ، فيقول ان المعنيين الأولين للتركيب ، وهما التركب من أمور متباينة أو أمور متجاورة لا ينازع أحد في صدق مفهوم التركيب عليهما لفظا وعقلا ، وجميع الأعيان الخارجية انما يرجع التركيب فيها الى واحد من هذين النوعين.

وأما الاوسطان ، أعنى التركب من جواهر فردة غير قابلة للقسمة أو من هيولى وصورة ، فهما اللذان تنازع الفلاسفة والمتكلمون في تركب الجسم منهما ، فذهب المتكلمون الى الاول والفلاسفة الى الثاني ، وذهب النظام من المعتزلة الى تركبه من أجزاء غير متناهية ، وأما المعنيان الآخران للتركيب ، أعني التركب من الذات والصفات أو من الماهية ووجودها ، فهما اللذان دارت رحى الحرب عليهما بيننا وبين المعطلة النفاة ، فهم جعلوا وصفه سبحانه بالعلو على خلقه ، ووصفه كذلك بجميع صفاته العليا التي تثبت له بالعقل والنقل القطعيين من جملة التركيب المحال ثم نفوا مضمونها من غير برهان ولا دليل ، فجعلوا اصطلاحهم في تسمية هذا المعنى تركيبا سلما لهم الى النفي والتعطيل ، ونحن ننازعهم في تسمية هذا المعنى تركيبا ، اذ لا يدل على ذلك شيء من نقل ولا لغة ، ولئن سلمنا لهم اصطلاحهم في تسميته تركيبا ، فلا نسلم لهم أنه تركيب محال ، فان التركب من ذات واحدة وصفات لا ينافي التوحيد بأي حال.

* * *

لكن اذا قيل اصطلاح حادث

لا حجر في هذا على انسان

فنقول نفيكم بهذا الاصطلا

ح صفاته هو أبطل البطلان

وكذاك نفيكم به لعلوه

فوق السماء وفوق كل مكان

وكذاك نفيكم به لكلامه

بالوحي كالتوراة والقرآن

وكذاك نفيكم لرؤيتنا له

يوم المعاد كما يرى القمران

وكذاك نفيكم لسائر ما أتى

في النقل من وصف بغير معان

٣٤

كالوجه واليد والأصابع والذي

أبدا يسوؤكم بلا كتمان

وبودكم لو لم يقله ربنا

ورسوله المبعوث بالبرهان

وبودكم والله لما قالها

أن ليس يدخل مسمع الانسان

الشرح : فاذا كنتم قد اصطلحتم على تسمية هذا تركيبا ، فسموا كيف شئتم اذ لا مشاحة في الاصطلاح. وأما أن تتخذوا من هذا الاصطلاح الحادث لكم ذريعة الى نفي صفاته فهذا محض الباطل وعين الافتراء. وكذلك نفيكم به لعلوه بذاته فوق جميع خلقه ، ونفيكم به لكلامه بالوحى المنزل على رسله ، كالتوراة والقرآن وغيرهما من كتبه. ونفيكم به لرؤية المؤمنين له يوم القيامة عيانا بأبصارهم كما يرى القمران ، أي الشمس والقمر.

وكذلك نفيكم به لسائر ما أتى به النقل من صفات الذات التي ليست معاني ، كالوجه واليد والأصبع والقدم والساق وغيرها ، مما لا تستطيعون كتمان ما يعلوكم من الكآبة والحزن عند تلاوة الآيات والأحاديث المثبتة لها ، وتتمنون بجدع الأنف أن لو لم يقله الله ورسوله ، أو تتمنون اذ قالها أن تئيف مسامعكم حتى لا يصل إليها شيء من هذه الصواعق المحرقة التي تأتي على تعطيلكم من القواعد وتحيله رمادا تطير به الرياح.

* * *

قام الدليل على استناد الك

ون أجمعه الى خلاقه الرحمن

ما قام قسط على انتفاء صفاته

وعلوه من فوق ذي الأكوان

هو واحد في وصفه وعلوه

ما للورى رب سواه ثان

فلأي معنى تجحدون علوه

وصفاته بالفشر والهذيان

هذا وما المحذور الا أن يقال

مع الاله لنا إله ثان

أو أن يعطل عن صفات كماله

هذان محذوران محظوران

أما اذا ما قيل رب واحد

أوصافه أربت على الحسبان

وهو القديم فلم يزل بصفاته

متوحدا بل دائم الاحسان

٣٥

فبأي برهان نفيتم ذا وقل

تم ليس هذا قط في الامكان

الشرح : ثم ما هو دليلكم الذي تعتمدون عليه في نفى الصفات؟ والدليل انما قام على استناد الوجود كله ، علوه وسفله الى خلاقه المبدع المصور الرحمن الرحيم الذي أحسن كل شيء خلقه ، ولم يقم دليل قط على انتفاء صفاته التي لا بد منها في الخلق ولا على انتفاء علوه فوق خلقه الثابت له بالعقل والنقل والفطرة. ولم يلزم قط من اثبات صفاته وعلوه أن يتعدد رب العباد أو يتكثر ، بل هو واحد في وصفه وعلوه ليس للعباد رب سواه ينازعه في شيء مما هو مختص به من شئون الربوبية المطلقة ، فلأي سبب اذا تنكرون صفاته وعلوه بالكذب والبهتان من غير دليل ولا برهان. هذا وليس المحذور المخوف الا أن يقال ان هناك إلها مع الله يشاركه إلهيته ويستحق العبادة معه. أو أن يعطل عن أوصاف كماله التي يعتبر الخلو عنها نقصا ، فهذان هما المحذوران أي المخوفان ، والمحظوران أي الممنوعان. أما اذا قيل أنه رب واحد له من الصفات ما لا يدخل تحت حصر ولا يضبطه حساب ، وأنه لم يزل بصفاته كلها إلها واحدا قديم الاحسان دائم الجود والامتنان ، فبأي برهان من عقل أو نقل يمكنكم نفى هذا أو دعوى أنه محال ليس في الامكان.

* * *

فلئن زعمتم أنه نقص فذا

بهت فما في ذاك من نقصان

النقص في أمرين سلب كماله

أو شركة بالواحد الرحمن

أتكون أوصاف الكمال نقيصة

في أي عقل ذاك أم قرآن

أن الكمال بكثرة الاوصاف لا

في سلبها ذا واضح البرهان

ما النقص غير السلب حسب وكل نقص

أصله سلب وهذا واضح التبيان

فالجهل سلب العلم وهو نقيصة

والظلم سلب العدل والاحسان

متنقص الرحمن سالب وصفه

والحمد والتمجيد كل أوان

٣٦

ولذاك أعلم خلقه أدراهم

بصفاته من جاء بالقرآن

وله صفات ليس يحصيها سوا

ه من ملائكة ولا انسان

ولذاك يثني في القيامة ساجدا

لما يراه المصطفى بعيان

بثناء حمد لم يكن في هذه الدني

ا ليحصيه مدى الازمان

وثناؤه بصفاته لا بالسلو

ب كما يقول العادم العرفان

الشرح : فاذا ادعيتم أن في اثبات صفات الكمال له سبحانه ما يقتضي لحوق نقص به ، فتلك دعوى مجردة من الدليل ، بل هي محض البهت والمكابرة فليس في ذلك شائبة نقصان أصلا ، لأن النقص مرجعه الى أمرين اثنين : أما سلب الكمال الواجب له ، واما نسبة الشريك إليه ، وأما أن يعد ثبوت أوصاف الكمال له نقصا فذلك مما لا يسانده عقل ولا يشهد له نقل ، بل العكس هو الصحيح وهو أن الكمال انما يكون بكثرة الصفات الوجودية لا في سلبها ، فسلبها هو النقص ، اذ الكمال وجود والنقص عدم ، فمن فقد صفة من صفات الكمال يكون قد لحقه من النقص بقدر ما فقد من تلك الصفة ، لأنه حينئذ يكون متصفا بضدها ، وضد الكمال النقص.

فاذا كان العلم صفة كمال فسلبه وهو الجهل يكون نقصا ، وكذلك الظلم نقص لأنه سلب لصفة الكمال التي هي العدل والاحسان ، وهكذا في جميع صفات الكمال من القدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام وغيرها ، يكون سلبها نقصا ، فالمتنقص للرحمن جل جلاله هو الذي يسلبه أوصاف الكمال الثابتة له ، تعالى الله عما يقوله المعطلة النافون لكماله.

وأما المثنى عليه فهو الذي يذكره بأوصاف الكمال التي أثنى على نفسه بها ، وأعلم خلقه أنه موصوف بها ، ويحمده عليها ويمجده في كل وقت وحين. ولذلك كان أعلم خلقه به سبحانه هو أكثرهم علما بصفاته ، وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وله مع ذلك من الصفات ما لا يحصيه أحد من خلقه ، كما قال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم «سبحانك لا نحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك» ولذلك ورد في حديث الشفاعة

٣٧

(أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين يستأذن على ربه فيؤذن له ، ويرى الرب سبحانه ، يخر ساجدا عن يمين العرش ، ويفتح الله عزوجل عليه من الثناء في ذلك الوقت ما لم يكن يحسنه في هذه الدنيا ، فيقال له : ارفع رأسك وسل تعطه واشفع تشفع) وثناؤه على ربه في هذا الوقت انما يكون طبعا بذكر أوصاف الكمال المستوجبة لحمده لا بالسلوب والاعدام ، كما يقوله هؤلاء الجهلة الفاقدون لكل معرفة بالله وصفاته ، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.

* * *

والعقل دل على انتهاء الكون

أجمعه إلى رب عظيم الشأن

وثبوت أوصاف الكمال لذاته

لا يقتضي إبطال ذا البرهان

والكون يشهد أن خالقه تعا

لى ذو الكمال ودائم السلطان

وكذاك يشهد أنه سبحانه

فوق الوجود وفوق كل مكان

وكذلك يشهد أنه سبحانه الم

عبود لا شيء من الأكوان

وكذاك يشهد أنه سبحانه

ذو حكمة في غاية الإتقان

وكذاك يشهد أنه سبحانه

ذو قدرة حي عليم دائم الإحسان

وكذاك يشهد أنه الفعال ح

قا كل يوم ربنا في شان

وكذاك يشهد أنه المختار في

أفعاله حقا بلا نكران

وكذاك يشهد أنه الحي الذي

ما للممات عليه من سلطان

وكذاك يشهد أنه القيوم قا

م بنفسه ومقيم ذي الأكوان

وكذاك يشهد أنه ذو رحمة

وإرادة ومحبة وحنان

وكذاك يشهد أنه سبحانه

متكلم بالوحي والقرآن

وكذاك يشهد أنه سبحانه ال

خلاق باعث هذه الأبدان

لا تجعلوه شاهدا بالزور والت

عطيل تلك شهادة البطلان

الشرح : وقد دل دليل العقل على أن الكون كله مستند في وجوده إلى الرب جل شأنه ، فإن العالم بجميع أجزائه ممكن ، ولا شيء من الممكنات يمكن أن

٣٨

يحدث بنفسه من غير شيء لأنه لا يحمل في طبيعته السبب الكافي لوجوده ، فإن الممكن لا وجود له ولا عدم من ذاته ، فإذا وجد لم يكن وجوده من ذاته بل بسبب خارج عنه يرجح وجوده على عدمه إذ لو وجد بنفسه لكان واجب الوجود ، وهذا خلاف الغرض ، وإذا ثبت أن الكون كله ينتهي في وجوده إلى واجب الوجود لذاته وهو الرب جل شأنه ، فليس في ثبوت أوصاف الكمال لذاته ما يقتضي بطلان هذا البرهان القطعي ، بل بالعكس تشهد الموجودات جميعها بأن باريها وفاطرها سبحانه متصف بكل كمال يمكن أن يتصف به إذ لو خلا من ذلك لم يكن واجب الوجود بل كان ممكنا محتاجا مثلها. وكذاك تشهد له بدوام القهر والتدبير والعزة والسلطان ، وبأنه العلي فوق جميع خلقه إذ لا يجوز أن يحصره ولا يحيط به شيء منها فإن الحادث لا يجوز أن يكون محلا للقديم لأن ذلك يقتضي حدوثه وجميع ما سوى الله تعالى حادث فلا يجوز أن يكون ظرفا حاويا له وأما ما فوق العرش فإنه خلاء صرف وعدم محض فإذا قيل أن الله عزوجل هناك ، كما أخبر عن نفسه فليس في هذا ما يقتضي انحصاره في شيء من خلقه إذ العدم لا يكون مخلوقا. وكذلك تشهد الكائنات بأنه هو وحده المعبود بحق الذي لا تنبغي العبادة إلا له ، فإن العبادة إنما يستحقها من كان ربا خالقا ومالكا مدبرا ، وليس ذلك إلا لله جل شأنه ولهذا يعيب القرآن على المشركين أنهم مع إقرارهم بانفراده سبحانه بالربوبية وشئونها والخلق والرزق والملك والتدبير يعبدون معه غيره ويجعلون له أندادا من خلقه.

وكذاك تشهد له بكمال الحكمة والاتقان بما اشتملت عليه من غايات ومقاصد تتجلى في جميع ما خلق وفي كل ما أمر به. وتشهد له بتمام القدرة التي لا تعجز عن شيء من الممكنات إيتاؤه وبدوام البر والإحسان إلى خلقه ، وبدوام الفعل فهو سبحانه لم يزل ولا يزال فعالا ، كما قال تعالى : (فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) [البروج : ١٦] وكما قال : (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) [الرحمن : ١٩] فما دام حيا فهو فعال إذ الفعل لازم الحياة ، وتشهد له بأنه المختار في فعله فلا يصدر عنه الفعل عن قهر ولا إكراه ، ولا يفيض عنه من غير قصد ولا اختيار كما

٣٩

تقوله الفلاسفة ، ويشهد له بالاختيار تنوع الأشياء وتكثر الموجودات وكذاك تشهد له بأنه الحي الذي الحياة صفة ذاته فلا يطرأ عليها عدم ولا فناء ، فإن ما بالذات لا يسلب. وبأنه القيوم القائم بنفسه المستغني عن كل ما سواه وكل ما سواه فإنه لا قيام له إلا به ، وبأنه ذو الرحمة الواسعة التي وسعت كل خلقه. والإرادة النافذة التي لا يعوقها عن مرادها عائق ، وبأنه ذو محبة وحنان ولطف وامتنان ، وبأنه متكلم سبحانه بكلام يسمعه من يشاء من خلقه فهو متكلم بالوحي والقرآن ، وبأنه الخلاق العليم الذي يبعث الناس ويخرجهم من قبورهم أحياء للجزاء والحساب حسبما تقتضيه حكمته وعدالته.

هكذا تشهد الموجودات لربها جل شأنه بأنه موصوف بكل صفات الكمال فويل للمعطلة الذين يشهدون على ربهم شهادة الزور ، ويجعلون كونه ربا للموجودات مقتضيا للتعطيل ونفي الصفات.

* * *

وإذا تأملت الوجود رأيته

إن لم تكن من زمرة العميان

بشهادة الاثبات حقا قائما

لله لا بشهادة النكران

وكذاك رسل الله شاهدة به

أيضا فسل عنهم عليم زمان

وكذاك كتب الله شاهدة به

أيضا فهذا محكم القرآن

وكذلك الفطر التي ما غيرت

عن أصل خلقتها بأمر ثان

وكذا العقول المستنيرات التي

فيها مصابيح الهدى الرباني

أترون أنا تاركو ذا كله

لشهادة الجهمي واليوناني

هذي الشهود فإن طلبتم شاهدا

من غيرها سيقوم بعد زمان

إذ ينجلي هذا الغبار فيظهر ال

حق المبين مشاهدا بعيان

فإذا نفيتم ذا وقلتم أنه

ملزوم تركيب فمن يلحاني

إن قلت لا عقل ولا سمع لكم

وصرخت فيما بينكم بأذان

هل يجعل الملزوم عين اللازم ال

منفى هذا بيّن البطلان

٤٠