المدينة وافتِ الناس فإنّي احبّ أن يرى في شيعتي مثلك ». (١)
فمن المقطوع أنّهم منذ العصر الأوّل كانوا يفتون بمقتضى ظواهر النصوص فيستندون إلى حجّية الظواهر بعنوان أصل قطعي ، ويعتمدون في الرّوايات على أقوال الثقات ( حجّية قول الثقة ) ويعالجون تعارض العامّ والخاصّ ، والمطلق والمقيّد ، من طريق التخصيص والتقييد ، ويعملون بالمفاهيم كمفهوم الشرط والغاية ، وحين وقوع التعارض بين الظاهر والأظهر يقدّمون الثاني على الأوّل ، ويقدّمون الدليل القطعي على الظنّي و ... إلى غير ذلك من أشباهه.
هذا ، ولكن كلّما اتّسع نطاق علم الفقه وظهرت فيه فروع مستحدثة اتّسع بموازاته نطاق علم الاصول إلى يومنا هذا ، حتّى صار من أوسع العلوم وأعقدها ، مملوّاً من دقائق عقليّة ونقليّة ، وهكذا يتّسع يوماً بعد يوم.
ومن الطريف جدّاً أنّ علم اصول الفقه ـ كالفقه نفسه ـ عند أتباع أهل بيت عليهمالسلام الوحي أكثر توسّعاً من اصول أهل السنّة إلى درجة كبيرة ، ودليله واضح ، حيث إنّ فقهاءهم قد سدّوا باب الاجتهاد على أنفسهم وعدّوا الفقهاء الأربعة ( أئمّة المذاهب الأربعة ) خاتمي المجتهدين والمستنبطين فمالت مسألة الاستنباط إلى الركود والجمود وتوقّف بالطبع قرين علم الفقه وشقيقه ( علم الاصول ) عن النموّ والحركة ، ولكن أتباع أهل بيت العصمة ـ مضافاً إلى تأكيدهم على فتح باب الاجتهاد ـ أفتوا بإتّفاق الآراء بحرمة التقليد الابتدائي عن الميّت ، ولأجل ذلك لا يزال وفي كلّ عصر طائفة من علمائهم يلزمون أنفسهم بعنوان الواجب الكفائي على استنباط الأحكام الفقهيّة من منابعها الإسلاميّة وأدلّتها المعتبرة ، ويقدّمونها إلى المجتمع الاسلامي ، ويضعونها في متناول أيدي المسلمين ، وهذا الاعتقاد ـ مضافاً إلى جعله مصباح الفقه أكثر إضاءة وإشراقاً ممّا كان سابقاً ـ أوجب إزدهار علم الاصول ونموّه يوماً بعد يوم إلى حدّ تعدّ الكتب الاصوليّة المدوّنة في سائر الفِرق الإسلاميّة بالنسبة إلى ما دوّنه علماء الشيعة كتباً إعداديّة وبدائيّة جدّاً ، بل لا يمكن الإحاطة بكنه الاصول لدى الشيعة إلاّعند فحول وخبراء من أساطين الفنّ طيلة سنين متمادية.
__________________
الأنوار : ج ٢ ، ص ٢٤٥ عن جامع البزنطي عن الإمام الرضا عليهالسلام بتغيير يسير ، وهو « علينا إلقاء الاصول إليكم وعليكم التفرّع ».
(١) مستدرك الوسائل : ج ١٧ ، ص ٣١٥.