توضيح ذلك : أنّ الإنسان يكون بفطرته وذاته طالباً للمنفعة ودافعاً للضرر ، أي من غرائزه الفطريّة الجبلية غريزة طلب المنفعة ودفع الضرر ، وبمقتضى هذه الغريزة إذا لاحظ شيئاً والتفت إلى منفعة أو ضرر ، أي إذا تصوّر أحدهما وصدّقه يحصل في نفسه شوق إلى تحصيل المنفعة أو دفع الضرر ، ومع ذلك يرى نفسه قادراً على الجلب وعدمه ، أو على الدفع وعدمه ، وأنّ له أن يتحرّك ويجلب المنفعة أو يدفع الضرر ، وله أن يجلس ويتحمّل الضرر أو يحرم نفسه عن المنفعة ويشتري المذمّة والملامة ، فإذا اختار الفعل وانتخبه وأراده ورجّحه على الترك تتحرّك عضلاته نحو العمل فيفعله ويحقّقه في الخارج.
وبهذا يظهر أنّ التصوّر والتصديق والشوق كثيراً ما تكون جبريّة غير اختياريّة ، فإنّ التصوّر كثيراً ما يحصل للإنسان جبراً بمعونة حواسّه وادراكاته ، ويترتّب عليه التصديق فيكون التصديق أيضاً جبريّاً غالباً ويترتّب على التصديق الشوق أو الكراهة بمقتضى غريزة جبريّة وهي غريزة جلب المنفعة ودفع الضرر.
ثمّ تصل النوبة بعد هذه إلى أعمال النفس واختيارها وارادتها بمقتضى سلطانه الذاتي وقوّة الاختيار وقدرة الانتخاب التي جعلها الله تعالى لذاتها ، فلها أن تختار وتنتخب ، ولها أن لا تختار ولا تنتخب.
ثمّ إذا اختارت وانتخبت تصل النوبة إلى حركة العضلات نحو العمل ، والإرادة عين هذا الاختيار الفعلي والانتخاب الخارجي ، هذا أوّلاً.
وثانياً : ظهر أنّ الإرادة ليست في طول الشوق المؤكّد بلا تخلّل شيء ، بل صفة الاختيار متخلّلة بينهما ، والشاهد على ذلك أنّ الإنسان كثيراً ما يتصوّر شيئاً ذا منفعة وفائدة ويصدّق فائدته ويشتاق إليه ، ولكن مع ذلك لا يتصدّى له في الخارج ولا تترشّح من النفس إرادة العمل لما يكون لها من صفة الاختيار وقوّته ، وحينئذ نشاهد تخلّل صفة الاختيار بين الشوق والإرادة.
وبهذا تنحلّ مشكلة عدم اختياريّة الإرادة ، فإنّه إذا كانت الإرادة عبارة عن الاختيار الخارجي الفعلي والتصدّي في الخارج بمقتضى صفة الاختيار الذاتيّة للإنسان كانت إراديّة ، وإراديتها إنّما تكون بذاتها لا بقوّة اختياريّة اخرى حتّى يتسلسل.
وإن شئت قلت : إنّ إراديّة كلّ فعل إنّما هي بالإرادة ، وإراديّة الإرادة إنّما هي بصفة