محمد هادي الأسدي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٢
ISBN: 964-8629-56-0
الصفحات: ١٢٣
المقياس ليس وقوعه أو عدم وقوعه في عصر التشريع ، بل المقياس هو انطباق الدليل الخاص عليه أم عدمه .
وسنوضح هذه الفكرة من خلال عدّة نماذج :
١ ـ تعتبر صلاة الآيات بالأدلة الشرعية واجبة عند حدوث الظواهر الطبيعية المخوفة كالزلزال وغيره ، فإذا افترضنا أنّ زلزالاً لم يقع طيلة حياة الرسول الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم أو طيلة عصر التشريع ، وأنّ هذا الزلزال وقع بعد حياته صلىاللهعليهوآلهوسلم وانقطاع الوحي الإلهي ، فإنّ القول بوجوب أداء صلاة الآيات والمتعلقة في هذه الحالة « بالزلزلة » لا يُعدّ بدعة بحجة أنّ هذا الأمر حادث ولم يقع في زمن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم !! ، بل إنّه هنا من صميم السُنّة الشريفة ، لأنّه وجب عن طريق الدليل الشرعي الخاص ، غاية الأمر أنّه لم يقع في زمن التشريع أو في زمن حياة الرسول الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم .
٢ ـ ومن أمثلة الدليل الخاص أيضاً ما ورد من النصوص الشرعية التي تحرّم علىٰ الرجل أن يتزيّىٰ بزي النساء ، وتحرم علىٰ المرأة ان تتزيّىٰ بزي الرجال .
عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم إنّه قال : « لعنَ اللهُ الرجل يلبس لبسة المرأة ، والمرأة تلبس لبسة الرجل » (١) .
وعنه صلىاللهعليهوآلهوسلم : « ليس منّا من تشبّه بالرجال من النساء ، ولا من تشبّه بالنساء من الرجال » (٢) .
__________________
(١) كنز العمال ٨ : ٣٢٣ / ٤١٢٣٥ .
(٢) كنز العمّال ، لعلاء الدين الهندي ٨ : ٣٢٤ / ٤١٢٣٧ .
إنّ تشبّه الرجال بالنساء ، وتشبّه النساء بالرجال أخذ عنوانه الشرعي بالحرمة من خلال نصه الخاص ، وتحريمه بعد وقوعه عقب زمن التشريع لا معنىٰ لجعله ضمن دائرة « البدعة » ، بل إنّ تحريمه يُعتبر من صميم التشريع لورود الدليل الخاص فيه .
وخلاصة القول : إنّ النصّ الخاص هو جزء من التشريع ، وإن كان الأمر الذي ورد فيه ذلك النص لم يحدث إلّا بعد عصر التشريع .
تقسيم البدعة
لقد تقدّم في تعريف البدعة أنّها الزيادة في الدين أو النقصان منه ، وبعبارة أُخرىٰ إدخال ما ليس من الدين في الدين كاباحة محرّم أو تحريم مباح أو إيجاب ما ليس بواجب . وهو كما ترىٰ يعتمد علىٰ محور الاضافة والحذف .
ومع هذا التعريف هل يمكن تقسيم البدعة إلىٰ حسنة وسيئة ؟
وقبل الاجابة التفصيلية علىٰ هذا السؤال يحسن أن نشير إلىٰ أنَّ القول بتقسيم البدعة إلىٰ حسنة وسيئة يقوم علىٰ أساس عدم التفريق ، أو الخلط بين البدعة بمعناها اللغوي ـ والتي هي بمعنىٰ إحداث شيء ليس علىٰ مثال سابق ـ وبين معناها الاصطلاحي الشرعي ، والذي هو بمعنىٰ إدخال ما ليس من الدين في الدين ، وإنقاص أمر من الدين علىٰ أنه ليس منه .
إنَّ الأمر المحدث لا علىٰ مثال سابق يحتمل أن يكون مذموماً وأن يكون ممدوحاً أيضاً حسب موقعه انسجاماً أو تقاطعاً مع تعاليم الشريعة المقدسة .
إنّ البدعة بمعناها اللغوي تنسجم مع طبيعة تطور الحياة وتنوع حاجات الإنسان علىٰ مرّ العصور ، فما كان سائداً من طريقة للكتابة وأدواتها في العصور الأولى تطور عبر الازمان والاعصار وأصبح بالشكل الذي هو عليه اليوم .
إنّ البدعة بالمعنىٰ اللغوي قد تكون لها علاقة بالدين وقد لا تكون كذلك ، وهي تنقسم إلىٰ قسمين ، إذ إن كلّ شيء محدث مفيد للحياة الانسانية من العادات والتقاليد والرسوم إذا تم أداءه من دون اعتباره جزء من الدين ولم يكن محرّماً « بذاته » كان بدعة حسنة ، مثل الاحتفال بيوم الاستقلال ، أو الاجتماع للبراءة من المشركين ، أو الاحتفال التأبيني لتكريم بطل من أبطال الاُمّة ، وبشكل عام فإنّ ما هو حلال بالذات لا مانع من أن تتفق عليه الاُمّة وتتخذه عادة متبعةً في المناسبات ، ما لم يرد فيه نهي فهو بهذا المعنىٰ بدعة لغوية .
أما إذا كان محرّماً « بالذات » مثل سفور النساء أمام الرجال ، فلو أصبح ذلك رائجاً واتخذ عادة وتقليداً ، فانّه أمر محرّم بالذات ، أي أنّه عصيان للأمر الإلهي والتشريع ، وهذه الحرمة لا تتأتىٰ من كونه بدعة بالمعنىٰ الشرعي بمعنىٰ التدخل في أمر الدين وإنكار أنّ الحجاب جزء من التشريع الديني ، فالقائلون بالسفور يحتجون بأنّ ذلك جزء من مقتضيات العصر والحضارة مع الاعتراف بأنّه مخالف للشريعة ، ولو قيل أنّ السفور بدعة قبيحة فذلك بمعناها اللغوي لا بمعناها الشرعي .
ويتضح من خلال ذلك أنَّ أكثر الذين أطنبوا في الحديث في تقسيم البدعة إلىٰ حسنة وسيئة قد خلطوا بين المعنىٰ اللغوي للبدعة وبين معناها الشرعي ، مستشهدين بذلك بأمثلة زاعمين أنّها من البدع بمعناها الشرعي مع أنّ أمرها يدور بين أمرين :
فهي
أما أن يُعمل بها باسم الدين والشريعة ، ويكون لها أصل فيهما ، فتخرج بذلك عن دائرة البدعة ، مثل تدوين الكتاب والسُنّة إذا توفرت الخشية عليهما من التلف والضياع ، وبناء المدارس وغيرها ، فمثّلوا
للبدعة الواجبة بالتدوين ، وللبدعة المستحبة ببناء المدارس ، مع أنّهما ليسا من البدعة بمعناها الشرعي ، لوجود أصل صالح لهما في الشريعة .
أو أنّها عمل عادي يتم العمل بها ليس باسم الدين بل من أجل ضرورات تطور الحياة وطلب الراحة ، فتكون خارجة عن موضوع البدعة بمعناها الشرعي أيضاً مثل نخل الدقيق ، فقد ورد أنّ أول شيء أحدثه الناس بعد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم اتخاذ المناخل ولين العيش من المباحات . وهذه حالة يصح إطلاق البدعة عليها بمعناها اللغوي ، أي الاتيان بشيء جديد لا علىٰ مثال سابق .
وقد وافق هذا القول جملة من المحققين منهم الشاطبي ، قال : إنّ متعقّل البدعة يقتضي ذلك بنفسه ، لأنه من باب مضادة الشارع واطّراح الشرع ، وكل ما كان بهذه المثابة فمحال أن ينقسم إلىٰ حسن وقبيح ، وأن يكون منه ما يمدح ومنه ما يُذم ، إذ لا يصح في معقول ولا منقول استحسان مشاقة الشارع .. وأيضاً فلو فرض أنّه جاء في النقل استحسان بعض البدع أو استثناء بعضها عن الذم لم يتصور ، لأن البدعة طريقة تضاهي المشروعة من غير أن تكون كذلك . وكون الشارع يستحسنها دليل علىٰ مشروعيتها إذ لو قال الشارع : « المحدثة الفلانية حسنة » لصارت مشروعة ، ولمّا ثبت ذمها ثبت ذم صاحبها لأنها ليست بمذمومة من حيث تصورها فقط ، بل حيثُ اتصف بها المتصف ، فهو إذن المذموم علىٰ الحقيقة ، والذم خاصة التأثيم ، فالمبتدع مذموم آثم ، وذلك علىٰ الاطلاق والعموم (١) .
__________________
(١) الاعتصام ، للشاطبي ١ : ١٤٢ .
وقال العلّامة المجلسي : إحداث أمر لم يرد فيه نص بدعة ، سواء كان أصلهُ مبتدعاً أو خصوصياته مبتدعة فما يقال : إنّ البدعة منقسمة بانقسام الأحكام الخمسة أمرٌ باطل ، إذ لا تطلق البدعة إلّا علىٰ ما كان محرّماً كما قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : « كلّ بدعة ضلالة وكلّ ضلالة سبيلها إلىٰ النار » (١) .
أدلة عدم جواز تقسيم البدعة :
وأما الأدلة علىٰ عدم جواز تقسيم البدعة فسوف نعرض أهمها ، وكما يأتي :
الدليل الأول : إنّ التدقيق في المعنىٰ الاصطلاحي لمفهوم البدعة الذي ورد مستفيضاً في النصوص الشرعية ، يقضي بعدم إمكانية تقسيم البدعة ، فالبدعة في الاصطلاح الشرعي هي : « إدخال ما ليس من الدين فيه » وقد مرَّ ذلك ، ويعني هذا أنّ البدعة إنّما تكون « بدعة » عندما تأخذ صفة التشريع الوضعي في مقابل التشريع الإلهي المقدس ، فهل يمكن أن نتصور أنّ هناك قسماً من « البدعة » ممدوح ، وهو يمثل محاولة لتقويض الدين وقوانينه ؟ وهل يدخل تحت واحد من الأحكام الشرعية الخمسة سوىٰ التحريم ؟
إنّ شأن الابتداع في المصطلح الشرعي شأن الكذب علىٰ الله ورسوله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فهل يعقل أن يكون هناك لون ممدوح من الكذب علىٰ الله ورسوله ؟
إنّ البدعة في الاصطلاح الشرعي تأبىٰ التقسيم ، وهي محرّمة مطلقاً
__________________
(١) البحار ، للمجلسي ٢ : ٣٠٣ / ٤٣ .
لأنها ـ كما علمت ـ تدخّل صريح في التشريع الإلهي وتلاعب فيه .
الدليل الثاني : إنَّ جوّ النصوص التي تحدثت عن البدعة ، جوّ يفيض بالذمّ والتهديد والوعيد للمبتدع ، فقد مرّت علينا النصوص التي جعلت البدعة ندّاً مقابلاً للسنة ، وضداً لا يلتقي معها أبداً ، وذمت المبتدع وكالت له أنواع الذم والتوبيخ والتقريع والتهديد ، وأوعدته بالعذاب العظيم في الدنيا والآخرة ، بل دعت الناس إلىٰ مقاطعته وهجرانه وهددت بالعذاب من يلقاه بوجه صبوح ، وقالت بعدم قبول توبته ، وهذا من أقسىٰ أنواع التهديد والعقاب . ومع وجود كلّ هذه الألوان من التهديد والوعيد ، فهل يمكن أن يكون هناك نوع ممدوح من البدعة ؟ إنّ البدعة معصية ولم يسمع أحد أنّ الله أو رسوله صلىاللهعليهوآلهوسلم قد مدح المعصية .
واقتصار النصوص الواردة في ذكر البدعة علىٰ الذمّ والانتقاد الشديد يبطل مقولة البدعة الحسنة فلو كان هناك نحو من أنحاء الاستثناء في موارد معينة مفترضة حتى لو كانت جزئية ، لما تجاوزتها الشريعة المقدسة أو تجاهلتها .
إنّ هناك صفات وأعمالاً تناولتها النصوص الصريحة من الكتاب والسُنّة الشريفة ، بالذم الشديد والتحذير لفاعليها ، مثل صفة « الكذب » إلّا أنّ الشريعة لم تتجاهل في الوقت نفسه بعض الموارد التي يرتفع فيها موضوع الذم ، حتىٰ إننا نرىٰ أنَّ هناك نصوصاً في الشريعة شديدة الصراحة علىٰ استثناء بعض أنواع الكذب من أصل التحريم ، إذ قد يخرج الكذب من دائرة التحريم إلىٰ دائرة الوجوب ، فيما لو توقف عليه صيانة نفس مؤمنة من القتل أو الهلاك .
وكذلك الأمر مع « الغيبة » هذه الخصلة المذمومة الممقوتة في نظر الشريعة ، إذ ورد الحكم في جوازها في بعض الموارد كجواز اغتياب الفاسق المتجاهر بالفسق .
الدليل الثالث : ورد في الحديث المتّفق عليه عند الفريقين أنَّ الرسول محمداً صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : « .. ألا وكل بدعة ضلالة ، ألا وكل ضلالة في النار » (١) . وورد بلفظ آخر : « فإنّ كل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة تسير إلىٰ النار » (٢) .
ودلالة الحديث بلفظيه علىٰ شمول جميع أنواع البدع بإنّها ضلالة لا تحتاج منا إلىٰ المزيد من الايضاح ، ولا تقبل الجدل والإنكار .
مواقف العلماء من تقسيم البدعة
ما تقدم كان استعراضاً للأدلة علىٰ عدم جواز تقسيم البدعة إلىٰ مذمومة وحسنة ، وننقل القاريء الكريم الآن إلىٰ مطالعة النصوص التالية لعلماء من الفريقين قالوا بعدم جواز تقسيم البدعة :
١ ـ الحافظ ابن رجب الحنبلي ، قال : « والمراد بالبدعة : ما أُحدث مما لا أصل له في الشريعة يدل عليه ، أما ما كان له أصل من الشرع يدل عليه ، فليس ببدعة شرعاً ، وإن كان بدعة لغة » (٣) . ويضيف قائلاً : « فقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم « كلّ بدعة ضلالة » من جوامع الكلم ، لا يخرج عنه شيء ، وهو أصل عظيم من أصول الدين ، وهو شبيه بقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : « من أحدث في أمرنا هذا
__________________
(١) بحار الانوار ، للمجلسي ٢ : ٢٦٣ / ١٢ كتاب العلم باب ٣٢ .
(٢) كنز العمال ، لعلاء الدين الهندي ١ : ٢٢١ / ١١١٣ .
(٣) الاساس في السُنة وفقهها ، لسعيد حوّىٰ : ٣٦١ ، عن جوامع العلوم والحكم لابن رجب الحنبلي : ٣٣٣ .
ما ليس منه فهو ردٌّ » ، فكل من أحدث شيئاً ونسبه إلىٰ الدين ولم يكن له أصل من الدين يرجع إليه ، فهو ضلالة ، والدين بريء منه ، وسواء من ذلك مسائل الاعتقادات ، أو الأعمال ، أو الأقوال الظاهرة والباطنة » (١) .
٢ ـ ابن حجر العسقلاني ، قال : المحدَثات ، جمع مُحدَثة ، والمراد بها ما أُحدث وليس له أصل في الشرع ، ويسمىٰ في عرف الشرع ( بدعة ) ، وما كان له أصل يدل عليه الشرع فليس ببدعة ، فالبدعة في عرف الشرع مذمومة بخلاف اللغة ، فإنّ كل شيء أُحدث علىٰ غير مثال يسمىٰ بدعة ، سواء كان محموداً أو مذموماً ، وكذا القول في المحدثة ، وفي الأمر المحدث الذي ورد في حديث عائشة : ( ما أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردٌّ ) (٢) .
٣ ـ أبو اسحاق الشاطبي : يقول بشأن النصوص الشرعية التي تناولت مفهوم البدعة بالذم : « إنّها جاءت مطلقة عامة علىٰ كثرتها ، لم يقع فيها استثناء البته ، ولم يأتِ فيها مما يقتضي أنَّ منها ما هو هدىٰ ، ولا جاء فيها : كل بدعةٍ ضلالة إلّا كذا وكذا ، ولا شيء من هذه المعاني ، فلو كان هنالك مُحدثة يقتضي النظر الشرعي فيها الاستحسان ، أو أنّها لاحقة بالمشروعات لذُكر ذلك في آيةٍ أو حديث ، لكنه لا يوجد ، فدلَّ علىٰ أنّ تلك الأدلة بأسرها علىٰ حقيقة ظاهرها في الكلّية ، التي لا يتخلف عن مقتضاها فرد من الأفراد .. إنَّ متعقَّل البدعة يقتضي ذلك بنفسه ، لأنه من باب مضادة الشارع واطّراح الشرع ، وكل ما كان بهذه المثابة فمحال أن
__________________
(١) البدعة ـ تعريفها ـ أنواعها ـ أحكامها ، لصالح الفوزان : ٨ .
(٢) فتح الباري بشرح صحيح البخاري ، لابن حجر العسقلاني ٤ : ٢٥٢ .
ينقسم إلىٰ حسن وقبيح ، وأن يكون منه ما يُمدح وما يُذم » (١) .
ثم يقول منتقداً رأي القائلين بتقسيم البدعة إلىٰ أحكام الشريعة الخمسة : « إنَّ هذا التقسيم أمر مخترع لا يدل عليه دليل شرعي ، بل هو في نفسه متدافع لأنَّ من حقيقة البدعة أن لا يدل عليها دليل شرعي ، لا من نصوص الشرع ، ولا من قواعده ، إذ لو كان هنالك ما يدل من الشرع علىٰ وجوبٍ أو ندبٍ ، أو إباحةٍ ، لما كان ثَمَّ بدعة ، ولكان العمل داخلاً في عموم الأعمال المأمور بها ، أو المُخيّر فيها ، فالجمع بين تلك الأشياء بدعاً ، وبين كون الأدلة تدل علىٰ وجوبها ، أو ندبها ، أو إباحتها ، جمع بين مُتنافيين » (٢) .
٤ ـ الشهيد الأول : قال في ( قواعده ) : « محدثات الأُمور بعد النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم تنقسم أقساماً ، لا تطلق اسم البدعة عندنا إلّا علىٰ ما هو محرم منها .. » (٣) .
٥ ـ العلّامة الشيخ محمد باقر المجلسي ، يقول في توضيح قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : « كل بدعة ضلالة » « يدلُّ علىٰ أنَّ قسمة بعض أصحابنا البدعة إلىٰ أقسام تبعاً للعامة باطل فإنها إنما تطلق في الشرع علىٰ قولٍ أو فعلٍ أو رأيٍ قرر في الدين ، ولم يرد فيه من الشارع شيء ، لا خصوصاً ولا عموماً ، ومثل هذا لا يكون إلّا حراماً ، أو افتراءً علىٰ الله ورسوله .. » (٤) .
__________________
(١) الاعتصام ، لابي اسحاق الشاطبي ١ : ١٤١ .
(٢) الاعتصام ، لابي اسحاق الشاطبي ١ : ١٩١ ـ ١٩٢ .
(٣) مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول ، لمحمدباقر المجلسي ١ : ١٩٣ .
(٤) بحار الانوار ، للمجلسي ٧١ : ٢٠٣ .
الفصل الثالث
أسباب نشوء البدعة
إنّ ما قدمناه من الأحاديث والروايات قد يعطينا تصوراً كاملاً عن خطورة هذا الأمر من خلال شدّة التحذير من الابتداع ، بل وحتىٰ من مرافقة المبتدعين .. كل ذلك من أجل أن تعي الاُمّة أيَّ خطر يتهددها إنْ هي سارت وراء المبتدعين والمحدِثين في الدين .
روي عن ابن مسعود أنّه قال : « خط رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم خطاً بيده ، ثم قال : « هذا سبيل الله مستقيماً » ثم خط خطوطاً عن يمين ذلك وعن شماله ثم قال : « وهذه السُبل ، ليس من سبيل إلّا عليه شيطان يدعو إليه » ثم قرأ : ( وَأَنَّ هَـٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ) » (١) .
ويروىٰ عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم وهو يذكّر الاُمّة بالسنن التاريخية وما جرىٰ علىٰ الاُمم السابقة ، قوله : « كل ما كان في الاُمم السالفة فإنَّه يكون في هذه الاُمّة مثله ، حذو النعل بالنعل والقُذّة بالقُذّة » (٢) .
__________________
(١) الدر المنثور في التفسير بالمأثور ، لجلال الدين السيوطي ٣ : ٥٦ . والآية من سورة الانعام ٦ : ١٥٣ .
(٢)
بحار الانوار ، للمجلسي ٢٨ : ١٠ / ١٥ باب ١ . وقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «
حذو النعل بالنعل والقُذّة
=
ويقول صلىاللهعليهوآلهوسلم مفسراً قوله تعالىٰ : ( لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ ) « حالاً بعد حال ، لتركبنَّ سُنّة من كان قبلكم حذو النعل بالنعل ، والقُذّة بالقُذّة ، لا تخطئون طريقهم ولا يخطأ ، شبر بشبر ، وذراع بذراع ، وباع بباع ، حتىٰ إنّه لو كان مَن قبلكم دخل جحر ضب لدخلتموه ، قالوا : اليهود والنصارىٰ تعني يا رسول الله ؟ قال صلىاللهعليهوآلهوسلم : فمن أعني ؟ لتنقضن عرىٰ الإسلام عروة عروة ، فيكون أول ما تنقضون من دينكم الأمانة ، وآخره الصلاة » (١) .
لقد بلّغ الرسول الأكرم محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم الرسالة علىٰ أكمل وجه وكانت أفعاله وسنّته الشريفة محطّ أنظار المسلمين مما لا يدع المجال للاجتهادات الشخصية أو الاختلاف ، فلماذا إذن حدثت البدع من بعده ؟
هذا هو السؤال الذي سنحاول اكتشاف جوابه في النقاط الآتية :
أولاً : توهّم المبالغة في التعبّد لله تعالىٰ :
ونعني بذلك الخروج عن الحدّ المعقول في التعبّد لله تعالىٰ ، أو بعبارة أُخرىٰ الاتيان بشيء مخالف لتعاليم الشريعة تحت عنوان الاجتهاد في العبادة لله تعالىٰ ومن أمثلة ذلك :
١ ـ استأذن عثمان بن مظعون النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم في الاستخصاء ، فقال النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم : « ليس منّا من خصي أو اختصىٰ ، إنَّ اختصاء أُمّتي الصيام ، إلىٰ أن قال : ائذن لي في الترهب ، قال : إنَّ ترّهب أُمتي الجلوس في
__________________
بالقُذّة » ، « مثل يُضرب للشيئين يستويان ولا يتفاوتان » والقُذّة : ريشة الطائر كالنسر والصقر .
(١) بحار الانوار ، للمجلسي ٢٨ : ٨٠ / ١١ باب ١ كتاب الفتن والمحن . والآية من سورة الانشقاق ٤ : ١٩ .
المساجد لانتظار الصلاة » (١) .
ونحن نسأل عن هذا الدافع الذي يدفع ابن مظعون ليطلب من الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم أن يخصي نفسه أو أن يترهب ! إنّه ليس له من دافع سوىٰ أنّه يرىٰ أنّ ممارسة الحياة الاجتماعية علىٰ طبيعتها إنّما يكون سبباً لانصراف الانسان عن التوجه نحو العبودية لله سبحانه وتعالىٰ ! لكن أليس ذلك تطرّفاً في فهم العبودية لله ؟ كل ذلك يجري والرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم حيٌّ بينهم وهم يشهدون سيرته وهو أعظم الناس عبودية لربّه وأعظمهم معرفة به وقرباً إليه .
٢ ـ ونظير ذلك ما رواه الكليني عن الامام الصادق عليهالسلام قال : « .. إنَّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم خرج من المدينة إلىٰ مكة في شهر رمضان ومعه الناس وفيهم المشاة ، فلما انتهىٰ إلىٰ كراع الغميم دعا بقدح من ماء فيما بين الظهر والعصر ، فشرب وأفطر ، ثم أفطر الناس معه ، وثَمَّ أُناس علىٰ صومهم ، فسمّاهم العصاة ، وإنّما يؤخذ بآخر أمر رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم » (٢) .
فهل في موقف هؤلاء العجيب ما يمكن تفسيره سوىٰ ظنّهم أنَّهم ببقائهم علىٰ صيامهم يتقربون أكثر إلىٰ الله ؟! وهم إنّما يخالفون حكماً حكم به رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم !
٣ ـ روىٰ جابر بن عبدالله : أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم كان في سفر فرأىٰ رجلاً عليه زحام قد ظُلِّل عليه ، فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم : « ما هذا ؟ » قالوا : صائم ، قال صلىاللهعليهوآلهوسلم : « ليس من البرِّ الصيام في السفر » (٣) .
__________________
(١) الاعتصام ، للشاطبي ١ : ٣٢٥ .
(٢) الكافي ، للكليني ٤ : ١٢٧ / ٥ باب كراهية الصوم في السفر .
(٣) مسند أحمد ٣ : ٣١٩ و ٣٩٩ .
إنّ الانسان الساذج الذي لا يفهم الدين بصورة صحيحة يتخيّل أنّه لو بقي علىٰ صيامه في السفر فإنَّ عمله سيكون أكثر قبولاً عند الله تبارك وتعالىٰ ، لأنه تحمل فيه مشقّة أكبر !
٤ ـ والأعجب من ذلك ما رواه مالك في الموطأ : إنّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم رأىٰ رجلاً قائماً في الشمس فقال : « ما بال هذا ؟ » قالوا : نذر أن لا يتكلم ولا يستظلّ من الشمس ، ولا يجلس ، ويصوم . فقال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : « مروه فليتكلم وليستظلّ وليجلس وليتم صيامه » (١) .
٥ ـ وروىٰ البخاري عن قيس بن أبي حازم : دخل أبو بكر علىٰ امرأة ... فرآها لا تكلَّمُ فقال : ما لها لا تَكلَّمُ ؟ قالوا : حجَّت مُصمتة ، قال لها : تكلمي فإنّ هذا لا يحلّ ، هذا من عمل الجاهلية فتكلّمت .. (٢) .
٦ ـ وروي عن الزبير بن بكّار أنّه قال : « سمعتُ مالك بن أنس وقد أتاهُ رجل فقال : يا أبا عبدالله من أين أحرم ؟ قال : من ذي الحليفة ، من حيثُ أحرم رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ... ، قال : فإنّي أُريد أن اُحرم من المسجد من عند القبر ، قال : لا تفعل فإنّي أخشىٰ عليك الفتنة . فقال : وأي فتنةٍ هذه ؟ إنّما هي أميال أزيدها ! قال : وأي فتنة أعظم من أن ترىٰ أنّك سبقتَ إلىٰ فضيلة قصّر عنها رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ؟ إنّي سمعتُ الله يقول : ( .. فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) (٣) .
٧ ـ « روي أن سلمان الفارسي رضياللهعنه جاء زائراً لأبي الدرداء فوجد أُمَّ
__________________
(١) موطأ مالك : ٣٠٩ / ٩ كتاب الايمان والنذور ، طبعة دار الكتاب العربي ـ بيروت .
(٢) صحيح البخاري ٥ : ٥٢ باب أيام الجاهلية ، ط مؤسسة التاريخ العربي .
(٣) الاعتصام ، لابي اسحاق الشاطبي ١ : ١٣٢ . والآية من سورة النور ٢٤ : ٦٣ .
الدرداء مبتذلة ، فقال : ما شأنكِ ؟ قالت : إن أخاك ليست له حاجة في شيء من أمر الدنيا .
فلما جاء أبو الدرداء رحّب بسلمان وقرَّب إليه طعاماً ، فقال لسلمان : أطعم ، فقال : إنّي صائم . قال : أقسمت عليك إلّا ما طعمت . فقال سلمان : ما أنا بآكل حتىٰ تأكل ، وبات عنده ، فلما جاء الليل قام أبو الدرداء ، فحبسه سلمان ، وقال : يا أبا الدرداء ، إنّ لربّك عليكَ حقاً ، وانَّ لجسدك عليك حقاً ، ولأهلك عليك حقاً ، فصُم وافطر ، وصلِّ ونم ، واعطِ كلَّ ذي حقٍ حقّه . فأتىٰ أبو الدرداء النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم فأخبره بما قال سلمان ، فقال له مثل قول سلمان » (١) .
٨ ـ في حديث طويل عن الإمام الصادق عليهالسلام : « إنّ الصحابي سعد بن أشجع قال : إنّي أُشهد الله ، وأُشهد رسوله ، ومن حضرني ، أنّ نوم الليل عليَّ حرام ، والأكل بالنهار عليَّ حرام ، ولباس الليل عليَّ حرام ، ومخالطة الناس عليَّ حرام ، وإتيان النساء عليَّ حرام ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : يا سعد لم تصنع شيئاً ، كيف تأمر بالمعروف وتنهىٰ عن المنكر ، إذا لم تخالط الناس ، وسكون البرية بعد الحضر كفر للنعمة ، نَمْ بالليل ، وكُل بالنهار ، والبس ما لم يكن ذهباً ، أو حريراً ، أو معصفراً ، وآتِ النساء .. » (٢) .
٩ ـ روي عن أنس أنّه قال : جاء ثلاثة رهط إلىٰ بيوت أزواج النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، يسألون عن عبادة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم فلما أُخبروا ، كأنّهم استقلّوها ، فقالوا : وأين نحن من النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم قد غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ؟ ، قال أحدهم :
__________________
(١) بحار الانوار ، للمجلسي ٦٧ : ١٢٨ / ١٤ باب ٥١ عن تنبيه الخواطر ١ : ٢ .
(٢) بحار الانوار ، للمجلسي ٦٧ : ١٢٨ ـ ١٢٩ / ١٥ باب ٥١ عن نوادر الراوندي : ٢٥ ـ ٢٦ .
أما أنا فإني أُصلي الليل أبداً ، وقال آخر : أنا أصوم الدهر ولا أفطر ، وقال آخر : أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً ، فجاء رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فقال : « أنتم الذين قلتم كذا وكذا ؟ أما والله إنّي لأخشاكم لله ، وأتقاكم له ، لكني أصوم ، وأفطر ، وأُصلي ، وأرقد ، وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني .. » (١) .
هكذا يتوهّم هؤلاء أنّهم بقيامهم ببعض الأعمال ذات الطابع العبادي ، يجهدون بها أنفسهم ، إنّما يتقربون بذلك إلىٰ الله أكثر مما لو اقتصروا علىٰ ما جاءت به الشريعة من الأعمال العبادية .
ومثلما يتحدث القرآن الكريم عن الجهاد في سبيل الله ، فإنّه يتحدث أيضاً عن نصيب الحياة الذي يجب ان يأخذه الإنسان من دُنياه : ( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّـهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ .. ) (٢) .
إنَّ القرآن الكريم وفي أماكن متعددة يشجب ظاهرة الرهبنة وتحميل النفس للمشاق والصعوبات البالغة مما لم يأمر به الله سبحانه وتعالىٰ ، وفي مقابل ذلك وجّه الانسان والمجتمع نحو السلوك المتوازن الذي يحفظ معاً حقّ الله وحقَّ الناس وحقّ النفس .
إنَّ ظاهرة الرهبنة تعبّر عن أوضح صورة لاعتزال الحياة وبالتالي انصراف الانسان عن دوره الرسالي التغييري ، وهي تنشأ عادةً لدىٰ الأفراد بسبب الاعتقاد بأنَّ تكثيف الجانب الروحي العبادي علىٰ حساب
__________________
(١) صحيح البخاري ٧ : ٢ كتاب النكاح ، طبعة مؤسّسة التاريخ العربي ـ بيروت .
(٢) الاعراف ٧ : ٣٢ .
الجوانب الاُخرىٰ هو الموجب للاقتراب من رضىٰ الله سبحانه وتعالىٰ .. ولعلَّ للرهبنة دوافع أُخرىٰ :
عن ابن مسعود قال : كنتُ رديف رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم علىٰ حمار ، فقال : « يا ابن أُمّ عبد ، هل تدري من أين أحدثت بنو اسرائيل الرهبانية ؟ قلتُ : الله ورسوله أعلم ، فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم : ظهرت عليهم الجبابرة بعد عيسىٰ ، يعملون بمعاصي الله ، فغضب أهل الايمان ، فقاتلوهم ، فهُزم أهل الايمان ثلاث مرات ، فلم يبق منهم إلّا القليل ، فقالوا : إنْ ظهرنا لهؤلاء أفنونا ولم يبقَ للدين أحدٌ يدعو إليه ، فتعالوا نتفرق في الأرض ، إلىٰ أن يبعث الله النبي الذي وعدنا به عيسىٰ ـ يعنون محمداً صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ فتفرقوا في غيران الجبال ، وأحدثوا رهبانية ، فمنهم من تمسّك بدينه ، ومنهم من كفر ، ثم تلا هذه الآية : ( وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّـهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ) (١) ، ثم قال صلىاللهعليهوآلهوسلم : يا ابن أُمّ عبد ، أتدري ما رهبانية أُمتي ؟ فقلت : الله ورسوله أعلم ، قال صلىاللهعليهوآلهوسلم : الهجرة والجهاد والصلاة والصوم والحج والعمرة .. » (٢) .
وقد انتشرت ظاهرة الاعتزال والرهبنة في المجتمع الاسلامي لأسباب ودواعي كثيرة ، من بينها تفشي الظلم والفساد ووقوع الفتن والاضطرابات .
ثانياً : اتّباع الهوىٰ :
إنَّ استعراض تاريخ حياة المتنبئين كذباً والكثير من المبتدعين يكشف بوضوح عن الدور الكبير للاهواء وحبّ الظهور والرئاسة أو السمعة في
__________________
(١) الحديد ٥٧ : ٢٧ .
(٢) مجمع البيان ، للطبرسي ٩ : ٣٠٨ .
دفع هؤلاء إلىٰ الابتداع .
إنَّ المبتدع وإنْ لم يكن متنبئاً أو مُدّعياً للنبوّة إلّا أنَّ عمله يُعدُّ نوعاً من أنواع التنبؤ ، لأنه يأتي بدين جديد ، أو بشيء لم تفرضه الشريعة جزءاً من الدين ، أو يحذف شيئاً جعلته الشريعة جزءاً من الدين ، وقد دلّت روايات كثيرة علىٰ هذا المعنىٰ .
إنَّ بعض البدع تنشأ من الهوىٰ ، فقد خطب أمير المؤمنين علي عليهالسلام الناس ، فقال : « أيُّها الناس إنّما بدء وقوع الفتن : أهواءٌ تُتبع ، وأحكام تبتدع ، يخالَف فيها كتاب الله ، يتولىٰ فيها رجالٌ رجالاً .. » (١) .
إنَّ رغبة الظهور تلعبُ دوراً كبيراً في حياة الانسان ، وإذا ما انفلتت هذه الرغبة من القيود الشرعية ، وتُركت تنمو وتتصاعد حتىٰ تسيطر علىٰ مشاعر الانسان وتتدخل في رسم سلوكه العام فإنّها في نهاية المطاف ستدفع بصاحبها إلىٰ ادعاء المقامات الرفيعة التي تختص بالانبياء .
روىٰ ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة أنَّ أمير المؤمنين عليّاً عليهالسلام مرَّ بقتلىٰ الخوارج بعد معركة النهروان فقال : « بؤساً لكم لقد ضرّكم من غرّكم ، فقيل له : من غرّهم يا أمير المؤمنين ؟ فقال عليهالسلام : الشيطان المُضلّ ، والنفس الأمارة بالسوء ، غرتهم بالأماني وفسحت لهم في المعاصي ووعدتهم الاظهار فاقتحمت بهم النار » (٢) .
قال تعالىٰ : ( ... وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّـهِ ... ) (٣) .
__________________
(١) الكافي ، للكليني ١ : ٥٤ / ١ باب البدع .
(٢) شرح نهج البلاغة ، لابن أبي الحديد ١٩ : ٢٣٥ .
(٣) القصص ٢٨ : ٥٠ .
وقال عزَّ من قائل : ( ... وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّـهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّـهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ ) (١) .
وروي عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أنّه قال : « ما تحت ظِلِّ السماء من إلهٍ يُعبد من دون الله أعظم عند الله من هوىً مُتّبع » (٢) .
وقال أمير المؤمنين عليهالسلام : « إنّما أخافُ عليكم أثنتين : اتّباع الهوىٰ ، وطول الأمل ، أما اتّباع الهوىٰ فإنّه يصدُّ عن الحق ، وأما طول الأمل فيُنسي الآخرة » (٣) .
وعن الإمام الصادق عليهالسلام أنّه قال : « احذروا أهواءكم كما تحذرون أعداءكم ، فليس شيءٌ أعدىٰ للرجال من اتّباع أهوائهم وحصائد ألسنتهم » (٤) .
وعن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أنّه قال : « يقول الله عزَّ وجل ، وعزّتي وجلالي وعظمتي وكبريائي ، ونوري ، وعلويّ ، وارتفاع مكاني ، لا يؤثر عبد هواه علىٰ هواي ، إلّا شتّتُ عليه أمره ، ولبّستُ عليه دنياه ، وشغلتُ قلبه بها ، ولم أوته منها إلّا ما قدّرت له ... » (٥) .
لقد شهد تاريخ الاسلام منذ قرون معارك وحروباً وانحرافات ومذاهب وفرقاً وبدعاً جاءت كلها بسبب اتّباع الأهواء والابتعاد عن جادة الصواب ..
__________________
(١) صۤ ٣٨ : ٢٦ .
(٢) مجمع الزوائد ، لنور الدين الهيثمي ١ : ١٨٨ باب في البدع والاهواء .
(٣) اصول الكافي ، للكليني ٢ : ٣٣٥ / ٣ باب اتباع الهوىٰ .
(٤) اصول الكافي ، للكليني ٢ : ٣٣٥ / ١ باب اتباع الهوىٰ .
(٥) اُصول الكافي ، للكليني ٢ : ٣٣٥ / ٢ باب اتّباع الهوىٰ .
ولذلك كلّه كانت التأكيدات النبوية علىٰ محاربة هوىٰ النفس ، لأنّ من تمكن من نفسه وسيطر علىٰ هواه يكون في منجاة من كل أنواع الضلالة والهلكة .
ثالثاً : التسليم لغير المعصوم :
إنّ من أسباب نشوء البدع : التسليم لمن هو دون المعصوم ، وجعله في مصاف مصادر التشريع ، لأن غير المعصوم يصيب ويخطىء ، وقد يكذب أحياناً فيكون التسليم لقوله واتّباعه سبباً للانحراف والابتداع والكذب علىٰ الله ورسوله .
إنَّ النبي الأكرم محمداً صلىاللهعليهوآلهوسلم خاتم النبيين ، وكتابه القرآن الكريم خاتم الكتب ، وشريعته خاتمة الشرائع ، فلا حكم إلّا ما حكم به ، ولا سُنّة إلّا ما سنّهُ ، والخروج عن هذا الاطار يمهد الطريق للمبتدعين .
قال الإمام الباقر عليهالسلام : « يا جابر إنّا لو كنّا نحدِّثكم برأينا وهوانا لكنّا من الهالكين ولكنّا نحدِّثكم بأحاديث نكنزها عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم كما يكنز هؤلاء ذهبهم وورقهم » (١) .
إنَّ هناك ظاهرة في حياة أئمة أهل البيت علیهمالسلام تستحق التأمل ، وهي أنّ أي واحد منهم لم يتلق العلم كما يتلقاه الناس بالتطواف علىٰ المدن والحواضر والمدارس وحلقات الحديث ، بل إنّهم يتوارثون العلم أباً عن جدٍ حتىٰ يتصلون بعلمهم برسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وفي شواهد حياتهم ما يبعث العجب للدارس المحايد ، حتىٰ لقد تمكن الامام الجواد عليهالسلام من أن يُفحم
__________________
(١) بصائر الدرجات ، لابن فروخ الصفار : ٣١٨ / ١ باب ١٤ . والاختصاص ، للمفيد : ٢٨٠ طبعة مؤسّسة الأعلمي ـ بيروت .