الأعصار السابقة ، بينما هى راجحة في زماننا ، لا أقلّ في بعض البلاد التي تكون كثرة النفوس فيها موجبة للفقر الشديد والتأخّر والمفاسد الأخلاقيّة العظيمة.
فإنّ ما ورد في الترغيب على تكثير النسل والمواليد كالنبوي المعروف : « تناكحوا تكثروا فإنّي اباهى بكم الامم يوم القيامة ولو بالسقط » (١) ناظرة إلى الأعصار السابقة التي كانت كثرة النفوس فيها سبباً للقدرة والسلطة ، فما كان من الجوامع الإنسانيّة أكثر نفراً كان أشدّ قدرة وأكثر قوّة كما يشهد عليه قوله تعالى : ( كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلَاداً ) (٢). وقوله تعالى : ( وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلَاداً ) (٣) ، وقوله تعالى : ( اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ) (٤) وقوله تعالى : ( فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ... وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ ) (٥) فهذه الآيات تدلّ بظاهرها على أنّ كثرة الأولاد كانت موجبة للقدرة والشوكة كما كانت كثرة الأموال أيضاً كذلك ، ومثل النبوي المعروف قد ورد في مثل هذا الظرف من المجتمع الإنساني ، فهذه الخصيصة الاجتماعية الموجودة في عصر صدوره تكون بمنزلة قرينة لبّية قد توجب انصرافه إلى خصوص ذلك الزمان ، وهذه الدعوى وإن لم تكن ثابتة بالقطع واليقين ، ولكنّها قابلة للدقّة والتأمّل.
فقد ظهر ممّا ذكر دخل الزمان والمكان في الاجتهاد والاستنباط لكن لا على نحو دخلهما في الحكم بلا واسطة بل من طريق دخلهما في الموضوع ، فإنّ الأحكام ثابتة إلى الأبد ، « وحلال محمّد صلىاللهعليهوآله حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة » ، والمتغيّر على مرّ الدهور والأزمان ، والمتبدّل في الأمكنة والأقطار إنّما هو الموضوعات ، وبتبعها تتغيّر الأحكام قهراً.
__________________
(١) بحار الأنوار : ج ١٠٣ ص ٢٢٠ ح ٢٤.
(٢) سورة التوبة : الآية ٦٩.
(٣) سورة سبأ : الآية ٣٥.
(٤) سورة الحديد : الآية ٢٠.
(٥) سورة نوح : الآية ١٢.