بالربوبية المشعرة بمالكيته وسيادته ، للدلالة على نهاية التعظيم المعجب ، فانّ تسليم المالك المنعم العظيم الشأن على عبده الضعيف من العجائب الدالة على نهاية التعظيم والعطوفة.
﴿وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ * أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا
الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٥٩) و (٦١)﴾
ثمّ أنّه تعالى بعد بيان كمال حسن المؤمنين وإكرامهم في الآخرة ، بيّن سوء حال الكفار وإهانتهم فيها بقوله : ﴿وَامْتازُوا الْيَوْمَ﴾ وتفرّقوا عن المؤمنين ﴿أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ﴾ والعصاة ، وادخلوا مساكنكم التي اعدّت لكم في جهنم.
وقيل : يعني تفرّقوا وتلاشوا من الحسرة والندامة ، لما ترون من رفعة منزلة المؤمنين وحسن حالهم ، أو تفرق بعضكم من بعض على خلاف ما للمؤمنين من الاجتماع مع الأزواج والتزاور بينهم ، وامتازوا وتفرّقوا من شفعائكم وقرنائكم ، فما لكم اليوم من شفيع ولا حميم ، أو امتازوا عمّا ترجون ، واعتزلوا من كلّ خير ، أو امتازوا وتبيّنوا من بين الناس ، فتظهر فيهم سيماء يعرفون بها ، وهو السواد الذي يظهر في وجوهم (١).
أقول : المجرمون الذين يخلدون في النار هم المنكرون للصانع وتوحيده ، والمنكرون للرسالة ، والمنكرون للولاية أو واحد من ضروريات الدين ، كالشفاعة وظهور المهدي عليهالسلام في آخر الزمان.
ثمّ أنّه تعالى بعد أمر المجرمين بالامتياز ، أخذهم بالتقريع والتبكيت بقوله : ﴿أَ لَمْ أَعْهَدْ﴾ ولم أوص في عالم الذّر ، أو في الدنيا بلسان الرسل ﴿إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا﴾ ولا تطيعوا ﴿الشَّيْطانَ﴾ الذي أخرج أبويكم من الجنة ، ولم أقل ﴿إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ ومبغض ظاهر البغضاء بحيث لا تخفى عداوته على ذي مسكة ؟ ! وإنّما نسب سبحانه إليهم عبادة الشيطان مع أنّ أحدا لا يعبده ؛ لأنّ عبادة غير الله بأمره هي عبادته.
عن الصادق عليهالسلام : « من أطاع رجلا في معصية ، فقد عبده »(٢) .
وعن الباقر عليهالسلام : « من أصغى إلى ناطق فقد عبده ، فان كان الناطق يروي (٣) عن الله فقد عبد الله تعالى ، وإن كان الناطق يروي عن الشيطان فقد عبد الشيطان »(٤) .
﴿وَ﴾ ألم أعهد إليكم ﴿أَنِ اعْبُدُونِي﴾ وأخلصوا لي العبادة ﴿هذا﴾ العهد ﴿صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾
__________________
(١) تفسير الرازي ٢٦ : ٩٥.
(٢) الكافي ٢ : ٢٩٣ / ٨ ، تفسير الصافي ٤ : ٢٥٨.
(٣) في الكافي : يؤدي ، وكذا التي بعدها.
(٤) الكافي ٦ : ٤٣٤ / ٢٤ ، تفسير الصافي ٤ : ٢٥٨.