في كلامه.
وقيل : إنّهم قالوا : أما يستحي ربّ محمّد أن يضرب مثلا بالذباب والعنكبوت ؟ ! فردّ الله عليهم بقوله : ﴿إِنَّ اللهَ﴾ في نهاية عظمته وكبريائه ﴿لا يَسْتَحْيِي﴾ ولا يرى على ذاته المقدّسة عيبا من ﴿أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما﴾ من الأمثال ، وأيّ مثل كان ، كان الممثّل به ﴿بَعُوضَةً﴾ قيل : هي أصغر من البق ، وفيها من ظهور قدرة الله ما لا يكون في الفيل ؛ لأنّها مع صغر حجمها لها جميع أعضاء الفيل مع زيادة جناحيها ، وخرطومها مع كونه مجوّفا وفي غاية الصغر يغوص في جلد الفيل والجاموس على ثخانته كما يغوص إصبع الرّجل في الخبيص ، وذلك لما ركّب الله في رأس خرطومها من السّمّ.
وقيل : إنّها تحيا ما جاعت ، وتموت إذا شبعت (١) .
﴿فَما فَوْقَها﴾ وما هو الأكبر منها كالذّباب والعنكبوت وغيرهما ، فإنّ المنظور من التّمثيل توضيح المقصود وكشف المستور بالنّظير المحسوس ، ولا ينظر إلى حقارة الممثّل به وجلالته وصغره وكبره ، ولا إلى دناءته وشرفه ، بل ينظر إلى مطابقة المثل للممثّل له ، وهو حاصل في أمثال القرآن على النّحو الأتمّ الأكمل.
وقيل : إنّ كلمة ( فوق ) من الأضداد ، تطلق على الأعلى والأدنى وعلى هذا يحتمل أن يكون ( ما فوقها ) بمعنى : ما دونها ، وما هو أصغر منها.
﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بمحمّد صلىاللهعليهوآله وكتابه ﴿فَيَعْلَمُونَ﴾ بسبب سلامة عقولهم ، وبصيرة قلوبهم ، وطهارة نفوسهم من الحسد والعناد وحبّ الدنيا حين يسمعون المثل ﴿أَنَّهُ الْحَقُ﴾ الثابت ﴿مِنْ رَبِّهِمْ﴾ لا مجال لإنكاره والاعتراض عليه ، لكونه في غاية الحسن والبلاغة ، وكشفه عن العلوم والحكم الكثيرة ، ونظير هذه الأمثال جاء في الكتب السّماويّة كالانجيل وغيره.
﴿وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ بالله وعاندوا محمّدا صلىاللهعليهوآله وجحدوا كتابه ﴿فَيَقُولُونَ﴾ عند سماع المثل ، استحقارا له ، لقصور عقولهم ، وقلّة أفهامهم ، وعمى قلوبهم ، وفساد أخلاقهم : ﴿ما ذا﴾ وأيّ شيء ﴿أَرادَ اللهُ بِهذا﴾ المثل من حيث كونه ﴿مَثَلاً﴾ فإن كان له نفع فضرّه يساوي نفعه ، لأنّه سبحانه ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً﴾ من النّاس لجهلهم بموقعيّة الأمثال ﴿وَ﴾ إن كان ﴿يَهْدِي بِهِ كَثِيراً﴾ لاعتقادهم كمال حسنه وكثرة فوائده ، فردّ الله عليهم بقوله : ﴿وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ﴾ الخارجين عن حدود
__________________
(١) تفسير روح البيان ١ : ٨٥.