الولاة ، وتعرّفوا إليهم ، وطلبوا
الولايات والصلات منهم ، فمنهم من حرم ومنهم من أنجح ، والمنجح لم يخل من ذلّ
الطلب ومهانة الابتذال ، فأصبح الفقهاء بعد أن كانوا مطلوبين طالبين ، وبعد أن
كانوا أعزّة بالإعراض عن السلاطين أذلّة بالإقبال عليهم ، إلّا من وفّقه اللّه في
كلّ عصر من علماء دينه .
ثمّ ظهر من بعدهم من الصدور والأمراء من
سمع مقالات الناس في قواعد العقائد ، ومالت نفسه إلى سماع الحجج فيها ، فعلمت
رغبته إلى المناظرة والمجادلة في الكلام ، فانكبّ الناس إلى علم الكلام ، وأكثروا
فيها التصانيف ، ورتّبوا فيها طرق المجادلات ، واستخرجوا فنون المناقضات في
المقالات ، وزعموا أنّ غرضهم الذبّ عن دين اللّه والنضال عن السنّة وقمع البدعة .
ثمّ ظهر بعد ذلك من الصدور من لم يستصوب
الخوض في الكلام وفتح باب المناظرة فيه ، لما تولّد من فتح بابه التبغضات
والخصومات الناشئة من اللّداد المفضية إلى تخريب البلاد ، ومالت نفسه إلى المناظرة
في الفقه وبيان الأولى من مذاهب المجتهدين ، فترك النّاس الكلام وفنون العلم
وأقبلوا على المسائل الخلافيّة ، وزعموا أنّ غرضهم استنباط دقائق الشرع وتقرير علل
المذاهب وتمهيد أصول الفتاوى ، وأكثروا فيها التصانيف والاستنباطات ، ورتّبوا فيها
أنواع المجادلات ، وهم مستمرون عليه إلى الآن ، وليس ندري ما الذي قدّر اللّه فيما
بعدنا من الأعصار .
فهذا هو الباعث على الإكباب على
المناظرة في الخلافيّات ، ولو مالت نفوس أرباب الدنيا إلى علم آخر من العلوم
لمالوا أيضا ولم يسكتوا عن التعلّل والاعتراض بأنّ ما اشتغلوا به علم الدين ، وأن
لا مطلب لهم سوى التقرّب إلى ربّ العالمين .
الفنّ الثاني : فيما يتعلّق بالعمل .
قال السيد قدّس سرّه : « اعلم يا ولدي محمد
ومن بلغه كتابي هذا من ذريّتي وغيرهم من الأهل والإخوان ـ علّمك اللّه جلّ جلاله
وإيّاهم ما يريد منكم من المراقبة في السرّ والإعلان ـ أنّ مخالطة الناس داء معضل
وشاغل عن اللّه جلّ جلاله مذهل . وقد بلغ الأمر في مخالطتهم إلى نحو ما جرى في
الجاهليّة من الاشتغال بالأصنام عن الجلالة الإلهيّة ، فاقلل يا ولدي من مخالطتك
لهم ومخالطتهم لك بغاية الإمكان ، فقد جرّبته ورأيته يورث مرضا هائلا في الأديان .
فمن ذلك أنّك تبتلى بالأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر ، فإن قمت بذلك على الصدق وأداء الأمانات صاروا أعداءك على
اليقين ، وشغلوك بالعداوة عن رب العالمين ، وإن نافقتهم