شعبه هذا ، وهو هو ذو الهمة العالية والغيرة المتوقدة. ولهذا وصلت الحال بذلك الشعب المستضعف ـ الذي بلغ بهم الذل والإهانة ، إلى ما قص الله علينا بعضه ـ أن صار بعض أفراده ، ينازع ذلك الشعب القاهر العالي في الأرض : كما سيأتي بيانه. وهذا مقدمة للظهور ، فإن الله تعالى من سنته الجارية ، أن جعل الأمور تمشي على التدريج ، شيئا فشيئا ، ولا تأتي دفعة واحدة. وقوله : (إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ) أي : مجرمين ، فأردنا أن نعاقبهم على إخراجهم ، ونكيد لهم ، جزاء على مكرهم وكيدهم. فلما التقطه آل فرعون ، حنّن الله عليه امرأة فرعون الفاضلة الجليلة ، المؤمنة «آسية» بنت مزاحم (وَقالَتِ) : هذا الولد (قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ) أي : أبقه لنا ، لتقرّ به أعيننا ، ونسر به في حياتنا. (عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً) أي : لا يخلو ، إما أن يكون بمنزلة الخدم ، الّذين يسعون في نفعنا وخدمتنا أو نرقيه درجة أعلى من ذلك ، نجعله ولدا لنا ، ونكرمه ، ونجله. فقدّر الله تعالى ، أنه نفع امرأة فرعون ، الّتي قالت تلك المقالة. فإنه لما صار قرة عين لها ، وأحبته حبا شديدا ، فلم يزل لها بمنزلة الولد الشقيق ، حتى كبر ، ونبأه الله وأرسله ، بادرت إلى الإسلام ، والإيمان به ، رضي الله عنها ، وأرضاها. قال الله تعالى هذه المراجعات والمقالات ، في شأن موسى : (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) ما جرى به القلم ، ومضى به القدر ، من وصوله إلى ما وصل إليه. وهذا من لطفه تعالى ، فإنهم لو شعروا ، لكان لهم وله ، شأن آخر. ولما فقدت موسى أمه ، حزنت حزنا شديدا ، وأصبح فؤادها فارغا من القلق ، الذي أزعجها ، على مقتضى الحالة البشرية ، مع أن الله تعالى نهاها عن الحزن والخوف ، ووعدها برده. (إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ) أي : بما في قلبها (لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها) فثبتناها ، فصبرت ، ولم تبد به. (لِتَكُونَ) بذلك الصبر والثبات (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) فإن العبد إذا أصابته مصيبة ، فصبر وثبت ، ازداد بذلك إيمانه ، ودل ذلك ، على أن استمرار الجزع مع العبد ، دليل على ضعف إيمانه.
[١١ ـ ١٢] (وَقالَتْ) أم موسى : (لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ) أي : اذهبي فقصي الأثر عن أخيك ، وابحثي عنه ، من غير أن يحس بك أحد ، أو يشعروا بمقصودك. فذهبت تقصه (فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أي : أبصرته على وجه ، كأنها مارة لا قصد لها فيه. وهذا من تمام الحزم والحذر ، فإنها لو أبصرته ، وجاءت إليهم قاصدة لظنوا بها ، أنها هي الّتي ألقته ، فربما عزموا على ذبحه ، عقوبة لأهله. ومن لطف الله بموسى وأمه ، أن منعه من قبول ثدي امرأة ، فأخرجوه إلى السوق ، رحمة به ، ولعل أحدا يطلبه. فجاءت أخته ، وهو بتلك الحال (فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ). وهذا جلّ غرضهم ، فإنهم أحبوه حبا شديدا ، وقد منعه الله من المراضع فخافوا أن يموت. فلما قالت لهم أخته ، تلك المقالة المشتملة على الترغيب ، في أهل هذا البيت ، بتمام حفظه وكفالته ، والنصح له ، بادروا إلى إجابتها ، فأعلمتهم ، ودلتهم على أهل هذا البيت.
[١٣] (فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ) كما وعدناها بذلك (كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ) بحيث أنه تربى عندها ، على وجه تكون فيه آمنة مطمئنة ، تفرح به ، وتأخذ الأجرة الكثيرة على ذلك. (وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) فأريناها بعض ما