فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون الممكن بعد اكتساب الوجود من الواجب جلّ شأنه ، وبعد خروجه من القوّة إلى الفعل يفيض الوجود على ممكن آخر؟
قلت : مسلك التحليل يبطل هذا الاحتمال. بيان ذلك : أنّ العقل يحلّل الممكن الموجود إلى ما بالقوّة ، وإلى ما بالفعل ، ثمّ نقول : إنّ ما بالقوّة لا دخل له في إخراج الشيء من القوّة إلى الفعل فيطرحه خلف قاف ثمّ ينظر إلى ما بالفعل ، فلو كان مشوبا بالقوّة ، فيخلّله أيضا وهكذا إلى أن ينتهي إلى ما بالفعل المحض ، وليس هذا إلاّ الواجب بالذات جلّ ذكره.
فظهر من هذا سرّ ما وقع في الكتاب الكريم الإلهي ( اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ) (١) ، ( لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ ) (٢) و ( هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ ) (٣) وصحّة قول من قال : إنّ الإمكان علّة للحاجة إلى علّة ما في بادئ الرأي وأوّل النظر ، وبعد الفحص وتعمّق النظر ينكشف أنّ الإمكان علّة للاحتياج إلى علّة واجبة الوجود بالذات.
فإن قيل : إذا كان موجد جميع الأشياء هو الواجب جلّ ذكره ، فينهدم بنيان التكاليف الشرعيّة والثواب والعقاب وغيرها.
قلت : لا منافاة بين ما حكم عليه البرهان واقتضاه ، وبين كون العبد فاعلا مختارا ، الذي هو مناط صحّة التكاليف الشرعيّة والثواب والعقاب ؛ لأنّ الذي دلّ عليه البرهان هو أنّ مفيض الفعليّة والوجود لا يكون إلاّ الواجب جلّ شأنه ، لا أنّه لا يكون ممكن موقوفا عليه بالنسبة إلى ممكن آخر ، ولا يكون ممكن جزءا لممكن آخر ، فهذا ممّا لا ينفيه البرهان ، فنقول : إنّ العبد فاعل إنّما هو بمعنى أنّه مباشر للفعل ، ويكون هو باعتبار قدرته وإرادته جزءا أخيرا من العلّة التامّة ، فقدرة العبد وإرادته لهما دخل في أفعاله ، وهذا القدر كاف في صحّة التكليف والثواب والعقاب.
__________________
(١) الرعد (١٣) : ١٦ ؛ الزمر (٣٩) : ٦٢.
(٢) الأنعام (٦) : ١٠٢.
(٣) فاطر (٣٥) : ٣.