بسم الله الرّحمن الرّحيم
وبه
عوني
وثقتي قال الشيخ الإمام العالم محبّ الدين أبو البقاء عبد
الله بن الحسين بن عبد الله العكبري رحمهالله تعالى ، ورحم أسلافه بمحمد وآله وأصحابه وأنصاره.
الحمد لله الذي وفّقنا لحفظ كتابه ، ووقفنا على الجليل من
حكمه وأحكامه وآدابه ، وألهمنا تدبّر معانيه ووجوه إعرابه ، وعرّفنا تفنّن أساليبه
؛ من حقيقته ومجازه ، وإيجازه وإسهابه ؛ أحمده على الاعتصام بأمتن أسبابه ، وأشهد
أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، شهادة مؤمن بيوم حسابه ، وأشهد أنّ محمدا
عبده ورسوله المبرّز في لسنه وفصل خطابه ، ناظم حبل الحق بعد انقضابه ، وجامع شمل
الدين بعد انشعابه ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ، ما استطار برق في أرجاء
سحابه ، واضطرب بحر باذيّة وعبابه.
أما بعد : فإن أولى ما عني باغي العلم بمراعاته ، وأحقّ ما
صرف العناية إلى معاناته ، ما كان من العلوم أصلا لغيره منها ، وحاكما عليها ولها
فيما ينشأ من الاختلاف عنها ، وذلك هو القرآن المجيد ، الذي لا يأتيه الباطل من
بين يديه ولا من خلفه ، تنزيل من حكيم حميد ؛ وهو المعجز الباقي على الأبد ،
والمودع أسرار المعاني التي لا تنفد ؛ وحبل الله المتين ، وحجّته على الخلق
أجمعين.
فأوّل مبدوء به من ذلك تلقّف ألفاظه عن حفّاظه ، ثم تلقّي
معانيه ممن يعانيه ؛ وأقوم طريق يسلك في الوقوف على معناه ، ويتوصّل به إلى تبيين
أغراضه ومغزاه ، معرفة إعرابه واشتقاق مقاصده من أنحاء خطابه ، والنظر في وجوه
القراءات المنقولة عن الأئمة الأثبات.
والكتب المؤلفة في هذا العلم كثيرة جدا ، مختلفة ترتيبا
وحدا ؛ فمنها المختصر حجما وعلما ، ومنها المطوّل بكثرة إعراب الظواهر ، وخلط
الإعراب بالمعاني ، وقلما تجد فيها مختصر الحجم كثير العلم ، فلما وجدتها على ما
وصفت ، أحببت أن أملي كتابا يصغر حجمه ، ويكثر علمه ، أقتصر فيه على ذكر الإعراب
ووجوه القراءات ، فأتيت به على ذلك ؛ والله أسأل أن يوفّقني فيه لإصابة الصواب ،
وحسن القصد به بمنّه وكرمه.
إعراب الاستعاذة
(أعوذ بالله من
الشيطان الرجيم).
(أعوذ) : أصله أعوذ ، بسكون العين وضمّ الواو ، مثل اقتل ؛ فاستثقلت الضمة على الواو
فنقلت إلى العين وبقيت ساكنة. ومصدره عوذ وعياذ ومعاذ. وهذا تعليم. والتقدير فيه :
قل أعوذ.
و (الشيطان) : فيعال ، من شطن يشطن إذا بعد ، ويقال فيه شاطن. وتشيطن ؛ وسمّي بذلك كل متمردّ
لبعد غوره في الشر.
وقيل : هو فعلان ، من شاط يشيط ، إذا هلك ؛ فالمتمرّد هالك
بتمرّده.
ويجوز أن يكون سمّي بفعلان لمبالغته في إهلاك غيره.
و (الرجيم) : فعيل بمعنى مفعول ؛ أي مرجوم بالطّرد واللّعن.
وقيل : هو فعيل بمعنى فاعل ؛ أي يرجم غيره بالإغواء.
إعراب التسمية
١ ـ قال تعالى : (بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) :
الباء في (بِسْمِ) متعلقة بمحذوف ، فعند البصريين المحذوف مبتدأ والجار والمجرور خبره ،
والتقدير ابتدائي بسم الله ؛ أي كائن باسم الله ؛ فالباء متعلقة بالكون
والاستقرار.
وقال الكوفيون : المحذوف فعل تقديره ابتدأت ، أو أبدا ؛
فالجارّ والمجرور في موضع نصب بالمحذوف.
وحذفت الألف من الخط لكثرة الاستعمال ، فلو قلت : لاسم الله
بركة ، أو باسم ربك ، أثبتّ الألف في الخط.
وقيل : حذفوا الألف ؛ لأنهم حملوه على سم ، وهي لغة في اسم.
ولغاته خمس : سم ـ بكسر السين وضمها ، اسم ـ بكسر الهمزة
وضمها ، وسمى مثل ضحى.
والأصل في اسم سمو ، فالمحذوف منه لامه ، يدلّ على ذلك
قولهم في جمعه أسماء وأسام ، وفي تصغيره سمىّ ، وبنوا منه فعيلا ، فقالوا : فلان
سميّك : أي اسمه كاسمك. والفعل منه سمّيت واسميت ؛ فقد رأيت كيف رجع المحذوف إلى
آخره.
وقال الكوفيون : أصله وسم ؛ لأنه من الوسم ؛ وهو العلامة ،
وهذا صحيح في المعنى ، فاسد اشتقاقا.
فإن قيل : كيف أضيف الاسم إلى الله ، والله هو الاسم؟
قيل : في ذلك ثلاثة أوجه :
أحدها ـ أنّ الاسم هنا بمعنى التسمية ، والتسمية غير الاسم
؛ لأن الاسم هو اللازم للمسمّى ، والتسمية هو التلفّظ بالاسم.
والثاني ـ أن في الكلام حذف مضاف ، تقديره باسم مسمّى الله.
والثالث ـ أنّ اسم زيادة ؛ ومن ذلك قوله :
إلى الحول ثمّ اسم السّلام عليكما وقول الآخر : داع يناديه
باسم الماء أي السلام عليكما ، ويناديه بالماء.
والأصل في الله الإلاه ، فألقيت حركة الهمزة على لام
المعرفة ، ثم سكنت وأدغمت في اللام الثانية ، ثم فخّمت إذا لم يكن قبلها كسرة ،
ورقّقت إذ كانت قبلها كسرة ؛ ومنهم من يرققها في كل حال ، والتفخيم في هذا الاسم
من خواصّه.
وقال أبو علي : همزة إلاه حذفت حذفا من غير إلقاء ، وهمزة
إلاه أصل ؛ وهو من أله يأله إذا عبد ، فالإله مصدر في موضع المفعول ؛ أي المألوه ،
وهو المعبود.
وقيل أصل الهمزة واو ؛ لأنه من الوله ، فالإله تتولّه إليه
القلوب ؛ أي تتحيّر.
وقيل أصله لاه على فعل ، وأصل الألف ياء ؛ لأنهم قالوا في
مقلوبه لهي أبوك ثم أدخلت عليه الألف واللام.
(الرَّحْمنِ
الرَّحِيمِ) : صفتان مشتقّتان
من الرحمة.
والرّحمن من أبنية المبالغة. وفي الرحيم مبالغة أيضا ؛ إلا
أن فعلانا أبلغ من فعيل.
وجرّهما على الصفة ؛ والعامل في الصفة هو العامل في
الموصوف.
وقال الأخفش : العامل فيها معنوىّ ، وهو كونها تبعا.
ويجوز نصبهما على إضمار أعنى ، ورفعهما على تقدير هو.
سورة
الفاتحة
٢ ـ الجمهور على رفع (الْحَمْدُ) بالابتداء.
و (لِلَّهِ) الخبر ، واللام متعلقة بمحذوف ؛ أي واجب ، أو ثابت.
ويقرأ الحمد ـ بالنصب ، على أنه مصدر فعل محذوف ؛ أي أحمد
الحمد ؛ والرفع أجود ؛ لأنّ فيه عموما في المعنى.
ويقرأ بكسر الدال ؛ اتباعا لكسرة اللام ؛ كما قالوا :
المعيرة ورغيف ؛ وهو ضعيف في الآية ؛ لأن فيه إتباع الإعراب البناء ، وفي ذلك
إبطال للإعراب.
ويقرأ بضم الدال واللّام على إتباع اللام الدال ؛ وهو ضعيف
أيضا ؛ لأن لام الجر متّصل بما بعده ، منفصل عن الدال ، ولا نظير له في حروف الجرّ
المفردة ؛ إلا أنّ من قرأ به فرّ من الخروج من الضم إلى