و قال صاحب التتمّة من الشافعيّة: يصرف
إلى الإماميّة المنتظرة للقائم(١).
و كلا القولين خطأ.
أمّا بيان خطأ الأوّل: فلأنّ السبّ لا
يخرج السابّ عن كونه عاقلا، أقصى ما في الباب أنّه ارتكب ما لا يجوز، و ليس ذلك
سببا في سلب العقل(٢) ، و إلاّ لكان كلّ فسق كذلك، و هو باطل قطعا، مع أنّ السباب
بين الصحابة قد وقع، فقد سبّ معاوية و بنو أميّة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب
عليه السّلام على المنابر ثمانين سنة، و كذا سبّ أمير المؤمنين عليه السّلام
معاوية، مع كمال عقله و سبقه في العلم و بلوغه أقصى الغايات فيه.
ثمّ قتل الصحابة أعظم كثيرا من سبّهم، و
قد قتل يزيد بن معاوية الحسين عليه السّلام و نهب حريمه مع إظهار النبيّ صلّى
اللّه عليه و اله محبّته له(٣) ، و اشتهار أمره و أمر أخيه، و جعل اللّه تعالى
مودّتهم أجر الرسالة(٤) ، التي هي أعظم الألطاف الربّانيّة على العبيد، فإنّ
بسببها يحصل الثواب الدائم و الخلاص من العقاب السرمد، مع أنّ يزيد لم يخرج بذلك
عن حدّ العقلاء، بل كان إماما عند بعضهم.
و كان عمر بن الخطّاب عندهم ثاني
الخلفاء صاحب الفتوح الكثيرة٣.
١- عنه في العزيز شرح الوجيز ٩١:٧، و
روضة الطالبين ١٥٧:٥.
٢- في الطبعة الحجريّة: «السلب» بدل
«سلب العقل».
٣- راجع على سبيل المثال: المصنّف -
لابن أبي شيبة - ٩٧:١٢-١٢٢٣١/٩٨ و ١٢٢٣٢، و فضائل الصحابة - لأحمد بن حنبل -
١٣٥٦/٧٦٩:٢، و ٧٧٠ - ١٣٥٨/٧٧١، و سنن ابن ماجة ١٤٢/٥١:١، و الجامع الصحيح (سنن
الترمذي) ٥: ٦٥٦-٣٧٦٩/٦٥٧.
٤- سورة الشورى: ٢٣.
و السياسات العظيمة و قد سبّ رسول اللّه
صلّى اللّه عليه و اله في مرضه الذي توفّي فيه صلّى اللّه عليه و اله، حيث قال
رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله: «ائتوني بدواة و كتف لأكتب فيه كتابا لن تضلّوا
بعده أبدا» فقال عمر: إنّ الرجل ليهجر، حسبنا كتاب اللّه، فأعرض النبيّ صلّى اللّه
عليه و اله عنه مغضبا، ثمّ وقع التشاجر بين الصحابة، فقال بعضهم: القول ما قاله
عمر، و قال آخرون: القول ما قاله رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله، و أمرهم
النبيّ صلّى اللّه عليه و اله بالانصراف عنه؛ حيث آذوه بالصياح عنده، فسألوا منه
الكتابة، ففتح عينيه صلّى اللّه عليه و اله و قال: «أبعد ما سمعت»(١).
و قال يوما: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه
عليه و اله شجرة نبتت في كبا، أي: في مزبلة، و عنى بذلك رذالة أهله، فسمع رسول
اللّه صلّى اللّه عليه و اله ذلك فاشتدّ غيظه ثمّ نادى:
«الصلاة جامعة» فحضر المسلمون بأسرهم،
فصعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله المنبر، ثمّ حمد اللّه و أثنى عليه، و قال:
«أيّها الناس ليقم كلّ منكم ينتسب إلى أبيه حتى أعرف نسبه» فقام إليه شخص من
الجماعة و قال: يا رسول اللّه، أنا فلان بن فلان بن فلان، فقال: «صدقت» ثمّ قال
آخر فقال: يا رسول اللّه، أنا فلان بن فلان، فقال: «لست لفلان، و إنّما أنت لفلان،
و انتحلك فلان ابن فلان» فقعد خجلا، ثمّ لم يقم أحد، فأمرهم عليه السّلام بالقيام
و الانتساب مرّة و اثنتين، فلم يقم أحد، فقال: «أين السابّ لأهل بيتي ليقم إليّ و
ينتسب إلى أبيه ؟» فقام عمر و قال: يا رسول اللّه، اعف عنّا عفا اللّه عنك، اغفر
لنا غفر اللّه لك، احلم عنّا أحلم اللّه عنك، و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و
اله كثير الحياء، فقال:
«إذا كان يوم القيامة سجدت سجدة لا أرفع
رأسي حتى لا يبقى أحد من بنير.
١- الطبقات الكبرى - لابن سعد - ٢٤٢:٢ و
٢٤٤، مسند أحمد ٢٩٨٣/٥٣٤:١، صحيح البخاري ١٥٦:٧، صحيح مسلم ٢١/١٢٥٩:٣ و ٢٢، سرّ
العالمين: ١١، الوفا بأحوال المصطفى ٧٧٩:٢-٧٨٠، و فيها بتفاوت و اختصار.
عبد المطّلب إلاّ دخل الجنّة»(١).
و أيضا فقد سبّ أهل السّنّة و الجماعة
النبيّ صلّى اللّه عليه و اله، حيث نسبوا إليه الكفر؛ لأنّه صلّى اللّه عليه و اله
صلّى يوما صلاة الصبح و قرأ فيها سورة النجم إلى أن وصل إلى قوله تعالى: وَ مَناةَ
الثّالِثَةَ الْأُخْرى (٢) قالوا: فقرأ بعد ذلك: تلك الغرانيق العلى منها الشفاعة
ترتجى(٣) ، و هذا عين الكفر، و أيّ سبّ أعظم ممّن نسب الكفر إلى من قال اللّه
تعالى فيه قبل هذه الآية بكلمات وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلاّ
وَحْيٌ يُوحى (٤).
و نسبوا أباه إلى الكفر(٥) ، و أيّ سبّ
أعظم من أن يقال للشخص:
يا ابن الكافر، بل سبّوا اللّه تعالى،
حيث أسندوا جميع الموجودات من الحسن و القبيح إليه تعالى، فجميع شرّ في العالم أو
ظلم أو غير ذلك فهو صادر منه، تعالى اللّه عن ذلك، و إذا سبّ الإنسان غيره فقال:
أنت كافر، كان معناه أنّك أوجدت الكفر و فعلته، فبأيّ شيء يسبّ اللّه تعالى بأعظم
من ذلك.
و أمّا بيان بطلان القول الثاني: فلأنّ
الجهل ليس باعتبار اعتقاد الإمامة؛ لأنّ العقل و النقل متطابقان عليها، و لا
باعتبار اعتقادهم في صفات الإمام من العصمة و الانحصار في عدد معيّن؛ لدلالة العقل
و النقل معا عليه، فإنّ غير المعصوم يحتاج إلى إمام معصوم كما احتاجت الأمّة إليه،
و قد نصّ٢.
١- لم نعثر عليه فيما بين أيدينا من
المصادر.
٢- سورة النجم: ٢٠.
٣- ينظر: جامع البيان ١٣١:١٧ و ما
بعدها، و الوسيط - للواحدي - ٢٧٦:٣، و النكت و العيون (تفسير الماوردي) ٣٥:٤-٣٦.
٤- سورة النجم: ٣ و ٤.
٥- دلائل النبوّة - للبيهقي - ١٩٢:١، و
ينظر: البداية و النهاية ٢٨٠:٢.