لما قال لهم : إنى سقيم ـ خافوا أن يكون طاعونا ، فخافوا منه ، وتباعدوا خوفا من عدواه ، فمال إلى آلهتهم ، وقال هذا القول على وجه الاستهزاء بالذين يعبدونها ؛ وقد قدمنا فائدة إدخال الفاء فى هذه الآية.
(فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ)(١) : يعنى قوم النمرود ؛ وذلك أنه قال له : يا إبراهيم ، إن كان ربّك ملكا فليحار بنى بعسكره ، وليأخذ الملك منى. فقال إبراهيم : إلهى ، إن نمرود ركب مع جنوده ، فأرسل إليه جندا من أضعف خلقك ، وهى البعوض ؛ لأنها إذا شبعت تموت وسائر الحيوان إذا شبع يحيا ؛ فأوحى الله إليه : يا إبراهيم ، لو لم تسأل جند البعوض لأرسلت عليهم جندا ما لو جمعت منه لم يكن مثل ما أهلكتهم به. قال تعالى (٢) : (وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ). فركب نمرود ـ لعنه الله ـ فى سبعمائة ألف فارس مقنّع ومدرّع ؛ وخرج إلى الخلاء يطلب المبارزة ، فأرسل الله جند البعوض ، وقال لهم : جعلت اليوم رزقكم هذا الجند ، وقوّى الله مناقرها ، فلم يحجبها الدروع والمغافير (٣) حتى أكلت لحومهم ودماءهم ، ولم يبق منهم أحد غير نمرود ، فإنه هرب ورجع إلى بيته ، وأوحى الله إلى البعوض الموكل به أن يمهله حتى يرى ما صنع الله بجنده ؛ فلما دنا وقت عذابه جعل يحوم حول منخره ودخله بعد ثلاثة أيام تنبيها لنمرود وإمهالا له ، كأنه تعالى يقول : أمهلتك لمعاصيك وكفرك ، لم نأخذك بغتة ، فإن رجعت إلينا فى الثلاث فلك الأمان ، ومنا القبول والإحسان ، وإن لم ترجع فالعيب منك ؛ أما نحن فقد استعملنا فضلنا وكرمنا.
وهكذا عادته سبحانه فى إمهال الكفرة وعدم أخذهم بغتة ؛ فكيف بك
__________________
(١) الصافات : ٩٨
(٢) المدثر : ٣١
(٣) المغفر ـ كمنبر ، وبهاء ، وككتابة : زرد من الدرع يلبس تحت القلنسوة ، أو حلق يتقنع بها المتسلح ، وجمعه مغافر ومغافير.