(أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ) ، يعنون آيات الاقتراح ، التي يقترحونها بعقولهم الفاسدة ، وآرائهم الكاسدة ، التي تجرأوا بها على الخالق ، واستكبروا على رسله كقولهم : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) ، (يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ) الآية. وقالوا (لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (٧) أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ) [الفرقان : ٧ ـ ٨] ، من نخيل وعنب ، الآيات. وقوله : (وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) (٩٠) ، الآيات. فهذا دأبهم مع رسلهم ، يطلبون آيات التعنت ، لا آيات الاسترشاد ، ولم يكن قصدهم تبيّن الحق ، فإن الرسل ، قد جاؤوا من الآيات ، بما يؤمن على مثله البشر ، ولهذا قال تعالى : (قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ). فكل موقن ، فقد عرف من آيات الله الباهرة ، وبراهينه الظاهرة ، ما حصل له به اليقين ، واندفع عنه كل شك وريب.
[١١٩] ثم ذكر تعالى بعض آية موجزة مختصرة جامعة للآيات الدالة على صدقه صلىاللهعليهوسلم ، وصحة ما جاء به ، فقال : (إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً) ، فهذا مشتمل على الآيات التي جاء بها ، وهي ترجع إلى ثلاثة أمور : الأول : في نفس إرساله ، والثاني : في سيرته ، وهديه ودله ، والثالث : في معرفة ما جاء به من القرآن والسنة. فالأول والثاني قد دخلا في قوله : (إِنَّا أَرْسَلْناكَ) ، والثالث في قوله : (بِالْحَقِ). وبيان الأمر الأول وهو ـ نفس إرساله ـ أنه قد علم حالة أهل الأرض قبل بعثته صلىاللهعليهوسلم ، وما كانوا عليه من عبادة الأوثان والنيران ، والصلبان ، وتبديلهم للأديان ، حتى كانوا في ظلمة من الكفر ، قد عمتهم وشملتهم ، إلا بقايا من أهل الكتاب ، قد انقرضوا قبيل البعثة. وقد علم أن الله تعالى لم يخلق خلقه سدى ، ولم يتركهم هملا ، لأنه حكيم عليم ، قدير رحيم ، فمن حكمته ورحمته بعباده أن أرسل إليهم هذا الرسول العظيم ، يأمرهم بعبادة الرحمن وحده لا شريك له ، فبمجرد رسالته يعرف العاقل صدقه ، وهو آية كبيرة على أنه رسول الله. وأما الثاني : فمن عرف النبي صلىاللهعليهوسلم معرفة تامة ، وعرف سيرته وهديه قبل البعثة ، ونشوءه على أكمل الخصال ، ثم من بعد ذلك ، قد ازدادت مكارمه وأخلاقه العظيمة الباهرة الناظرين ، فمن عرفها ، وسبر أحواله عرف أنها لا تكون إلا أخلاق الأنبياء الكاملين ، لأنه تعالى جعل الأوصاف أكبر دليل على معرفة أصحابها وصدقهم وكذبهم. وأما الثالث : فهو معرفة ما جاء به صلىاللهعليهوسلم من الشرع العظيم ، والقرآن الكريم المشتمل على الإخبارات الصادقة ، والأوامر الحسنة ، والنهي عن كل قبيح ، والمعجزات الباهرة ، فجميع الآيات تدخل في هذه الثلاثة. قوله : (بَشِيراً) ، أي : لمن أطاعك بالسعادة الدنيوية والأخروية ، (وَنَذِيراً) لمن عصاك بالشقاوة والهلاك الدنيوي والأخروي. (وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ) ، أي : لست مسؤولا عنهم ، إنما عليك البلاغ ، وعلينا الحساب.
[١٢٠] (وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) (١٢٠) يخبر تعالى رسوله ، أنه لا يرضى منه اليهود ولا النصارى ، إلا باتباعه دينهم ، لأنهم دعاة إلى الدين الذي هم عليه ، ويزعمون أنه الهدى ، فقل لهم : (إِنَّ هُدَى اللهِ) الذي أرسلت به (هُوَ الْهُدى). وأما ما أنتم عليه ، فهو الهوى بدليل قوله : (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ). فهذا فيه النهي العظيم ، عن اتباع أهواء اليهود والنصارى ، والتشبه بهم فيما يختص به دينهم ، والخطاب ـ وإن كان لرسول الله صلىاللهعليهوسلم ـ فإن أمته داخلة في ذلك ، لأن الاعتبار بعموم المعنى لا بخصوص المخاطب ، كما أن العبرة بعموم اللفظ ، لا بخصوص السبب.
[١٢١] ثم قال : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) (١٢١). يخبر تعالى أن الذين آتيناهم الكتاب ، ومن عليهم به منة مطلقة ، أنهم (يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ) ، أي : يتبعونه حق اتباعه ، والتلاوة : الاتباع ، فيحلّون حلاله ، ويحرّمون حرامه ، ويعملون بمحكمه ، ويؤمنون بمتشابهه ، وهؤلاء هم السعداء من أهل الكتاب ، الذين عرفوا نعمة الله وشكروها ، وآمنوا بكل الرسل ، ولم يفرقوا بين أحد منهم فهؤلاء هم