[٥٦] يخبر تعالى : أنه ما أرسل رسوله محمدا صلىاللهعليهوسلم ، مسيطرا على الخلق ، ولا جعله ملكا ، ولا عنده خزائن الأشياء ، وأنما أرسله (مُبَشِّراً) يبشر من أطاع الله ، بالثواب العاجل ، والآجل ، (وَنَذِيراً) ينذر من عصى الله ، بالعقاب العاجل ، والآجل ، وذلك مستلزم ، لتبيين ما به البشارة ، وما تحصل به النذارة ، من الأوامر والنواهي. وإنك ، يا محمد ، لا تسألهم على إبلاغهم القرآن والهدى ، أجرا ، حتى يمنعهم ذلك ، من اتباعك ، ويتكلفون من الغرامة.
[٥٧] (إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) أي : إلا من شاء ، أن ينفق نفقة في مرضاة ربه وسبيله ، فهذا وإن رغبتكم فيه ، فلست أجبركم عليه ، وليس أيضا أجرا لي عليكم وإنّما هو راجع لمصلحتكم ، وسلوككم للسبيل الموصلة إلى ربكم.
[٥٨] ثمّ أمره أن يتوكل عليه ، ويستعين به فقال : (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِ) الذي له الحياة الكاملة المطلقة (الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ) أي : اعبده ، وتوكل عليه في الأمور المتعلقة بك ، والمتعلقة بالخلق. (وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً) يعلمها ، ويجازي عليها ، فأنت ، ليس عليك من هداهم شيء ، وليس عليك حفظ أعمالهم.
[٥٩] وإنّما ذلك كله ، بيد الله (الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى) بعد ذلك (عَلَى الْعَرْشِ) الذي هو سقف المخلوقات ، وأعلاها ، وأوسعها ، وأجملها (الرَّحْمنُ) استوى على عرشه ، الذي وسع السموات والأرض ، باسمه الرحمن ، الذي وسعت رحمته كل شيء فاستوى على أوسع المخلوقات ، بأوسع الصفات. وأثبت بهذه الآية ، خلقه للمخلوقات ، واطلاعه على ظاهرهم وباطنهم ، وعلوه فوق العرش ، ومباينته إياهم. (فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً) يعني بذلك ، نفسه الكريمة ، فهو الذي يعلم أوصافه ، وعظمته ، وجلاله ، وقد أخبركم بذلك ، وأبان لكم من عظمته ، ما تستعدون به من معرفته ، فعرفه العارفون ، وخضعوا لجلاله.
[٦٠] واستكبر عن عبادته الكافرون ، واستنكفوا عن ذلك ، ولهذا قال : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ) أي : وحده ، الذي أنعم عليكم بسائر النعم ، ودفع عنكم جميع النقم. (قالُوا) جحدا وكفرا (وَمَا الرَّحْمنُ) بزعمهم الفاسد ، أنهم لا يعرفون الرحمن. وجعلوا من جملة قوادحهم في الرسول ، أن قالوا : ينهانا عن اتخاذ آلهة مع الله ، وهو يدعو معه إلها آخر ، يقول : «يا رحمن» ونحو ذلك ، كما قال تعالى : (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) ، فأسماؤه تعالى كثيرة ، لكثرة أوصافه ، وتعدد كماله ، فكل واحد منها ، دل على صفة كمال. (أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا) أي : لمجرد أمرك إيانا. وهذا مبني منهم على التكذيب بالرسول ، واستكبارهم عن طاعته ، (وَزادَهُمْ) دعوتهم إلى السجود للرحمن (نُفُوراً) هربا من الحقّ إلى الباطل ، وزيادة كفر وشقاء.
[٦١] كرر تعالى في هذه السورة الكريمة قوله : (تَبارَكَ) ثلاث مرات ، لأن معناها كما تقدم ، أنها تدل على عظمة البارئ ، وكثرة أوصافه ، وكثرة خيراته وإحسانه. وهذه السورة ، فيها من الاستدلال على عظمته ، وسعة سلطانه ، ونفوذ مشيئته ، وعموم علمه وقدرته ، وإحاطة ملكه في الأحكام الأمرية الجزائية وكمال حكمته. وفيها ، ما يدل على سعة رحمته ، وواسع جوده ، وكثرة خيراته ، الدينية والدنيوية ، ما هو مقتض لتكرار هذا الوصف الحسن