فمن اتبع هداه ، حصل له الأمن والسعادة الدنيوية والأخروية والهدى ، وانتفى عنه كل مكروه ، من الخوف والحزن والضلال والشقاء ، فحصل له المرغوب ، واندفع عنه المرهوب. وهذا عكس من لم يتبع هداه ، فكفر به ، وكذب آياته.
[٣٩] (أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ) ، أي : الملازمون لها ، ملازمة الصاحب لصاحبه ، والغريم لغريمه ، (هُمْ فِيها خالِدُونَ) لا يخرجون منها ، ولا يفتر عنهم العذاب ولا هم ينصرون. وفي هذه الآيات وما أشبهها ، انقسام الخلق من الجن والإنس ، إلى أهل السعادة ، وأهل الشقاوة ، وفيها صفات الفريقين والأعمال الموجبة لذلك ، وأن الجن كالإنس في الثواب والعقاب ، كما أنهم مثلهم في الأمر والنهي. ثم شرع تعالى يذكّر بني إسرائيل نعمه عليهم وإحسانه ، فقال :
[٤٠] (يا بَنِي إِسْرائِيلَ) ، المراد بإسرائيل : يعقوب عليهالسلام ، والخطاب مع فرق بني إسرائيل ، الذين بالمدينة وما حولها ، ويدخل فيهم من أتى بعدهم ، فأمرهم بأمر عام ، فقال : (اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) ، وهو يشمل سائر النعم ، التي سيذكر في هذه السورة بعضها ، والمراد ذكرها بالقلب اعترافا ، وباللسان ثناء ، وبالجوارح باستعمالها فيما يحبه ويرضيه. (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي) وهو ما عهده إليهم من الإيمان به ، وبرسله ، وإقامة شرعه ، (أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) وهو المجازاة على ذلك. والمراد بذلك : ما ذكره الله في قوله : (وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي) ، إلى قوله : (فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ).
[٤١] ثم أمرهم بالسبب الحامل لهم ، على الوفاء بعهده ، وهو الرهبة منه تعالى ، وخشيته وحده ، فإن من خشيه ، أوجبت له خشيته امتثال أمره ، واجتناب نهيه. ثم أمرهم بالأمر الخاص ، الذي لا يتم إيمانهم ، ولا يصح إلا به ، فقال : (وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ) وهو القرآن الذي أنزله على عبده ورسوله محمد صلىاللهعليهوسلم ، فأمرهم بالإيمان به واتباعه ، ويستلزم ذلك ، الإيمان بمن أنزل عليه. وذكر الداعي لإيمانهم ، فقال : (مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ) ، أي : موافقا له لا مخالفا ولا مناقضا ، فإذا كان موافقا لما معكم من الكتب ، غير مخالف لها ، فلا مانع لكم من الإيمان به ، لأنه جاء بما جاء به المرسلون ، فأنتم أولى من آمن به وصدق به ، لكونكم أهل الكتب والعلم. وأيضا فإن في قوله : (مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ) إشارة إلى أنكم إن لم تؤمنوا به ، عاد ذلك عليكم ، بتكذيب ما معكم ، لأن ما جاء به هو الذي جاء به موسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء ، فتكذيبكم له تكذيب لما معكم. وأيضا ، فإن في الكتب التي بأيديكم صفة هذا النبي الذي جاء بهذا القرآن والبشارة به ، فإن لم تؤمنوا به ، كذبتم ببعض ما أنزل إليكم ، ومن كذب ببعض ما أنزل إليه ، فقد كذب بجميعه ، كما أن من كفر برسوله ، فقد كذب الرسل جميعهم. فلما أمرهم بالإيمان به ، نهاهم وحذرهم عن ضده وهو الكفر به ، فقال : (وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ) ، أي : بالرسول والقرآن. وقوله : (أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ) ، أبلغ من قوله : (ولا تكفروا به) ، لأنهم إذا كانوا أول كافر به ، كان فيه مبادرتهم إلى الكفر ، عكس ما ينبغي منهم ، وصار عليهم إثمهم وإثم من اقتدى بهم من بعدهم. ثم ذكر المانع لهم من الإيمان ، وهو اختيار العرض الأدنى على السعادة الأبدية ، فقال : (وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً) ، وهو ما يحصل لهم من المناصب والمآكل ، التي يتوهمون انقطاعها ، إن آمنوا بالله ورسوله ، فاشتروها بآيات الله واستحبوها ، وآثروها. (وَإِيَّايَ) ، أي : لا غيري (فَاتَّقُونِ) فإنكم إذا اتقيتم الله وحده ، أوجبت لكم تقواه تقديم الإيمان بآياته على الثمن القليل ، كما أنكم إذا اخترتم الثمن القليل ، فهو دليل على ترحل التقوى من قلوبكم.
[٤٢] ثم قال : (وَلا تَلْبِسُوا) ، أي : تخلطوا (الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَ) فنهاهم عن شيئين ، عن خلط الحق بالباطل ، وكتمان الحق ؛ لأن المقصود من أهل الكتب والعلم ، تمييز الحق ، وإظهار الحق ، ليهتدي بذلك المهتدون ،