وهكذا الحال في سائر الأشياء كأصحاب الصنائع مثلاً ، فإنّ كلاًّ يحبّ صنعته التي نشأ عليها واعتاد بها وإن كانت خسيسة دنيئة ، حتّى نقل أنّ سلطاناً عشق بنتاً تسأل بكفّها ، فتزوّجها وكثرت أموالها وصارت أعزّ وأغنى المقرّبين عنده ، فدخل عليها يوماً فإذا هي واضعة كسرة خبز في موضع ليس فيه أحد ، ويدها ممدودة إليه بعنوان السؤال ، وتقول بإلحاح وتذلّل زائد : تصدّقوا عليّ بهذه الكسرة .
ومن هذا القبيل حال المعاشرات ، كما هو معلوم مجرّب من حبّ كلّ شخص أصحابه وعشيرته ومربّيه ، كالوالدين والاُستاذ والمعلّم وأمثالهم ، وحبّ كلّ صنف أهل صنفه ، ومن هو من سنخه ، كحبّ العرب للعرب ، والعجم للعجم ، والترك للترك ، والصالح للصالح ، والطالح للطالح ، والعالم للعالم ، حتّى أنّ أهل كلّ علم يحبّ العالم بذلك العلم كالفلسفي للمتفلسفين ، والمتشرّع للمتشرّعين ، والصوفي للصوفيّة ، والشيعي للشيعة ، والناصبي للناصبيّة ، بل لا يكتفون بذلك حتّى يعيبوا على غيرهم ، ويحكموا عليهم بالسفه والبطلان ، كما هو واضح من حكم الكفّار والجهلاء بالجنون على الأنبياء والعلماء .
ألا ترى أنّ أكثر المعتادين على الفسوق إن اتّفق لهم الجلوس أحياناً مع أهل العلم والصلاح ، ورأوا ما بهم من الفعل والقول ضاقت صدورهم ، وتنفّرت طبائعهم ، بحيث لا يحبّون أن يعاينوهم ويودّون المخلَص من ذلك المجلس ولا تنشرح قلوبهم إلاّ بملاقاة أمثالهم ، بل إذا لاقى بعضهم بعضاً ذكروا شكواهم من ذلك المجلس ، ونسبوا أهله إلى السَفه والحرمان بترك تلك الفُسوق التي هي المعدودة لذّة عندهم ، وكذلك العكس .