جميع الحجج التي أوصلها إلى العباد ، ترجع إليه فقال : (اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ) فالكتاب ، هو هذا القرآن العظيم ، نزل بالحق ، واشتمل على الحقّ ، والصدق ، واليقين ، وكله آيات بيّنات ، وأدلة واضحات ، على جميع المطالب الإلهية ، والعقائد الدينية ، فجاء بأحسن المسائل ، وأوضح الدلائل. وأما الميزان ، فهو العدل والاعتبار بالقياس الصحيح ، والعقل الرجيح. فكل الدلائل العقلية ، من الآيات الأفقية والنفسية ، والاعتبارات الشرعية ، والمناسبات ، والعلل ، والأحكام ، والحكم ، داخلة في الميزان ، الذي أنزله الله تعالى ، ووضعه بين عباده ، ليزنوا به ما أثبته وما نفاه من الأمور ، ويعرفوا به صدق ما أخبر به ، وأخبرت به رسله ، مما خرج عن هذين الأمرين ـ عن الكتاب والميزان ـ وما قيل إنه حجة أو برهان ، أو دليل ، أو نحو ذلك من العبارات ، فإنه باطل متناقض ، قد فسدت أصوله ، وانهدمت مبانيه وفروعه. يعرف ذلك من خبر المسائل ومآخذها ، وعرف التمييز بين راجح الأدلة ومرجوحها ، والفرق بين الحجج والشبه. وأما من اغتر بالعبارات المزخرفة ، والألفاظ المموهة ، ولم تنفذ بصيرته إلى المعنى المراد ، فإنه ليس من أهل هذا الشأن ، ولا من فرسان هذا الميدان ، فوفاقه وخلافه سيان. ثمّ قال تعالى ـ مخوفا للمستعجلين لقيام الساعة ، المنكرين لها : (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ) أي : ليس بمعلوم وقتها وبعدها ، ولا متى تقوم ، فهي في كل وقت ، متوقع وقوعها ، مخوف وجبتها.
[١٨] (يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها) عنادا وتكذيبا ، وتعجيزا لربهم. (وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها) أي : خائفون ، لإيمانهم بها ، وعلمهم بما اشتملت عليه من الجزاء بالأعمال ، وخوفهم ، لمعرفتهم بربهم ، أن لا تكون أعمالهم منجية ولا مسعدة ، ولهذا قال : (وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُ) الذي لا مرية فيه ، ولا شك يعتريه. (أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ) أي : بعد ما امتروا فيها ، ماروا الرسل وأتباعهم بإثباتها (لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) في غاية البعد عن الحقّ. وأيّ بعد ، أبعد ممن كذّب بالدار ، التي هي الدار على الحقيقة ، وهي الدار التي خلقت للبقاء الدائم ، والخلود السرمد ، وهي دار الجزاء ، التي يظهر الله فيها عدله وفضله؟ وإنّما هذه الدار بالنسبة إليها ، كراكب قال في ظل شجرة ، ثمّ رحل وتركها ، وهي دار عبور وممر ، لا محل استقرار. فصدقوا في الدار المضمحلة الفانية ، حيث رأوها وشاهدوها ، وكذبوا بالدار الآخرة ، التي تواترت بالإخبار عنها الكتب الإلهية ، والرسل الكرام وأتباعهم ، الّذين هم أكمل الخلق عقولا ، وأغزرهم علما ، وأعظمهم فطنة وفهما.
[١٩] يخبر تعالى أنه (لَطِيفٌ بِعِبادِهِ) ليعرفوه ويحبوه ، ويتعرضوا للطفه وكرمه. واللطف من أوصافه تعالى ، معناه : الذي يدرك الضمائر والسرائر ، الذي يوصل عباده ـ وخصوصا المؤمنين ـ إلى ما فيه الخير لهم من حيث لا يعلمون ولا يحتسبون. فمن لطفه بعبده المؤمن ، أن هداه إلى الخير ، هداية لا تخطر بباله ، بما يسر له من الأسباب الداعية إلى ذلك ، من فطرته على محبة الحقّ والانقياد له وإيعازه تعالى للملائكته الكرام ، أن يثبتوا عباده المؤمنين ، ويحثوهم على الخير ، ويلقوا في قلوبهم من تزيين الحقّ ، ما يكون داعيا لاتباعه. ومن لطفه أن أمر المؤمنين ، بالعبادات