يقتضي ذلك منهم ، أن يعبدوا الله ويشكروه. ثم فسّر الآية بقوله : (جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ) وكان لهم واد عظيم ، تأتيه سيول كثيرة ، وكانوا بنوا سدا محكما ، يكون مجمعا للماء. فكانت السيول تأتيه ، فيجتمع هناك ماء عظيم ، فيفرقونه على بساتينهم ، التي عن يمين ذلك الوادي وشماله. وتغلّ لهم تلك الجنتان العظيمتان ، من الثمار ما يكفيهم ، ويحصل لهم الغبطة والسرور. فأمرهم الله بشكر نعمه ، التي أدرّها عليهم من وجوه كثيرة : منها : أن الله جعل بلدهم ، بلدة طيبة ، لحسن هوائها ، وقلة وخمها ، وحصول الرزق الرغد فيها. ومنها : أن الله تعالى وعدهم ـ إن شكروه ـ أن يغفر لهم ويرحمهم ، ولهذا قال : (بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ). ومنها : أن الله لما علم احتياجهم في تجارتهم ومكاسبهم ، إلى الأرض المباركة ، الظاهر أنها : قرى صنعاء ، كما قاله غير واحد من السلف ، وقيل : إنها الشام ، هيأ لهم من الأسباب ، ما به يتيسر وصولهم إليها ، بغاية السهولة ، من الأمن ، وعدم الخوف ، وتواصل القرى بينهم وبينها ، بحيث لا يكون عليهم مشقة ، بحمل الزاد والمزاد. ولهذا قال : (وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ) أي : سيرا مقدرا يعرفونه ، ويحكمون عليه ، بحيث لا يتيهون عنه (سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ) أي : مطمئنين في السير ، في تلك الليالي والأيام ، غير خائفين. وهذا من تمام نعمة الله عليهم ، أن أمنهم من الخوف. فأعرضوا عن المنعم ، وعن عبادته ، وبطروا النعمة ، وملوها. حتى إنهم طلبوا وتمنوا ، أن تتباعد أسفارهم بين تلك القرى ، الّتي كان السير فيها متيسرا.
[١٩] (وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) بكفرهم بالله وبنعمته ، فعاقبهم الله تعالى بهذه النعمة ، الّتي أطغتهم ، فأبادها عليهم ، فأرسل عليها سيل العرم ، أي : السيل المتوعر ، الذي خرب سدهم ، وأتلف جناتهم ، وخرّب بساتينهم. فتبدلت تلك الجنات ذات الحدائق المعجبة ، والأشجار المثمرة ، وصار بدلها ، أشجار لا نفع فيها ، ولهذا قال : (وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ) أي : شيء قليل من الأكل الذي لا يقع منهم موقعا (خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ) وهذا كله شجر معروف ، وهذا من جنس عملهم. فكما بدلوا الشكر الحسن ، بالكفر القبيح ، بدلوا تلك النعمة بما ذكر ، ولهذا قال : (ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ) (١٧) أي : وهل نجازي جزاء العقوبة ـ بدليل السياق ـ إلا من كفر بالله وبطر النعمة؟ فلما أصابهم ما أصابهم ، تفرقوا وتمزقوا ، بعد ما كانوا مجتمعين ، وجعلهم الله أحاديث يتحدث بهم ، وأسمارا للناس ، وكان يضرب بهم المثل فيقال : «تفرقوا أيدي سبأ» فكل أحد يتحدث بما جرى لهم. ولكن لا ينتفع بالعبرة فيهم إلا من قال الله فيهم : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) صبّار على المكاره والشدائد ، يتحملها لوجه الله ، ولا يتسخطها بل يصبر عليها. شكور لنعمة الله تعالى يقرّ بها ، ويعترف ، ويثني على من أولاها ، ويصرفها في طاعته. فهذا إذا سمع بقصتهم ، وما جرى منهم وعليهم ، عرف بذلك أن تلك العقوبة ، جزاء لكفرهم نعمة الله ، وأن من فعل مثلهم ، فعل به ، كما فعل بهم. وأن شكر الله تعالى ، حافظ للنعمة ، دافع للنقمة. وأن رسل الله ، صادقون فيما أخبروا به. وأن الجزاء حق ، كما رأى أنموذجه في دار الدنيا.