لكثيرة الأمر لصاحبها بالسوء ، أي : الفاحشة ، وسائر الذنوب ، فإنها مركب الشيطان ، ومنها يدخل على الإنسان (إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي) فنجاه من نفسه الأمارة حتى صارت نفسه ، مطمئنة إلى ربها ، منقادة لداعي الهدى ، متعاصية عن داعي الردى ، فذلك ليس من النفس ، بل من فضل الله ورحمته بعبده. (إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ) أي : هو غفور لمن تجرأ على الذنوب والمعاصي ، إذا تاب وأناب ، (رَحِيمٌ) بقبول توبته ، وتوفيقه للأعمال الصالحة. وهذا هو الصواب ، أن هذا من قول امرأة العزيز ، لا من قول يوسف ، فإن السياق في كلامها ، ويوسف إذ ذاك في السجن ، لم يحضر. فلما تحقق الملك والناس ، براءة يوسف التامة ، أرسل إليه الملك وقال : (ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي) أي : أجعله من خلصائي ، ومقربا لديّ ، فائتوني به مكرما محترما ، (فَلَمَّا كَلَّمَهُ) أعجبه كلامه ، وزاد موقعه عنده فقال له : (إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا) أي : عندنا (مَكِينٌ أَمِينٌ) أي : متمكن ، أمين على الأسرار. (قالَ) يوسف طلبا للمصلحة العامة : (اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ) أي : على خزائن جبايات الأرض وغلالها ، وكيلا ، حافظا ، مدبرا. (إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) أي : حفيظ للذي أتولاه ، فلا يضيع منه شيء في غير محله ، وضابط للداخل والخارج ، عليم بكيفية التدبير ، والإعطاء ، والمنع ، والتصرف في جميع أنواع التصرفات ، وليس ذلك حرصا من يوسف على الولاية ، وإنما هو رغبة منه ، في النفع العام ، وقد عرف من نفسه من الكفاية والأمانة ، والحفظ ، ما لم يكونوا يعرفونه. فلذلك طلب من الملك ، أن يجعله على خزائن الأرض فجعله الملك على خزائن الأرض ، وولاه إياها. قال تعالى : (وَكَذلِكَ) أي بهذه الأسباب والمقدمات المذكورة ، (مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ) في عيش رغد ، ونعمة واسعة ، وجاه عريض ، (نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ) أي : هذا من رحمة الله بيوسف ، التي أصابه بها ، وقدرها له ، وليست مقصورة على نعمة الدنيا. (وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) ويوسف عليهالسلام من سادات المحسنين فله في الدنيا حسنة ، وفي الآخرة حسنة. ولهذا قال : (وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ) من أجر الدنيا (لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) أي : لمن جمع بين التقوى والإيمان. فبالتقوى ، تترك الأمور المحرمة ، من كبائر الذنوب وصغائرها ، وبالإيمان التام ، يحصل تصديق القلب ، بما أمر الله بالتصديق به ، وتتبعه أعمال القلوب ، وأعمال الجوارح ، من الواجبات والمستحبات.
أي : لما تولى يوسف عليهالسلام خزائن الأرض ، دبرها أحسن تدبير ، فزرع في أرض مصر جميعها ، في السنين المخصبة ، زروعا هائلة ، واتخذ لها المحلات الكبار ، وجبى من الأطعمة ، شيئا كثيرا ، وحفظه ، وضبطه ضبطا تاما ، فلما دخلت السنون المجدبة ، وسرى الجدب ، حتى وصل إلى فلسطين ، التي يقيم فيها يعقوب وبنوه. فأرسل يعقوب بنيه ، لأجل الميرة إلى مصر ، (وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) (٥٨) أي : لم يعرفوه.
[٥٩ ـ ٦٠] (وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ) أي : كال لهم كما كان يكيل لغيرهم ، وكان من تدبيره الحسن ، أنه لا يكيل لكل واحد ، أكثر من حمل بعير ، وكان قد سألهم عن حالهم ، فأخبروه أن لهم أخا عند أبيه ، وهو بنيامين. (قالَ) لهم : (ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ) ثم رغبهم في الإتيان به فقال : (أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ)