بكم. (ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) وهي الّتي ذكرها في سورة الأنعام (ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ). وخصها بالذكر ، مع أنه أنزل لمصالح عباده من البهائم غيرها ، لكثرة نفعها ، وعموم مصالحها ، ولشرفها ، ولاختصاصها بأشياء لا يصلح لها غيرها ، كالأضحية والهدي والعقيقة ، ووجوب الزكاة فيها ، واختصاصها بالدية. ولما ذكر خلق أبينا وأمنا ، ذكر ابتداء خلقنا فقال : (يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ) أي : طورا بعد طور ، وأنتم في حال لا يد مخلوق تمسكم ، ولا عين تنظر إليكم. وهو قد رباكم في ذلك المكان الضيق (فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ) ظلمة البطن ، ثمّ ظلمة الرحم ، ثمّ ظلمة المشيمة. (ذلِكُمُ) الذي خلق السموات والأرض ، وسخّر الشمس والقمر ، وخلقكم ، وخلق لكم الأنعام والنعم (اللهُ رَبُّكُمْ) أي : المألوه المعبود ، الذي رباكم ، ودبركم. فكما أنه الواحد في خلقه وتربيته لا شريك له في ذلك ، فهو الواحد في ألوهيته ، لا شريك له. ولهذا قال : (لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ). بعد هذا البيان أتبعه ببيان استحقاقه تعالى لإخلاص العبادة له دون عبادة الأوثان ، الّتي لا تدبر شيئا ، وليس لها من الأمر شيء فقال :
[٧] (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ) لا يضره كفركم ، كما لا ينتفع بطاعتكم. ولكن أمره ونهيه لكم محض فضله وإحسانه عليكم. (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) لكمال إحسانه بهم ، وعلمه أن الكفر يشقيهم شقاوة لا يسعدون بعدها. ولأنه خلقهم لعبادته ، فهي الغاية الّتي خلق لها الخلق ، فلا يرضى أن يدعوا ما خلقهم لأجله. (وَإِنْ تَشْكُرُوا) الله تعالى بتوحيده ، وإخلاص الدين له (يَرْضَهُ لَكُمْ) لرحمته بكم ، ومحبته للإحسان عليكم ، ولفعلكم ما خلقكم لأجله. وكما أنه لا يتضرر بشرككم ولا ينتفع بأعمالكم وتوحيدكم ، كذلك كلّ أحد منكم له عمله ، من خير وشر (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ) في يوم القيامة (فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ). إخبارا أحاط به علمه ، وجرى عليه قلمه ، وكتبته عليكم الحفظة الكرام ، وشهدت به عليكم الجوارح ، فيجازي كلّا منكم بما يستحقه. (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي : بنفس الصدور ، وما فيها من وصف برّ أو فجور. والمقصود من هذا ، الإخبار بالجزاء ، بالعدل التام.
[٨] يخبر تعالى عن كرمه بعبده وإحسانه وبره ، وقلة شكر عبده ، وأنه حين يمسه الضر ، من مرض ، أو فقر ، أو وقوع في كربة بحر أو غيره ، أنه يعلم أنه لا ينجيه في هذا الحال ، إلا الله. فيدعوه متضرعا منيبا ، ويستغيث به في كشف ما نزل به ويلح في ذلك. (ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ) الله (نِعْمَةً مِنْهُ) بأن كشف ما به من الضر والكربة. (نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ) أي : نسي ذلك الضر ، الذي دعا الله لأجله ، ومر كأنه ما أصابه ضر ، واستمر على شركه. (وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ) أي : ليضل بنفسه ، ويضل غيره ؛ لأن الإضلال ، فرع عن الضلال ، فأتى بالملزوم ، ليدل على اللازم. (قُلْ) لهذا العاتي ، الذي بدّل نعمة الله كفرا : (تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ) فلا يغنيك ما تتمتع به إذا كان المآل النار. (أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ (٢٠٥) ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ (٢٠٦) ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ) (٢٠٧).
[٩] هذه مقابلة بين العامل بطاعة الله وغيره ، وبين العالم والجاهل ، وأن هذا من الأمور الّتي تقرر في العقول تبيانها ، وعلم علما يقينا تفاوتها. فليس المعرض عن طاعة ربه ، المتبع لهواه ، كمن هو قانت أي : مطيع لله ، بأفضل العبادات ، وهو الصلاة ، وأفضل الأوقات ، وهي أوقات الليل. فوضعه بكثرة العمل وأفضله ، ثمّ وصفه بالخوف والرجاء. وذكر أن متعلق الخوف ، عذاب الآخرة ، على ما سلف من الذنوب وأن متعلق الرجاء ، رحمة الله ، فوصفه بالعمل الظاهر والباطن. (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ) ربهم ويعلمون دينه الشرعي ، ودينه الجزائي ، وما له في ذلك من الأسرار ، والحكم (وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) شيئا من ذلك؟ لا يستوي هؤلاء ولا هؤلاء ، كما يستوي الليل والنهار ، والضياء والظلام ، والماء والنار. (إِنَّما يَتَذَكَّرُ) إذا ذكروا (أُولُوا الْأَلْبابِ) أي : أهل العقول الزكية الذكية. فهم