ذلك من خصائصه الّتي لم تكن لأحد قبله ولا بعده ، وأن ذلك يكون منهضا له
ولغيره ، على التسبيح إذا رأوا هذه الجمادات والحيوانات ، تتجاوب بتسبيح ربها ،
وتمجيده ، وتكبيره ، وتحميده ، كان ذلك مما يهيج على ذكر الله تعالى. ومنها : أن
ذلك ـ كما قال كثير من العلماء ، أنه طرب لصوت داود. فإن الله تعالى ، قد أعطاه من
حسن الصوت ، ما فاق به غيره ، وكان إذا رجّع التسبيح والتهليل والتمجيد بذلك الصوت
الرخيم الشجي المطرب ، طرب كلّ من سمعه ، من الإنس ، والجن ، حتى الطيور والجبال ،
وسبحت بحمد ربها. ومنها : أنه لعله ليحصل له أجر تسبيحها ، لأنه سبب ذلك ، وتسبح
تبعا له. ومن فضله عليه ، أن ألان له الحديد ، ليعمل الدروع السابغات ، وعلّمه
تعالى كيفية صنعته ، بأن يقدره في السرد ، أي : يقدره حلقا ، ويصنعه كذلك ، ثمّ
يدخل بعضها ببعض. قال تعالى : (وَعَلَّمْناهُ
صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ
شاكِرُونَ) (٨٠) ولما ذكر ما امتنّ به عليه وعلى آله ، أمره بشكره ، وأن يعملوا صالحا
، ويراقبوا الله تعالى فيه ، بإصلاحه وحفظه من المفسدات ، فإنه بصير بأعمالهم ،
مطلع عليهم ، لا يخفى عليه منها شيء.
[١٢] لما ذكر
فضله على داود عليهالسلام ، ذكر فضله على ابنه سليمان ، عليه الصلاة والسّلام ،
وأن الله سخر له الريح تجري بأمره ، وتحمله ، وتحمل جميع ما معه ، وتقطع المسافة
البعيدة جدا ، في مدة يسيرة ، فتسير في اليوم ، مسيرة شهرين. (غُدُوُّها شَهْرٌ) أي : أوّل النهار إلى الزوال (وَرَواحُها شَهْرٌ) أي الزوال ، إلى آخر النهار (وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ) أي : سخرنا له عين النحاس ، وسهلنا له الأسباب ، في
استخراج ما يستخرج منها من الأواني وغيرها.
[١٣] وسخر الله
له أيضا ، الشياطين والجن ، لا يقدرون أن يستعصوا عن أمره ، (وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا
نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ) وأعمالهم ، كل ما شاء سليمان عملوه. (مِنْ مَحارِيبَ) وهو : كل بناء يعقد ، وتحكم به الأبنية ، فهذا فيه ،
ذكر الأبنية الفخمة. (وَتَماثِيلَ) أي : صور الحيوانات والجمادات ، من إتقان صنعتهم ،
وقدرتهم على ذلك. (وَجِفانٍ كَالْجَوابِ) أي : كالبرك الكبار ، يعملونها لسليمان للطعام ، لأنه
يحتاج إلى ما لا يحتاج إليه غيره. (وَ) يعملون له من (قُدُورٍ راسِياتٍ) لا تزول عن أماكنها ، من عظمها. فلما ذكر منته عليهم ،
أمرهم بشكرها فقال : (اعْمَلُوا آلَ داوُدَ) وهم داود ، وأولاده ، وأهله ، لأن المنّة على الجميع ،
وكثير من هذه المصالح عائد لكلهم. (شُكْراً) لله على ما أعطاهم ، ومقابلة لما أولاهم. (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) فأكثرهم ، لم يشكروا الله تعالى على ما أولاهم ، من
النّعم ، ودفع عنهم من النقم. والشكر : اعتراف القلب بمنة الله تعالى ، وتلقيها
افتقارا إليها ، وصرفها في طاعة الله تعالى ، وصونها عن صرفها في المعصية. فلم يزل
الشياطين يعملون لسليمان ، عليهالسلام ، كل بناء. وكانوا قد موهوا على الإنس ، وأخبروهم أنهم
يعلمون الغيب ، ويطلعون على المكنونات. فأراد الله تعالى أن يري العباد كذبهم في
هذه الدعوى ، فمكثوا يعملون على عملهم. وقضى الله بالموت على سليمان عليهالسلام ، واتّكا على عصاه ، وهي المنسأة. فصاروا إذا مروا به
وهو متكىء عليها ، ظنوه حيا ، وهابوه.
[١٤] فغدوا على
عملهم كذلك سنة كاملة على ما قيل ، حتى سلطت دابة الأرض على عصاه ، فلم تزل ترعاها
، حتى بادت ، وسقطت ، فسقط سليمان وتفرقت الشياطين وتبينت الإنس أن الجن (أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ
ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ) وهو العمل الشاق عليهم. فلو علموا الغيب ، لعلموا موت
سليمان ، الذي هم أحرص شيء عليه ، ليسلموا مما هم فيه.
[١٥ ـ ١٨] سبأ
قبيلة معروفة في أداني اليمن ، ومسكنهم بلدة يقال لها «مأرب». ومن نعم الله ولطفه
بالناس عموما ، وبالعرب خصوصا ، أنه قص في القرآن أخبار المهلكين والمعاقبين ، ممن
كان يجاور العرب ، ويشاهد آثارهم ، ويتناقل الناس أخبارهم ، ليكون ذلك أدعى إلى
التصديق ، وأقرب للموعظة فقال : (لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ
فِي مَسْكَنِهِمْ) أي : محلهم الذي يسكنون فيه (آيَةٌ). والآية هنا : ما أدرّ الله عليهم من النّعم ، وصرف
عنهم من النقم ، الذي