وأنّه مطّلع عليك ، وأنّك كلّما تتقلّب فيه من إحسانه إليك ، وأنّه صحبك منذ ابتداء إنشائك من التراب وتنقّلك في الآباء والامّهات ، كما شرحنا فيما فات ، أحسن الصحبة بالعنايات ، وصحبك في وقت وجودك بما نبّهناك عليه من السعادات ، وأنّك محتاج إلى جميل صحبته ورحمته مع دوام بقائه بعد الممات ، ومن ذا يحميك عنه إن أعرض عنك أو أعرضت عنه ؟ ومن الذي يحفظ عليك إذا ضيّعت نفسك وكلّما في يديك ؟ ومن الذي إذا أخرجته من قلبك تتعوّض به عن ربك ؟
فأريد من رحمته أن يملأ قلبك من معرفته وهيبته وحرمته ، ويستعمل عقلك وجوارحك في خدمته وطاعته ، حتّى يكون إن جلست فتكون ذاكرا أنّك بين يديه ، وإذا قمت تكون ذاكرا أنّ قدرتك على المشي منه ، وتتأدّب في المشي تأدّب الماشي بحضرة ملك الملوك الذي لا غنى عنه .
واعلم أنّ جوارحك بضائع معك اللّه جلّ جلاله ، وأمانات جعلك تاجرا فيها لنفسك ولآخرتك ، فمتى صرفتها في غير ما خلقت له من الطاعات والمراقبات أو أنفقت وقتا من أوقاتك في الغفلات ، كان ذلك الخسران عائدا عليك بالنقصان ، ومثمرا أن يعاملك سيّدك بالهجران واستخفاف الهوان ، ولا تقل أو تسمع من الجاهلين أو الغافلين أنّ هذا ما تقدر عليه ، فإنّهم قالوا لنا مثل ذلك ، وعرفنا باللّه جلّ جلاله أنّهم غالطون فيما أشاروا إليه ، لأنّنا وجدنا من نفوسنا وعقولنا أنّها تتأدّب مع الملوك والعظماء في دار الفناء ، ومع الأصدقاء والرفقاء ، ومع الغلمان والجيران ، ومن لا نرجوه لنفع واحسان ، ولا لدفع أخطار الأزمان أدبا بقدر من نجالسه أو نشاهده منهم ، فكيف جاز أن يكون الأدب مع علم اللّه جلّ جلاله بنا وقدرته علينا وإحسانه إلينا دون هؤلاء الذين لا نبالي بالإعراض عنهم !
قال : وإن احتجت إلى سفر يا ولدي كان اللّه جلّ جلاله لك حافظا في سفرك وجميع ما أحسن به إليك ، وخلفا لك في كلّ ما تغيب عنه ممّا أنعم به عليك ، فلا تسافر بالطبع والغفلة والأطماع الدنيويّة فتكون مخاطرا مع اللّه جلّ جلاله ، ومهوّنا بجلالته الإلهيّة ، ومضيّعا زمان أسفارك في غير ما ينفعك لدار قرارك ، بل يكون قصدك أنّك تتوجّه من اللّه جلّ جلاله لأنّك حيث كنت فأنت بين يديه ، وإلى اللّه جلّ جلاله بالتوكّل عليه ، وباللّه جلّ جلاله بالتفويض إليه ، وإليه جلّ جلاله بالإقبال عليه ، فيكون سفرك خدمة له وبه سفرا إليه ، وتصير في حماية ورعاية وكفاية ذلك الإخلاص له والتقرّب إليه ، ومهما جرى في ذلك السفر كان دركه عليه لأنّ العقل قضى أنّ من سافر إلى سلطان عادل في شغله وتحت ظلّه ومتمسّكا في سفره بحبله ، وبالتوفيق من فضله ، فإنّ درك حركات هذا المسافر على ذلك السلطان بمقتضى عدله .
قال : ومتى سافر الإنسان بمجرّد الطباع والشهوات كان هو والدابّة التي يركبها سواء في