__________________
صورة وسحاب انفصلت منه في عالمي الملكوت والجبروت. وكما أنّ البقلة والثمرة تتربّى بصورتها الملكيّة ، كذلك تتربّى بصورتها الملكوتيّة والجبروتيّة المخلوقتين من ذكر الله تعالى اللتين من شجرة المزن الجناني. وكما أنّهما تتربّيان بها قبل الأكل ، كذلك تتربّيان بها بعد الأكل في بدن الآكل ؛ فإنّها ما لم تستحلّ إلى صورة العضو فهي بعد في التربية.
فالإنسان إذا أكل بقلة أو ثمرة وذكر الله عزّوجلّ عندها ، وشكر الله تعالى عليها وصرف قوّتها في طاعة الله سبحانه والأفكار الإيمانيّة والخيالات الروحانيّة ، فقد تربّت تلك البقلة أو الثمرة في جسده بماء المزن الجناني ، فإذا فضلت من مادّتها فضلة منويّة فهي من شجرة المزن التي أصلها في الجنّة ، وإذا أكلها على غفلة من الله سبحانه ، ولم يشكر الله عليها ، وصرف قوّتها في معصية الله تعالى والأفكار المموّهة الدنيويّة والخيالات الشهوانيّة ، فقد تربّت تلك البقلة أو الثمرة في جسده بماء آخر غير صالح لخلق المؤمن إلاّ أن يكون قد تحقّق تربيتها بماء المزن الجنانيّ قبل الأكل. وأمّا مأكولة الكافر التي يخلق منها المؤمن فإنّما يتحقّق تربيتها بذلك الماء قبل أكله لها غالباً ، ولذكر الله عند زرعها أو غرسها مدخل في تلك التربية ، وكذلك لحلّ ثمنها وتقوّي زارعها أو غارسها ، إلى غير ذلك من الأسباب ».
والمحقّق الشعراني بيّن في هامش شرح المازندراني ، ج ٨ ، ص ٤١ أنّ في عبارة الوافي تحقيقات شريفة تليق بأن يتعمّق فيها ، ثمّ قال كلاماً هو كالشرح لها وهو قوله : « والذي يستفاد من هذا الحديث وأمثاله أنّ الجنّة كما هي معاد وعلّة غائيّة لأعمال الصالحين ، كذلك لها مبدئيّة ودخل في علّيّتها الفاعليّة بنحو من الأنحاء ؛ إذ لماء هذا المزن تأثير في تربية الصالحين ، وهذا لايوجب الجبر ، كما مرّ ، وبهذا يعرف معنى وجود الأرواح قبل الأجساد ؛ لأنّ الروح قد يطلق على النفوس المنطبعة الحادثة بعد حصول المزاج الخاصّ واستعداد البدن بأن تصير النطفة علقة والعلقة مضغة إلى أن تصير قابلة لأن ينشئها الله خلقاً آخر ، فيحدث هذه النفس بعد حصول الاستعداد ولم تكن قبل ذلك ، ثمّ تتقلّب النفس في مراتبها حتّى إذا تجرّدت بالفعل وصارت عقلاً ، وهو العقل الحادث بعد النفس وبعد تركيب المزاج ، وليس هو بقيد الحدوث قبل البدن ، والموجود قبله هو علّته المفيضة ، ولمّا لم تكن العلّة شيئاً مبايناً في عرض المعلول نظير المعدّات ، كالأب بالنسبة إلى الابن ، بل هي أصل المعلول ومقوّمه والقائم عليه ، فإذا كانت العلّة موجودة ، كان المعلول موجوداً حقيقة وعرفاً.
ألا ترى أنّه يسمّى صاحب ملكة العلم القادر على تفصيل المسائل عالماً بها ؛ لاندارجها في الملكة ، ولقدرة العالم على استخراجها كلّما أراد ، كذلك المزن الذي يتقاطر منه الملكات على نفوس الصالحين وتربّيها ، يندرج فيه جميع تلك النفوس بتفاصيلها اندراجاً إجماليّاً ، وإنّما تفصّل منه بوجودها الدنيوي ليحصل لها بالفعل ما كان كامناً بالقوّة ، ولو كانت النفوس على كما لها منفصلة عن علّتها موجودة بالفعل لم يكن حاجة إلى إرسالها إلى الدنيا وإنّما الدنيا مزرعة الآخرة.
وبالجملة كلّ ما في هذا العالم عكس من موجود مثالي أو عقليّ قبله ينطبع على الموادّ مطابقاً لمثاله أو ظلّه