الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي
الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: مؤسسة الوفاء
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٧١
صلىاللهعليهوآله بخيبر ، قبل سوادها وبياضها ، يعني أرضها ونخلها ، والناس يقولون : لا يصلح قبالة الارض والنخل ، وقد قبل رسول الله (ص) خيبر ، وعلى المتقبلين سوى قبالة الارض العشر ونصف العشر في حصصهم ، وقال : إن أهل الطائف أسلموا و جعلوا عليهم العشر ونصف العشر ، وإن مكة دخلها رسول الله (ص) عنوة ، (١) فكانوا أسراء في يده فأعتقهم ، وقال : اذهبوا فأنتم الطلقاء.(٢)
٣٠ ـ كا : علي ، عن أبيه والقاساني ، عن الاصبهاني ، عن المنقري ، عن حفص ، عن أبي عبدالله ، عن أبيه عليهماالسلام قال : بعث الله محمدا (ص) بخمسة أسياف : ثلاثة منها شاهرة فلا تغمد حتى تضع الحرب أوزارها ـ وساق الحديث إلى أن قال : ـ فسيف على مشركي العرب ، قال الله عزوجل : « اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا » يعني آمنوا « وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين(٣) » فهؤلاء لا يقبل منهم إلا القتل أو الدخول في الاسلام : وأموالهم وذراريهم سبي على ما سن رسول الله صلىاللهعليهوآله ، فإنه سبى وعفا وقبل الفداء ، والسيف الثاني على أهل الذمة قال الله تعالى : « وقولوا للناس حسنا(٤) » نزلت هذه الآية في أهل الذمة ثم نسخها قوله عزوجل : « قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين اوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يدوهم صاغرون(٥) » فمن كان منهم في دار الاسلام فلن يقبل منهم إلا الجزية أو القتل ، وما لهم فئ ، و
____________________
(١) في نسخة : وان مكة فتحت عنوة.
(٢) فروع الكافى ١ : ١٤٤.
(٣) هكذا الكتاب ومصدره ، والاية هكذا : « فان تابوا واقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم » راجع التوبة : ٥ ، وأما قوله : « فإن تابوا وأقاموا الصلاة و آتوا الزكاة فاخوانكم في الدين » هو الاية ١١ ، والظاهر ان الوهم من الروات.
(٤) البقرة : ٨٣.
(٥) التوبة : ٣٠.
ذراريهم سبي ، وإذا قبلوا الجزية على أنفسهم حرم علينا سبيهم ، وحرمت أموالهم وحلت لنا مناكحهم ، (١) ومن كان منهم في دار الحرب حل لنا سبيهم وأموالهم ، و لم تحل لنا مناكحتهم ، ولم يقبل منهم إلا الدخول في دار الاسلام أو الجزية أو القتل ، والسيف الثالث : سيف على مشركي العجم ـ يعني الترك والديلم والخزر(٢) قال الله تعالى : « فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أو زارها(٣) » فأما قوله : « فإما منا بعد » يعني بعد السبي منهم « وإما فداء(٤) » يعني المفاداة بينهم وبين أهل الاسلام ، فهؤلاء لن يقبل منهم إلا القتل أو الدخول في الاسلام ، ولا يحل لنا مناكحتهم ما داموا في دار الحرب.(٥)
والخبر طويل أخذنا منه موضع الحاجة.
٣١ ـ كا : علي ، عن أبيه ، عن النوفلي ، عن السكوني ، عن أبي عبدالله عليهالسلام أن النبي صلىاللهعليهوآله بعث بسرية فلما رجعوا قال : مرحبا بقوم قضوا الجهاد الاصغر وبقي الجهاد الاكبر ، قيل : يا رسول الله وما الجهاد الاكبر؟ قال : جهاد النفس.(٦)
٣٢ ـ نوادر الراوندي : بإسناده عن موسى بن جعفر ، عن آبائه عليهمالسلام مثله.(٧)
____________________
(١) في جواز نكاح أهل الذمة خلاف بين أصحابنا وأكثرهم على المنع في الدائم والجوار في الانقطاع.
(٢) في نسخة : الخوز.
(٣) زاد في النسختين المطبوعتين هنا : فاما قوله : « فاما منا بعد واما فداء حتى تضع الحرب اوزارها » فاما قوله اه. والنسخة المخطوطة والمصدر خاليان عنه ، وهو زيادة كما ترى.
(٤) والاية في سورة محمد : ٤ وصدرها : فاذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب.
(٥) فروع الكافى ١ : ٣٢٩.
(٦) فروع الكافى ١ : ٣٣٠.
(٧) نوادر الراوندى : ٢١.
٣٣ ـ وبهذا الاسناد قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآله نصرت بالصبا ، وأهلكت عاد بالدبور.(١)
٣٤ ـ وبهذا الاسناد قال : قال علي عليهالسلام : اعتم أبودجانة الانصاري(٢) وأرخى عذبة العمامة من خلفه بين كتفيه ، ثم جعل يتبختر بين الصفين ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوآله : إن هذه لمشية يبغضها الله تعالى إلا عند القتال.(٣)
بيان : عذبة كل شئ : طرفه ، والاعتذاب أن يسبل للعمامة عذبتين من خلفها.
٣٥ ـ كا : علي ، عن أبيه ، عن بكر بن صالح ، عن القاسم بن بريد ، عن أبي عمرو الزبيري ، عن أبي عبدالله عليهالسلام قال : نزلت هذه الآية : « اذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا(٤) » في المهاجرين الذين أخرجهم أهل مكة من ديارهم و أموالهم ، أحل لهم جهادهم بظلهم إياهم ، واذن لهم في القتال الخبر.(٥)
٣٦ ـ كا : علي ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن ابن اذينة ، عن زرارة ، عن عبدالكريم بن عتبه الهاشمي ، عن أبي عبدالله عليهالسلام قال : إن رسول الله صلىاللهعليهوآله إنما صالح الاعراب على أن يدعهم في ديارهم ولا يهاجروا على إن دهمه من عدوه دهم أن يستنفرهم فيقاتل بهم ، وليس لهم في الغنيمة نصيب.(٦)
____________________
(١) نوادر الرواندى : ٩.
(٢) قال المقريزى في الامتاع : ٨٦ : وقال صلىاللهعليهوآله : « ان الملائكة قد سومت فسوموا » فاعلموا بالصوف في مغافرهم وقلانسهم ، وكان اربعة يعلمون في الزحوف ، فكان حمزة معلما بريشة نعامة ، وعلى معلما بصوفة بيضاء ، والزبير معلما بعصابة صفراء ، وابودجانة معلما بعصابة حمراء.
(٣) نوادر الراوندى : ٢٠.
(٤) الحج : ٣٩.
(٥) فروع الكافى ١ : ٣٣١. والحديث طويل راجعه.
(٦) فروع الكافى ١ : ٣٣٣ و ٣٣٤ والحديث طويل راجعه.
بيان : في القاموس : الدهماء : العدد الكثير ، ودهمك كسمع ومنع : غشيك وأي الدهم هو ، أي أي الخلق هو؟.
٣٧ ـ كا : علي ، عن أبيه ، ومحمد بن يحيى ، عن محمد بن الحسين جميعا ، عن عثمان بن عيسى ، عن سماعة ، عن أحدهما عليهالسلام قال : إن رسول الله (ص) خرج بالنساء في الحرب حتى يداوين الجرحى ، ولم يقسم لهن من الفي ، ولكنه نفلهن.(١)
٣٨ ـ كا : محمد بن يحيى ، عن ابن عيسى ، عن محمد بن يحيى ، عن طلحة بن زيد ، عن أبي عبدالله ، عن أبيه عليهماالسلام أن رسول الله (ص) أجرى الخيل التي أضمرت من الحصباء(٢) إلى مسجد بني زريق ، وسبقها من ثلاث نخلات ، فأعطى السابق عذقا ، وأعطى المصلي عذقا وأعطى الثالث عذقا.(٣)
٣٩ ـ وبهذا الاسناد عن محمد بن يحيى ، عن غياث بن إبراهيم ، عن أبي عبدالله عن أبيه ، عن علي بن الحسين عليهمالسلام أن رسول الله (ص) أجرى الخيل وجعل سبقها(٤) أواقي من فضة.(٥)
بيان : تضمير الفرس وإضماره : أن تعلفه حتى يسمن ، ثم ترده إلى القوت من الحصباء ، الظاهر أنه تصحيف الحفيا بالفاء ، قال في النهاية : في حديث السباق ذكر الحفيا بالمد والقصر : موضع بالمدينة على أميال ، وبعضهم يقدم الياء على الفاء انتهى.(٦)
____________________
(١) فروع الكافى ١ : ٣٤٠.
(٢) في المصدر : الحصى. والظاهر ان كلاهما مصحفان.
(٣) فروع الكافى ١ : ٣٤١.
(٤) السبق : ما يتراهن عليه المتسابقون.
(٥) فروع الكافى ١ : ٣٤١.
(٦) وقال ياقوت في معجم البلدان ٢ : ٢٧٦ : حفياء بالفح ثم السكون ، وياء والف ممدود موضع قرب المدينة ، اجرى منه رسول الله صلىاللهعليهوآله الخيل في السباق ، قال الحازمى :
وبنو زريق : خلق من الانصار. من ثلاث نخلات ، لعل كلمة « من » بمعنى « على » كما في قوله : « ونصرناه من القوم »(١) أو للسبية ، والمصلي : الذي يلي السابق ، والعذق بالفتح : النخلة بحملها.
٤٠ ـ كا : محمد بن يحيى ، عن عمران بن موسى ، عن الحسن بن ظريف ، (٢) عن عبداله بن المغيرة رفعه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآله في قول الله عزوجل : « وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل(٣) » قال : الرمي.(٤)
٤١ ـ نوادر الراوندي بإسناده عن موسى بن جعفر ، عن آبائه عليهمالسلام قال : غزا رسول الله صلىاللهعليهوآله غزاة فعطش الناس عطشا شديدا ، فقال النبي (ص) : هل من ينبعث(٥) بالماء؟ فضرب الناس يمينا وشمالا ، فجاء رجل على فرس أشقر بين يديه قربة من ماء ، فقال النبي صلىاللهعليهوآله : اللهم وبارك في الاشقر.(٦)
____________________
ورواه غيره بالفتح والقصر ، وقال البخارى : قال سفيان : بين الحفيا إلى الثنيه خمسة أميال أو ستة ، وقال ابن عقبة : ستة أو سبعة ، وقد ضبطه بعضهم بالضم والقصر وهو خطأ ، كذا قال عياض وقال في ٣٣٢ : حيفاء كأنه تأنيث ، وهو موضع بالمدينة. منه اجرى النبى صلىاللهعليهوآله الخيل في المسابقة.
(١) الانبياء : ٧٧ ، تمام الاية : « ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا انهم كانوا قوم سوء فأغرقناهم اجمعين ».
(٢) في المصدر : طريف مهملة ، ولعله تصحيف من الطابع ، والرجل هو الحسن بن ظريف ابن ناصح الكوفى أبومحمد ، ثقة صاحب نوادر.
(٣) الانفال : ٦٠ ، وذكرنا أن تفسير القوة بالرمى من ذكر المصاديق
(٤) فروع الكافى ١ : ٣٤١.
(٥) في المصدر وفى كتاب الجعفريات هل من مغيث بالماء.
(٦) نوادر الراوندى : ٣٤. وفيه : اللهم بارك في الاشقر ، ثم جاء رجل آخر على فرس بين يديه قربة من ماء فقال رسول الله صلىاللهعليهوآله : اللهم بارك في الاشقر ، ثم قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : شقرها خيارها ، وكميتها صلابها ، ودهمها ملوكها ، فلعن الله من جزى عرافها واذنابها مذابها!. انتهى والظاهر أن ( جزى ) مصحف ( جز ) والحديث يوجد ، كتاب الجعفرايت : ٨٦ ، واحاديث نوادر الراوندى معظمها مستخرجة من الجعفريات.
٤٢ ـ وبهذا الاسناد قال : كان رجل من نجران مع رسول الله صلىاللهعليهوآله في غزاة ومعه فرس ، (١) وكان رسول الله صلىاللهعليهوآله يستأنس إلى صهيله ، فقده ، فبعث إليه ، فقال : ما فعل فرسك؟ فقال : اشتد علي شبعه(٢) فخصيته ، فقال النبي صلىاللهعليهوآله : مثلت به(٣) الخيل معقود في نواصيها الخير إلى أن يقوم القيامة(٤) الخبر.(٥)
٤٣ ـ عم : قال أهل السير والمفسرون : إن جميع ما غزا رسول الله صلىاللهعليهوآله بنفسه ست وعشرون غزوة ، وإن جميع سراياه التي بعثها ولم يخرج معها ست وثلاثون سرية ، وقاتل صلىاللهعليهوآله من غزواته في تسع غزوات وهي بدر واحد والخندق وبنو قريظة والمصطلق وخيبر والفتح وحنين والطائف ، فأول سرية بعثها أنه بعث حمزة بن عبدالمطلب(٦) في ثلاثين راكبا ، فساروا حتى بلغوا سيف البحر من أرض جهينة(٧) فلقوا أبا جهل بن هشام في ثلاثين ومائة راكب من المشركين(٨) فحجز بينهم مجدي(٩) ابن عمرو الجهني ، فرجع الفريقان ، ولم يكن بينهما قتال.
____________________
(١) في الجعفريات ، ٨٧ : ان رجلا من خرش كان مع رسول الله صلىاللهعليهوآله ، ومع الخرشى فرس.
(٢) هكذا في النسخ ، وفي المصدر : شغبه ، والشغب : تحريك الشر ، ولعله كناية عن شدة الشهوة ، وفى الجعفريات : شغنه وهو مصحف ، والظاهر ان الكل مصحف والصحيح ( شبقه ).
(٣) في المصدر : مثلت به مثلت به. وفى الجعفريات : مه مه مثلت به.
(٤) في المصدر والجعفريات : إلى يوم القيامة.
(٥) نوادر الراوندى : ٣٤ ، الجعفريات : ٨٦ و ٨٧.
(٦) في الامتاع : وكان ذلك على رأس سبعة أشهر من مقدمه المدينة. وفى سيرة ابن هشام ان راية عبيدة بن الحارث كان اول راية عقدها رسول الله صلىاللهعليهوآله في الاسلام ثم قال : بعض الناس يقول : كانت راية حمزة اول راية عقد رسول الله صلىاللهعليهوآله لاحد من المسلمين و ذلك أن بعثه وبعث عبيدة كانا معا ، فشبه ذلك على الناس.
(٧) في سيرة ابن هشام والامتاع : إلى سيف البحر من ناحية العيص ، والعيص : من ناحية ذى المروة على ساحل البحر بطريق قريش التى كانوا يأخذون منها إلى الشام. قاله ياقوت.
(٨) في السيرة والامتاع : في ثلاثمائة راكب من أهل مكة.
(٩) في نسخة : عدى بن عمرو. وهو مصحف راجع السيرة ٢ : ٢٣٠ والامتاع : ٥١.
ثم غزا رسول الله صلىاللهعليهوآله أول غزوة غزاها في صفر على رأس اثني عشر شهرا(١) من مقدمه المدينة حتى بلغ الابواء يريد قريشا وبني ضمرة ، ثم رجع ولم يلق كيدا ، فأقام بالمدينة بقية صفر وصدرا من شهر ربيع الاول.
وبعث في مقامه ذلك عبيدة بن الحارث في ستين راكبا من المهاجرين ليس فيهم أحد من الانصار ، وكان أول لواء عقده رسول الله (ص) ، فالتقى هو والمشركون على ماء يقال له : أحيا ، (٢) وكانت بينهم الرماية ، وعلى المشركين أبوسفيان بن حرب.(٣)
ثم غزا رسول الله صلىاللهعليهوآله في شهر ربيع الآخر(٤) يريد قريشا حتى بلغ(٥) بواط ولم يلق كيدا.(٦)
ثم غزا غزوة العشيرة(٧) يريد قريشا حتى نزل العشيرة من بطن ينبع وأقام بها بقية جمادى الاولى وليالي من جمادى الآخرة ووادع فيها بني مدلج وحلفاءهم من بني ضمرة ، (٨) فروي عن عمار بن ياسر قال : كنت أنا وعلي بن أبي طالب رفيقين
____________________
(١) اشرنا قبل ذلك إلى خلاف في ذلك وفى غيره.
(٢) في الامتاع : أحياء [ بالمد ] من بطن رابغ ، وفى السيرة : حتى بلغ ماء بالحجاز باسفل ثنية المرة
(٣) قال في الامتاع : وأبوسفيان في مائتين.
(٤) في سيرة ابن هشام والامتاع : في ربيع الاول ، وزاد في الاخير : على رأس ثلاثة عشر شهرا من مهاجره.
(٥) بواط بضم الباء وفتح الواو مخففة ، وعن بعض انه بالفتح وقد يضم ، وفى الامتاع والسيرة انه من ناحية رضوى ، وعن الزرقانى انه جبل من جبال جهينة بقرب ينبع على أربعة برد من المدينة ، وعن السهيلى ان بواط جبلان فرعان لاصل واحد ، أحدهما جلسى ، والاخر غورى ، و رضوى بفتح فسكون : جبل بالمدينة على أربعة برد من المدينة.
(٦) في سيرة ابن هشام : فلبث بها بقية شهر ربيع الاخر وبعض جمادى الاولى.
(٧) بالتصغير.
(٨) لعل المراد جماعة من بنى ضمرة التى كانوا حلفاء لبنى مدلج ولم تكن وادعوه في غزوة الابواء.
في غزوة العشيرة ، فقال لي علي : هل لك يا أباليقظان في هذا النفر من بني مدلج يعملون في عين لهم(١) ننظر كيف يعملون : فأتيناهم فنظرنا إليهم ساعة ، ثم غشينا النوم ، فعمدنا إلى صور(٢) من النخل في دقعاء من الارض فنمنا فيه ، فوالله ما هبنا(٣) إلا رسول الله بقدمه فجلسنا وقد تتربنا من تلك الدقعاء ، فيومئذ قال رسول الله (ص) لعلي عليهالسلام : يا أبا تراب ، لما عليه من التراب ، (٤) ، فقال : ألا أخبركم بأشقى الناس؟ قلنا : بلى يا رسول الله ، قال : أحمر ثمود الذي عقر الناقة ، والذي يضربك يا علي على هذه ـ ووضع رسول الله (ص) يده على رأسه ـ حتى يبل منها هذه ـ و وضع يده على لحيته.
ثم رجع رسول الله صلىاللهعليهوآله من العشيرة إلى المدينة ، فلم يقم بها عشر ليال حتى أغار كرز بن جابر الفهري على سرح المدينة ، فخرج رسول الله صلىاللهعليهوآله في طلبه حتى بلغ واديا يقال له : سفوان من ناحية بدر ، وهي غزوة بدر الاولى ، وحامل لوائه علي بن أبي طالب عليهالسلام ، واستخلف على المدينة زيد بن حارثة ، وفاته كرز فلم يدركه فرجع رسول الله صلىاللهعليهوآله فأقام جمادى ورجب وشعبان ، وكان بعث(٥) بين ذلك سعد ابن أبي وقاص في ثمانية رهط فرجع ولم يلق كيدا.
ثم بعث رسول الله صلىاللهعليهوآله عبدالله بن جحش(٦) إلى نخلة ، وقال : كن بها حتى
____________________
(١) ذكر الحديث مسندا ابن هشام في السيرة ، وفيه اختلافات لفظية مع ما ذكره المصنف ، وزاد فيه : وفى نخل.
(٢) الصور : النخل الصغار.
(٣) في المصدر : ما اهبنا وهو الصحيح ، أى ما ايقظنا.
(٤) في السيرة : مالك يا أبا تراب ، لما يرى عليه من التراب ، ثم قال : الا احدثكما بأشقى الناس رجلين؟ وفيه : احيمر.
(٥) ذكره ابن هشام بعد العشيرة. وذكر عن بعض لغة كان بعد بعث حمزة وذكر انه خرج حتى بلغ الخرار من ارض الحجاز ، وفى الامتاع : الخرار من الجحفة قريبا من خم.
(٦) في السيرة ، في رجب مقفله من بدر الاولى ، وفى الامتاع : في رجب على رأس سبعة عشر شهرا. أي من مهاجره. وفى الاول : وبعث معه ثمانية رهط من المهاجرين ليس فيهم من الانصار احد.
تأتينا بخبر من أخبار قريش ولم يأمره بقتال ، وذلك في الشهر الحرام ، وكتب له كتابا وقال : اخرج أنت وأصحابك حتى إذا سرت يومين فافتح كتابك وانظر فيه(١) وامض لما أمرتك ، فلما سار يومين وفتح الكتاب فإذا فيه « أن امض حتى تنزل نخلة فتأتينا من أخبار قريش بما يصل إليك منهم(٢) » فقال لاصحابه حين قرأ الكتاب : سمعا وطاعة ، من كان له رغبة في الشهادة فلينطلق معي ، فمضى معه القوم حتى إذا نزلوا نخلة مر بهم عمرو بن الحضرمي ، والحكم بن كيسان وعثمان و المغيرة(٣) ابنا عبدالله معهم تجارة قدموا بها من الطائف أدم وزبيب ، فلما رآهم القوم أشرف لهم واقد بن عبدالله ، (٤) وكان قد حلق رأسه ، فقالوا : عمار(٥) ليس عليكم منهم بأس ، وائتمر أصحاب رسول الله وهي آخر يوم من رجب فقالوا : لئن قتلتموهم إنكم لتقتلونهم في الشهر الحرام ، ولئن تركتموهم ليدخلن هذه الليلة مكة ، فليمنعن منكم ، فأجمع القوم على قتلهم ، فرمى واقد بن عبدالله التميمي عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله ، واستأمن(٦) عثمان بن عبدالله والحكم بن كيسان وهرب المغيرة بن عبدالله(٧) فأعجزهم واستاقوا العير فقدموا بها على رسول الله صلىاللهعليهوآله
____________________
(١) في المصدر : وانظر ما فيه.
(٢) ذكر ابن هشام في السيرة والكتاب هكذا : « اذا نظرت في كتابى هذا فامض حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف فترصد بها قريشا وتعلم لنا من اخبارهم » وذكره المقريزى في الامتاع هكذا : « سر حتى تأتى بطن نخلة على اسم الله وبركاته ، ولا تكرهن احدا من أصحابك على المسير معك ، وامض لامرى فيمن تبعك حتى تأتى بطن نخلة على اسم الله وبركاته ، فترصد بها عير قريش ». أقول : بطن نخلة هو بستان ابن عامر الذى بقرب مكة.
(٣) في السيرة والامتاع : عثمان ونوفل ابنا عبدالله بن المغيرة المخزوميان.
(٤) في السيرة والامتاع : فأشرف لهم عكاشة بن محصن.
(٥) أى قوم عمار أى معتمرون يريدون زيارة البيت الحرام.
(٦) لعل الصحيح : واستأسروا. وفى السيرة : واستأسر. وفى الامتاع : فأسروا.
(٧) الصحيح : نوفل بن عبدالله بن المغيرة. كما قدمناه.
فقال لهم : والله ما أمرتكم بالقتال في الشهر الحرام ، وأوقف الاسيرين والعير ، ولم يأخذ منها شيئا ، وسقط في أيدي القو وظنوا أنهم قد هلكوا ، وقالت قريش : استحل محمد الشهر الحرام ، فأنزل الله سبحانه « يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه(١) » الآية ، فلما نزل ذلك أخذ رسول الله صلىاللهعليهوآله العير(٢) وفداء الاسيرين ، و قال المسلمون : نطمع لنا أن يكون غزاة ، فأنزل الله فيهم : « إن الذين آمنوا و الذين هاجروا » إلى قوله : « اولئك يرجون رحمة الله(٣) » الآية ، وكانت هذه قبل بدر بشهرين(٤).
بيان : السيف بالكسر : ساحل البحر ، والابواء بفتح الهمزة وسكون الباء والمد : جبل بين مكة والمدينة ، وعنده بلد ينسب إليه ، وقال الفيروز آبادي : بواط كغراب : جبال جهينة على أبراد من المدينة ، منه غزوة بواط ، اعترض فيها صلىاللهعليهوآله لعير قريش ، وقال : ذو العشيرة : (٥) موضع بناحية ينبع غزوتها مشهورة ، والصور بالفتح : الجماعة من النخل ولا واحد له من لفظه ، والدقعاء : التراب ، والارض لا نبات بها. ويقال : هب من نومه يهب أي استيقظ ، وأهببته أنا ، ويقال سقط في يديه على بناء المجهول أى ندم ، نطمع لنا أن يكون غزاة قالوا ذلك على سبيل اليأس(٦) ، أي لا نطمع ثواب الغزوة فيما فعلنا بل نرضى أن لا يكون
____________________
(١) تقدم ذكر موضع الاية في صدر الباب.
(٢) في المصدر : المال.
(٣) البقرة : ٢١٨.
(٤) اعلام الورى : ٤٧ و ٤٨ ط ١ و ٨٣ و ٨٤ ط ٢.
(٥) ذكر قبلا انه بالتصغير.
(٦) أو على سبيل الرجاء ، قال ابن هشام : فلما تجلى عن عبدالله بن جحش وأصحابه ما كانوا فيه ـ حين نزل القرآن ـ طمعوا في الاجر ، فقالوا يا رسول الله أنطمع أن تكون لنا غزوة نعطى فيها أجر المجاهدين؟ فأنزل الله عزوجل فيهم الاية ، فوضعهم الله عزوجل من ذلك على اعظم الرجاء انتهى قال ابن هشام : قال ابن اسحاق : وقد ذكر بعض آل عبدالله بن جحش ان الله عزوجل قسم الفئ حين احله فجعل اربعة اخماسه لمن افاءه ، وخمسه إلى الله ورسوله فوقع على ما كان
لنا وزر ، فرجاهم سبحانه رحمته بقوله : « اولئك يرجون رحمة الله » كما قال البيضاوي نزلت أيضا في السرية لما ظن بهم أنهم إن سلموا من الاثم فليس لهم أجر.
٤٤ ـ نهج : في حديثه : كنا إذا احمر البأس اتقينا برسول الله صلىاللهعليهوآله ، فلم يكن أحد منا أقرب إلى العدو منه.
قال السيد رضياللهعنه : ومعنى ذلك أنه كان إذا عظم الخوف من العدو و اشتد عضاض الحرب فزع المسلمون إلى قتال رسول الله صلىاللهعليهوآله بنفسه ، فينزل الله تعالى النصر عليهم به ، ويأمنون ما كانوا يخافونه بمكانه وقوله عليهالسلام : إذا احمر البأس ، كناية عن اشتداد الامر ، وقد قيل في ذلك أقوال : أحسنها أنه شبه حمى الحرب بالنار التي تجمع الحرارة والحمرة بفعلها ولونها ، ومما يقوي ذلك قول النبي صلىاللهعليهوآله وقد رأى مجتلد الناس(١) يوم حنين وهي حرب هوازن « الآن حمي الوطيس » والوطيس : مستوقد النار ، فشبه ما استحر من جلاد القوم باحتدام(٢) النار وشدة التهابها.(٣)
٤٥ ـ فس : « يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله » فإنه كان سبب نزولها أنه لما هاجر رسول الله صلىاللهعليهوآله إلى المدينة بعث السرايا إلى الطرقات التي تدخل مكة تتعرض لعير قريش ، حتى بعث عبدالله بن جحش في نفر من أصحابه إلى نخلة وهي بستان بني عامر ليأخذوا عير قريش أقبلت من الطائف عليها الزبيب والادم والطعام فوافوها ، وقد نزلت العير وفيهم عمرو بن الحضرمي(٤) ، وكان
____________________
عبدالله بن جحش صنع في تلك العير [كان قسمه قبل ذلك كذلك] وقال ابن هشام : هى أول غنيمة غنمها المسلمون ، وعمرو بن الحضرمى اول من قتله المسلمون ، وعثمان بن عبدالله والحكم بن كيسان اول من أسر المسلمون.
(١) أى تضاربهم.
(٢) الاحتدام : شدة اتقاد النار.
(٣) نهج البلاغة ج ٢ : ٢٦.
(٤) في المصدر : عمرو بن عبدالله الحضرمى.
حليفا لعتبة بن ربيعة ، فلما نظر ابن الحضرمي إلى عبدالله بن جحش وأصحابه فزعوا وتهيؤوا للحرب ، وقالوا : هؤلاء أصحاب محمد ، فأمر عبدالله بن جحش أصحابه أن ينزلوا ويحلقوا رؤوسهم ، فنزلوا وحلقوا رؤوسهم ، فقال ابن الحضرمي : هؤلاء قوم عمار ليس علينا منهم بأس ، فاطمأنوا ، ووضعوا السلاح ، فحمل عليهم عبدالله ابن جحش فقتل ابن الحضرمي وأفلت أصحابه ، وأخذوا العير بما فيها وساقوها إلى المدينة ، وكان ذلك في أول يوم(١) من رجب من الاشهر الحرم ، فعزلوا العير وما كان عليها ، فلم ينالوا منها شيئا ، فكتبت قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنك استحللت الشهر الحرام ، وسفكت فيها الدم ، وأخذت المال ، وكثر القول في هذا(٢) ، وجاء أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوآله فقالوا : يا رسول الله أيحل القتل في الشهر الحرام؟ فأنزل الله « يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله ، وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله و الفتنة أكبر من القتل » قال : القتال في الشهر الحرام عظيم ، ولكن الذي فعلت بك قريش يامحمد من الصد عن المسجد الحرام والكفر بالله وإخراجك منه هو أكبر عند الله « والفتنة » يعني الكفر بالله « أكبر من القتل » ثم أنزل عليه : « الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم(٣) ».
أقول : قال في المنتقى في حوادث السنة الثانية من الهجرة : في هذه السنة تزوج علي بن أبي طالب عليهالسلام فاطمة عليهاالسلام بنت رسول الله (ص) في صفر لليال(٤) بقين منه وبنى بها في ذي الحجة ، وقد روي أنه تزوجها في رجب بعد مقدم رسول الله
____________________
(١) وهم من القمى او من الروات او من النساخ ، والصحيح : في آخر يوم من رجب.
(٢) في المصدر : وأكثروا القول في هذه.
(٣) تفسير القمى : ٦١ و ٦٢. والاية في البقرة : ١٨٤.
(٤) قال المقريزى أيضا في الامتاع : ٥٤ انه تزوج في صفر على رأس أحد عشر شهرا من مهاجره صلىاللهعليهوآله. وسيأتى الكلام في ذلك في محله.
صلىاللهعليهوآله المدينة بخمسة أشهر ، وبنا بها مرجعه من بدر ، والاول أصح ، و روي عن بعض أهل التاريخ أن تزويجها كان في شهر ربيع الاول من سنة اثنتين من الهجرة ، وبنى بها فيها ، وولدت الحسن عليهالسلام في هذه السنة ، وقيل : بل ولد الحسن عليهالسلام منتصف شهر رمضان من سنة ثلاث ، والحسين عليهالسلام في سنة أربع ، وقيل : كان بين ولادة الحسن عليهالسلام والعلوق بالحسين عليهالسلام خمسون ليلة ، وولد الحسين عليهالسلام لليال خلون من شعبان سنة أربع من الهجرة.
وفي هذه السنة كانت سرية عبدالله بن جحش(١) ، وفي هذه السنة حولت القبلة إلى الكعبة ، كان النبي صلىاللهعليهوآله يصلي بمكة ركعتين بالغداة وركعتين بالعشي ، فلما عرج به إلى السماء أمر بالصلوات الخمس فصارت الركعتان في غير المغرب للمسافر وللمقيم أربع ركعات(٢) ، فلما هاجر النبي صلىاللهعليهوآله إلى المدينة أمر أن يصلي نحو بيت المقدس لئلا يكذبه اليهود ، لان نعته صلىاللهعليهوآله في التوراة أنه صاحب قبلتين ، وكانت الكعبة أحب القبلتين إلى النبي صلىاللهعليهوآله ، فأمره الله تعالى أن يصلي إلى الكعبة ، قال محمد بن حبيب الهاشمي : حولت في الظهر يوم الثلثاء للنصف من شعبان زار رسول الله صلىاللهعليهوآله أم بشر بن البراء بن معرور في بني سلمة فتغدى هو وأصحابه وجاءت الظهر فصلى بأصحابه في مسجد القبلتين ركعتين من الظهر إلى الشام ، ثم امر أن يستقبل الكعبة وهو راكع في الركعة الثانية ، فاستدار إلى الكعبة فدارت الصوف خلفه ، ثم أتم الصلاة فسمي مسجد القبلتين.
وقال الواقدي : كان هذا يوم الاثنين للنصف من رجب على رأس سبعة عشر شهرا ، وعن البراء على رأس ستة عشر شهرا ، أو سبعة عشر شهرا ، وعن السدي على رأس ثمانية عشر شهرا من مهاجره صلىاللهعليهوآله(٣).
____________________
(١) في المصدر : وذلك كان في رجب على رأس سبعة عشر من الهجرة. بعثه في اثنى عشر رجلا من المهاجرين كل اثنين يعتقبان بعيرا إلى بطن نخلة إه.
(٢) في نسخة : وللمقيم أربع ركعات في الثلاث.
(٣) كان الاولى ان يذكر تحول القبلة في الباب الاتى.
وفى هذه السنة كان بناء مسجد قباء ، روي عن أبي سعيد الخدري قال : لما صرفت القبلة إلى الكعبة أتى رسول الله صلىاللهعليهوآله مسجد قباء فقدم جدار المسجد إلى موضعه اليوم وأسسه بيده ، ونقل رسول الله صلىاللهعليهوآله وأصحابه الحجارة لبنائه ، و كان يأتيه كل سبت ماشيا ، وقال أبوأيوب الانصاري : هو المسجد الذي أسس على التقوى.
وفي هذه السنة نزلت فريضة رمضان في شعبان هذه السنة ، وأمر بزكاة الفطر على ما روي عن أبي سعيد الخدري قال : نزل فرض شهر رمضان بعد ما صرفت القبلة إلى الكعبة بشهر في شعبان على رأس ثمانية عشر شهرا من مهاجر رسول ـ الله صلىاللهعليهوآله ، فأمر رسول الله (ص) ، في هذه السنة بزكاة الفطر قبل أن يفرض الزكاة في الاموال.
وفي هذه السنة خرج رسول الله صلىاللهعليهوآله يوم العيد فصلى بالناس صلاة العيد ، وحملت بين يديه العنزة إلى المصلى ، فصلى إليها.
وفي هذه السنة كانت غزوة بدر(١).
____________________
(١) المنتقى في مولود المصطفى : الباب الثانى فيما كان في سنة اثنتين من الهجرة. وما ذكره المصنف مختار منه.
٩
باب
*(تحول القبلة)*
الآيات : البقرة « ٢ » : سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم * وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليم شهيدا وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقيبة و إن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرؤوف رحيم * قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره وإن الذين اوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم وما الله بغافل عما يعملون ١٤٢ ـ ١٤٤.
تفسير : قال الطبرسي رحمهالله : « سيقول السفهاء من الناس » أي سوف يقول الجهال وهم الكفار الذين هم بعض الناس « ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها » أي أي شئ حولهم وصرفهم ـ يعني المسلمين ـ عن بيت المقدس الذي كانوا يتوجهون إليه في صلاتهم؟ واختلف في الذين قالوا ذلك فقال ابن عباس وغيره : هم اليهود وقال الحسن : هم مشركو العرب ، فإن رسول الله صلىاللهعليهوآله لما تحول إلى الكعبة من بيت المقدس قالوا : يامحمد رغبت عن قبلة آبائك ، ثم رجعت إليها فلترجعن إلى دينهم ، وقال السدي : هم المنافقون ، قالوا ذلك استهزاء بالاسلام ، واختلف في سبب مقالتهم ذلك فقيل : إنهم قالوا ذلك على وجه الانكار للنسخ ، عن ابن عباس ، وقيل : إنهم قالوا : يا محمد ما ولاك عن قبلتك التي كنت عليها؟ ارجع إلى قبلتنا نتبعك ونؤمن بك ، أرادوا بذلك فتنته عن ابن عباس أيضا ، وقيل : إنما
قال ذلك مشركو العرب ليوهموا أن الحق ما هم عليه(١) « قل لله المشرق والمغرب » يتصرف فيها على ما تقتضيه حكمته عن ابن عباس(٢) كانت الصلاة إلى بيت المقدس بعد مقدم النبي صلىاللهعليهوآله المدينة سبعة عشر شهرا ، وعن البراء بن عازب قال : صليت مع رسول الله صلىاللهعليهوآله نحو بيت المقدس ستة عشر شهرا ، أو شبعة عشر شهرا ، ثم صرفنا نحو الكعبة ، أورده مسلم في الصحيح(٣) ، وعن أنس إنما كان ذلك تسعة أشهر أو عشرة أشهر ، وعن معاذ ثلاثة عشر شهرا ، ورواه علي بن إبراهيم(٤) بإسناده عن الصادق عليهالسلام قال : تحولت القبلة إل الكعبة بعد ما صلى النبي صلىاللهعليهوآله ثلاث عشر سنة(٥) إلى بيت المقدس ، وبعد مهاجره إلى المدينة صلى إلى بيت المقدس سبعة أشهر ، قال : ثم وجهه الله تعالى إلى الكعبة ، وذلك أن اليهود كانوا يعيرون رسول الله (ص) ويقولون : أنت تابع لنا تصلي إلى قبلتنا ، فاغتم رسول الله صلىاللهعليهوآله من ذلك غما شديدا ، وخرج في جوف الليل ينظر إلى آفاق السماء ينتظر من الله في ذلك أمرا ، فلما أصبح وحضر وقت صلاة الظهر كان في مسجد بني سالم قد صلى من الظهر ركعتين ، فنزل عليه جبرئيل فأخذ بعضديه وحوله إلى الكعبة وأنزل عليه : « قد نرى تقلب وجهك في السماء » الآية ، فكان صلى(٦) ركعتين إلى بيت المقدس وركعتين إلى الكعبة فقالت اليهود والسفهاء : « ما ولاهم عن قبلتهم التي
____________________
(١) في المصدر : وأما الوجه في الصرف عن القبلة الاولى ففيه قولان : أحدهما انه لما علم الله تعالى ذلك من تغير المصلحة ، والاخر انه لما بينه سبحانه بقوله : « لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه » لانهم كانوا بمكة امروا ان يتوجهوا إلى بيت المقدس ليتميزوا من المشركين الذين كانوا يتوجهون إلى الكعبة ، فلما انتقل رسول الله صلىاللهعليهوآله إلى المدينة كانت اليهود يتوجهون إلى بيت المقدس فامروا بالتوجه إلى الكعبة ليتميزوا من اولئك.
(٢) في المصدر : وعن ابن عباس.
(٣) راجع صحيح مسلم ٢ : ٦٦.
(٤) في المصدر : وروى على بن ابراهيم.
(٥) في المصدر : ثلاث عشر سنة. وفيه ، وبعد مهاجرته.
(٦) في المصدر : وكان صلى.
كانوا عليها »؟ قال الزجاج : إنما أمر بالصلاة إلى بيت المقدس لان مكة وبيت الله الحرام كانت العرب آلفة بحجها(١) ، فأحب الله(٢) أن يمتحن القوم بغير ما ألفوه ليظهر من يتبع الرسول ممن لا يتبعه(٣) « وما جعلنا القبلة التي كنت عليها » قيل : معنى « كنت عليها » صرت عليها وأنت عليها يعني الكعبة ، وقيل وهو الاصح : يعني بيت المقدس ، أي ما صرفناك عن القبلة التي كنت عليها ، أو ما جعلنا القبلة التي كنت عليها فصر فناك عنها « إلا لنعلم » أي ليعلم حزبنا من النبي والمؤمنين أو ليحصل المعلوم موجودا ، أو لنعاملكم معاملة المختبر ، أو لا علم مع غيري « من يتبع الرسول » أي يؤمن به ويتبعه في أقواله وأفعاله « ممن ينقلب على عقيبه » أي الذين ارتدوا لما حولت القبلة ، أو المراد كل مقيم على كفره « وإن كانت » أي القبلة أو التحويلة ومفارقة القبلة الاولى ، وقيل : أي الصلاة « لكبيرة » أي لثقيلة ، يعني التحويلة إلى بيت المقدس ، لان العرب لم تكن قبلة أحب إليهم من الكعبة ، أو إلى الكعبة.
« وما كان الله ليضيع إيمانكم » قيل : فيه أقوال :
أحدها : أنه لما حولت القبلة قال ناس : كيف بأعمالنا التي كنا نعمل في قبلتنا الاولى؟ فنزلت ، وقيل : إنهم قالوا : كيف بمن مات من إخواننا قبل ذلك؟ وكان قد مات أسعد بن زرارة والبراء بن معرور وكانا من النقباء ، فقال : « وما كان الله ليضيع إيمانكم » أى صلاتكم إلى بيت المقدس ويمكن حمل الايمان على أصله(٤).
وثانيها : أنه لما ذكر ما عليهم من المشقة في التحويلة أتبعه بذكر ما لهم عنده بذلك من المثوبة ، وأنه لا يضيع ما عملوه من الكلفة.
____________________
(١) في المصدر : لان مكة بيت الله الحرام كانت العرب آلفة لحجها.
(٢) في نسخة : فأوجب الله.
(٣) مجمع البيان ١ : ٢٢٢ و ٢٢٣.
(٤) في المصدر : على اصله في التصديق اى لا يضيع تصديقكم بأمر تلك القبلة.
وثالثها : أنه لما ذكر إنعامه عليهم بالتولية إلى الكعبة ذكر السبب الذي استحقوا به ذلك الانعام وهو إيمانهم بما حملوه أولا فقال : « وما كان الله ليضيع إيمانكم » الذي استحققتم به تبليغ محبتكم في التوجه إلى الكعبة(١).
« قد نرى تقلب وجهك » قال المفسرون : كانت الكعبة أحب القبلتين إلى رسول الله صلىاللهعليهوآله ، فقال لجبرئيل : وددت أن الله صرفني عن قبلة اليهود إلى غيرها فقال له جبرئيل : إنما أنا عبد مثلك وأنت كريم على ربك فادع ربك وسله ، ثم ارتفع جبرئيل وجعل رسول الله صلىاللهعليهوآله يديم النظر إلى السماء رجاء أن يأتيه جبرئيل بالذي سأل ربه ، فأنزل الله هذه الآية ، أي قد نرى تقلب وجهك يا محمد في السماء لانتظار الوحي في أمر القبلة ، وفي سببه وجهان(٢) : أحدهما أنه كان وعد بتحويل القبلة عن بيت المقدس ، فكان يفعل ذلك انتظارا وتوقعا للموعود ، والثاني أنه كان يكره قبلة بيت المقدس ، ويهوى قبلة الكعبة ، وكان لا يسأل الله ذلك ، لانه لا يجوز للانبياء أن يسألوا الله شيئا من غير أن يؤذن لهم فيه ، لانه يجوز أن لا تكون فيه مصلحة ، فلا يجابون إلى ذلك ، فيكون ذلك فتنة لقومهم ، واختلف في سبب إرادته صلىاللهعليهوآله تحويل القبلة إلى الكعبة فقيل : لان الكعبة كانت قبلة أبيه إبراهيم وقبلة آبائه ، وقيل : لان اليهود قالوا : تخالفنا يا محمد في ديننا وتتبع قبلتنا(٣) ، وقيل : إن اليهود قالوا ما درى محمد وأصحابه أين قبلتهم حتى هديناهم ، وقيل : كانت العرب يحبون الكعبة ويعظمونها غاية التعظيم ، فكان في التوجه إليها استمالة لقلوبهم ليكونوا أحرص على الصلاة إليها ، وكان صلىاللهعليهوآله حريصا على استدعائهم إلى الدين « فلنولينك قبلة ترضاها » أي تحبها محبة الطباع ، لا أنه كان يسخط القبلة الاولى « وإن الذين اوتوا الكتاب » أي علماء اليهود و النصارى « ليعلمون أنه الحق من ربهم » أي تحويل القبلة حق مأمور به ، وإنما
____________________
(١) مجمع البيان ١ : ٢٥٥.
(٢) في المصدر : وقيل : في سبب تقليب النبى صلىاللهعليهوآله وجهه في السماء قولان.
(٣) في المصدر : لان اليهود قالوا : يخالفنا محمد في ديننا ويتبع قبلتنا.
علموا ذلك لانه كان في بشارة الانبياء لهم أنه يكون نبي من صفاته كذا وكذا وكان في صفاته أن يصلي إلى القبلتين(١) ، وروي أنهم قالوا عند التحويل : ما أمرت بهذا يا محمد ، وإنما هو شئ تبتدعه من تلقاء نفسك مرة إلى هنا(٢) ، ومرة إلى هنا ، فأنزل الله هذه الآية ، وبين أنهم يعلمون خلاف ما يقولون « وما الله بغافل عما يعملون» أي ليس الله بغافل عما يعمل هؤلاء من كتمان صفة محمد صلىاللهعليهوآله والمعاندة(٣) انتهى(٤).
أقول : سيأتي مزيد توضيح وتفسير للآيات في كتاب الصلاة إن شاء الله تعالى.
١ ـ شى : عن أبي عمرو الزبيري ، عن أبي عبدالله عليهالسلام قال : لما صرف الله نبيه إلى الكعبة عن بيت المقدس قال المسلمون للنبي صلىاللهعليهوآله : أرأيت صلاتنا التي كنا نصلي إلى بيت المقدس ما حالنا فيها وحال من مضى من أمواتنا وهم يصلون إلى بيت المقدس؟ فأنزل الله « وما كان الله ليضيع إيمانكم » فسمى الصلاة إيمانا الخبر(٥).
٢ ـ يب : الطاطري ، عن محمد بن أبي حمزة ، عن معاوية بن عمار ، عن أبي عبدالله عليهالسلام قال : قلت له : متى صرف رسول الله صلىاللهعليهوآله إلى الكعبة؟ فقال : بعد رجوعه من بدر(٦).
٣ ـ يب : الطاطرى ، عن محمد بن أبي حمزة ، عن ابن مسكان ، عن أبي بصير ، عن أبي عبدالله عليهالسلام قال : سألته عن قوله تعالى : « وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقيبه » أمره به؟ قال : نعم إن
____________________
(١) في نسخة : انه يصلى إلى القبلتين.
(٢) في نسخة : مرة إلى هذا.
(٣) في نسخة : والمعاندة له.
(٤) مجمع البيان ١ : ٢٢٧ ، أقول : ما ذكره المصنف مختصر مما في المصدر ومختار منه
(٥) تفسير العياشى ج ١ : ٦٣.
(٦) التهذيب ١ : ١٤٥.
رسول الله صلىاللهعليهوآله كان يقلب وجهه في السماء ، فعلم الله عزوجل ما في نفسه ، فقال : « قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها »(١).
بيان : قوله : أمره(٢) ، لعل غرض السائل أن القبلة الاولى أيضا كانت مأمورا بها؟ قال : نعم(٣) ، وشرع في بيان أمر آخر.
٤ ـ يب : الطاطري ، عن وهيب ، عن أبي بصير ، عن أحدهما عليهماالسلام في قوله تعالى : « سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم » فقلت له : الله أمره أن يصلي إلى بيت المقدس؟ قال : نعم ، ألا ترى أن الله يقول : « وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرؤوف رحيم » قال : إن بني عبد الاشهل أتوهم وهم في الصلاة قد صلوا(٤) ركعتين إلى بيت المقدس ، فقيل لهم : إن نبيكم قد صرف إلى الكعبة فتحول النساء مكان الرجال ، والرجال مكان النساء ، وجعلوا الركعتين الباقيتين إلى الكعبة ، فصلوا صلاة واحدة إلى قبلتين ، فلذلك سمي مسجدهم مسجد القبلتين(٥).
٥ ـ كا : علي عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن حماد. عن الحلبي ، عن أبي عبدالله عليهالسلام قال : سألته هل كان رسول الله (ص) يصلي إلى بيت المقدس؟ قال : نعم ، فقلت : فكان يجعل الكعبة خلف ظهره؟ فقال : أما إذا كان بمكة فلا ، وأما إذا هاجر إلى المدينة فنعم حتى حول إلى الكعبة(٦).
____________________
(١) التهذيب ١ : ١٤٥ و ١٤٦.
(٢) الظاهر ان الحديث متحد مع يأتى ، واحدهما نقل بالمعنى فوقع اختلاف في اللفظ و اضطراب في المعنى.
(٣) في نسخة : فأنعم عليهالسلام. أقول أى قال : نعم.
(٤) في المصدر : وقد صلوا.
(٥) التهذيب ١ : ١٤٦.
(٦) فروع الكافى ١ : ٧٩.