٥ ـ وهناك ملحظ جدير بالأهمية في هذا
النزول التدريجي ، هو إحكام الأمر ، وإبرام العقد ، وهذا الإحكام وذلك الإبرام
يتمثل بعملية صياغة النفوس في إطار جديد ، فهي على قرب عهد من الجاهلية بأعرافها
ومفاهيمها وأخطائها ، والنقلة الفورية ليست خطوة عملية في التغيير الاجتماعي الذي
أرادته رسالة القرآن ، فمن عزم الأمور ـ إذن ـ أن تستجيب النفوس لهذا التغيير
الجذري ، ولكن لا على أساس المفاجأة الخطرة ، التي قد تولد ردة فعل مضادة ، تطوح
بكل شيء ، بل تقليص القيم القديمة شيئاً فشيئاً ، وتضييعها جزءاً فجزءاً ، لتتلاشى
في نهاية المطاف ، وتختفي عن صرح الاجتماع. وخير دليل على ذلك مسألة تحريم الخمرة
، إذ ارتبطت بالعرب أدبياً واجتماعياً ونفسياً واقتصاديا ، وهي جوانب متعددة ، أباحت
هذا الإدمان المستحكم عند العرب ، فلو حرمت دفعة واحدة ، لكفر بهذا التحريم ، ولضاعت
فرصة التغيير الاجتماعي ، ولكن الوحي تلبث وترصد وتأنى ، فجاء بالأمر في خطوات
متعاقبة شملت بيان المنافع والمضار والمآثم ، وتدرجت إلى النهي عن اقتراب الصلاة
وأنتم سكارى ، وانتهت إلى التحريم : (
إنما الخمرُ
والميسِرُ والأنصابُ والأزلامُ رجسٌ من عملِ الشَّيطانِ فاجتنبوهُ
... ) .
٦ ـ ولنقف بهذا الجانب الحساس والمؤثر
على صلب الموضوع من بدايته ، قبل النظر في التطبيق.
كانت الجزيرة العربية بعامة ، ومكة
المكرمة بخاصة ، تتجاذبهما عقائد شتى ، فالصابئة لها طقوسها المختلطة من ابتداعات
وشعائر ترتبط بالكواكب وتأثيرها على الأحداث الأرضية . وما امتزج عن عاداتهم في مذاهب قريش
في الوثنية وعبادة الملائكة ، ومراسم الحج.
والمسيحية ، وما صاحب مبادئها من تحريف
مزدوج ، وتغيير مفاجئ ، فبدل التسامح الديني الذي اشتهرت به تعاليم السيد المسيح ،
__________________