والإنصاف أنّ هذه النزاعات والتطويلات قد نشأت من عدم التفكيك بين المسألة الاصوليّة والمسألة الفقهيّة وبين القاعدة الفقهيّة ، فإنّ المسألة من القواعد الفقهيّة وليست من المسائل الاصوليّة ولا من المسائل الفقهيّة ، وسرّه يظهر بملاحظة ما ذكرنا في أوّل الاصول من معيار كون المسألة اصوليّة أو فقهيّة أو قاعدة فقهيّة ، فقد مرّ هناك : أنّ المسألة الاصوليّة هي القواعد التي لا تشمل على حكم شرعي بل تقع في طريق استنباط الحكم الشرعي أو الوظيفة العمليّة ، وإنّ المسألة الفقهيّة هي التي تبحث عن نفس الأحكام الفرعيّة الخاصّة والتكاليف الجزئيّة العمليّة في كلّ باب باب من أبواب الفقه المعدّة لعمل المقلّدين ، وأمّا القاعدة الفقهيّة فهي عبارة عن الأحكام الكلّية الفرعيّة التي تجري في جميع أبواب الفقه أو في أبواب عديدة من الفقه ، ولا يمكن تفويض أمر تطبيقها على مصاديقها إلى المقلّدين مثل قاعدة « لا تعاد » التي تجري في جميع أبواب الصّلاة ، وقاعدة « لا حرج » التي تكون جارية في جميع أبواب الفقه ، فكلّ واحدة منهما تسمّى قاعدة لكونها كلّية ، وفقهيّة لكون الحكم فيها حكماً من الأحكام الفرعيّة الشرعيّة ( والمراد من الحكم هو الأعمّ من عقده الإثباتي والنفي فيشمل حتّى مثل مفاد قاعدة لا حرج الذي هو عبارة عن نفي الحكم لا الحكم نفسه ).
فظهر أنّ مسألة وجوب المقدّمة من القواعد الفقهيّة لأنّها حكم فرعي كلّي حتّى بناءً على عنوانها الآخر وهو ثبوت الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدّمته وعدمه ، لأنّ لازم وجود الملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدّمته إنّ المقدّمة واجبة بوجوب ذيها ، وعلى هذا لا يمكن تفويض أمر تطبيقها على مصاديقها إلى المقلّدين ، فإنّه يحتاج إلى دقّة ونظر وإحاطة بامور لا يقدر عليها المقلّد ، كما في سائر القواعد الفقهيّة : فقد يكون وجوب المقدّمة معارضاً لحرمة ذاتيّة لا بدّ من ملاحظة الأرجح منهما كما في الدخول في الأرض المغصوبة لنجاة الغريق ، وقد يكون وجوب ذي المقدّمة مشروطاً إلى غير ذلك ممّا لا يسع المقلّد تشخيصها.
كما ظهر إلى هنا أنّه لا وجه لتغيير عنوان ذكره الأقدمون للمسألة إلى عنوان آخر ، والمسألة ليست لفظيّة كذلك ، فذكرها في باب الألفاظ استطّرادي كما أنّ ذكرها في علم الاصول مطلقاً كذلك.